وضُوء النبي
0%
مؤلف: علي الشهرستاني
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 391
مؤلف: علي الشهرستاني
تصنيف:
المشاهدات: 14736
تحميل: 4826
توضيحات:
مؤلف: علي الشهرستاني
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 391
مؤلف: علي الشهرستاني
تصنيف:
ولو اتّبعنا مثل هذا الأُسلوب في جميع أبواب الفقه لوصلنا إلى حقيقة الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها ولو وقفنا على تاريخ التشريع وملابساته، ولاتّضحت لنا خلفيّات صدور بعض الأحكام وعرفنا حكم الله الواحد والذي ينشده الجميع.
نرجو أن لا نكون جدليين في بحوثنا، ومن الذين لا يهمّهم معرفة الواقع بقدر ما يهمّهم الانتصار لآرائهم ومذاهبهم، ويبدو أنّ طرح مثل هذه الآراء بهدوء وموضوعية مع عرض مختلف وجهات النظر عند جميع المسلمين سيكون عملاً للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ورفعة للمستوى العلمي بينهم، لأنّ الناس أعداء ما يجهلون، وباتّضاح نقاط الرأي قوة وضعفاً ربّما تتوقّف موجة تفسيق أو تكفير الآخرين.
وإنّ دراستنا لكفية «وضوء النبي» جاء تحقيقاً لهذا الهدف، ولا نبغي من ورائه إلاّ الجانب العلمي، وتوسيع أُفق التفاهم البنّاء بين علماء المسلمين، وهو نقاش علمي نزيه، تطرح فيه الآراء بأناة وموضوعية، ولم يقصد به التشكيك بفقه مذهب أو المساس بعقيدة طائفة، بل إنّها نظرية علمية قد توصّلنا إليها وفق شواهد تاريخية وفقهية، ولا ندّعي عدم الخطأ فيها مع اعتقادنا بصحّتها، والمأمول من إخواننا أن يتعاملوا مع الأطروحة كتعاملنا معها، وأن يجعلوا لصحّة المدّعى نصيباً بإزاء ما يعتقدون فيها من الخطأ، وأن لا يرمونا بالبهتان أو التقوّل قبل مراجعتهم المصادر.
مؤكداً بان المطروح فيه لم يلحظ فيه الجانب الفقهي والفتاوى وتشعّبات المسأله بقدر ما نعني به دراسة للظروف والملابسات التي احاطة بهذا الحكم الشرعي والدعوة إلى اتخاذ منهجيّة جديدة في دراسة الفقه.
علماً بأنّ محاكمة النص أو نقد كلام الصحابي لا يعني - بنظرنا - تفسيقه أو تكفيره، وخصوصاً لو عضد بما يؤيّده من القرآن أو السنّة الشريفة أو أكّدته النصوص التاريخية والأحداث السياسية الحاكمة وقت صدور النص، وكذا الأمر بالنسبة لنقلنا كلاماً عن أحد فإنّه لا يعني اعتقادنا بصحّة جميع ما قاله وتبنّينا لآرائه وأفكاره.
هذا وإنّ ظاهرة الوضع في الحديث كانت منذ عهد النبي لكنّها انتشرت أواخر عهد الخلفاء الراشدين بسبب الفتنة الكبرى وانقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب، وإنّ دراسة نصوص هذه المرحلة وما بعدها جديرة بالبحث، وخصوصاً لو احتملنا تدخّل الأهواء السياسية، أو إمكان اشتباه الصحابي أو الراوي في فهم الأحكام(١) وقد اتّضح لك بأن ذلك ما لا يستبعده أحد، وقد نقلنا سابقاً نصوصاً عن الصحابة يخطّئ البعض منهم الآخر فيها، وتراجع بعض المفتين عن آرائهم - لقوّة دليل الناقد أو موافقتها للقرآن والعقل -.
وهناك آراء كثيرة في الشريعة يلزم التحقيق في أطرافها والتثبّت في دلالتها، مع كون بعضها من المسلّمات البديهية والتي لا يمكن التشكيك فيها، لكنّا لو عرضناها على القرآن وقيست بحوادث تاريخية وروايات أخرى لدّلت بنفسها على نفسها بأنّها قابلة للتشكيك، وإنّا على ثقة لو أنّ تلك الأدلّة والشواهد طرحت على صاحب الرأي أو ناقل الحديث لأمكن رجوعه عن رأيه كما فعل ذلك كبار الصحابة والتابعين، أمّا ترك مناقشة الروايات ودراستها بل إعطاء جميع الأحاديث الصحاح هالة من التقديس ولزوم التعبّد بها، ثمّ اختلاق التأويلات لها، فهو ممّا يأباه الوجدان ولا يقبله الشرع والعقل.
وقد نقل الإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري في مقدّمة صحيحه عن محمّد بن سيرين، أحد فضلاء التابعين، في معرض حديثه عن الفتنة: «... لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمّا وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»(٢) .
قال الدكتور مصطفى سعيد الخن وهو بصدد بيان أسباب الخلاف بين
____________________
(١) راجع كتاب (الانصاف في بيان سبب اختلاف الصحابة) للدهلوي.
(٢) صحيح مسلم ١: ١٥.
المسلمين:
«... ولقد كانت رقعة الخلاف في عهد الصاحين أبي بكر وعمر ضيّقة جدّاً، وسبب ذلك أنّ الصحابة لم يتفرّقوا في الآفاق، وكانا يرجعان إليهم فيما جدّ من المسائل.
عن ميمون بن مهران قال: كان أبوبكر الصدّيق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله (ص)، فإن وجد ما يقضى به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أنّ رسول الله (ص) قضى فيه بقضاء؟
فربّما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، وإن لم يجد سنّة سنّها النبي (ص) جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنّة سأل: هل كان أبوبكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلاّ جمع الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به(١) .
ثمّ بدأت حلقة الخلاف تتّسع من بعدهما، ولقد ساعد على تفشّي الخلاف انسياح أصحاب رسول الله في البلدان المفتوحة واتّخاذهم إياها وطناً، وتلقي أبنائها عنهم ما سمعوه عن رسول الله (ص) وقد يكون عند بعضهم ما لا يكون عند الآخر...»(٢) .
وعليه فإنّ البحث الإسنادي - وكما قلنا - وحده لا يكفي في الدراسات التشريعية وخصوصاً في النصوص الصادرة في أيّام الفتنة الكبرى أو ما يتعلّق ويرتبط بها، إلاّ إذا قيست بأقرانها ولوحظت الظروف السياسية الحاكمة آنذاك، وإنّ القارئ لو وقف على سلبيّات بعض تلك الروايات لوافقنا في
____________________
(١) أعلام الموقعين ١: ٦١.
(٢) أثر الاختلاف في القواعد الأُصولية في اختلاف الفقهاء: ٣٦ - ٣٧.
انتهاجنا مثل هذا الأُسلوب لمعرفة الأحكام الشريعة ومحاكمتنا للنصوص.
وختاماً أرجوا من قرّائي الأعزّاء أن لا يحكموا علينا بشيء إلاّ بعد انتهائهم من قراءة جميع فصول الكتاب، ووقوفهم على وجهات النظر فيها.
آملين منهم أن لا يكونوا من الذين يتعاملون مع الدراسات العلمية كتعاملهم مع كتب الفكاهة والقصص، فيأخذون بعض الشيء من أوّله وينتقلون إلى الوسط، وأخيراً تراهم يطرحون الكتاب - وفي بعض لحظات - كأنّهم قد أخذوا صورة عميقة عن الكتاب ووقفوا على آراء مؤلّفه.
وكذا آمل منهم أن لا يكونوا كبعض رفاق السفر الذين يتركون أخاهم في نصف الطريق، بل الذي أرجوه منهم أن يواصلوا البحث معنا، وأن يتحمّلوا عناء الدرب وأن لا يتسرّعوا، ثمّ فليقضوا بما يشاؤون.
نرجو من سادتنا العلماء وإخراننا الفضلاء، والذين يرافقوننا في هذه الرحلة، أن يتحفونا بآرائهم ويوقفونا على نقاط ضعف الدراسة، ونحن على أتمّ الاستعداد لتقبّل كلّ نقد بنّاء يرد إلينا، شريطة أن تكون لغتهم، لغة المنطق والعلم لا الفحش والسباب، وأن لا يخرجوا من الموضوعية، إذا إنّ النقد البنّاء يبعد روح اتباغض ويوقف القائل على نقاط ضعفه، وينفي روح الكبرياء عنه، وبذلك تكون الأدّلة في متناول الناس، وهم في الخيار بالأخذ بأيّها شاؤوا، وقد قيل عن المتعلّمين أنّهم أبناء الدليل يميلون حيثما يميل.
هذا وقد درست هذه المسألة من اربعة جوانب:
أما الجانب التأريخي فهو بحث تمهيدي، بمثابة المدخل للدراسة، بحثت فيه «تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء، أسبابه ودواعيه» وأشرت إلى ملابسات الأحكام الشرعية وأهمّ العوامل المؤثّرة في الختلاف المسلمين، وحصر المذاهب بالأربعة!
أمّا الجوانب الثلاثة الأُخر، فهي:
١) الجانب الروائي «الوضوء والسنّة النبويّة»
٢) الجانب القرآني «الوضوء في الكتاب واللغة»
٣) الجانب الفقهي الأُصولي «الوضوء في الميزان»
أما الجانب الروائي «الوضوء والسنّة النبويّة» فقد درسنا فيه الروايات البيانيّة(١) والمتعارضِة في الباب تحت ثلاث عناوين فرعية:
١ - نسبة الخبر إليه
٢ - سنده
٣ - متنه
مع تقديمنا بحثاً لأسباب منع التدوين وكيفية حدوث اتّجاهين في الشريعة:
١ - الرأي والاجتهاد
٢ - التعبّد المحض
مع الإشارة إلى أنّ «الناس» المتحدّثين في الوضوء كانوا من دعاة التعبّد المحض والمعتقدين بلزوم نقل ما سمعوه عن رسول الله، في حين نرى خطّ الاجتهاد لا يرتضي التحديث إلاّ بما عمل في عهد الشيخين.
وختاماً أعطينا صورة توفيقيّة للمنقول من صفة وضوء رسول الله في الصحاح والسنن وتوحيد النقلين عنه (ص) - بقدر المستطاع - وبيان كيفية وضوئه أمام الناس.
أما الجانب القرآني واللغوي «الوضوء في الكتاب واللغة» فقد بينّا فيه أهم سبب من أسباب اختلاف الفقهاء وهو: اختلافهم في الأخذ بالقراءات القرآنية، لأنّ
____________________
(١) اشارة إلى المحكيّ من صفة وضوء رسول الله في الصحاح والمسانيد.
المشارب الفقهية في هذا الشأن قد اختلفت باختلاف باختلاف القراءة موضحاً في أوّله سرّ تأكيد الخليفة عثمان بن عفّان على الأخذ بقراءة مصحفه دون غيرها من القراءات، وسعيه لتوحيد المسلمين على تلك القراءة وحرقه للمصاحف وتنكيله بالصحابة من أمثال ابن مسعود.
ثمّ جئت لأُحكم القرآن ولغة العرب بين مدّعيات الخليفة وغيره من «الناس» في الوضوء، مع عرضي لأقوال وأدلّة فقهاء المذاهب عند بيان حكم كلّ عضو من أعضائه، مناقشاً فيها الأدلّة المطروحة، متّخذاً جانب الحياء في نقل الأقوال وعرض الآراء، داعماً ما اختاره بالشواهد والأدلّة.
هذا وقد ناقشت أحاديث «ويل للأعقاب من النار» وغيره من الأدلة التعضيدية والمستفاد منها لغسل الأرجل - سنداً ودلالة - ومدى حجّية تلك الأحاديث في إلزام المكلّف بغسل الأرجل في هذا الفصل؟!!
أمّا الجانب الفقهي الاصولي «الوضوء في الميزان» فنقدّم فيه خلاصة عمّا طرحناه في المدخل والفصلين السابقين وموازنة الآراء فيها للخروج بنتيجة يقبلها كلّ ذي لبّ، مع الإشارة إلى أُصول الاتّجاهين الفكرية، ومدى حجّية الأدلة المختلف فيها كفعل الصحابي وسنّة أهل البيت، والإشارة إلى القواعد المسبّبة لاختلاف فقهاء الإسلام.
وبذلك نكون فقد درسنا هذه المسألة الفقهية من جميع جوانبها
التاريخية التشريعية، وها هو بين أيديكم مدخل هذه الدراسة.
المدخل
تارخ اختلاف المسلمين في الوضوء
أسبابه ودواعيه
وقد جعلناه في
بابين:
الباب الأوّل
الوضوء في عهد النبيّ صلّى الله عليه واله وسلم والخلفاء
هل في الوضوء تشريعان؟
بدايات الخلاف الوضوئي:
* متى حدث الخلاف؟
* كيف؟
* من هو البادئ؟
ما هي منزلة المختلفين؟
اتّفق الاتجاهان أم لا؟
ما هي مفردات الخلاف الوضوئي؟
توطئة:
كثيراً ما يتساءل البعض عن سبب الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة في الأحكام الشرعيّة، على الرغم من كون مصادر الحكم الشرعيّ - الكتاب، السنّة، الإجماع - واحدة عند الجميع.
فهل يا تُرى أنّ منشأهُ يرجع إلى اختلافهم في تعريف هذه الأدلّة ونحو دلالتها؟ أم إلى الترديد في حجّيّة القياس والا ستحسان والا ستصلاح والعرف و...؟ أم مردّه إلى تشعّب مشاربهم في معطيات الأصل العمليّ والدليل اللفظّي؟ أم مرجعه إلى النزعات الفرديّة والضغوط السياسية و...؟
لا شكّ أنّ لكلّ ما ذكر دوراً في حصول الاختلاف، وأنّه بعض العلّة لا تمامها؛ لسنا بصدد وضع أجوبة لهذه التساؤلات، بل الذي يهمنا وندعو المعنيّين إليه هو دراسة الفقه وفق المناهج الحديثة، وأن لا يقتصر التحقيق عندهم على مناقشة النصوص الشرعيّة ودلالاتها بعيداً عن دراسة جذور المسألة وما يُحيط بها من ملابسات شتّى، إذا إنّ دراسة الفقه مع ملاحظة ظروفه
التاريخيّة والسياسية والاجتماعيّة هي الطريقة التي تخدم البحث العلميّ وتوصل إلى معرفة الحقيقة.
كما أنّ الجديّة في البحث والأمانة العلميّة تستلزم متابعة مختلف الآراء والأقوال عند جميع الأطراف؛ كي نتجاوز النظرة من زاوية محدودة وننطلق من الإطار المقيّد إلىعالم أرحب؛ إذ أنّ النظرة الضيّقة وعدم الانفتاح يوصدان أبواب التفاهم وتلاقح الأفكار، وبالنتيجة تحرمنا من قطف ثمار الاتصال بالآخرين والحوار معهم.
والآن بين أيدينا أمر عبادي مهم سنسلّط الضوء عليه ليتّضح لنا مدى عمق جذور الاختلاف وما هيّته في مصداق واحد، ومن خلاله ربّما تظهر ملامح صورة الاختلاف: وهي دراسة عن كيفيّة «وضوء النبيّ(ص)».
فكيف وقع الخلاف بين المسلمين في هذا الأمر المهم؟!
ولِمَ اختلف في مثل الوضوء، ذلك الفعل الذي كان يؤدِّيه النبيّ(ص) لعدّة مرّات في اليوم على مدى ثلاث وعشرين سنة، بمرأىً من المسلمين.
الوضوء الذي أَكد عليه النبيّ وجعله شرطاً للصلاة التي هي عمود الدين؛ فقال: «لا صلاة إِلا بطهور»(١) ، وقال أَيضاً: «الوضوء شطر الإيمان»(٢) ؟!
إذاً فالوضوء أمر عباديّ، مارسه الرسول بمحضر المسلمين ثمّ اتّبعوهُ بعد التعلّم العمليّ والبيان القوليّ منه، وهو لم يكن بالأمر الخفيّ، ولابالتشريع المؤقّت المختصّ بفترة زمنيّة دون أُخرى، حتّى تطمس معالمه، وتخفى ملامحُه بحيث يصل الحال إلى الاختلاف فيه.
____________________
(١) سنن أبي داود ١: ١٦|٥٩، سنن ابن ماجة ١: ١٠٠|٢٧١ - ٢٧٤، صحيح مسلم ١: ٢٠٤ ب٢، مسند الإمام زيد: ٦٨.
(٢) كنز العمّال ٩: ٢٨٨|٢٦٠٤٤، وص ٣١٦|٢٦٢٠٠، في صحيح مسلم ١: ٢٠٣|١، ومسند أحمد ٤: ٢٦٠ بتفاوت يسير.
فإن كان الأمر كذلك، فيما هي دواعي الاختلاف فما؟ وما هي حقيقة البيان النبويّ الشريف لهذه المسألة المهمّة؟
للإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما؛ نقول: لابدّ من تنقيح البحث بشكل دقيق يخضع للمنهج العلميّ الحديث، وإخضاع جميع ما ورد بهذا الشأن للدقّة والتمحيص، وهذاما سنحاول القيام به في دراستنا للكشف عن أُمور غامضة تداخلت في هذه العبادة، وجعلتها مثاراً للأخذ والردّ؛ فنقول:
اختلف المسلمون تبعاً لاختلاف الصحابة في نقل وبيان وضوء رسول الله (ص) على نحوين ونهجين رئيسيّين(١) ، وكان لكلٍّّ منهما - على ما وصل إلينا من السلف - أتباع وأنصار، من صحابة وتابعين لهم يذودون عمّا يرتؤون، ويقيمون الأدلّة والبراهين على ما يذهبون إليه.
ولكن قبل الخوض في غمار البحث، ومناقشة الأدلّة ومدى حجّيّتها، لابدّ من التمهيد للموضوع بمقدّمة نبحث فيها عن تاريخ الاختلاف وأسبابه ودواعيه، بادئين ذلك بوضوء المسلمين في الصدر الإسلاميّ الأوّل.
____________________
(١) يتلخّص النهجان في وضوء المذاهب الأربعة، ووضوء الشيعة الإمامية والذي ستقف عليهما فيما يأتي من هذا الكتاب.
الوضوء في العهد النبويّ
ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ المسلمين في الصدر الأوّل كانوا يتضّؤون كما كان النبيّ(ص) يتوضّأ بكيفيّة واحدة، ولم يقع بينهم أيّ خلاف يذكر، وأنّه لو وجد لوصل إلينا ما يشير إليه، ولتناقلته كتب الحديث والسير والأخبار؛ إذ إنّ المشرّع كان بين ظهراني الأُمّة، وهو بصدد التعليم والإرشاد - لأمّته الحديثة العهد بالإسلام كقوله لفعه (ص): «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» أو «خذوا عني مناسككم» - فمن البعيد حدوث الخلاف بينهم مع كون الجميع يرجعون إلى شخص واحد للأخذ منه وقد قال سبحانه (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول)، أضف إلى ذلك مشاهدتهم لفعفه (ص) الذي هو السنّة والرافع لكلّ لبس وإبهام؛ هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى: أنّ الخلاف في كثير من الأُمور بين الأُمّة إنّما هو وليد العصور المتأخّره التي جاءت بعد عهده الشريف قال الدكتور محمد سلام مدكور: لم يكن من سبيل الى وجود اختلاف بين الصحابة في الاحكام الفقهية في عصر الرسول (ص) وهو بين ظهرانيهم، يشرع لهم ويرجعون اليه، أما بعد
وفاته فقد وجدت اسباب متنوعه أدت الى اختلاف النظر وتباين الاتجاه وقد يكون للسياسة دخل في هذا...»(١) .
نعم؛ قد يقال: إنّ سبب اختلاف الأمّة في الوضوء وجود تشريعين، كان النبيّ(ص) يفعلهما على نحو التخيير، دون الإشارة إلى ذلك!! أي أنّه (ص): كان تارة يتوضّأ حسبما رواه عثمان(٢) وعبد الله بن زيد بن عاصم(٣) والربيّع بنت المعوّذ(٤) وعبد الله بن عمرو بن العاص(٥) عنه (ص)؛ وأخرى مثلما نقله عليّ بن أبي طالب(٦) ورفاعة بن رافع(٧) وأوس بن أبي أوس(٨) وعباد بن تميم بن عاصم(٩) و... عنه(ص).
فلو ثبت ذلك... لصحّت كلتا الكيفيّتين، ولتخيّر المكلّف في الأخذ بأيّهما شاء وترك الآخر، فتكون حاله كبقيّة الأحكام التخييريّة.
لكنّ هذا الاحتمال في غاية البُعد؛ لأنّنا نعلم بأنّ الحكم الشرعيّ - سواء التعيينيّ أو التخييريّ - إنّما يأخذ مشروعيّته من الكتاب والسنّة، فكفّارة اليمين - مثلاً - دلّ عليها دليل من القرآن وهو قوله تعالى: (فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أوتحرير رقبة) (١٠) فعرفنا على ضوء الآية بأنّ الحكم في كفّارة اليمين تخييري إمّا إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
____________________
(١) مناهج الاجتهاد في الاسلام: ١٤٤.
(٢) سنن النسائيّ ١: ٨٠، صحيح مسلم ١: ٢٠٤|٣، سنن البيهقيّ ١: ٥٣، ٦٨.
(٣) سنن النسائيّ ١: ٧١، صحيح مسلم ١: ٢١٠|١٨، سنن البيهقيّ ١: ٥٠، ٥٩.
(٤) سنن الدارقطنيّ ١: ٩٦| ٥، سنن البيهقّي ١: ٦٤.
(٥) سنن البيهقيّ ١: ٦٨.
(٦) شرح معاني الآثار ١: ٣٤|١٥٦.
(٧) سنن ابن ماجة ١: ١٥٦|٤٦٠.
(٨) كنز العمّال ٩: ٤٧٦| ٢٧٠٤٢.
(٩) كنز العمّال ٩: ٤٢٩| ٢٦٨٢٢، شرح معاني الآثار ١: ٣٥| ١٦٢.
(١٠) سورة المائدة: ٨٩.
وكفّارة صوم شهر رمضان، قد دلّ عليها حديث الأعرابيّ(١) ، ورواية أبي هريرة(٢) ؛ وهكذا الأمر بالنسبة إلى غيرهما من الأحكام التخييريّة...
أمّا فيما نحن فيه، فلا دلالة قرآنيّة، ولانصّ من السنّة النبويّة، ولا نقل من صحابيّ بأنّه (ص) فعلها على نحو التخيير؛ وليس بأيدينا ولا رواية واحدة - وإن كانت من ضعاف المرويّات - مرويّة عن أيّ من الفريقين تدلّ على التخيير، بل الموجود هو التأكيد على صدور الفعل الواحد عنه (ص)، وقد اختلفوا في ذلك، فذهب بعض إلى أنّه(ص) غسل رجله، وذهب البعض الآخر إلى أنّه(ص) مسح رجله، واستند كلّ منهما الى القرآن والسنة على ما ذهب إليه.
وإذا ما تتّبع الباحث أقوال علماء الإسلام فسوف يقف على أنّ الوضوء عندهم تعيينيّ لا تخييريّ؛ فغالب أتباع المذاهب الأربعة يقولون بلزوم الغسل في الأ رجل لاغير، أمّا الشيعة الإماميّة فإنّهم لا يقولون إلاّ بالمسح وحده، وإنّ كلاً منهما ينسب قوله - مضافاً إلى دعوى استظهاره من الكتاب - إلى فعل رسول الله (ص)، وهو ما جاء في صحاح مرويّاتهم.
أمّا القائلون بالجمع(٣) أو التخيير(٤) ، فإنّهم إنّما يقولون بذلك لا على أساس أنّ النبيّ (ص) جمع أو خيّر، بل إنّ القائل بالجمع إنّما يقول به لكونه مطابقاً للاحتياط، وأنّه طريق النجاة؛ إذ الثابت عنده أنّ الكتاب ورد بالمسح، وأنّ السنّة وردت بالغسل، فأوجبوا العمل بهما معاً رعاية للاحتياط، لا على أساس أنّ النبيّ(ص) جمع بينهما؛ وأنّ ذلك هو المرويّ عنه (ص).
وكذلك الحال بالنسبة للقائل بالتخيير، فإنّه إنّما ذهب إلى ذلك لتكافؤ الخبر
____________________
(١) موطأ مالك ١: ٢٩٧|٢٩.
(٢) موطأ مالك ١: ٢٩٦|٢٨، صحيح البخاريّ ٣: ٤١، صحيح مسلم ٢: ٧٨١|٨١.
(٣) كالناصر للحق من أئمّة الزيديّة، وداود بن عليّ الظاهري وغيرهما.
(٤) كالحسن البصريّ، وأبي عليّ الجبائيّ، وابن جرير الطبريّ وغيرهم.
عنده في الفعلين (المسح والغسل)، فالمكلّف لو أتى بأيّهما كان معذوراً؛ إذ لم يرجح عنده أحدهما حتّى يلزمه الأخذ به، وعليه فدعوى التخيير مجرد رأي جماعة قليلة من فقهائنا السابقين، فلا يمكن به نقض الإجماع المركّب بين المسلمين على أنّ الوضوء إمّا مسحيّ أو غسليّ، بل هناك أدلّة ستقف عليها لاحقاً ترجح أحد الطرفين وبها يثبت أن لا معنى للتخيير!
عهد أبي بكر (١١ - ١٣هـ)
لم ينقل التاريخ في هذا العهد خلافاً بين المسلمين في الوضوء؛ ذلك لقرب عهدهم بالنبيّ (ص)، وأنّه لو كان لبان، بل التحقيق عدمه؛ إذا إنّ حكم الوضوء لم يكن كغيره من الأحكام الشرعيّة، كالعارية، الشفعة، العتق،... وغيرها من الأحكام ممّا يمكن تجاهلها أو التغاضي عن فهم حكمها، لعدم الابتلاء بها كثيراً، وخلوهما عمّا في الوضوء من الاهمية، إذ إنّ الوضوء فعلٌ يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم الواحد، وتتوقّف عليه أهم الأمور العباديّة، وأنّ الاختلاف في أمر كهذا مثارٌ للدهشة والاستغراب، وتزداد الغرابة إذا ما تصوّرنا وقوعه مع فقد دليل أونصّ شرعيّ يدلّ عليه.
وهنا نؤكّد ونقول: إنّه من الأُمور التي تنطبق عليها قاعدة (لو كان لبان)؛ فعدم ورود نصّ ينبئ عن وجود الخلاف، وعدم وجود ردود فعل للصحابة في أمر الوضوء، أو ما شابه ذلك، دليل على استقرار الوضع بين المسلمين فيه، وعلى تعبّدهم بسيرة الرسول (ص).
وإنّنا رغم استقصائنا الدقيق في كتب التاريخ بحثاً عن مؤشّر واحدٍ يدلّنا
على اختلاف المسلمين في حكم من أحكام الوضوء في ذلك العهد، لم نعثر على أثر يذكر.
ثمّ إنّ عدم وجود بيان لصفة وضوء رسول الله (ص) من الخليفة الأوّل دليل آخر على استقرار الأُمّة على الوضوء النبويّ، إذ إنّ الوضوء أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى تعليم، بل كان معروفاً واضحاً متداولاً ممّا لا يحتاج إلى تأكيد الخليفة على تعليمه وذكر كيفيّته وتكراره، ولو كان هناك خلاف أو ما يستوجب البيان والتوضيح لبيّن الخليفة صفة وضوء رسول للناس لقطع دابر الاختلاف.
علماً بأنّ الخليفة قد حارب أهل الردّة؛ معلّلاً بأنّهم قد فرّقوا بين الصلاة والزكاة، فكيف به لايجابه الذي يحرّف الوضوء؟! فهذه قرائن آخر على عدم وجود الخلاف في زمانه؛ إذ لو كان لوردت نصوص عليه في المصادر المعتبرة، كما رأيناه فيما يماثلها.
عهد عمر بن الخطّاب (١٣ - ٢٣ هـ)
على الرغم من استقرائنا، وتتبّعنا الدقيق في تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء - في هذا العهد - لم نعثر على ما يشير إلى وجود اختلاف جوهري بين المسلمين فيه.. اللّهم إلاّ في مسألة يسيرة وفي حالة من حالات الوضوء، هي جواز المسح على الخفّين، او عدمه.
وإليك بعضاً من النصوص الواردة بهذا الشأن:
جاء في تفسير العياشيّ، عن زرارة بن أعين؛ وأبي حنيفة، عن أبي بكر ابن حزم؛ قال: توضّأ رجل، فمسح على خفّيه، فدخل المسجد فصلّى، فجاء عليّ فوطأ على رقبته؛ فقال: ويلك! تصلّي على غير وضوء؟
فقال [ الرجل ]: أمرني عمر بن الخطّاب.
قال [ الراوي ]: فأخذ بيده، فانتهى به إليه.
فقال [ عليّ ]: انظر ما يروي هذا عليك؟ - ورفع صوته -.
فقال [ عمر ]: نعم؛ أنا أمرته؛ إنّ رسول الله (ص) مسح.