• البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14737 / تحميل: 4826
الحجم الحجم الحجم
وضُوء النبي

وضُوء النبي

مؤلف:
العربية

جملة: (ووصييّ وخليفتي فيكم من بعدي)! من كلام النبيّ (ص) في حقّ الإمام عليّ، وذلك في تفسيرهما لآية الإنذار(١) !

وجاء في هامش كتاب «آراء علماء المسلمين» للسيّد مرتضى الرضويّ: قبل نصف قرن تقريبا، قامت دار الكتب المصريّة بالقاهرة - بمديريّة الأستاذ علي فكري للدار - بمراجعة الكتب التي يشمّ منها التأييد للشيعة الإماميّة، أو لأهل البيت؛ فكانت اللجنة تحذف ذلك الكلام كلّه، وتختم الكتاب بالعبارة الآتية: (راجعته اللجنة المغيّرة للكتب) بتوقيع رئيس اللجنة علي فكري(٢) ! بكلّ جرأة ووقاحة!!!

نعم؛ إنّ تحريف النصوص، والتلاعب بالتراث كان وما زال، وليس بعيداً أن ينال المستقبل أيضاً بمخالبه وأنيابه.

٣ - إنّ رواية الغارات «المطبوع» تخالف ما أصّلناه في البحوث السابقة، وتعارض ما سنبيّنه في البحوث اللاحقة، التي تؤكّد على عدّ الإمام عليّ هو الرائد والمعيد لمدرسة الوضوء الثنائيّ المسحيّ أصالتها.

أمّا ما رواه المفيد والطوسيّ في أماليهما، فهو يوافق مدرسة الإمام عليّ وأهل بيته، وليس بينها وبينهما أيّ تعارض، وهذا التوافق يرجّح بأن تكون هي الأصيلة لاغير، إذ إنّ المفيد والطوسيّ يتّحد سندهما عند ابن هلال الثقفيّ، وإنّ ما نقلاه عن الغارات يرجع تاريخه إلى القرن الرابع أو الخامس الهجريّ، إذ إنّ المفيد قد توفي في سنة ٤١٣ هـ، والطوسيّ في سنة ٤٦٠ هـ.. فهما كانا قريبي عهد بالغارات، وإنّي راجعت نصّاً من الأمالي يقرب من عهد المؤلف ورأيت فيه أنّ الإمام قد كتب إلى محمّد بن أبي بكر بالمسح لا الغسل، وبعد هذا لا معنى لكتابته إليه بالغسل وقد عرفت ما بينهما من التضاد، وكيف يكتب بالغسل

____________________

(١) تفسير الطبريّ ١٩: ٧٥، تفسير ابن كثير ٣: ٥٨١.

(٢) آراء علماء المسلمين: ٢٤٦.

١٤١

ونراه وأهل بيته وخاصته يمسحون اقتداء برسول الله، وما معنى الكتابة إليه بالغسل بعد ثبوت الإحداث في عهد عثمان! وستقف على المزيد من الإيضاح لا حقاً إن شاء الله تعالى.

والمتحصّل ممّا سبق هو: إنّ نقل الشيخين - المفيد والطوسيّ - هو أقرب إلى الصواب بخلاف ما هو الموجود في الغارات المطبوع والذي تلاعبت فيه أيدي الأهواء والعصبيّات..

وفات على المجلسيّ أنّ كلمة (ثلاثاً) هذه، هي ليست من أصل الكتاب، وإنّما هي من تلاعب وتحريف النّسّاخ؛ ولو لا نقل المفيد والطوسيّ لهذا النصّ من الغارات، لضاع الصواب والتبس الأمر، ولألقيت العهدة على عاتق الثقفيّ، وهو منها براء!...

وبذلك، فقد وصلنا إلى زيف النص المطبوع، ووقفنا على بعض ملابسات التحريف.

الرابعة: تدوين الوضوء النبويّ في عهد عليّ

ثبت في كتب التراجم أنّ عبيد الله وعليّاً ابني أبي رافع - مولى رسول الله - كانا من الذين دوّنوا السنّة النبويّة بأمر الإمام عليّ بن أبي طالب.

قال النجّاشيّ: وجمع عليّ بن أبي رافع كتاباً في فنون في الفقه: الوضوء، الصلاة، وسائر الأبواب؛ ثمّ ذكر مسنده إلى رواية الكتاب(١) .

وقد عدّ الإمام شرف الدين في «المراجعات» أسماء الّذين دوّنوا السنّة النبويّة فقال: منهم علي بن أبي رافع - وقد ولد - كما في ترجمته من الإصابة - على عهد النبيّ فسماّه عليّاً - له كتاب في فنون الفقه على مذهب أهل البيت،

____________________

(١) رجال النجاشيّ: ٦ | ٢.

١٤٢

وكانوا عليهم السلام يعلمون هذا الكتاب، ويرجعون شيعتهم إليه؛ قال موسى ابن عبد الله بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهّد؛ فقال أبي: هات كتاب ابن أبي رافع، فأخرجه وأملاه علينا(١) .

فما يعني نقل مثل هذا عن أئمّة أهل البيت؟

أو لم يكن بإمكانهم بيان الأحكام الشرعيّة من غير مراجعتهم لكتاب ابن أبي رافع؟

ثمّ ما دلالة ومفهوم هذا الخبر الذي ينصّ على أنّ لابن أبي رافع كتاباً في الوضوء؟

إنّ اقرب الاحتمالات التي تسبق إلى الذهن، تتلخّص في كون أئمّة أهل البيت كانوا يهدفون من ذلك إلى أمور، منها:

أولاً: إيقاف الناس على الحقيقة، وإشعارهم أنّ ما ينقلونه عن رسول الله (ص) هو الثابت صدوره عنه (ص).

لمّا كان التدوين محصوراً في فئة معيّنة ومعدودة، وكتاب ابن أبي رافع من ذلك المعدود، فقد أراد الأئمّة - وبإرجاعهم الشيعة إلى الكتاب المذكور - أن يفهموا الشيعة على: أنّهم لا يفتون برأي، ولا قياس، بل هو حديث توارثوه عن رسول الله (ص) كابراً عن كابر.

كلّ ذلك، من أجل أن يحصّنوا شيعتهم ويوقفوهم على خلفيّات الأمور.

ثانياً: بما أنّ الوضوء من الأمور المدوّنة في العهد الأوّل، فيحتمل أن يكونوا قد قصدوا بذلك إيقاف شيعتهم على أنّ هذا الوضوء لم يكن حادثاً، كغيره من الأحكام الشرعيّة التي عهدوها في عهد عثمان وغيره، بل هو وضوء رسول الله (ص)، كما يرونه بخطّ ابن أبي رافع، أو في صحيفة عليّ، أو...

____________________

(١) المراجعات: ٣٠٦ - المراجعة ١١٠ - القسم الثاني منه.

١٤٣

وعليه.. فقد عرفنا بأنّ الوضوء كان مسألة مبحوثة عند القدماء؛ وأنّ أئمّة أهل البيت قد أرشدوا شيعتهم لمدارسة تلك الكتب، للضرورة نفسها.

وقد نقل عن أبي حنيفة أنّه: قد نسب إلى جعفر بن محمّد الصادق بأنّه «صحفيّ»، أي: يأخذ علمه من الصحف..

وما كان من الصادق إلاّ أن أجابه مفتخراً ومصرّحاً، بأنّه لا ينقل حكم الله إلاّ عمّا ورثه عن آبائه، عن رسول الله (ص)؛ بقوله: (أنا رجل صحفيّ، وقد صدق [ أي: أبو حنيفة ].. قرأت صحف آبائي، وإبراهيم، وموسى)(١) .

وأشار الأستاذ محمّد عجاج: بأنّ عند جعفر بن محمّد الصادق رسائل، وأحاديث، ونسخ(٢) .

وجاء في كلام الامام علي: إنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع واحكام تبتدع، الى ان يقول:

«ورددت الوضوء والغسل والصلاة الى مواقيتها وشرائعها ومواضعها(٣) ».

وإلى هنا.. فقد اتّضح لنا بأنّ قضيّة الوضوء كانت مطروحة منذ عهد الإمام عليّ حتّى أواخر عهد الأئمّة من ولده؛ وقد كتب فيها الكثير من أصحاب الأئمة وعلماء أهل البيت؛ منهم:

عليّ بن مهزيار الأهوازيّ..(٤)

عليّ بن الحسن بن فضّال..(٥)

علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القميّ..(٦)

____________________

(١) أنظررياض السالكين ١: ١٠٠، روضات الجنات ٨: ١٦٩، قاموس الرجال ٨: ٢٤٣ ترجمة عبد الله بن الحسن.

(٢) السنة ما قبل التدوين: ٣٥٨ عن تهذيب التهذيب ٢: ١٠٤.

(٣) الروضة من الكافي: ٦٢.

(٤) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ٨٨ | ٣٦٩.

(٥) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ٩٢ | ٣٨١.

(٦) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ٩٣ | ٣٨٢.

١٤٤

أحمد بن الحسن بن فضّال(١) ... وغيرهم.

وكتب:

علي بن بلال..(٢)

محمّد بن مسعود العيّاشيّ..(٣)

والفضال بن شاذان النيسابوريّ(٤) ... وغيرهم.. في إثبات المسح على القدمين؛ أو في عدم جواز المسح على الخفّين.

وبذلك، فلا معنى لدعوى من قال: ليس هناك نصّ واحد قد صدر عن عليّ في هذا الباب!

أمّا ما يخصّ، عدم نقل العلاّمتين الأمينيّ والمجلسيّ، وغيرهما.. فلا يستوجب تضعيف ما وصلنا إليه، لأنّهم لم يدّعوا جمع كلّ إحداثات الآخرين، وحصرها في كتبهم - وإن أشاروا إلى بعضها، استطراداً.

أضف إلى ذلك، أنّ بحث العلاّمة الأمينيّ يختصّ بيوم الغدير، وكتاب المجلسيّ يختصّ بروايات أهل البيت.. هذا أولاً.

وثانياً: إنّ الشيخ الأمينيّ في كتابه الغدير لم يسر على ما انتهجناه - في دراسة قضيّة الوضوء - من الأسلوب العلميّ التحليليّ، المتلخّص بجمع المفردات الصغيرة للقضيّة، وتأليفها ومتابعتها بالشرح والتفسير ابتداءً بما أخرجه مسلم عن حمران: إنّ ناساً يتحدّثون وانتهاءً بالحقائق التي سيصلها في آخر الدراسة.

نعم؛ إنّ الشيخ الامينيّ قد بحث القضايا بما فيها من النصوص الثابتة والمنقولة في الإحداث والإبداع ممّا ورد ذكره في كتب السير والتاريخ،

____________________

(١) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ٢٤ | ٦٢.

(٢) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ٩٦ | ٤٠٢.

(٣) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ١٣٦ | ٥٩٣.

(٤) الفهرست للشيخ الطوسيّ: ١٢٤ | ٥٥٢.

١٤٥

ولا يدّعي أكثر من ذلك.

ومن هنا، فإنّنا نهيب بالإخوة الباحثين انتهاج طريقة التحليل العلميّ عند دراستهم لمفردات الخلاف بين المذاهب، لما تؤول إليه من نتائج باهرة يقبلها كلّ ذي لبّ باحث عن الحقيقة.

وبهذا نكون قد انتهينا إلى ما يهمّنا من عهد الإمام عليّ.

مع المصطلحين:

اصطلحنا من أوّل الدراسة وحتّى الآن على مفهومين:

١ - الوضوء الثلاثيّ الغسليّ = وضوء الخليفة عثمان بن عفّان.

٢ - الوضوء الثنائيّ المسحيّ = وضوء الناس المخالفين لعثمان المتحدثين عن رسول الله (ص).

ونودّ هنا التعريف بهذا الاصطلاح، وكيفيّة انتزاعنا لهذين المفهومين في دراستنا، وبذلك نختم الباب الأوّل من مدخل هذه الدراسة.

المعروف أنّ الإشهاد عند أهل القانون والشرع هو أنّه من أصول الإثبات، وغالباً ما يجري في الدعاوى ويكون بمثابة الرأي التعضيدي للمدّعي على خصمه، وهو حجّة قانونيّة يتمسّك بها لحسم النزاع.

وإنّ الخليفة عثمان بن عفّان - كما ترشدنا النصوص الحديثيّة والتاريخيّة - قد اعتمد هذا الأصل واستفاد منه فأقدم على إشهاد الصحابة على وضوئه، وادّعى أنّ رسول الله كان يغسل أعضاء الوضوء ثلاث مرّات، مُفهماً بذلك أنّه - أي عثمان - على خلاف مع الناس فيه، إذ إنّهم لا يعدّون ذلك الفعل سنّة وإنّ تأكيد الخليفة وإشهاده لبعض الصحابة على الفعل الثلاثيّ يدلّ على أنّه أراد إسناد ما يدّعيه بتقرير الصحابة وكونه فعلاً قد صدر عن النبيّ (ص)، في

١٤٦

حين نرى الإمام جعفر بن محمّد الصادق - وهو من أئمّة أهل البيت - لا يقبل مشروعيّة الغسل الثالث في الوضوء ولا يرتضي كون ذلك سنّة، بل وصمه بالبدعة.. ولتقرير الموضوع أكثر، إليك بعض النصوص:

١ - أخرج أحمد في مسنده: حدّثني عبدالله، ثنا ركيع، ثنا سفيان، عن أبي النضر، عن انس: إنّ عثمان (رض) توضّأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً، وعنده رجال من أصحاب رسول الله؛ قال: أليس هكذا رأيتم رسول الله يتوضّأ؟

قالوا: نعم(١) .

٢ - حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا ابن الأشجعيّ، ثنا أبي، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد؛ قال: أتى عثمان المقاعد، فدعا بوضوء.. فتمضمض، واستنشق، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ويدديه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً؛ ثمّ قال: رأيت رسول الله (ص) هكذا يتوضّأ، يا هؤلاء! أكذاك؟

قالوا: نعم، لنفر من أصحاب رسول الله عنده(٢) .

٣ - حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الله بن الوليد، ثنا سفيان، حدّثني سالم أبو النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان بن عفّان (رض)، أنّه قال: دعا بماء فتوضأ عند المقاعد.. فتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً؛ ثمّ قال لأصحاب رسول الله (ص): هل رأيتم رسول الله(ص) فعل هذا؟

قالوا: نعم(٣) .

٤ - نقل المتّقي الهنديّ، عن أبي النضر.. بطريقين:

____________________

(١) مسند أحمد ١: ٥٧.

(٢) مسند أحمد ١: ٦٧، وهذا يشير بأنّ إحداث الفعل الثلاثيّ في غسل الأعضاء كان قبل الإبداع في غسل الرجلين وبمثابة التمهيد لذلك.

(٣) مسند أحمد ١: ٦٧- ٦٨.

١٤٧

أ - إنّ عثمان توضّأ ثلاثاً ثلاثاً.. ثمّ قال: أنشدكم بالله؛ أتعلمون أنّ رسول الله كان يتوضّأ كما توضّأت؟

قالوا: نعم(١) .

ب - وبلفظ آخر:... ثمّ قال للّذين حضروا: أنشدكم الله؛ أتعلمون أنّ رسول الله كان يتوضّأ كما توضّأت الآن؟

قالوا: نعم.. وذلك لشيء بلغه عن وضوء رجال(٢) .

٥ - اخرج الدارقطنيّ بسنده إلى أبي علقمة، بأنّ عثمان: دعا ناساً من أصحاب رسول الله، فأفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى وغسلها ثلاثاً، ثمّ مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمّ غسل يديه ثلاثاً ثلاثاً إلى المرفقين، ثمّ مسح برأسه، ثمّ غسل رجليه فأنقاهما؛ ثمّ قال: رأيت رسول الله يتوضّأ مثل هذا الوضوء الذي رأيتموني توضّأته؛ ثمّ قال: من توضّأ فأحسن الوضوء، ثمّ صلّى ركعتين، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه؛ ثمّ قال: أكذلك يا فلان؟

قال: نعم.

ثمّ قال: أكذلك يا فلان؟

قال: نعم.

... حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله.. ثمّ قال: الحمد لله الذي وافقتموني على هذا(٣) !

نستنتج من النصوص السابقة: أنّ الفعل الثلاثيّ، هو من موارد الخلاف بين المسلمين في زمن الخليفة الثالث، إذ لا يعقل أن يشهد الخليفة جملة من

____________________

(١) كنز العمّال ٩: ٤٣٩|٢٦٨٧٦.

(٢) كنز العمّال ٩: ٤٤٧|٢٦٩٠٧.

(٣) سنن الدارقطنيّ ١: ٨٥|٩، كنز العمّال ٩: ٤٤١|٢٦٨٨٣.

١٤٨

الصحابة على فعل، وبذلك التركيز - كما لا حظناه في رواية أحمد الثانية التي أشهد فيها جماعة من الصحابة في باب المقاعد؛ أو في إشهاده لجمع من الصحابة كلاًّ على حدة، كما في رواية الدارقطنيّ، وغيرها من الروايات الكاشفة عن حقيقةٍ مّا - دون أن يكون وراء المسألة (الإشهاد) شيء.. فمحل الخلاف بين الخليفة وآخرين واضحّ بيّن، وإلاّ لما احتاج إلى الإشهاد مادام جميع المسلمين متّفقين على ذلك الفعل لكونه سنّة!

أمّا المورد الثاني من موارد الخلاف، والذي نستوحيه من النصوص والروايات، فهو التأكيد على الغسل من قبل عثمان بدلاً من المسح الذي تعارف عليه الصحابة من فعل النبيّ (ص).. كما لا حظت في حديث أبي علقمة السابق الذكر وغيرها، وقد استغلّ الخليفة الثالث تعبيري «الإسباغ، والإحسان» الواردين في كلام الرسول فأضفى عليهما مفهومه الخاصّ، ثمّ انطلق من ذلك لتجسيد فكرته ومحاولة إقناع الآخرين بهما بجعلهما مفسّرين لما يدّعيه في غسل الأرجل وتثليث الغسلات.

إحسان الوضوء:

حدّثنا زهير بن حرب حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عن صالح: قال ابن شهاب:... ولكّن عروة يحدّث عن حمران.. أنّه قال:... فلّما توضّأ عثمان قال: والله لأحدثنّكم حديثاً، والله لولا أية في كتاب الله ما حدّثتكموه.. إنيّ سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا يتوضّأ رجل فيحسن وضوءه، ثمّ يصليّ، إلاّ غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها»..

قال عروة: الآية: (إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى...)(١) ، إلى قوله: (... اللاعنون).

____________________

(١) البقرة: ١٥٩، والحديث في صحيح مسلم ١: ٢٠٦|٦.

١٤٩

فهل يحتاج نقل رواية كهذه إلى مثل هذا الإغلاظ في الأيمان (والله لأحدّثنّكم)، (والله لولا آية)...؟! وقد اتّفق المسلمون على صدورها، وتناقلتها الصحابة.

علماً بأنّ «إحسان الوضوء» قد ورد عن أنس، وعمر بن الخطّاب وغيرهما بكثرة، عن النبيّ (ص)..

وهو مما لا يختلف فيه اثنان.. وقد جاء عن عمر - بالخصوص -:... من توضّأ فأحسن الوضوء...(١)

و:... ما من أحد يتوضّأ فيحسن الوضوء؛ ثمّ يقول...(٢) ؛ و:... إنّه (ص) ابصر رجلاً وقد...(٣) الخ، وإنّ تحديثه بهذه كان قبل تحديث عثمان!

فإن كان الأمر كذلك.. فما الداعي لتلك الأيمان المغلّظة من الخليفة الثالث إذاً؟! وعلام يدلّل إشهاده ونقله؟!

إسباغ الوضوء:

أمّا فيما يخصّ «الإسباغ»، فقد وردت نصوص في صحيح مسلم بأربع طرق، وكذا في موطّأ مالك، عن أبي عبد الله سالم؛ قال: دخلت على عائشة - زوج النبيّ - يوم توفي سعد بن أبي وقّاص.. فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر، فتوضّأ عندها؛ فقالت: يا عبد الرحمن؛ أسبغ الوضوء.. فإنيّ سمعت رسول الله يقول: «ويل للأعقاب من النار»(٤) .

فعائشة أرادت أن تستفيد من جملة أسبغ الوضوء.. في مخاطبتها لأخيها - لتدللّ على لزوم الغسل، وكذا الحال في نقلها لقوله (ص) «ويل للأعقاب»..

____________________

(١) سنن النسائيّ ١: ٩٢ - ٩٣، كنز العمّال ٩: ٢٩٥| ٢٦٠٧٤، ٢٦٠٧٦.

(٢) كنز العمّال ٩: ٢٩٨|٢٦٠٨٨.

(٣) تفسير القرآن العظيم ٢: ٤٦.

(٤) صحيح مسلم ١: ٢١٣|٢٥، الموطأ ١: ١٩| ٥.

١٥٠

وهنا نتساءل.. إلى أيّ مدى يدلّ هذان النصان علىالمقصود؟ ولماذا نراهم يستندون في لزوم الغسل، وتثليث الغسلات على معانٍ مثل أسبغوا وأحسنوا، أو ويل للأعقاب، وتكون غالب أحاديث باب غسل الرجلين في الصحاح والمسانيد وما يستدّل به فيها هو قوله: (ويلٌ للأعقاب) وليس فيها نقل صفة وضوئه (ص)؟!

هذا، وقد وردت روايات كثيرة في كتب الصحاح عن «إسباغ الوضوء»، نقلت عن:

عليّ بن أبي طالب

عمر بن الخطّاب

أبي هريرة

أنس بن مالك

ابن عبّاس..

إبي مالك الأشعري

أبي سعيد

ثوبان

لقيط بن صبرة... وغيرهم، لكنّهم لم يشهدوا أحداً على صدور ذلك، ولم يحتاجوا لقسم والأيمان الغليظة، كما فعله الخليفة عثمان!

و... أخيراً

فقد اتّضح لنا، على ضوء ما تقدّم، أنّ الخليفة كان يبغي من وراء تأكيده الشديد على جملتي أحسن، وأسبغ الوضوء تمرير شيء يجول في ذهنه، محاولاً إيصاله إلى الآخرين.. إذ إنّ إشهاده الصحابة على الأحاديث المسلّمة بين المسلمين لا يحتاج إلى التأكيد عليه بالقسم.

فالتأكيد إذاً يستبطن أمراً.. وهو: إنّ الخليفة - كما عرفنا - قد حاول

١٥١

استغلال مفهوم ثابت عند المسلمين، فانطلق من خلاله لطرح رؤيته الجديدة.. وهو بذلك يرمي إلى استقطاب الناس، حيث إنّ عبارة (أحسن الوضوء) أو (أسبغ الوضوء) تشير - من جهة - إلى الزيادة في القدسيّة؛ والمسح ليس كالغسل في إظهار تلك القدسيّة!

ومن هنا نفهم معنى تأكيد الإمام عليّ في ردّه للأخذ بالرأي والقياس، وبيانه الجلي في كون الأحكام الشرعيّة مأخوذة من الكتاب والسنّة النبويّة الشريفة، فيلزم أن تكون خاضعة للنصّ لا للرأي، وقد ثبت عنه (ص) أنّه قال: «تعمل هذه الأمّة برهة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسنّة رسول الله، ثمّ تعمل بالرأي.. فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا»(١) .. وبهذا فقد عرفنا نهي رسول الله (ص) عن الأخذ بالراي، ومرّ عليك بعض ذلك، وستقف على المزيد في العهد الأمويّ.

وعليه.. فيمكننا تعيين موارد الخلاف فيما بين عثمان ومعارضيه من الصحابة في قضيّة الوضوء بـ:

١ - العدد.. فقد أصرّ الخليفة عن ثلاث غسلات بدلاً عن اثنتين، وأشهد الصحابة على ذلك.

٢ - جعل الغسل عوضاً عن المسح، وإشهاد الأصحاب على ذلك، كما في رواية أبي علقمة.

وعليه، فإنّا نعتبر إشهاد الخليفة الصحابة على الفعل الثلاثيّ وغسل الأرجل بأنّها نقطة اختلافه مع الناس إذ نراه يؤكّد عل هذين المفهومين، ومن أجله انتزعنا:

١ - مفهوم الوضوء الثلاثيّ الغسليّ، للإشارة إلى وضوء الخليفة عثمان بن غفّان.

____________________

(١) كنز العمّال ١: ١٨٠| ٩١٥.

١٥٢

٢ - ومن مفهوم المخالفة انتزعنا مصطلح الوضوء الثنائيّ المسحيّ، للإشارة إلى وضوء الناس المتحدّثين عن رسول الله، المخالفين لعثمان.

وبذلك.. فقد خطّ الخليفة أبعاد مدرسة وضوئيّة جديدة في قبال السنّة النبويّة المباركة، بعد أن جاء بـ «الوضوء الثلاثيّ الغسليّ» بدلاً عن «الوضوء الثنائيّ المسحيّ»! ولنا وقفة أخرى مع أحاديث «أحسنوا الوضوء» و «أسبغوا الوضوء» في الفصل الثاني من هذه الدراسة (الوضوء في الكتاب واللغة)، وسنشير إلى السبب الداعي لا تخاذ الخليفة والحكومة الأمويّة هذا الموقف، ومدى استفادتهما من هذين المصطلحين وغيرها من الأدلّة التعضيديّة، ودورهم في إشاعتها لترسيخ وضوء عثمان.

١٥٣

١٥٤

الباب الثاني

الوضوء في العهدين

* العهد الأمويّ ٤٠ - ١٣٢ هـ

* العهد العباسيّ ١٣٢ - ٢٣٢هـ

١٥٥

١٥٦

تنبيه:

قبل البحث في مواضيع الباب الثاني، لا بُدّ من التنبيه إلى الأسباب الداعية لفصل العهدين - الأمويّ والعبّاسيّ - عن عهد الخلافة الراشدة...

والأسباب هي:

أولاً: اضمحلال قدسيّة الخلافة في هذين العهدين، ولم تعد تضفى على الخليفة كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين.

ثانياً: إن كثيراً من الصحابة الذين عاشوا في العهد الأمويّ، كانوا من متأخري الصحبة؛ وقد انخرط معظمهم في ركب الخلفاء السياسيّسن!!

ثالثاً: كان الخليفة في الخلافة الراشدة يسعى لتحكيم الأحكام الدينيّة، في حين لا نرى في العهدين التاليين سوى ما يدعم الحاكم، وما الخلافة عندهما إلاّ منصب سياسيّ.

رابعاً: نتيجة لقلّة عدد الصحابة، غدا احتمال التغيير في الدين غير مستبعد.

١٥٧

خامساً: تأصيل أمور لم تكن أصيلة في شريعة سيّد المرسلين في هذين العهدين.

إنّ هذه العوامل مجتمعة، كوّنت مجتمعاَ وأفكاراً تختلف اختلافاً جوهريّاً ممّا كان في عهد الخلافة الراشدة؛ لأجله عمدنا إلى فصل هذين العهدين عن العهود التي سبقتهما، ليمكن دراستها بنحو أشمل.

١٥٨

العهد الأمويّ (٤٠ - ١٣٢هـ)

تمهيد

المعروف عن بني أميّة تبنيهم لقضيّة عثمان، والمطالبة بدمه، ونشر فضائله، والوقوف أمام مخالفيه والحطّ منهم، ومن ثمّ الالتزام بفقهه ونشر آرائه، رغم مخالفة بعضها لصريح القرآن المجيد والسنّة النبويّة، وإليك بعضها.

الأمويّون وتبنيهم لرأي عثمان

١ - الصلاة بمنى:

أخرج أحمد بسنده إلى عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه أنّه قال: لمّا قدم علينا معاوية حاجّاً، قدمنا معه مكّة، قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة؛ قال [ الراوي ]: وكان عثمان حين أتمّ الصلاة إذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمى أتمّ الصلاة حتّى يخرج من مكّة.

١٥٩

فلما صلّى [ معاوية ] بنا الظهر ركعتين، نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به.

فقال لهما: وما ذاك؟

قالا: ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكّة؟

قال، فقال لهما: ويحكم! وهل كان غير ما صنعت، قد صلّيتهما مع رسول الله؛ ومع أبي بكر، وعمر (رضي الله عنهما).

قالا: فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّهما، وإنّ خلافك إيّاه عيب!

قال: فخرج معاوية إلى منى فصلاّها بنا أربعاً(١) .

وقد أخرج المتقيّ الهنديّ في كنز العمال عن ابن عبّاس انّه قال: صلّى رسول الله وأبو بكر وعمر ركعتين، ثمّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمّ صلاّها أربعاً، ثمّ أخذ بها بنو أميّة(٢) .

فمعاوية لم يكن جاهلاًَ بصلاة عثمان إلاّ أنه أراد - بدهائه - أن يعرف مدى تأثير رأي عثمان الصلاتي في الناس وخصوصاً عند أقاربه وحاشيته!

٢ - الجمع بين الاُختين بالملك:

أخرج ابن المنذر، عن القاسم بن محمّد: إنّ حيّاً سألوا معاوية عن الاُختين ممّا ملكت اليمين يكونان عند الرجل يطؤهما؟

قال: ليس بذلك بأس.

فسمع بذلك النعمان بن بشير؛ فقال: أفتيت بكذا وكذا؟!

قال: نعم.

قال: أرأيت لو كان عند الرجل أُخت مملوكته، يجوز أن يطأها؟

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٩٤، فتح الباري ٢: ٤٥٧، نيل الأوطار ٣: ٢٥٩، البدعة للسبحاني: ٢٤٦.

(٢) كنز العمال ٨: ٢٣٨ | ٢٢٧٢٠.

١٦٠