لبّ الاثر في الجبر والقدر

لبّ الاثر في الجبر والقدر0%

لبّ الاثر في الجبر والقدر مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 126

لبّ الاثر في الجبر والقدر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 126
المشاهدات: 32621
تحميل: 4458

توضيحات:

لبّ الاثر في الجبر والقدر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 126 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32621 / تحميل: 4458
الحجم الحجم الحجم
لبّ الاثر في الجبر والقدر

لبّ الاثر في الجبر والقدر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

2. عدم حاجته في مجال التحقق إلى سبب وراء السبب الذي أوجد الموضوع، فالسبب الموجد له كاف في انتزاع جميع الذاتيات بلا فرق بين الذاتي في البرهان أو باب الايساغوجي.

الثالث: الفرق بين الجهة التعليلية والتقييدية.

قد اشتهر في كلماتهم تقسيم الجهة الى تعليلية وتقييدية، والمراد من الأولى هو حاجة الشيء في خروجه عن حد الاستواء إلى علة وجودية تضفي عليه الوجود والتحقّق، والممكن بعامة أقسامه لا يستغني عن حيثية تعليلية.

وأمّا الحيثية التقييدية، فالمراد ضم حيثية وجودية إلى الموضوع تصحّحُ حمل المحمول عليه وراء حاجته إلى علة موجدة للموضوع، وهذا يتجلّى في المثال التالي:

إذا قلنا البياض أبيض.

أو قلنا الجسم أبيض.

فالاِوّل رهن حيثية تعليليّة تخرج البياض من حد الاستواء إلى جانب الوجود، وهذه الحيثية كافية في حمل المحمول على الموضوع، ولا يتوقف الحمل الى ضم حيثية تقييديّة الى

١٠١

البياض بل وضعه يُصحِّحُ حمل الاَبيض، وهذا بخلاف الثاني فإنّ حمل الاَبيض على الجسم رهن حيثيتين: حيثيّة تعليلية تخرج الجسم عن الاِستواء إلى جانب الوجود، وحيثية تقييدية كالبياض منضّمة إلى جانب الجسم حتى تكون مصححا لحمل الاَبيض عليه.

هذا هو حال الممكنات، فلا يستغني أيّ ممكن في حمل محمول عليه من حيثية تعليلية في عامة الاَقسام وتقييدية في بعضها.

وأمّا الواجب جل ذكره فبما انّه واجب الوجود ولازم الثبوت، فهو في غنىً عن الحيثية التعليليّة.

كما أنّه في غنى عن الحيثية التقييدية، لاَنّ الذات عين الوجود والكمال، فلا حاجة في حمل أي كمال عليها لشيء وراء الذات.

فتبيّن بذلك انّ الواجب لا يحتاج إلى الجهات التعليلية والتقييدية، كما انّ الماهيات الممكنة بالنسبة إلى أعراضها كالجسم بالنسبة إلى البياض رهن كلتا الحيثيتين.

وأمّا الوجود المنبسط الذي بسطه الله سبحانه على هياكل

١٠٢

الماهيات فبما انّه صرف الوجود عين التعلّق والفقر، فهو محتاج الى حيثية تعليلية حتى يحقّقه ولا يحتاج في حمل الوجود عليه إلى حيثية تقييدية.

وإن شئت قلت: ليس في نظام الوجود شيء يوصف بالوجود بلا جهات تعليلية وتقييدية سوى الواجب فهو غير مفتقر ولا معلّل، وأمّا الموجودات الاِمكانية فهي بين ما يتوقّف على كلتا الحيثيتين، كقولنا: الجسم أبيض؛ وأُخرى على حيثية واحدة، كقولنا: الوجود موجود، أو البياض موجود. فلوازم الوجود والماهية معلّلة في التحقّق والثبوت غير معلّلة في اللزوم والاِيجاب.

الثالث: الوجود هو أصل الكمال ومبدؤه

الماهيات بما أنّها أُمور انتزاعية من حدود الموجود فلا أثر لها ولا اقتضاء وإنّما الاَثر والشرف والكمال كلّه للوجود، وهو الاَصيل في عالم التحقّق، إذ العلم بوجوده يكشف عن المعلوم لا بماهيته، وهو بوجوده أيضاً كمال وجمال لا بمفهومه، ومثله القدرة والحياة والاِرادة فكلّها شرف بالوجود لا بمفاهيمها، ولذلك كلّما اشتدّ الموجود، وقلّت حدوده الوجودية اشتدّ كماله، وكلّما ضعف الوجود وكثرت حدوده الوجودية ضعف كماله إلى أن يصل إلى حدّ ليس له حظّ من الوجود سوى كونه

١٠٣

أمراً بالقوة تسمّى بالهيولى.

وعلى ضوء ذلك فصرف الوجود، مبدأ كل كمال وجمال، والموجودات الاِمكانية لها حظّ من الآثار حسب حظّها من الوجود المنبسط، ولماهياتها خواص بالعرض تبع وجوداتها.

فتلخّص من ذلك أنّ الماهيّة مع قطع النظر عن تنوّرها بنور الوجود، منعزلة عن الآثار منخلعة عن الخواص، وما ربما ينسب إلى الماهية من الآثار فإنّما هي للوجود أوّلاً وبالذات وللماهية ثانياً وبالعرض.

فإن قلت : كيف لا أثر للماهية مع أنّ اللوازم تنقسم إلى لوازم الماهية، ولوازم الوجود؟ فالحرارة من لوازم وجود النار ولكن الزوجية من لوازم الماهية، فماهية الاَربعة مع قطع النظر عن الوجود الذهني والوجود الخارجي تلازم الزوجيّة، فهي ثابتة لها في وعاء الماهيات.

قلت: إنّ هذا التفسير للازم الماهية تفسير خاطىء، إذ ليست الزوجية ثابتة للاَربعة في حال عدمها وإنّما تثبت لها في ظرف وجود الاَربعة في أحد الموطنين: إمّا الذهن أو الخارج، ومع ذلك فليست الزوجية من لوازم الوجودين: الذهني أو

١٠٤

الخارجي، بل من لوازم الماهية ومعنى كونه من لوازم الماهية لا من لوازم الوجود، أنّ الاِنسان يدرك الاَربعة مع الزوجية حتى مع غفلته عن تحصلّها بالوجود الذهني، وهذا دليل على أنّ للوجود الذهني تأثيراً في ظهور الملازمة لا في نفس الملازمة، وإلاّ فلو كان الوجود الذهني مؤثّراً في الملازمة لامتنع تلازمهما مع الغفلة عن الوجود المقترن بهما والمحصل لهما، وهذا هو الفرق بين لازم الماهية ولازم الوجود، فالوجود في الاَوّل سبب لظهور الملازمة بخلاف الثاني فهو سبب لها.

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات، فاعلم أنّ للسعادة والشقاء إطلاقات ثلاثة:

الاَوّل: ما اصطلح عليه أهل المعرفة والكمال من أنّ السعادة هي الكمال المطلق والخير المحض، وهو مساوق للوجود الذي إليه مرجع الكمالات فالوجود الاَتّم المطلق خير وسعيد مطلق. وكلّما تنزّل عن إطلاقه وشدّته وقوته، اختلفت سعادته وخيريّته. والشقاء في مقابلها وهو الشرّ المحض والعدم المطلق ظلمات بعضها فوق بعض ولها عرض عريض.

الثاني: ما هو المعروف لدى العرف وأبناء الدنيا أنّ مَنْ توفّرت له في هذه الدنيا الدنيّة وسائل اللذّة والشهوة فهو سعيد،

١٠٥

ومن أدبرت عنه وتركته في نكبة ومحنة ولا يجد ما يسدّ به رمقه فهو شقي.

الثالث: ما عليه الملّيون، أعني: الذين لهم عقيدة راسخة بالمبدأ والمعاد، والجنة ودرجاتها والنار ودركاتها، فمن نال الجنة ونعيمها فهو من السعداء، ومن دخل النار وجحيمها فهو من الاَشقياء، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه:

( فأمّا الَّذينَ شَقُوا فَفِي النارِ لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهِيقٌ * خالدينَ فيها مادامتِ السَّمواتُ والاَرضُ إلاّ ما شاءَ ربُّكَ إنّ ربَّكَ فَعّالٌ لما يُريد* وأمّا الَّذينَ سُعِدوا ففي الجنَّةِ خالدينَ فيِها مادامتِ السَّمواتُ والاَرضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عطاءً غيرَ مَجذُوذٍ ) (1)

فمن دخل الجنّة، فهو السعيد، وإن كان في الدنيا رهين الفقر والفاقة؛ ومن دخل الجحيم، فهو شقيّ، وإن كان في الدنيا حليف العيش الرغيد.

إذا وقفت على هذه المعاني الثلاثة للسعادة والشقاء، فاعلم أنّ المراد منهما في هذا المقام هو المعنى الثالث لخروج الاَوّلين عمّا يرتئيه الحكيم أو المتكلّم في ذلك المقام، ولا وجه لجعل السعادة والشقاء بالمعنى الثالث من الذاتيات غير المعلّلة كما

____________________

(1) هود / 106 - 108.

١٠٦

عليه المحقّق الخراساني وتبعه بعضهم، إذا ليستا جنس الاِنسان ولا فصله ولا من اللوازم المنتزعة من حاق الذات، بل ينتزعان من الحيثيات الوجودية التي يكتسبها العبد باختياره، والمراد من الحيثيات الوجودية هي العقائد الحقة والاَعمال الصالحة أو نقيضها من العقائد الفاسدة والاَعمال القبيحة، إلى غير ذلك مما يعدّ مبدأً لانتهاء مسير الاِنسان إلى الجنة أو النار.

ولو قلنا بأنّ الثواب والعقاب يرجع إلى الاِنسان حسب ما اكتسب من ملكات الخير والشرّ، فهو يخلق صوراً بهيّة وروضة غنّاء، يلتذ بها، أو يخلق صوراً قاتمة وحفرة من النيران يعذّب بها - ولو قلنا بذلك - فليست السعادة والشقاء من الأمور الذاتية وإنّما هي من لوازم الملكات التي يكتسبها العبد في طول حياته تحت ظلّ ممارسة الفكر والعمل.

إلى هنا تمّت الشبهات المطروحة حول اختيارية الاِنسان المتجلّي عندنا في المذهب الحق أي الاَمر بين الاَمرين.

١٠٧

١٠٨

الفصل الخامس

أخبار

الطينة وتفسيرها

١٠٩

١١٠

إنّ من الاَسئلة المثارة حول اختياريّة الاِنسان مسألة خلقة الاِنسان من طينات مختلفة، فطينتهم إمّا من عليين أو من سجّين، ومن الواضح أنّ لكلّ أثراً خاصاً في مصير الاِنسان، ومعه كيف يمكن أن يكون الاِنسان فاعلاً مخيّراً وإنّما يكون فاعلاً مسيّراً؟

أقول : إنّ تحقيق الحق يتوقّف على بيان أمرين:

الاَوّل : إنّ ملاك المثوبة والعقوبة هو مخالفة البالغ العاقل التكليفَ الواصل إليه، فبالعقل يميّز بين الحسن والقبيح، وبين إطاعة المولى ومخالفته، كما أنّه بالوقوف على التكليف يقف على مراد المولى ممّا يُرضيه أو يسخطه، فإذا خالف باختياره وإرادته من دون ضرورة يكون هو تمام الموضوع عند العقلاء لصحة مؤاخذته وعقوبته بألوان العقوبات، فهذا هو ملاك

١١١

العقوبات عند العقلاء.

الثاني : يمتنع عليه سبحانه إمساك الفيض وقبض الاِحسان، لاَنّه الفيّاض المطلق الذي لا يتصوّر فيه شائبة البخل وعلى ضوء ذلك، فإذا كان الفاعل فياضاً والموضوع قابلاً للاَخذ والموانع منتفية، فما هو الوجه عن منع الاِفاضة؟

وإن شئت قلت: إنّ واجب الوجوب بالذات واجب من جميع الجهات والحيثيات، فلا يتصوّر فيه إمكان أن يفعل أو يترك، بل إمّا يجب فعله أو يلزم تركه حتى لا يتطرّق إليه الاِمكان المستلزم للمادة المنزّه عنها، والقول باللزوم في الفعل والترك لا ينافي كونه مختاراً، نظير لزوم ترك الظلم وعدم صدور القبيح الذي لا ينافي كونه مريداً قادراً مختاراً في ترك الظلم والقبح.

نعم يُفاضُ الجود حسب قبول القابل، وعلى وفق قابلية السائل، فإذا تمّ الاستعداد في القوابل تفاض عليها الصور من المبادىَ العالية، ويكون ما يفاض عليها أكملها وأفضلها.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ منشأ اختلاف النفوس من بدء نشوئها إلى ارتقائها، رهن عوامل عديدة نشير إليها، ولاَجل ذلك نرى أنّ بعض النفوس تسارع إلى الخيرات والاَعمال

١١٢

الصالحة وبعضها تميل إلى الشرور والاعمال الطالحة، فكأنَّ في جوهر الأولى حبّ الصلاح والفلاح، وفي جوهر الثانية حبّ الدنيا وزخارفها، وإليك بيان تلك العوامل:

الاَوّل : اختلاف الناس في النفس المفاضة، واختلافها ناشىَ عن اختلاف النطف المستعدّة لقبول الصور الاِنسانية، وإليك توضيحه:

إنّ من القوى الكامنة في الاِنسان: القوة المولّدة وهي عبارة عن تهيئة المواد اللاّزمة من جسم الاِنسان وجعله مبدأً لاِنسان آخر أُودعت فيه لحفظ نوعه.

وثمة قوة ثانية باسم القوة المغيّرة وشأنها تهيئة كلّ جزء من المنيّ في الرحم ليختصّ بإيجاد أعضاء خاصة بأن يجعل بعضه مستعدّاً للعظميّة وبعضها الآخر للعصبية، إلى غير ذلك.

ثم إنّ مادة المنيّ الذي هو أثر القوة المولّدة عبارة عن الاَغذية، بعد عملِ القوى أعمالها وعبورها عن الهضم الرابع، ولكن الاَغذية مختلفة غاية الاختلاف في الصفاء والكدر واللّطافة والكثافة وبتبعه يختلف المنيّ، ويعبرّ العلماء عن اختلاف الاَغذية باختلافها من حيث الحرارة والبرودة

١١٣

واليبوسة والرطوبة، ويعبّر عنها اليوم باشتمالها على فيتامينات وبروتينات مختلفة وغيرها.

وعلى أيّة حال فلو كانت النطفة حصيلة الاَغذية اللطيفة، يكون استعدادها لقبول الصور مغايراً لاستعداد النطف الحاصلة من الاَغذية الكثيفة، ومهما تصاعد اختلاف الاَغذية تصاعد الاختلاف في المنيّ صفاءً وكدراً أيضاً، وقد مضى أنّ الاِفاضة حسب قابلية المواد، فكما لا يمكن منع المواد من نور الوجود، كذلك يمتنع إفاضة صور قوية على المادة الضعيفة.

الثاني : إنّ لشموخ الاَصلاب وعلوّها ونورانيتها وكذا مقابلاتها، مدخلية تامّة في اختلاف الفيض المفاض واستعداد المواد للنفوس الطاهرة وخلافها ولذلك وردت في زيارة الاِمام الحسين بن علي - عليه السّلام-: «أشهد أنّك كنت نوراً في الاَصلاب الشامخة والاَرحام المطهّرة» فسمّيت النطفة لكمال لطافتها نوراً وإنّها لم تختلط بقذارة الاَرحام ونجاستها بل أُودعت في الاَرحام الطيبة.

الثالث : إنّ لمراعاة آداب النكاح والجماع والحمل ورعاية شرائط الرضاع وسلامة مزاج الزوج والزوجة وصفاء روحهما، تأثيراً خاصاً في صفاء النفس وكدرها، وقد ورد في هذا الصدد

١١٤

روايات.

يقول الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-: «أُنظر في أيّ شيء تضع ولدك فإن العرق دسّاس»(1) .

والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الاَبناء.

ويقول الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-: «إيّاكم وخضراءَ الدِمَن، قيل: يا رسول الله وما خضراءُ الدِّمَن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت سوء»(2)

يقول الاِمام عليّ - عليه السّلام-: «حسن الاَخلاق برهان كرم الاَعراق»(3)

الرابع : إنّ عنصر التربية من العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الاِنسان وتكامله فهو يلازمه منذ نعومة أظفاره إلى بلوغه، فإنّ دور الوالدين في تلقين الخير والشرّ لطفلهما أمر غير خفي على أحد، ويليه في الاَهميّة عنصر التعليم الذي يتلقاه الاِنسان في المدارس والمعاهد، إلى غير ذلك من العوامل المؤثّرة في النفس الاِنسانية.

الخامس : نشوؤها في البيئات الصالحة البعيدة عن المعاصي وفساد الاَخلاق التي تترك بصمات واضحة على خلق الاِنسان وأخلاقياته، وهذا أمر واضح لا يشوبه شك.

____________________

(1) المستطرف: 2 / 218.

(2) غرر الحكم: 379.

(3) البحار 23 / 54.

١١٥

وحصيلة البحث : أنّ ثمة عوامل كثيرة مؤثّرة في تكوين شخصية الاِنسان منذ تكوّن نطفته في الاَرحام إلى أن يصبح إنساناً كاملاً، ولكن هذه الاَسباب خيرها وشرّها ليست على حدّ يسلب الاختيار عن الاِنسان ويجعله مكتوف اليد أمامها، بل كلّها مقرّبات ومعدّات لهما وفي مقابلها اختيار الاِنسان وانتخابه وحرّيته في العمل.

نعم من اجتمع له صفاء المراد وشموخ الاَصلاب وعلوّها وطهارة الاَرحام والبيئات يجد في نفسه ميلاً نحو العمل الصالح، كما أنّ من اجتمع فيه خلافها ومقابلاتها يجد في نِفسه ميلاً نحو العمل الطالح، ومع ذلك كلّه فليس كلٌّ إنسان ملْجئاً إلى ما يميل إليه، فالعبد بعدُ باسط اليدين وهو مختار في فعله لدى العقلاء وإن اختلفت طينته.

هذه هي العوامل التي تختلف بها الطينة تباعاً، فما ورد في المأثورات حول الطينة وخلقة الاِنسان فما كان موافقاً لما ذكرنا فيؤخذ به، وأمّا المخالف لما ذكرنا الدالة على الجبر فلابدّ من تأويله وتفسيره أو حمله على التقية، فإنّ الاَمر بين الاَمرين من ضروريات مذهب الاِمامية فلا يقدّم عليه الخبر الواحد.

إنّ ثمة مأثورات وروايات ربّما تقع ذريعة للقول بالجبر مع

١١٦

أنّها لاصلة لها به وإنّما تشير إلى المعدات التي أشرنا إليها في الدراسة السابقة، وإليك بعض هذه المأثورات:

1. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(1)

والحديث بصدد بيان اختلاف جوهر النفوس في الصفاء والكدر كاختلاف المعادن في الصور النوعية والآثار والخواص، والجميع من نوع واحد لكن اختلافها حسب اختلاف الاَمكنة وحرارة الاَرض وجفافها وإشراق الشمس وعدمها، مّما لها مدخلية في تكون المعادن وصلابتها وخلوصها عن الشوائب.

وهكذا المواد المكوّنة للنطفة والظروف المحيطة بها لها تأثير في صفاء نفس الاِنسان، ومع ذلك لا تسلب الاختيار عنه.

2. ما أُثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «الشقيّ من شقى في بطن أُمه والسعيد من سعد في بطن أُمه»(2) وفي رواية أُخرى: «الشقي شقي في بطن أُمه، والسعيد سعيد في بطن أُمه»(3)

ولا دلالة للحديث على ما يرتئيه الجبري، وذلك لاَنّ النفس

____________________

(1) لعلّ في الحديث إشارة إلى أنّ جوهر عامة الناس ثمين إلاّ أنّه يختلف بعضه عن بعض بالخلوص والشوائب كما في الذهب والفضة.

(2) بحار الاَنوار: 3 / 44.

(3) تفسير روح البيان: 1 / 104.

١١٧

المفاضة على المادة المستعدّة النورانيّة، طاهرة وسعيدة منذ أوّل أمرها لعدم تدنّسها من ناحية العوامل المدنّسة كالآباء والاَجداد وغيرهما، ولكن النفس المفاضة على المواد الكثيفة دنسة ونجسة وشقية منذ بدوها وأوّل نشوئها لكن لا طهارة النطفة موجبة إلى الخيرات والسعادات، ولا قذارة المادة وكثافتها موجبة لاختيار الشرور والشقاء، بل كل يحنُّ إلى ما يناسبه من الخيرات والشرور ولكن الميل شيء والاِلجاء شيء آخر.

ويمكن أن يكون الحكم بالسعادة أو الشقاء باعتبار ما يؤول إليه أمر الشخص فمن ينتهي مآل أمره إلى الجنة، فهو محكوم بالسعادة منذ أوان حياته، فكُنّي عن أوان الحياة ببطن الأم، ولعلّه إلى ذلك يشير الحديث الشريف الذي رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن أبي عمر، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر - عليه السّلام- عن معنى قول رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلم -: «الشقيُّ من شقي في بطن أُمّه والسعيد من سعد في بطن أُمّه» فقال: الشقيُّ من علم الله وهو في بطن أُمه أنّه سيعمل أعمال الاَشقياء، والسعيد من علم الله وهو في بطن أُمه أنّه سيعمل أعمال السعداء، قلت له: وما معنى قوله - صلّى الله عليه وآله وسلم -: «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له»؟

١١٨

فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّ والاِنسن ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزّ وجلّ:( وما خَلقتُ الجِنَّ والاِنسَ إلاّ لِيَعبُدونِ ) فيسّر كلاً لما خلق له، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى».(1)

فترى أنّه سلام الله عليه دفع الشبهه كلّها بأنّ العباد مختارون وأنّ ما خلقوا لاَجله من العبادة ميسور لهم، وأنّ علمه تعالى بعمل السعداء والاَشقياء أو اتخاذ النطف من الأمور الصفوة والكدرة لا تسلب الاختيار.

هذا بعض ما يمكن أن يقال في أخبار الطينة وما يشبهها.

خاتمة المطاف:

إنّ للعلماء الربّانيّين والعرفاء الشامخين من أهل الكشف واليقين هنا كلمة قيمّة هي عصارة الكتب المنزلة، والمأثورات الشرعية، مدعمة بالبرهان ألا وهو البحث عن أحكام الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها ووصفها وبيان حقيقتها وما يدور حولها من بحوث، ونحن نشير إلى بعضها بنحو الاِجمال والاختصار.

إن الله جلّت عظمته خلق العباد بقدرته، وأفاض عليهم من

____________________

(1) التوحيد / 356.

١١٩

نور وجوده وفيض علمه وسائر كمالاته ما هو اللائق بحالهم وحسب قابلية المواد القابلة من غير ضنَّة وبخل، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، وفطر النفس على اختلافها في القبول والاستعداد بفطرتين طيّبتين لتكونا جناحيها نحو معراجها إلى فاطرها، لتطير إلى وكرها وتصل إلى ربّها حسب معرفتها وعرفانها.

الفطرة الأولى : هي العشق للكمال المطلق والجمال المحض، أعني: النور الذي ليس فيه ظلمة، والعلم الذي لا يدانيه جهل وريب، والقدرة التي لا يشوبها عجز، ومن هو صرف كل جمال وكمال، فنوَّر قلب عبده بجمال معرفته، وهو توحيده وكمال تنزيهه حتى يتوجه إلى بارئه القدير، وخالقه العزيز، ويصل إلى فنائه ويستشعر بعلوّ جبروته وملكوته في جميع الآنات والاَوقات قام في محراب عبادته، اوغاروا في عباب عصيانه فهو في جميع الحالات، شاهد لربه بفطرته، عارف خالقه بخميرته، ناظر إلى كبريائه وجلاله بعين ذاته ونور حقيقته، ولا يتطرّق الزوال إلى هذه المعرفة الذاتية الحاصلة له من صقع فيض خالقه.

نعم ربّما تقع تحت حجاب المعاصي وظلمة الكفر والشرك، ويسدل عليها بأسدال الاِلحاد والخروج عليها، لكنّها

١٢٠