لبّ الاثر في الجبر والقدر

لبّ الاثر في الجبر والقدر0%

لبّ الاثر في الجبر والقدر مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 126

لبّ الاثر في الجبر والقدر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 126
المشاهدات: 32653
تحميل: 4459

توضيحات:

لبّ الاثر في الجبر والقدر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 126 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32653 / تحميل: 4459
الحجم الحجم الحجم
لبّ الاثر في الجبر والقدر

لبّ الاثر في الجبر والقدر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاِنسان، قال سبحانه:( ما أصابكَ مِنْ حسنةٍ فمِنَ اللهِ وما أصابكَ مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نَفسِكِ وأرسلناكَ للنّاسِ رَسولاً وكُفى باللهِ شَهيداً ) (1)

فكيف الجمع بينهما؟

أقول: إنّ اتضاح معنى الآيتين رهن مقدمة وهي:

دلّت البراهين على أنّ الكمالات كلّها راجعة إلى الوجود إذ مقابلها - أعني الماهيّات والاَعدام - لم تشمُ رائحة الوجود والكمال إلاّ بالعرض ويترتّب عليه أمران:

1. إنّه سبحانه صرف الوجود وإلاّ لزم التركيب من الوجود وغيره وهو مستلزم للاِمكان، لاَنّ كلّ مركّب محتاج إلى أجزائه، والحاجة نفس الاِمكان أو لازمه.

2. إنّ شأنه سبحانه إفاضة الوجود على كل موجود وهو كلّه خير محض والشرور والاَعدام وكذا الماهيات غير مجعولة، وأمّا ما يشتمل عليه من الشرور والنقائص فهي من لوازم درجة الوجود ومرتبته. فكل موجود من حيث اشتماله على الوجود خير وحسن وليس فيه شرّ ولا قبح، وإنّما يعرض له الشرّ من حيث نقصه عن التمام أو من حيث منافاته لخير آخر وكل منهما

____________________

(1) النساء / 79.

٦١

يرجع إلى نحو عدم، والعدم غير مجعول(1)

فاعلم أنّ مقتضى القاعدة الحكمية، أعني لزوم وجوب الصلة بين الصادر والصادر عنه، هو كون الشيء الصادر هو الكمال إذ لا صلة بين الكمال المطلق والنقص والشرّ والعدم.

أضف إلى ذلك أنّ الجعل لا يتعلّق بغير الوجود وهو نفس الخير والسعادة، وأمّا الاَعدام والنقائص فلا يتعلّق بها الجعل لعدم القابلية.

وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه:( كلٌّ مِن عندِ اللهِ ) أمّا الخير فواضح، وأمّا الشرّ فلما عرفت من أنّ الشيء الصادر هو الوجود وهو مساوق للخير وأمّا الشرّ فهو لازم أحد الاَمرين:

الاَوّل : كون الشرّ لازم مرتبته، مثلاً الموجود النباتي يلازم فقدان الشعور والاِرادة والحركة بحيث لو شعر لخرج عن حدّه، وكونه نباتاً، فهذا النقص راجع إلى عدم الوجود الذي هو من لوازم ذات الموجود في تلك المرتبة، والذي تعلّق به الجعل هو الوجود لا الدرجة والحد.

الثاني : تزاحم وجوده مع وجود آخر لاَجل ضيق عالم

____________________

(1) الاَسفار 6 / 375.

٦٢

الطبيعة كالتزاحم الموجود بين وجود الاِنسان ووجود العقرب مثلاً.

وبذلك يتبيّن أنّ كلّ النقائص راجعة إمّا إلى حدّ الوجود، أو إلى التزاحم في عالم الطبيعة.

فيصحّ أن يقال: إنّ الحسنات والسيّئات من الله سبحانه باعتبار أنّ الوجود المفاض في كل منهما خير ومفاض من الله تبارك وتعالى، وإن نسبة الشرور والنقائص إليه بالعرض ولعلّه لهذا الاَمر يقول:( كلٌّ من عندِ الله ) ، بتخلّل كلمة «عند» ولكنّه عندما ينسب السيِّئة إلى العبد يستخدم كلمة «من» مكان «عند» ويقول:( وما أصابَكَ مِن سيِّئةٍ فمِنْ نَفسِكِ ) وذلك لاَنّ نسبة النقص والقبح إلى الله سبحانه نسبة بالعرض وهذا بخلاف نسبتهما إلى الفاعل المادّي، فإنّ النسبة إليه نسبة بالحقيقة.

فنسبة الوجود إلى الخيرات والشرور نسبة واحدة على حدّ سواء وأمّا الخير والشرّ فهي من لوازم مرتبته ودرجته أو تصادمه مع الخير الآخر، فهو كنور الشمس يشعّ على الطيّب والطاهر والرجس والخبيث، دون أن يوصف بصفاتها ودون أن يخرجه عن أصل نوريّته.

٦٣

الايضاح الاَمر بين الاَمرين بالتمثيل:

قد اشتهر أنّ المثال يقرِّب من وجه ويبعّد من ألف، وقد استمدّ المحقّقون لتبيين مكانة فعل الفاعل إلى الله سبحانه بتمثيلين.

التمثيل الاَوّل : إذا أشرقت الشمس على موجود صيقليّ كالمرآة وانعكس النور منها على الجدار، فنور الجدارِ ليس من المرآة بالاَصالة وبالذات، ولا من الشمس بلا واسطة، إذ ربّما تشرق الشمسُ والجدار مظلم، بل هو من المرآة والشمس معاً، فالشمس مستقلّة بالاِفاضة مُنوِّرة بالذات دون الأخرى، والنور المفاض من الشمس غير محدود وإنّما يتحدّد بالمرآة، فالحدّ للمرآة أوّلاً وبالذات، وللنور ثانياً وبالعرض.

وإن شئت قلت: النور المفاض من الشمس غير محدود، وإنّما جاء الحدَ من قالبها الذي أشرقت عليه وهي المرآة المحدودة بالذات، والمفاض هو نفس النور دون حدوده وكلّما تنزّل يتحدّد بحدود أكثر ويعرضه النقص والعدم، فيصح أن يقال النور من الشمس، والحدود والنقائص من المرآة ومع

٦٤

ذلك لولا الشمس وإشراقها لم يكن حدّ ولا ضعف، فيصح أن يقال: كلٌّ من عند الشمس.

فنور الوجود البازغ من أفق عالم الغيب كلّه ظلّ نور الاَنوار ومظهر إرادته وعلمه وقدرته وحوله وقوته، والحدود والتعيّنات والشرور كلّها من لوازم الذات الممكنة وحدود إمكانها، أو من تصادم المادّيات وتزاحم الطبائع.

التمثيل الثاني : قد نقل عن رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلم - «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ولعلّ الاِمعان في قوى النفس ظاهرية كانت أو باطنية يُبيّن لنا مكانة أفعال العباد إلى الباري تعالى، لاَنّ قوى النفس قائمة بها، فإذا قامت القوى بالفعل والاِدراك يصح نسبتهما إلى القوى كما يصح نسبتهما إلى النفس فإذا رأى بالبصر وسمع بالسمع، فالاَفعال كلّها فعل للنفس بالذات وللقوى بالتبع فلا يصح سلبها عن النفس، لكونها بالبصر تبصر وبالسمع تسمع، ولا سلبها عن القوى لكونها قائمة بها ومظاهر لها.

يقول صدر المتألّهين: الاِبصار مثلاً فعل الباصرة بلا شك،

٦٥

لاَنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها(1) وكذلك السماع فعل السمع لاَنّه إحضار الهيئة المسموعة أو انفعال السمع بها، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني فكلّ منهما فعل النفس بلا شك لاَنّها السميعة البصيرة بالحقيقة.(2)

وأنت إذا كنت من أهل الكمال والمعرفة تقف على أنّ تعلّق نور الوجود المنبسط على الماهيات بنور الاَنوار وفنائه فيه، أشدّ من تعلّق قوى النفس وفنائها فيها، لاَنّ النفسَ ذات ماهية وحدود وهما تصحّحان الغيرية بينها وبين قواها، ومع ذلك ترى النسبة حقيقة وأين هو عن الموجود المنزّه عن التعيّن والحد، المبرّأ عن شوائب الكثرة والغيرية، والتضاد والتباين الذي نقل عن أمير المؤمنين - عليه السّلام- قوله المعروف: «داخل في الاَشياء لا بالممازجة، خارج عنها لا بالمباينة».(3)

إيضاح:

قد اتّضح بما ذكرنا أنّ حقيقة الاَمر بين الاَمرين تلك الحقيقة الربانيّة التي جاءت في الذكر الحكيم بالتصريح تارة والتلويح

____________________

(1) إشارة إلى النظريتين المختلفتين في حقيقة الاِبصار فهل الاِبصار بخلاقية النفس أو بانطباع الصورة فيها.

(2) الاَسفار 6 / 377.

(3) وفي النهج ما يقرب منه: «لم يحلّل في الاَشياء فيقال هو كائن، ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن». نهج البلاغة، الخطبة 62 طبعة عبده.

٦٦

أُخرى وجرت على ألسنة أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

مثلاً تجد أنّه سبحانه: نسب التوفّي تارة إلى نفسه ويقول:( اللهُ يَتوفَّى الاَنفُسَ حِينَ مَوتِها ) (1) وأُخرى إلى ملك الموت ويقول:( قُلْ يَتوفّاكُم مَلَكُ المَوتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلي رَبّكُمْ تُرجَعُون ) (2) وثالثة إلى الملائكة ويقول:( فَكيفَ إذا تَوفَّتهُمُ الملائكةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُمْ وأدبارَهُمْ ) (3)

ومثله أمر الضلالة، فتارة ينسبها إلى نفسه ويقول:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الكافرينَ ) (4) وأُخرى إلى إبليس ويقول:( إنَّهُ عدٌّومضلٌّ مُبينٌ ) (5) وثالثة إلى العباد ويقول:( وأضلَّهُمُ السّامِريُّ ) (6) والنسب كلّها صحيحة وما هذا إلاّ لكون أمر التوفّي منزلة بين المنزلتين، وهو مصحّح لعامة النسب.

ومّما يشير إلى أنّه منبع كلّ كمال على الاِطلاق حتى الكمال الموجود في الممكن قوله سبحانه:( الحمدَ للهِ ربِّ العالَمين ) حيث قصّر المحامد عليه حتى أنّ حَمْدَ غيره لكماله، حمدٌ لله تبارك وتعالى، فلولا أنّ كلّ كمال وجمال له عزّ وجلّ بالذات لما صحّ هذا الحصر.

____________________

(1) الزمر / 42.

(2) السجدة / 11.

(3) محمد / 27.

(4) غافر / 74.

(5) القصص / 15.

(6) طه / 85.

٦٧

ويشير إلى المنزلة الوسطى بقوله:( وإيّاكَ نَستعين ) بمعنى نحن عابدون وفاعلون بعونك وحولك وقوّتك.

هذه نزر من الآيات التي تبيّن مكانة أفعال الاِنسان بالنسبة إلى البارىء، وأمّا الروايات ففيها تصريحات وتلويحات، وقد جمع المحقّق البارع الداماد ما يناهر اثنين وتسعين حديثاً في الاِيقاظ الرابع من قبساته، ونحن نقتصر على عدة روايات منها:

1. روى الكليني عن محمد بن أبي عبد الله(1) عن سهل بن زياد،(2) عن أحمد بن أبي نصر الثقة الجليل قال: قلت لاَبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّ بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة.

قال:«فقال لي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال عليّ بن الحسين: قال الله عزّ وجلّ: يا بن آدم بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاء، وبقوّتي أدّيت اليَّ فرائضي، وبنعمتي قويتَ على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منّي، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل

____________________

(1) هو أبو الحسن محمد بن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن عون الاَسدي الكوفي ساكن الري، قال النجاشي: كان ثقة صحيح الحديث. (تنقيح المقال: 2 / 95).

(2) الاَمر في سهل، سهل وإتقان رواياته آية وثاقته في النقل عنه دام ظلّه.

٦٨

وهم يُسألون، قد نظمت لك كل شيء تريد».(1)

هذه الرواية هي المقياس لتفسير جميع الاَحاديث الواردة في هذا المقام.

2. وبهذا المضمون ما رواه الوشاء عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال سألته فقلتُ: إنّ الله فَوض الاَمر إلى العباد؟ قال: الله أعزّ من ذلك، قلت: فأجبرهم على المعاصي؟« قال: الله أعدل وأحكم من ذلك»، ثم قال:« قال الله عزّ وجل: يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيّئاتك منّي، عملتَ المعاصي بقوتّي التي جعلتُها فيك ».(2)

3. روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:« إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناسَ ما لا يطيقون، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد ».(3)

4. روى حفص بن قرط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:« من زعم أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ».(4)

____________________

(1) الكافي، 1 / 160 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين، الحديث 12.

(2) بحار الاَنور 5 / 15 الحديث 20.

(3) بحار الانوار 5 / 41 الحديث 64.

(4) بحار الاَنور 5 / 51 الحديث 85.

٦٩

٧٠

الفصل الرابع

شبهات وحلول

٧١

٧٢

قد ظهر وجه الحقيقة وانكشف الفجر الصادق من بين ظلمات مدلهمّة، غير أنّ ثمة شبهات نذكرها تباعاً مع حلولها.

الشبهة الأولى: الاِرادة ليست اختيارية:

إنّ اختيارية الفعل، بمسبوقيتها بالاِرادة الحاصلة في ضمن مقدّماتٌ غير أنّا ننقل الكلام إلى نفس الاِرادة فهل اختياريتّها بإرادة ثانية فثالثة ولا ينتهي إلى حدّ فلازمه التسلسل، أو ينتهي إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى وهو إمّا إرادة الواجب تعالى، أو إرادة نفس الاِنسان الحاصلة بلا سبق إرادة، فيصبح الاِنسان مجبوراً في فعله لاَنّ المفروض أنّ الاِرادت التي انتهت إليها سائر الارادات غير مسبوقة بإرادة أُخرى؟

وقد أُجيبَ عن الاِشكال بأجوبة غير مقنعة، وإليك بيانها واحداً تلو الآخر:

٧٣

الاَوّل للسيّد المحقق الداماد : وقد اجاب عنه السيّد المحقّق الداماد ونقلَه صدر المتألّهين في الاَسفار وهذا لفظه: إذا انساقت العللُ والاَسبابُ المترتّبة المتأديّة بالاِنسان إلى أن يتصوّر فعلاً ويعتقد فيه خيراً ما، انبعث له تشوّق إليه لا محالة، فإذا تأكد هيجانُ الشوقِ واستتمّ نصاب إجماعه، تمّ قوام الاِرادة المستوجبةِ اهتزازَ العضلات والاَعضاء الادوية، فإنّ تلك الهيئة الاِرادية حالة شوقية إجمالية للنفس، بحيث إذا ما قيست إلى الفعل نفسِه، وكان هو الملتفتَ إليه بالذات، كانت هي شوقاً إليه وإرادة له، وإذا قيست إلى ارادة الفعل وكان الملتفت إليه هي نفسها لا نفس الفعل، كانت هي شوقاً وإرادة بالنسبة إلى الاِرادة من غير شوق آخر وإرادة أُخرى جديدة، وكذلك الاَمر في إرادة الاِرادة، وإرادة إرادة الاِرادة إلى سائر المراتب التي في استطاعة العقل أن يلتفت إليها بالذات، ويلاحظها على التفصيل، فكل من تلك الاِرادات المفصّلة يكون بالاِرادة وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة الشوقية الاِرادية. والترتب بينها بالتقدّم والتأخّر عند التفصيل ليس يصادم اتّحادها في تلك الحالة الاِجمالية بهيئتها الوحدانيّة، فإنّ ذلك إنّما يمتنع في الكمية الاتّصالية والهوية الامتدادية لاغير، فلذلك بانَ أنّ المسافة الاَينية تستحيل أن تنحل إلى متقدّمات ومتأخّرات بالذات هي أجزاء تلك المسافة

٧٤

وأبعاضها، بل إنّما يصحّ تحليلها إلى أجزائها وأبعاضها المتقدّمة والمتأخّرة بالمكان».(1)

يلاحظ عليه : أنّ المعلِّم الثالث مع ماله من العظمة والجلالة اشتبه عليه الاَمر، ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين الحقائق والاعتباريات، فإنّ الاِرادة والعلم بالشيء والعلم بذواتنا صفات وجودية لابدّ لها من علّة موجدة حتى يستند كلّ إليها، وحينئذ فالعلّة التي أوجدت الاِرادة في أنفسنا إمّا إرادة أُخرى غير منتهية إلى حدّ يلزم التسلسل، أو كانت منتهية إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى من إرادة الواجب أو الممكن فيلزم الاضطرار ولا يمكن أن تكون علة الاِرادة نفسها بالضرورة ونظير ذلك، اللزوم بين العلّة والمعلول فهو أمر حقيقي يقوم بعلّة.

نعم إذا لاحظنا العلم بالعلم أو لزوم اللزوم، بحيث صار العلم الاَوّل طرفاً ومعلوماً بهذا اللحاظ وخرج اللزوم الاَوّل عن الوسطية وصار موضوعاً، فيعتبر علم آخر ولزوم ثان بينها وبين الموضوع وينقطع بانقطاع الاعتبار، وهذا ما يقال من أنّ التسلسل في الأمور الاعتبارية غير مضرّ لقوامه بالاعتبار وينتفي بانتفائه، وكم له من نظير مثل موجودية الموجود

____________________

(1) الاَسفار: 6 / 389.

٧٥

وإمكان الممكن وغيرها.

والعجب أنّه قاس المقام بالنية مع أنّ الضرورة قاضية بعدم لزوم أن تكون نفس النية منوية فهي لا تحتاج إلى نية أُخرى، بخلاف الاِرادة إذ هي محتاجة إلى أُخرى حتى لا يلزم الاضطرار أو الاِلجاء.

وقد أورد عليه صدر المتألّهين وجوهاً ثلاثة نأخذ منها الوجه الاَخير حيث قال: إنّ لنا أن نأخذ جميع الاِرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء منها ونطلب أنّ علّتها أي شيء هي، فإن كانت إرادة أُخرى لزم كون شيء واحد خارجاً وداخلاً بالنسبة إلى شيء واحد بعينه هو مجموع الاِرادات وذلك محال، وإن كان شيئاً آخر لزم الجبر في الاِرادة.(1)

قلت: نظير هذا ما يقال في إبطال التسلسل من أنّ السلسلة غير المتناهية المترتبة على نحو الترتّب العليِّ والمعلولي كلّها روابط ومعاني حرفية، فهذه الموجودات المتسلسلة وإن كان لا يمكن الاِحاطة بها بالاِشارة الحسّية غير أنّه يمكن بالاِشارة العقلية ولو بعنوان المشير، فنقول:

____________________

(1) صدر المتألّهين: الاَسفار: 6 / 390.

٧٦

السلسلة غير المتناهية المحكوم عليها بالفقر والحاجة لا يمكن أن يدخل فرد منها في الوجود إلاّ بالاِفاضة عليه من جانب الغني بالذات، إذ الفقير الفاقد لجميع شؤونه حتى وجود ذاته لا يمكنه أن يكون معطياً ومغنياً سواء كان واحداً أو كثيراً، متناهيا أو غير متناهٍ.

الثاني جواب صدر المتألّهين : و هنا جواب ثان ذكره صدر المتألّهين وحاصله: أنّ المختار ما يكون فعله بإرادته لا ما يكون إرادته بإرادته وإلاّ لزم أن لا تكون إرادته سبحانه عين ذاته، والقادر ما يكون بحيث إن إراد الفعل صدر عنه الفعل وإلاّ فلا، لا ما يكون إن أراد الاِرادة للفعل فعل وإلاّ لم يفعل(1)

وقد أوضحه سيدنا الاَستاذ (دام ظله) ما هذا ملخّصه: إنّ الاِرادة والعلم والحبّ من الصفات الحقيقية ذات الاِضافة بين الاِنسان ومتعلّقه.

ثم إنّ المعلوم ما تعلّق به العلم، والمحبوب ما تعلّق به الحب لا ما تعلّق بعلمه العلم وبحبه الحب، فهكذا المراد والمختار ما تعلّقت به الاِرادة والاختيار لا ما تعلّقت بإرادته واختياره، الاِرادة والاختيار، والقادر عند العقلاء من إذا شاء صدر عنه

____________________

(1) صدر المتألهين: الاَسفار: 6 / 388.

٧٧

الفعل وإذا لم يشأ أو شاء عدمه لم يصدر لا ما إذا أراد إرادة الفعل صدر عنه، ولو كان المقياس في الاختيار هو تعلّق الاِرادة على نظيرتها لم يصدر فعل إرادي عن المريد قط حتى الواجب.

فإن قلت: ليس النزاع في التسمية والاصطلاح حتى يندفع بما هو الميزان عند العقلاء في تشخيص الفعل الاختياري عن غيره، بل هو معنوي وهو أنّ مبدأ الفعل أعني الاِرادة إذا لم تكن باختيار النفس وانتخابها، بل كان رهن مقدمات غير اختيارية يصير الفعل معها اضطرارياً غير اختياري ومعه لا تصحّ العقوبة وإن سمّي عندهم فعلاً اختيارياً.

قلت: إنّ البحث يقع تارة في تشخيص الفعل الاِرادي عن غيره، وأُخرى في تنقيح مناط صحّة العقوبة، وما أفاده (طيب الله رمسه) كاف في المقام الاَوّل، إذ لا يشكُ أيّ ذي مسكة من أنّ الفعل الاِرادي هو ما تعلّقت به الاِرادة لا ما تعلّقت بإرادتها إرادة ثانية، في مقابل حركة المرتعش، إذ هي صادرة عنه لا بإرادة متعلّقة بفعله، من غير فرق بين الواجب والممكن.

وأمّا المقام الثاني أي تشخيص مناط صحّة العقوبة وعدمها، فالمرجع في ذلك هو العقلاء وفطرياتهم ومرتكزاتهم، ولا ريب أنّ جميع العقلاء يميّزون بين الحركة الاِرادية والحركة

٧٨

الارتعاشية بصحة المؤاخذة على الاَولى دون الثانية، وليس ذلك إلاّ لحكمهم بأنّ الفعل صادر عن إرادته واختياره من دون اضطرار وإجبار وما ذكر من الشبهة إنّما هو جدل عقيم في سوق الاعتبار.

الجواب الثالث للمحقّق الخراساني:

وثمة جواب ثالث للمحقّق الخراساني أشار إليه في أوائل الجزء الثاني عند البحث في التجرّي وقال: «إنّ الاختيار (يريد من الاختيار، الاِرادة) وإن لم يكن بالاختيار إلاّ بعض مباديه، يكون غالباً بالاختيار للتمكّن من عدمه بالتأمل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذّمة(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاِشكال لا يُحسَم بما أفاد: إذ لقائل أن يسأل عن المبادىَ التي ادّعي أنّها بالاختيار، فهل الاِرادة المتعلّقة بها مسبوقة بإرادة أُخرى أو لا؟ فعلى الاَوّل ينتهي إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى ولازمه الجبر والاضطرار، وعلى الثاني يلزم التسلسل.

الجواب الرابع للمحقّق الحائري:

انّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قد دفع الشبهة بوجه آخر

____________________

(1) كفاية الأصول: 2 / طبعة المشكيني.

٧٩

وقال: «إنّما يلزم التسلسل لو قلنا بانحصار سبب الاِرادة في الاِرادة ولا نقول به، بل ندّعي أنّها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلّق، أعني: المراد، وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها فيكفي في تحقّقها أحد الاَمرين، وما كان من قبيل الاَوّل لا يحتاج إلى إرادة أُخرى وما كان من قبيل الثاني حاله حال سائر الاَفعال التي يقصدها الفاعل بملاحظة الجهة الموجودة فيها - إلى أن قال: - والدليل على أنّ الاِرادة قد تتحقّق في مصلحة في نفسها هو الوجدان، لاَنّا نرى إمكان أن يقصد الاِنسان، البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنّ صحة الصوم والصلاة التامّتين تتوقف على القصد المذكور، مع العلم بعدم كون هذا الاَثر مترتباً على نفس البقاء واقعاً، ونظير ذلك غير عزيز.(1)

يلاحظ عليه : أنّ الاِشكال بعد باقٍ، إذ لقائل أن يسأل عن تعلّق الاِرادة على إيجاد الاِرادة فهل هي مسبوقة بإرادة أُخرى وهكذا فيتسلسل أو لا؟ فيلزم الجبر.

الجواب الخامس: ما هو المشهور بين المحصلين

إنّ اختيارية كلّ شيء بالاِرادة وأمّا اختياريتها، فبذاتها إذ كل ما بالعرض لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، فكما أنّ كل موجود

____________________

(1) درر الفوائد: 2 / 14 - 15.

٨٠