تنزيه الانبياء

تنزيه الانبياء0%

تنزيه الانبياء مؤلف:
تصنيف: النبوة
الصفحات: 189

تنزيه الانبياء

مؤلف: ابي القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى
تصنيف:

الصفحات: 189
المشاهدات: 43696
تحميل: 4579

توضيحات:

تنزيه الانبياء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43696 / تحميل: 4579
الحجم الحجم الحجم
تنزيه الانبياء

تنزيه الانبياء

مؤلف:
العربية

فأما انكاحه عليه السلام

اياها ، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي ، الجواب عن هذا الباب مشروحا ، وبينا انه (ع) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور ، اشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها ، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى ان الامر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله (ع) رد أمرها إليه ففعل ، فزوجها منه. وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار. وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع ان يبيح الشرع ان يناكح بالاكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ، لا سيما إذا كان المنكح مظهرا للاسلام والتمسك بسائر الشريعة. وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر انواع كفرهم ، وانما المرجع فيما يحل من ذلك أو يحرم إلى الشريعة. وفعل امير المؤمنين عليه السلام اقوى حجة في احكام الشرع ، وبينا الجواب عن الزامهم لنا ، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان يجوز ذلك ، وفرقنا بين الامرين بأن قلنا إن كان السؤال عما في العقل فلا فرق بين الامرين ، وان كان عما في الشرع فالاجماع يحظر ان تنكح اليهود على كل حال. وما اجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الاسلام وهو على نوع من القبيح لكفر به ، إذا اضطررنا إلى ذلك واكرهنا عليه. فإذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهودي وكفر من ذكرتم؟ قلنا لهم : وأي فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية.

فأما الدخول في الشورى

فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى ، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه. والاخبار الدالة على النص بالامامة عليه ، وبما ذكرناه

١٤١

في الامور التي تدل على ان اسبابه إلى الامامة اقوى من أسبابهم ، وطرقه إلى تناولها اقرب من طرقهم ، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى. وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل ، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا. وبعد ، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على اظهار البيعة للرجلين ، والرضا بامامتهما وامضاء عقودهما ، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل (ع) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده ، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الامامة اليك ، وان اختيار الامة للامام بعد الرسول باطل ، وفي هذا ما فيه. والامتناع من الدخول يعود إليه ، ويحمل عليه. وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الامر منها. ومعلوم ان كل سبب ظن معه ، أو جواز الوصول إلى الامر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه (ع) التوصل به الهجرة له. وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال.عن عدم افتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين : (مسألة) : فإن قيل : إذا كنتم تروون عنه (ع) وتدعون عليه في احكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا ، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الامر يجري بخلافها ، فإلا افتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد إليها. وليس لكم ان تقولوا انه (ع) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم ، لانه (ع) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها ، مثل قطع السارق من الاصابع ، وبيع امهات الاولاد ، ومسائل في الحدود ، وغير ذلك مما مذهبه (ع) فيه إلى الآن معروف. فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر؟ وحكم الجميع واحد في انه خلاف في احكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا ابطال اختيار؟ (الجواب) : قلنا : لم يظهر امير المؤمنين عليه السلام في احكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده ، أو بحيث علم ان

١٤٢

الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة. وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة أو يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه ، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ ، لانا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في ان يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش ، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو اعظم منه وأجل موقعا ، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير. وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت ، ولاعتقادهم ان بعض الامور وان صغر في ظاهره ، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر. أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الاشياء وان كان في ظاهر الامر كالخلاف في غيره ، لا يقع الا مع معاند منافس. وإذا كان الامر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون امير المؤمنين (ع) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم اظهارا واحدا ، لانه (ع) علم أو غلب في ظنه ان اظهار ذلك يؤدي من المحتمل الضرر في الدين إلى ما لا يؤدي إليه اظهار ما اظهره ، وهذا واضح لمن تدبره. وقد دخل في جملة ما ذكرناه الجواب عن قولهم : لم لم يغير الاحكام ويظهر مذاهبه ، وما كان مخبوا في نفسه عند افضاء الامر إليه وحصول الخلافة في يديه ، فإنه لا تقية على من هو أمير المؤمنين وإمام جميع المسلمين ، لانا قد بينا ان الامر ما افضى إليه (ع) إلا بالاسم دون المعنى ، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول ايام ولايته إلى ان قبضه الله تعالى إلى جنته ، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه (ع) رجل من تابعه وجمهورهم شيعة اعدائه (ع). ومن يرى انهم مضوا على اعدل الامور وأفضلها ، وأن غاية من يأتي بعدهم ان يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم. وما العجب من ترك امير المؤمنين عليه السلام ما ترك من اظهار بعض مذاهبه التي كان الجمهور يخالفه فيها ،

١٤٣

وانما العجب من اظهار شئ من ذلك مع ما كان عليه من شر الفتنة وخوف الفرقة ، وقد كان (ع) يجهر في كل مقام يقومه بما هو عليه من فقد التمكن وتقاعد الانصار وتخاذل الاعوان ، بما ان ذكرنا قليله طال به الشرح وهو (ع) القائل : «والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين اهل الانجيل بانجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول يا رب ان عليا قد قضى بقضائك». وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا امير المؤمنين فقال (ع) : «اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو اموت كما مات اصحابي» يعني (ع) من تقدم موته من اصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على احوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به. وهذا واضح فيما قصدناه. وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما افضى التصرف في الامامة إليه (ع). في مسألة التحكيم : (مسألة) : فان قيل : فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص؟ وما العذر في ان حكم في الدين الرجال. وهذا يدل على شكه في امامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له. أو ليس قد تعرض لذلك ان يخلعا امامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما ، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالامامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الاب كما فعل ذلك به ، وانتم تعلمون ان بهذه الامور ضلت الخوارج مع شدة

١٤٤

تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه؟. (الجواب) : قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لاجل امر محتمل ، وقد ثبت امامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدله عقلية وسمعية ، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع ، ولا عن شئ منه ، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره ، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره اقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب ، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل ، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره ، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل. وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الادلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة ، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة ، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية ، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الاصول. لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك فيما صدرنا به هذا الكتاب من الكلام في تنزيه الانبياء عليهم السلام عن المعاصي. فنقول : إن امير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا ، بل احوج إلى التحكيم وألجئ إليه لان اصحابه (ع) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور ، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف ، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع إليها واظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق ، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمرو بن العاص ، والمكيدة التى كادبها لما احس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق ، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف ، فعند ذلك وجد هؤلاء الاغنام

١٤٥

طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة. ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه ، وظن ان الذي دعى إليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة ، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع (ع) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة ، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع ، فأبوا ولجوا فأشفق (ع) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور اصحابه من فتنة صماء هي اقرب إليه من حرب عدوه ، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى ان يسلموه إلى عدوه أو يسفكوا دمه ، فأجاب إلى التحكيم على مضض. ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه ، حتى انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من ان يكف عن القتال وقد احس بالظفر وايقن بالنصر ، أتحب انك ظفرت ها هنا وامير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق اصحابه عنه. وقال لهم امير المؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم ، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وانا اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومكيدة. فأجاب (ع) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف ، وتلافيا للضرر الاعظم بتحمل الضرر الايسر ، وأراد ان يحكم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم ، وقالوا لابد من يماني مع مضري. فقال (ع) فضموا الاشتر وهو يماني إلى عمرو ، فقال الاشعث بن قيس : الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه. واختاروا أبا موسى مقترحين له (ع) ملزمين له تحكيمه ، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه ، وانهما

١٤٦

متى تعدياه فلا حكم لهما. هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ ، لانا نعلم انهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق. وعلمنا ان امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالامر ، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه. ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما ، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما ، وهذا بعينه موجود في كلام امير المؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم. وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الاعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام. وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا.

فأما تحكيمهما

مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه ، إذ كنا قد بينا ان الاكراه وقع على اصل الاختيار وفرعه ، وأنه عليه السلام ألجئ إليه جملة ثم إلى تفصيله ، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم اصلا ، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم. لكنه أجاب إليه ملجأ كما اجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك. وقد صرح (ع) بذلك في كلامه حيث يقول : لقد أمسيت أميرا واصبحت مأمورا ، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا.وكيف يكون التحكيم منه (ع) دالا على الشك ، وهو (ع) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة؟ وانما يدل على شك من حمله عليه وقاده إليه ، وانما يقال ان التحكيم يدل على الشك إذا كنا لا نعرف سببه والحامل عليه ، أو كان لا وجه له إلا ما يقتضي الشك. فأما إذا كنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه ، وعلمنا انه (ع) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم ، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به (ع) أنه لا يرضى بالكتاب ولا يجيب إلى تحكيمه ، فلا وجه لما ذكروه. وقد أجاب (ع) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له : اشككت؟ فقال عليه السلام : أنا اولى بأن

١٤٧

لا أشك في دينى أم النبي صلى الله عليه وآله؟ أو ما قال الله تعالى لرسوله :( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين ) . واما قول السائل ، فإنه (ع) تعرض لخلع امامته ومكن الفاسقين من ان يحكما عليه بالباطل ، فمعاذ الله ان يكون كذلك ، لانا قد بينا انه (ع) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه ، لاقرا امامته واوجبا طاعته ، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما ، فما مكنهما من خلع امامته ولا تعرض منهما لذلك. ونحن نعلم ان من قلد حاكما أو ولى اميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه ، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب ، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك ، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه.

فأما تأخيره جهاد الظالمين

وتأجيل ما يأتي من استيصالهم ، فقد بينا العذر فيه ، وان اصحابه (ع) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا ، وان الحرب بلا أنصار وبغير اعوان لا يمكن. والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه.

فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين

واقتصاره على التسمية المجردة ، فضرورة لحال دعت إليها. وقد سبق إلى مثل ذلك سيد الاولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية ، وقصته مع سهل بن عمرو ، وأنذره عليه السلام بأنه : ستدعى إلى مثل ذلك وتجيب على مضض. فكان كما أنذر وخبر رسول الله صلى الله عليه وآله. واللوم بلا اشكال زايل عما اقتدى فيه بالرسول صلى الله عليه وآله. وهذه جملة تفصيلها يطول ، وفيها لمن انصف من نفسه بلاغ وكفاية. في أن عليا لم يندم على التحكيم : (مسألة) : فان قيل فإذا كان عليه السلام من أمر التحكيم على ثقة ويقين فلم روي عنه (ع) انه كان يقول

١٤٨

بعد التحكيم في مقام بعد آخر : لقد عثرت عثرة لا تنجبر * سوف اكيس بعدها واستمر واجمع الرأي الشتيت المنتشر أو ليس هذا اذعانا بأن التحكيم جرى على خلاف الصواب؟. (الجواب) : قلنا قد علم كل عاقل قد سمع الاخبار ضرورة ان أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وخلصاء شيعته وأصحابه كانوا من أشد الناس اظهارا لوقوع التحكيم من الصواب والسداد موقعه ، وان الذي دعي إليه حسن ، والتدبير اوجبه ، وأنه (ع) ما اعترف قط بخطأ فيه ولا اغضى عن الاحتجاج على من شك فيه وضعفه ، كيف والخوارج انما ضلت عنه وعصته وخرجت عليه ، لاجل انها ارادته على الاعتراف بالزلل في التحكيم فامتنع كل امتناع وأبي اشد اباء وقد كانوا يقنعون منه ويعاودون طاعته ونصرته بدون هذا الذي اضافوه إليه (ع) من الاقرار بالخطأ واظهار الندم. وكيف يمتنع من شئ ويعترف بأكثر منه ، ويغصب من جزء ويجيب إلى كل هذا مما لا يظن به احد ممن يعرفه حق معرفته. وهذا الخبر شاذ ضعيف ، فإما ان يكون باطلا موضوعا أو يكون الغرض فيه غير ما ظنه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم. فقد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر وتفسير مراده منه ، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب اهل السير ، انه عليه السلام لما سئل عن مراده بهذا الكلام ، قال كتب الي محمد بن ابي بكر بأن اكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه ، فكتبت له ذلك وانفذته إليه ، فاعترضه معاوية فأخذه ، فأسف (ع) على ظفر عدوه بذلك ، واشفق من أن يعمل بما فيه من الاحكام ، وتوهم ضعفة اصحابه ان ذلك من علمه ومن عنده ، فتقوى الشبهة به عليهم. وهذا وجه صحيح يقتضي التأسف والتندم ، وليس في الخبر المتضمن للشعر ما يقتضي ان تندمه كان على التحكيم دون غيره. فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه (ع) ، كان الاخذ بها اولى. في أن قتله للخوارج كان بعهد من رسول الله : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما فعله أمير

١٤٩

المؤمنين عليه الصلاة والسلام عند حربه للخوارج يوم النهروان من رفعه رأسه إلى السماء ناظرا إليها تارة والى الارض أخرى وقوله (ع) : والله ما كذبت ولا كذبت. فلما قتلهم وفرغ من الحرب ، قال له ابنه الحسن (ع) : يا أمير المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم اليك في هؤلاء بشئ؟. قال : لا ولكن أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حق ، ومن الحق أن أقاتل المارقين والناكثين والقاسطين. أو ليس قد تعلق بهذا النظام في كتابه المعروف بالنكت. وقال هذا توهيم منه (ع) لاصحابه أن رسول الله قد تقدم إليه في أن الخوارج سيخالفوه ويقتلهم ، إذ يقول والله ما كذبت ولا كذبت. (الجواب) : إنا لا ندري كيف ذهب على النظام كذب هذه الرواية ، يعني التضمنة لقوله (ع) انه لم يتقدم الرسول إليه في ذلك بشئ ، إن كان النظام رواها ونقلها ، ام كيف استجاز ان يضيفها إليه (ع) ان كان تخرصها؟ وكيف ظن ان مثل ذلك يخفى على احد مع ظهور الحال وتواتر الروايات عنه عليه السلام بالانذار لقتال أهل النهروان وكيفيته ، والاشعار بقتل المخدج ذي الثدية ، وإنما كان عليه السلام ينظر إلى السماء ثم إلى الارض ويقول ما كذبت ولا كذبت استبطاء لوجود المخدج ، لانه (ع) عند قتل القوم أمر بطلبه في جملة القتلى ، فلما طال الامر في وجوده واشفق (ع) من وقوع شبهة من ضعفة اصحابه فيما كان يخبر به وينذر من وجوده فقلق (ع) لذلك واشتد همه وكرر قوله ما كذبت ولا كذبت ، إلى ان اتاح الله وجوده والظفر به بين القتلى على الهيئة التي كان (ع) ذكرها ، فلما احضروه اياه كبر (ع) واستبشر بزوال الشبهة في صحة خبره. وقد روى من طرق مختلفة وجهات كثيرة عنه (ع) الانذار بقتال الخوارج وقتل المخدج على صفته التي وجد عليها ، وأنه عليه السلام كان يقول لاصحابه أنهم لا يعبرون النهر حتى يصرعوا دونه ، وأنه لا يقتل من أصحابه إلا دون العشرة ، ولا يبقى من الخوارج

١٥٠

إلا دون العشرة ، حتى أن رجلا من اصحابه قال له يا أمير المؤمنين ذهب القوم وقطعوا النهر. فقال (ع) لا والله ما قطعوه ولا يقطعونه حتى يقتلوا دونه عهدا من الله ورسوله. فكيف يستشعر عاقل ان ذلك من غير علم ولا اطلاع من الرسول صلى الله عليه وآله على وقوعه وكونه. وقد روي عن ابن ابي عبيدة اليماني لما سمعه (ع) يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بقتال الخوارج قبل ذلك بمدة طويلة وقتل المخدج ، شك فيه لضعف بصيرته فقال له : أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك؟ فقال أي ورب الكعبة مرات. وقد روي أمر الخوارج وقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم وانذار الرسول صلى الله عليه وآله بذلك جماعة من الصحابة ، لولا ان في ذكر ذلك خروجا عن غرض الكتاب لذكرناه ، حتى أن عائشة روت ذلك فيما رفعه عامر عن مسروق قال : دخلت على عائشة ، فقالت من قتل الخوارج؟ قلت قتلهم علي بن ابي طالب عليه السلام. فسكتت. فقلت لها يا امة اسألك بحق الله وحق نبيه وحقي ، فإني لك ولد إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهم شيئا لما اخبرتنيه. قالت سمعت رسول الله يقول هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة. وعن مسروق ايضا عن عائشة أنها قالت من قتل ذا الثدية؟ قلت علي بن ابي طالب. قالت لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب الي يخبرني انه قتله بالاسكندرية ، إلا انه لا يمنعني ما في نفسي ان أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه سمعته يقول يقتلهم خير امتي بعدي. وروى فضالة بن ابي فضيلة وهو ممن كان شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا ، قال اشتكى امير المؤمنين عليه السلام بينبع شكاة ثقل منها ، فخرج ابي يعوده ، فخرجت معه ، فلما دخل عليه قال لا تخرج إلى المدينة ، فإن اصابك اجلك شهدك اصحابك وصلوا عليك وإنك هاهنا بين ظهراني اعراب جهينة. فقال عليه السلام اني لا اموت

١٥١

من مرضي هذا لانه فيما عهده الي رسول الله صلى الله عليه وآله اني لا اموت حتى أؤمر واقتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وحتى تخضب هذه من هذا وأشار (ع) إلى لحيته ورأسه. وذكر المروي في هذا الباب يطول والامر في اخباره عليه السلام بقصة الخوارج وقتاله (ع) لهم وانذاره بذلك ظاهرا جدا. بيان أن عليا قد يعرض في كلامه خدعة الحرب : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه السلام من قوله : إذا حدثتكم عن رسول الله بحديث فهو كما حدثتكم ، فوالله لان أخر من السماء احب الي من أن اكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله. وإذا سمعتموني احدث فيما بيني وبينكم ، فإنما الحرب خدعة. وأليس هذا مما نفاه النظام ايضا وقال لم يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، وذكر ان هذا يجري مجرى التدليس في الحديث. (الجواب) : قلنا ان امير المؤمنين عليه السلام لفرط احتياطه بالدين وتخشنه فيه وعلمه بأن المخبر ربما دعته الضرورة إلى ترك التصريح واستعمال التعريض ، أراد ان يميز للسامعين بين الامرين ويفصل لهم بين ما لايدخل فيه التعريض من كلامه مما باطنه كظاهره ، وبين ما يجوز ان يعرض فيه للضرورة ، وهذا نهاية الحكمة منه وازالة اللبس والشبهة ، ويجري البيان والايضاح بالضد فيما يوهمه النظام من دخوله في باب التدليس في الحديث ، لان المدلس يقصد إلى الابهام ويعدل عن البيان والايضاح طلبا لتمام غرضه. وهو عليه السلام ميز بين كلامه وفرق بين انواعه حتى لا تدخل الشبهة فيه على احد. واعجب من هذا كله قوله انه لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك ، لانه ما اعتذر كما ظنه ، وانما نفى ان يكون التعريض مما يدخل روايته عن رسول الله. كما انه ربما دخل ما يخبر به عن نفسه قصدا للايضاح ، ونفي الشبهة. وليس كل من نفى عن نفسه شيئا واخبر عن براءته منه فقد فعله. وقوله عليه السلام لان أخر من السماء يدل على انه ما فعل ذلك

١٥٢

ولا يفعله ، وإنما نفاه حتى لا يلتبس على احد خبره عن نفسه ، ومما يجوز فيه مما يرويه ويسنده إلى رسول الله. في قوله ما حدثني أحد عن الرسول إلا استحلفته : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام من انه قال كنت إذا حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بحديث استحلفته بالله أنه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله فإن حلف صدقته وإلا فلا. وحدثني ابو بكر وصدقني ، أو ليس هذا الخبر مما طعن به النظام وقال لا يخلو المحدث عنده من ان يكون ثقة أو متهما. فإن كان ثقة فما معنى الاستحلاف؟ وان كان متهما فكيف يتحقق قول المتهم بيمينه؟ وإذا جاز ان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالباطل جاز ان يحلف على ذلك بالباطل؟. (الجواب) : قلنا هذا خبر ضعيف مدفوع مطعون على اسناده ، لان عثمان بن المغيرة رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن اسماء بن الحكم الفزاري. قال سمعت عليا عليه السلام يقول كذا وكذا واسماء بن الحكم هذا مجهول عند اهل الرواية لا يعرفونه ولا روي عنه شئ من الاحاديث غير هذا الخبر الواحد. وقد روي ايضا من طريق سعد بن سعيد بن ابي سعيد المقري عن اخيه عن جده ابي سعيد رواه هشام بن عمار والزبير بن بكار عن سعد بن سعيد بن ابي سعيد عن اخيه عبدالله بن سعيد عن جده عن امير المؤمنين عليه السلام. وقال الزبير عن سعد بن سعيد أنه ما ارى اخبث منه. وقال أبو عبدالرحمن الشيباني : عبدالله بن سعيد بن ابي سعيد المقري متروك الحديث. وقال يحيى بن معين انه ضعيف. ورووه من طريق ابي المغيرة المخزومي عن ابن نافع عن سليمان بن يزيد عن المقري وابو مغيرة المخزومي مجهول لا يعرفه اكثر اهل الحديث. ورووه من طريق عطا بن مسلم عن عمارة عن محرز عن ابي هريرة عن امير المؤمنين عليه السلام قالوا : محرز لم يسمع من امير المؤمنين (ع) بل لم يره

١٥٣

وعمارة وهو عمارة بن حريز وهو ابن هرون العبدي ، قيل أنه متروك الحديث. ومما ينبئ عن ضعف هذا الحديث واختلاله ان من المعروف الظاهر أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرو عن احد قط حرفا غير النبي صلى الله عليه وآله. واكثر ما يدعى عليه من ذلك هذا الخبر الذي نحن في الكلام عليه. وقوله ما حدثني احد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا استحلفته ، يقتضي ظاهره أنه قد سمع اخبارا عنه (ع) من جماعة من الصحابة. والمعلوم خلاف ذلك. واما تعجب النظام من الاستحلاف ففي غير موضعه ، لانا نعلم ان في عرض اليمين تهيبا لمن عرضت عليه وتذكيرا بالله تعالى وتخويفا من عقابه ، سواء كان من تعرض والاقدام عليها يزيدنا في الثقة بصيرة ، وربما قوى ذلك حال الظنين لبعد الاقدام على اليمين الفاجرة ، ولهذا نجد كثيرا من الجاحدين للحقوق متى عرضت عليهم اليمين امتنعوا منها وأقروا بها بعد الجحود واللجاج. ولهذا استظهر في الشريعة باليمين على المدعى عليه ، وفي القاذف زوجته بالتلفظ باللعان. ولو أن ملحدا أراد الطعن على الشريعة واستعمل من الشبهة ما استعمله النظام ، فقال اي معنى لليمين في الدعاوى ، والمستحلف ان كان ثقة فلا معنى لاحلافه ، وان كان ظنينا متهما فهو بأن يقدم على اليمين اولى. وكذلك في القاذف زوجته لما كان له جواب إلا ما اجبنا به النظام ، وقد ذكرناه. وقد حكي عن الزبير بن بكار في هذا الخبر تأويل قريب وهو انه قال : كان ابو بكر وعمر إذا جاءهما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يعرفانه لا يقبلاه حتى يأتي مع الذي ذكره آخر ، فيقوما مقام الشاهدين. قال فأقام امير المؤمنين عليه السلام اليمين مع دعوى المحدث مقام الشاهد مع اليمين في الحقوق ، كما اقاما الرواية في طلب شاهدين عليهما مقام باقي الحقوق. فان قيل أو ليس هذا الحديث إذا سلمتوه واخذتم في تأويله يقتضي ان أمير المؤمنين عليه السلام

١٥٤

ما كان يعلم الشئ الذي يخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وانه كان يستفيده إلا من المخبر ، ولولا ذلك لما كان لاستحلافه معنى؟ وهذا يوجب انه (ع) كان غير محيط بعلم الشريعة على ما يذهبون إليه؟. قلنا : قد بينا الجواب عن هذه الشبهة في كتابنا الملقب بالشافي في الامامة ، وذكرنا انه (ع) وان كان عالما بصحة ما اخبره به المخبر ، وأنه من الشرع ، فقد يجوز ان يكون المخبر له به ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله ، وإن كان من شرعه ، ويكون كاذبا في ادعائه السماع ، فكان يستحلفه لهذه العلة. وقلنا أيضا لا يمتنع ان يكون ذلك انما كان منه (ع) في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الاحوال لم يكن محيطا بجميع الاحكام ، بل كان يستفيدها حالا بعد حال. فان قيل : كيف خص ابا بكر في هذا الباب بما لم يخص به غيره؟ قلنا : يحتمل ان يكون ابو بكر حدثه بما علم أنه سمعه من الرسول وحضر تلقيه له من جهته صلى الله عليه وآله ، فلم يحتج إلى استحلافه لهذا الوجه. في حكمه بعد غنيمة المال والذرية : (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما ذكره النظام في كتابه المعروف بالنكت من قوله العجب مما حكم به علي بن ابي طالب في حرب اصحاب الجمل ، لانه (ع) قتل المقاتلة ولم يغنم ، فقال له قوم من اصحابه إن كان قتلهم حلالا فغنيمتهم حلال ، وإن كان قتلهم حراما فغنيمتهم حرام فكيف قتلت ولم تسب؟ فقال (ع) فأيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فقال قوم إن عائشة تصان لرسول الله صلى الله عليه وآله؟ فنحن لا نغنمها ونغنم من ليس سبيله من رسول الله صلى الله عليه وآله سبيلها ، قال فلم يجبهم إلى شئ من ذلك. فقال له عبدالله بن وهب الراسبي : أليس قد جاز ان يقتل كل من حارب مع عائشة ولا تقتل عائشة؟ قال بلى قد جاز ذلك وأحله الله عزوجل. فقال له عبدالله بن وهب : فلم لا جاز ان نغنم غير عايشة ممن حاربنا ويكون غنيمة عايشة غير حلال لنا فيما تدفعنا عن حقنا. فأمسك (ع) عن جوابه

١٥٥

وكان هذا أول شئ حقدته الشراة على علي عليه الصلاة والسلام؟ (الجواب) : قلنا ليس يشنع امير المؤمنين عليه السلام ويعترضه في الاحكام الا من قد اعمى الله قلبه وأضله عن رشده ، لانه المعصوم الموفق المسدد على ما دلت عليه الادلة الواضحة. ثم لو لم يكن كذلك وكان على ما يعتقده المخالفون ، اليس هو الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وآله بأنه (ع) اقضي الامة واعرفها بأحكام الشريعة؟ وهو الذي شهد صلى الله عليه وآله له بأن الحق معه يدور كيف ما دار؟ فينبغي لمن جهل وجه شئ فعله (ع) ان يعود على نفسه باللوم ويقر عليها بالعجز والنقص ، ويعلم ان ذلك موافق للصواب والسداد ، وإن جهل وجهه وضل عن علته. وهذه جملة يغني التمسك بها عن كثير من التفصيل ، واستعمال كثير من التأويل. وأمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل اهل القبلة إلا بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد صرح (ع) بذلك في كثير من كلامه الذي قد مضى حكاية بعضه ، ولم يسر فيهم إلا بما عهده إليه من السيرة. وليس بمنكر ان يختلف احكام المحاربين فيكون منهم من يقتل ولا يغنم. ومنهم من يقتل ولا يغنم. لان احكام الكفار في الاصل مختلفة مقاتلو امير المؤمنين عليه السلام عندنا كفار لقتالهم له. وإذا كان في الكفار من يقر على كفره ويؤخذ الجزية منه ، ومنهم من لا يقر على كفره ولا يقعد عن محاربته ، إلى غير ذلك مما اختلفوا فيه من الاحكام جاز ايضا ان يكون فيهم من يغنم ومن لا يغنم ، لان الشرع لا ينكر فيه هذا الضرب من الاختلاف. وقد روي ان مرتدا على عهد ابي بكر يعرف بعلانة ارتد ، فلم يعرض ابو بكر لما له. وقالت امرأته ان يكن علانة ارتد فانا لم نرتد. وروي مثل ذلك في مرتد قتل في ايام عمر بن الخطاب ، فلم يعرض لما له. وروي ان امير المؤمنين عليه السلام قتل مستوردا العجلي ولم يعرض لميراثه. فالقتل ووجوبه ليس بامارة على تناول المال واستباحته ، على ان الذي رواه النظام من القصة محرف معدول عن

١٥٦

الصواب ، والذي تظاهرت به الروايات ونقله أهل السير في هذا الباب من طرق مختلفة ، أن امير المؤمنين عليه السلام لما خطب بالبصرة وأجاب عن مسائل شتى سئل عنها ، واخبر بملاحم وأشياء تكون بالبصرة ، قام إليه عمار بن ياسر رضي الله عنه فقال يا امير المؤمنين ان الناس يكثرون في أمر الفئ ويقولون من قاتلنا فهو وماله وولده فئ لنا. وقام رجل من بكر بن وايل يقال له عباد بن قيس ، فقال يا امير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية ولا عدلت في الرعية ، فقال عليه السلام ولم ويحك؟ قال لانك قسمت ما في العسكر وتركت الاموال والنساء والذرية. فقال امير المؤمنين (ع) : يا ايها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن. فقال عباد بن قيس جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات. فقال عليه السلام ان كنت كاذبا فلا اماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف. فقال رجل يا امير المؤمنين ومن غلام ثقيف؟ فقال رجل لا يدع لله حرمة الا انتهكها. فقال له الرجل أيموت أو يقتل؟ فقال امير المؤمنين عليه السلام بل يقصمه قاصم الجبارين يخترق سريره لكثرة ما يحدث من بطنه ، يا أخا بكر انت امرؤ ضعيف الرأي ، أما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ، وان الاموال كانت بينهم قبل الفرقة يقسم ما حواه عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم ، فإن عدا علينا احد اخذناه بذنبه ، وان كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره. يا أخا بكر والله لقد حكمت فيكم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل مكة قسم ما حواه العسكر ، ولم يعرض لما سوى ذلك. وانما اقتفينا اثره حذو النعل بالنعل. يا أخا بكر ، اما علمت ان دار الحرب يحل ما فيها ، ودار الهجرة محرم ما فيها إلا بحق ، مهلا مهلا رحمكم الله فإن انتم انكرتم ذلك علي ، فأيكم يأخذ أمه عايشة بسهمه؟ قالوا يا امير المؤمنين اصبت واخطأنا وعلمت وجهلنا ، أصاب الله بك الرشاد والسداد.

١٥٧

فاما قول النظام

ان هذا اول ما حقدته الشراة عليه فباطل ، لان الشراة ما شكوا قط فيه عليه السلام ولا ارتابوا بشئ من افعاله قبل التحكيم الذي منه دخلت الشبهة عليهم ، وكيف يكون ذلك وهم الناصرون له بصفين والمجاهدون بين يديه والسافكون دماءهم تحت رايته. وحرب صفين كانت بعد الجمل بمدة طويلة فكيف يدعى ان الشك منهم في أمره كان ابتداءه في حرب الجمل لولا ضعف البصائر؟ في أن الزبير لم يلحق بعلي وهو لم يقتل قاتله (مسألة) : فإن قيل فما الوجه ذكره النظام من أن ابن جرموز لما أتى أمير المؤمنين عليه السلام برأس الزبير وقد قتله بوادي السباع ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما كان ابن صفية بجبان ، ولا لئيم ، لكن الحين ومصارع السوء. فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين. فقال (ع) سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار. فخرج ابن جرموز وهو يقول : أتيت عليا برأس الزبير * وكنت أرجى به الزلفة فبشر بالنار قبل العيان * فبئس البشارة والتحفة فقلت له ان قتل الزبير * لولا رضاك من الكلفة فان ترض ذاك فمنك الرضا * وإلا فدونك لي حلفة ورب المحلين والمحرمين * ورب الجماعة والالفة لسيان عندي قتل الزبير * وضرطة عنز بذي الجحفة قال النظام ، وقد كان يجب على علي عليه السلام أن يقيده بالزبير وكان يجب على الزبير إذ بان أنه على خطأ أن يلحق يعلي فيجاهد معه (الجواب) : أنه لا شبهة في أن الواجب على الزبير أن يعدل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أو ينحاز إليه ويبذل نصرته لا سيما ان كان رجوعه على طريق التوبة والانابة. ومن أظهر ما أظهر من المباينة والمحاربة إذا تاب وتبين خطأه يجب عليه أن يظهر ضد ما كان أظهره لا سيما وأمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحال مصاف لعدوه ومحتاج إلى نصرة من هو دون الزبير في الشجاعة والنجدة ، وليس هذا موضع إستقصاء ما يتصل بهذا

١٥٨

المعنى وقد ذكرناه في كتابنا الشافي المقدم ذكره.

فأما أمير المؤمنين

فإنما عدل أن يقيد ابن جرموز بالزبير لاحد أمرين : إن كان ابن جرموز قتله غدرا وبعد أن آمنه وقتله بعد أن ولى مدبرا ، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أمر أصحابه أن لا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح فلما قتل ابن جرموز مدبرا كان بذلك عاصيا مخالفا لامر إمامه ، فالسبب في أنه لم يقيده به أن أولياء الدم الذين هم أولاد الزبير لم يطالبوا بذلك ولا حكموا فيه وكان أكبرهم والمنظور إليه منهم عبدالله محاربا لامير المؤمنين عليه السلام ، مجاهرا له بالعداوة والمشاقة فقد أبطل بذلك حقه ، لانه لو أراد أن يطالب به لرجع عن الحرب وبايع وسلم ثم طالب بعد ذلك فانتصف له منه. وإن كان الامر الآخر وهو ان يكون إبن جرموز ما قتل الزبير الا مبارزة من غير غدر ولا أمان تقدم على ما ذهب إليه قوم ، فلا يستحق بذلك قودا ولا مسألة ها هنا في القود. فإن قيل فعلى هذا الوجه ما معنى بشارته بالنار؟ قلنا ، المعنى فيها الخبر عن عاقبة أمره ، لان الثواب والعقاب إنما يحصلان على عواقب الاعمال وخواتيمها ، وابن جرموز هذا خرج مع أهل النهروان على أمير المؤمنين عليه السلام ، فقتل هناك. فكان بذلك الخروج من أهل النار لا بقتل الزبير. فإن قيل : فأي فائدة لاضافة البشارة بالنار إلى قتل الزبير وقتله طاعة وقربة ، وإنما يجب ان تضاف البشارة بالنار إلى ما يستحق به النار قلنا : عن هذا جوابان : أحدهما : أنه (عليه السلام) أراد التعريف والتنبيه ، وإنما يعرف الانسان بالمشهور من أفعاله ، والظاهر من أوصافه ، وابن جرموز كان غفلا خاملا ، وكان فعله بالزبير من أشهر ما يعرف به مثله وهذا وجه في التعريف صحيح. والجواب الثاني : ان قتل الزبير

١٥٩

إذا كان بإستحقاق على وجه الصواب من أعظم الطاعات وأكبر القربات ، ومن جرى على يده يظن به الفوز بالجنة ، فأراد (عليه السلام) أن يعلم الناس أن هذه الطاعة العظيمة التي يكثر ثوابها إذا لم تعقب بما يفسده غير نافعة لهذا القاتل ، وأنه سيأتي من فعله في المستقبل ما يستحق به النار ، فلا تظنوا به لما اتفق على يده من هذه الطاعة خيرا. وهذا يجري مجرى أن يكون لاحدنا صاحب خصيص به خفيف في طاعته مشهور بنصيحته ، فيقول هذا المصحوب بعد برهة من الزمان لمن يريد اطرافه وتعجبه : أو ليس صاحبي فلان الذى كانت له من الحقوق كذا وكذا ، وبلغ من الاختصاص بي إلى منزلة كذا قتلته وأبحت حريمه وسلبت ماله؟ وان كان ذلك انما استحقه بما تجدد منه في المستقبل ، وانما عرف بالحسن من أعماله على سبيل التعجب وهذا واضح. في الاحكام المدعى مخالفة علي فيها لمن سواه (مسألة) : فإن قيل فما الوجه فيما عابه النظام به عليه السلام من الاحكام التي داعى أنه خالف فيها جميع الامة ، مثل بيع أمهات الاولاد وقطع يد السارق من أصول الاصابع ودفع السارق إلى الشهود ، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان وجهره بتسمية الرجال في القنوت وقبوله شهادة الصبيان بعضهم على بعض ، والله تعالى يقول :( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وأخذه (عليه السلام) نصف دية الرجل من أولياء المرأة وأخذه نصف دية العين من المقتص من الاعور وتخليفه رجلا يصلى العيدين بالضعفاء في المسجد الاعظم ، وأنه (عليه السلام) أحرق رجلا أتى غلاما في دبره ، وأكثره ما أوجب على من فعل هذا الفعل الرجم ، وأنه أوتى بمال من مهور البغايا فقال عليه السلام ارفعوه حتى يجئ عطاء غني وباهلة. فقال النظام لم خص بهذا غنيا وباهلة؟ فان كانوا مؤمنين فمن عداهم من المؤمنين كهم في جواز تناول هذا المال وان كانوا غير مؤمنين فكيف يأخذون العطاء مع المؤمنين؟ قال وذلك المال وان كان من مهور البغايا أو بيع لحم الخنازير بعد أن تملكه الكفار ثم يبيحه الله

١٦٠