• البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14739 / تحميل: 4826
الحجم الحجم الحجم
وضُوء النبي

وضُوء النبي

مؤلف:
العربية

١

وضُوء النّبي

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

٥

الإهداء

الى رجال العلم والتحقيق وطلاب الشريعة.

الى كل من يبحث عن الحقيقة ويعشق العلم في أرجاء المعمورة.

الى الذين تحرروا من قيود العصبية وأحبوا أن يدرسوا

تاريخ التشريع وملابساته بتحليل وموضوعية.

الى إخواني العلماء في الأزهر الشريف، والزيتونة والقرويين،

وقاريونس، واُم القُرى، وجامعة المدينة، واُم دُرمان الإسلامية و...

الى شبيبتنا المسلمة والواعية في كل مكان.

الى الذين يحبون معرفة تاريخ الإسلام

وسبب اختلاف المسلمين وتشعبهم الى مذاهب وفرق.

أهدي دراستي المتواضعة هذه لتطوير الحركة العلمية المباركة.

المؤلف

٦

مقدمة الناشر:

إنّ بحثاً بهذه الشمولية والإحاطة الكاملة بمسألة من مسائل الطهارة «الوضوء» يعدّ وبحقّ موسوعة عظيمة تفتح للقارئ العزيز آفاقاً جديدة لخوض المسائل الفقهية المختلف فيها، وبحثها من زوايا مختلفة، والوصول إلى الرأي الصواب.

قسمّ المؤلّف كتابه هذا «وضوء النبي» إلى مدخل وثلاثة أقسام:

المدخل: البحث التاريخي.

القسم الأول: البحث الروائي.

القسم الثاني: البحث القرآني واللغوي.

القسم الثالث: البحث الأ صولي والتأسيسي.

وقد طبع المدخل في خمسمائة وعشر صفحات، ولا زال المؤلّف يدأب على تكميل موسوعته هذه بجدّ واجتهاد، وفّقه الله لاتمامها.

ولما كان المدخل يشتمل على بحوث مهمّة، فيه شرح الملابسات التاريخية التي أحاطت بالوضوء، وتحديد زمن الاختلاف، وبيان المفردات والأ سباب، ممّا تعطي للباحث الطرق الجديدة للدخول في سائر المسائل الفقهية.

عزمنا على على تجديد طبعه مع بعض الاختصار وبعض الاضافات من المؤلّف حفظه الله ورعاه، وإخراجه بصورة مناسبة وشأنه.

٧

٨

مقدّمة المؤلّف:

اتّبع المحققّون في دراساتهم للنصوص التاريخية والحديثية أُسلوبين:

١) البحث الاسنادي

٢) النقد الدلالي

لكنّا نرى غلبة الأُسلوب الأول في كتابات علمائنا المعاصرين وفقهاء الإسلام، علماً بأنّ نقد المتن ودراسته لم يكن بالشيء الجديد الحادث ووليد العصور المتأخّرة، بل هو نهج سار عليه الأقدمون، وعمل به الصحابة والتابعون، وكثير من فقهاء الإسلام.

روى الحاكم في «المستدرك» في كتاب العتق، بإسناده عن عروة بن الزبير، أنّه قال: بلغ عائشة أنّ أبا هريرة يقول: إنّ رسول الله (ص) قال: «لأنا أُقنع بسوط في سبيل الله أحب إليّ من أن أُعتق ولد الزنى»، وإنّ رسول الله (ص)

٩

قال: «ولد الزنى شر الثلاثة»، وأنه قال: «الميت يعذّب ببكاء الحيّ».

فقالت عائشة: رحم الله أبا هريرة، أساء سمعاً فأساء إجابة، أمّا قوله: «لأن اقتحم أُقنّع بسوط في سيبل الله أحبّ إليّ من أن أُعتق ولد الزنى»، فإنّها لما نزلت (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة) قيل: يا رسول الله، ما عندنا ما نعتق، إلّا أنّ أحدنا له الجارية السوداء، تخدمه وتسعى عليه، فلو أمرناهنّ، فزنين، فجئن بأولاد فأعتقناهم، فقال رسول الله: «لأن أُقنّع بسوط في سبيل الله، أحبّ إليّ من أن آمر بالزنى، ثمّ أُعتق الولد».

وأمّا قوله: «ولد الزنى شرّ الثلاثة» فلم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله (ص)، فقال: «من يعذرني من فلان؟»، قيل: يارسول الله، إنّه مع ما به ولد زنى، فقال: «هو شر الثلاثة» والله تعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر اُخرى).

وأمّا قوله: «إنّ الميت يعذّب ببكاء الحي» فلم يكن الحديث على هذا، ولكن رسول الله (ص) مرّ بدار رجل من اليهود، قد مات، وأهله يبكون عليه، فقال: «إنهّم يبكون عليه وإنّه ليعذّب». والله يقول: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها)(١) .

كما أنّ عائشة قد نقدت أبا هريرة لما رواه عنه (ص): «من حمل ميتاً فليتوضّأ» فقالت: أونجس موتى المسلمين؟ وما على رجل لو حمل عوداً؟(٢)

ونراها تنقد أيضاً عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، والمغيرة بن شعبة، لروايتهم عن رسول الله حديث: «الميت يعذّب ببكاء أهله عليه» فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدّث رسول الله «إنّ الله ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه» ولكنّه قال: «إنّ الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» ثمّ قالت:

____________________

(١) المستدرك ٢: ٢١٥ ومصدر آخر.

(٢) سنن البيهقي ١: ٣٠٧.

١٠

حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر اُخرى). وقال ابن عباس عند ذاك: «والله أضحك وأبكى»(١) أي إنّ الابكاء لو كان من الله سبحانه وتعالى، فلماذا يعذّب الميت ببكاء أهله عليه؟

ثمّ بيّنت عائشة سبب ورود الحديث عند نقدها لقول ابن عمر، فقالت: رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئاً فلم يحفظه، إنّما مرّت على رسول (ص) جنازة يهودي وهم يبكون عليه. فقال: «أنتم تبكون وإنه ليعذّب»(٢) .

ونراها تنتهج أُسلوب النقد التعريضي في بعض الأحيان.

منها: أنها نقدت تلويحاً حديثي أبي هريرة وابن عمر: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً»(٣) بما روت عنه (ص) بأنّه كان يضع لحسّان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله (ص) وقوله (ص): «إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله»(٤) ثمّ احتملت في حديث آخر أن يكون الخبر هكذا: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير من أن يمتلئ شعراً هُجيت به»(٥) .

وخطأت الخليفة عمر فيما رواه عن رسول الله من نهيه عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس والعصر حتى تغرب(٦) بقولها: وهم عمر، إنما نهى رسول الله أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها(٧) .

وروي عن عبدالله بن عمر أنّه خطأ أباه - تلويحاً - بقوله: أُصلّي كما رأيت أصحابي يصلّون، لا أنهى أحداً يصلّي بليل ولانهار ما شاء، غير أن لا تحرّوا

____________________

(١) صحيح مسلم ٢: ٦٤٢ ذيل الحديث ٢٣.

(٢) صحيح مسلم ٢: ٦٤٢| ٢٥.

(٣) مسند أحمد ١: ١٧٧، صحيح البخاري ٨: ٤٥، سنن ابي داود ٤: ٣٠٢| ٥٠٠٩.

(٤) سنن ابي داود: ٤: ٣٠٤|٥٠١٥، المعجم الكبير ٤: ٣٧|٣٥٨٠، الفردوس ١: ١٥٢|٥٥٠.

(٥) فتح البآري ١٠: ٤٥٢.

(٦) صحيح البخاري ١: ١٥٢، صحيح مسلم ١: ٥٦٦ - ٥٦٧.

(٧) صحيح مسلم ١: ٥٧١|٢٩٥، ومسند أحمد ٦: ١٢٤، والنسائي ١: ٢٧٨ - ٢٧٩.

١١

طلوع الشمس وغروبها(١) .

ولم تنجُ هي من نقد الصحابة، فقد نقدتها نساء النبي (ص) لقولها برضاع الكبير(٢) فقلن لها: فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا، ما نرى هذه إلا رخصة أرخصها رسول الله لسالم خاصة(٣) .

هذا وإنّا نرى عليّ بن أبي طالب ينقد حكم عمر بن الخطاب برجم المرأة التي ولدت لستة أشهر مستدلاً بقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين)، وقوله (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) فستة أشهر حمله، و «حولين» تمامٌ، فذلك ثلاثون شهراً، فخلّى سبيلها(٤) .

أو نرى تلك المرأة التي اعترضت على حكم الخليفة عمر بن الخطاب في المهر بقولها: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأيّ ذلك؟ فقالت: قوله تعالى (وآتيتم إحداهنّ قنطاراً)؟ فقال: اللّهمّ غفرانك، كلّ الناس أفقه من عمر، ثمّ رجع(٥) . الخبر.

كما أنّ عليّ بن أبي طالب قد نقد الخليفة عثمان في أكله صيد المحلّ وهو محرّم، فجاء في الخبر:

إنّ عثمان حجّ، فحجّ معه عليّ، فاُتي عثمان لحم صيد صاده حلال، فأكل منه ولم يأكله عليّ فقال عثمان: والله ما صدنا ولاأمرنا ولاأشرنا، فقال عليّ: «قال سبحانه وتعالى: (وحرّم عليكم صيد البّر ما دمتم حرماً)»(٦) .

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ١٥٣.

(٢) أي أن رضاع الكبير بمثابة رضاع الصغير في المحرمية، وقد نقد البعض هذا القول بما صدر عنهم (ص) لا رضاع بعد فصال، وقوله (ص): «لا رضاع إلاّ ما شدّ العظم وأنبت اللحم».

(٣) سنن البيهقي ٧: ٤٥٩ -٤٦٠.

(٤) سنن البيهقي ٧: ٤٤٢.

(٥) سنن البيهقي ٧: ٢٣٣.

(٦) مسند أحمد ١: ١٠٠ بتفاوت يسير.

١٢

وقد نقده(١) فيما أفتى به عن الرجل إذا جامع امرأته ولم يمن: بأن يتوضّأ كما يتوضّأ للصلاة ويغسل ذكره(٢) .

بقوله: «أتوجبون الحد والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من ماء؟ إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»(٣) .

وابن عباس نقد أبا هريرة لما رواه عن رسول الله: «توضّؤوا ممّا مسّت النار» بقوله: «أتوضّأ من الحميم»(٤) . أي لو وجب الوضوء ممّا مسّت النار لوجب الوضوء من استعمال الماء الساخن، وهذا ممّا لم يقل به أحد، والمعهود في الشريعة أنّ الوضوء ينتقض بالخارج النجس لا بالداخل الحلال الطاهر، وكيف يجعل الرسول (ص) الطعام الحلال الطاهر ناقضاً للوضوء؟!!

هذا، وقد احتمل البعض أن يكون مسّ الفرج من نواقض الوضوء، ومنهم ذلك الأعرابي الذي سأل رسول الله عنها فأجاب (ص): «وهل هي إلاّ مضغة منه أو بُضعة منه»؟!!

هذه بعض النصوص ذكرناها للوقوف على نهج السلف في تعاملهم مع الأحكام والروايات الصادرة عن الصحابة، وأنّهم كانوا يطرحون البعض منها لمخالفتها للأصول الثابتة في الشريعة ومنافاتها للعقل والفطرة، وكفى بها شاهداً على أصالة هذا النهج عند الأقدمين.

لكننّا نتساءل: إنّه هل يمكننا تعميم هذا للكتّاب المعاصرين والعمل على ضوئه، أم أنّه كان رخصة للصحابة فقط، فلا يحقّ لنا خوض هذا الميدان؟!

قال الأستاذ أحمد أمين - في معرض حديثه عن منهج علماء الحديث -:

____________________

(١) وكذا نقد بعض أصحاب الرأي، راجع مسند أحمد ٥: ١١٥.

(٢) البخاري ١: ٥٦، صحيح مسلم ١: ٢٧٠| ٨٦.

(٣) تهذيب الأحكام ١: ١١٩| ٣١٤.

(٤) سنن الترمذي ١: ٥٢| ٧٩.

١٣

«... وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد، ليس هنا محلّ ذكرها، ولكنّهم والحق يقال عنوا بنقد الإسناد أكثر ممّا عنوا بنقد المتن، فقلّ أن تظفر منهم بنقد من ناحية أن ما نسب إلى النبي (ص) لا يتّفق والظروف التي قيلت فيه، أو أنّ الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه، أو أنّ عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي، أو أنّ الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه، وهكذا. ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم، حتى نرى البخاري نفسه، على جليل قدره ودقيق بحثه، يثبت أحاديث دلّت الحوادث الزمنية، والمشاهد التجريبية على أنّها غير صحيحة لاقتصاره على نقد الرجال»(١) .

وقد لخّص الدكتور صلاح الدين الأدلبي كلام الدكتور أحمد أمين في ضحى الإسلام بقوله:

«... ولا حظ في كتابه ضحى الإسلام، أنّ المحدّثين عنوا عناية فائقة بالنقد الخارجي، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحاً وتعديلاً، فنقدوا رواة الحديث في أنّهم ثقات أوغير ثقات، وبيّنوا مقدار درجتهم في الثقة، وبحثوا هل تلاقى الراوي والمروي عنه أو لم يتلاقيا؟ وقسّموا الحديث باعتبارذلك ونحوه، إلى حديث صحيح وحسن وضعيف، وإلى مرسل ومنقطع، وإلى شاذ وغريب، وغير ذلك، ولكنّهم لم يتوسّعوا كثيراً في النقد الداخلي، فلم يتعرّضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أم لا؟!

ويقول: إنّهم كذلك، لم يتعرّضوا كثيراً لبحث الأسباب السياسية التي قد تحما على الوضع، فلم نرهم شكّوا كثيراً في أحاديث لأنّها تدعم الدولة الأموية أو العباسية أو العلوية، ولا درسوا دراسة وافية البيئة الاجتماعية في

____________________

(١) فجر الاسلام: ٢١٧ - ٢١٨.

١٤

عهد النبي (ص) والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وما طرأ عليها من خلاف، ليعرفوا هل الحديث يتمشّى مع البيئة التي حكي أنّه قيل فيها أو لا؟ ولم يدرسوا كثيراً بيئة الراوي الشخصية وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا.

ثمّ يبيّن [ الدكتور ] أنّهم لو اتّجهوا كثيراً إلى نقد المتن وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول، لانكشفت أحاديث كثيرة وتبيّن وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل، وهي أحاديث رويت في مدح الأشخاص والقبائل، والأمم، والأماكن، تسابق المنتسبون لها إلى الوضع فيها، وشغلت حيزاً كبيراً من كتب الحديث.

ثمّ نقل الدكتور قول ابن خلدون: «وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسّرين وأئمّة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل، غثاً وسميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها ولا سيّروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحقّ وتاهوا في بيداء الوهم والغلط»(١) .

وجاء في ظهر الإسلام لأحمد أمين: كما يؤخذ عليهم أنهم عنوا بالسند أكثر من عنايتهم بالمتن، فقد يكون السند مدلساً تدليساً متقناً، فيقبلونه مع أنّ العقل والواقع يأبيانه، بل قد يعدّه بعض المحدثين صحيحاً لأنّهم لم يجدوا فيه جرجاً، ولم يسلم البخاري ولا مسلم من ذلك، وربما لو امتحن الحديث بمحكّ أصول الإسلام لم يتّفق معها وإن صحّ سنده(٢) .

«ونخلص إلى القول أنّ النظر في سند الحديث فقط لا يكفي للتأكد من صحّته، بل لابدّ لنا أيضاً من النظر في متن الحديث حتى يسلم من كلّ ما يشوبه

____________________

(١) منهج نقد المتن: ١٢ عن ضحى الإسلام ٢: ١٣٠ - ١٣٣، ومقدّمة ابن خلدون: ٩.

(٢) ظهرالإسلام ٢: ٤٨.

١٥

من علل وشوائب، فاذا صحّ السند وسلم المتن كان لنا الحديث الصحيح.

ويمكن أن نعطي مثلاً واقعياً من حياتنا اليوميّة، فأذا أخبرك رجل عن آخر خبراً، كان أوّل ما يسبق إلى خاطرك، أن تستوثق من صدق المخبر بالنظر في حاله وأمانته ومعاملته، وغير ذلك من الملاحظات التي تراها ضرورية لك للتأكّد منه.

فإذا استوثقت من الرجل نظرت بعد ذلك في الخبر نفسه وعرضته على ما تعرض عن صاحبه من أقوال وأحوال، فإذا اتّفق مع ما تعلمه من ذلك، لم تشك بصدق المخبر والاطمئنان إليه، وإلاّ كان لك أن تتوقّف في قبول الخبر لا لريبة في المخبر - فأنت واثق من صدقه - بل لشبهة رأيتها في المخبر نفسه، ويصّح أن يكون مرجعها وهماً أو نسياناً من المخبر، كما يصحّ أن ترجع إلى سرّ فيه لأمر لم تتبيّنه، فلعلّ هذه الحالة علينا أن نتوقّف عند الخبر لنطمئنّ إلى صحّته، ولا نتسرّع في حكمنا أنّه كاذب، وإذا فعلنا ذلك يكون منّا افتئاتاً على من أخبرنا ونحن له مصدّقون وبه واثقون.

إنّ هذا الموقف الذي عنه تحدّثنا هو نفسه حدث للعلماء في أحاديث رسول الله»(١) .

وقال المرتضى - من علماء الامامية - في جواب ما روى في الكافي عن الصادق في قدرة الله: اعلم أنه لا يجب الاقرار بما تضمنه الروايات فإن الحديث المروي في كتب الشيعة وجميع مخالفينا يتضمن ضروب الخطأ وصنوف الباطل من محال لا يجوز ان يتصور، ومن باطل قد دل الدليل على بطلانه وفساده كالتشبه والجبر والعقول بالصفات القديمة ولهذا أوجب نقد الحديث يعرضه على العقول، فإذا سلم عليها عرض على الأدلة الصحيحة كالقرآن وما فيه معناه، فإذا سلم عليها جوزان يكون حقاً والمخبر به صادقاً. وليس كل خبر جاز ان يكون حقاً وكان وارداً من طريق الأحاد يقطع على ان المخبر به صادقاً(٢) .

وبهذا فقد عرفنا ضرورة دراسة المتن، حيث إنّ الواقع سيكشف خطأ بعض النصوص، والأجواء السياسية تكشف زيف الآخر منه؛ ولو تمّت مقايسة النص مع الظروف التي قيلت فيه، وبيئة الراوي، وبيان ملابسات الخبر السياسية والاجتماعية الحاكمة آنذلك، ودواعي ناقلي النص، وعرضها على أصول الإسلام والفطرة البشرية بعيداً عن الرواسب الطائفية والنزاعات الإقليمية، لدلّت تلك النصوص بنفسها على نفسها، ولعرف القارئ بأنّ الكثير منها جاء تحت تأثيرات الحكّام وتبعاً لآرائهم فقهيّاً وسياسياً، ونرى بعض

____________________

(١) نقد الحديث ١: ٤٣١ - ٤٣٢ للدكتور حسين الحاج حسن ط مؤسسة الوفاء بيروت.

(٢) رسائل الشريف المرتضى المجموعه الأُولى مسألة (١٣).

١٦

تلك الأحاديث والأحكام باقية في مصنّفات أعلامنا - ولحدّ اليوم - لم يناقشها الباحثون ولم ينقدها الناقدون.

علماً بأنّ ظاهرة نقد المتن - وكما قلنا - كانت شائعة في العهد الأول، وعمل بها بعض التابعين، ونراها أيضاً في كلمات فقهاء الإسلام والمحدثين، فمثلاً حديث أبي هريرة «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه»(١) نراه يخالف أوّله آخره، لأنّ المصلّي لو وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير، حيث إنّ البعير يضع يديه أولاً وتبقى رجلاه قائمتين، فإذا نهض فإنّه ينهض برجليه أولاً وتبقى يداه على الأرض.

كما أنّ بعض المحدّثين يروي عن عائشة عن رسول الله أنّه قال: «إنّ الحيضة سلّطت على النساء عقوبة لهنّ»، في حين أنّ هذا الخبر يعارض المنقول عنها، وأنّ الحيضة مكتوبة على كلّ امرأة ولا علاقة لها بالعقوبة، فقد قال لها (ص) وهي معه في طريق الحج وقد رآها تبكي: «ما لك أنفست؟» قالت: نعم، فقال (ص): «إنّ هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج»(٢) .

وقال (ص) قريباً من هذا الحديث لأمّ سلمة(٣) .

كذلك نلاحظ أنّ أبا هريرة يحدّث عن رسول الله أنّه قال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم... حتى يعدّ خلق العالم في سبعة أيّام»(٤) وهو مخالف لصريح القرآن الذي جاء في سبع آيات من سبع سور منه بأنّه سبحانه خلق العالم في ستة أيّام(٥) .

وبناء على ذلك فقد عرفنا بأنّ مناقشة دلالة النص ظاهرة عمل بها السّلف

____________________

(١) سنن أبي داود ١: ٢٢٢ | ٨٤٠، سنن الدارمي ١: ٣٠٣، مسند أحمد ٢: ٣٨١.

(٢) صحيح البخاري ١: ٨١، وصحيح مسلم ٢: ٨٧٣ | ١١٩.

(٣) سنن الدارمي ١: ٢٤٣، صحيح البخاري ١: ٨٢ بتفاوت.

(٤) أخرج هذا الحديث مسلم والنسائي وأحمد والبخاري في التاريخ الكبير وغيرهم.

(٥) الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، هود: ٧، الفرقان: ٥٩، السجدة: ٤٠، الحديد: ٤، ق: ٣٨.

١٧

ودعا إليها العقل، وهي سيرة الفقهاء والتابعين، ولم تختصّ بزمن دون أخر، ولم تكن رخصة للصحابة فقط، حيث إنّ الشريعة الإسلامية هي شريعة الفطرة والعقل، وإنّ الأوامر والنواهي فيها تابعة للمصالح والمفاسد، فلا يعقل أن لا يمسح الشرع بالاجتهاد في الأحكام.

نعم، إنّ إخضاع الأحاديث لإحكام العقول - مع عدم وجود ما يؤيّد ذلك من القرآن أو السنّة شريفة - هو ممّا يأباه الله ولا يرضى به الشرع، لأنّ الأحكام الشرعية أمور توقيفية تعبدية، وبما أنّ القرآن قطعي الصدور فلاكلام فيه.

وأمّا السنّة: فهي ظنيّة الصدور، فيجب التثبّت في أسانيدها، ومفاد دلالتها، ولحاظ الأجواء السياسية الحاكمة آنذلك، وعرضها على الاُصول الثابتة، ولايمكن ترجيح جانب على آخر في مناقشاتنا للنصوص، بل يلزم لحاظ كلا الجانبين حتى يمكننا تمحيص الحجة فيها.

أمّا شيوع ظاهرة البحث السندي - طبق أُصول مذهبية خاصة - بعيداً عن نقد المتن فهو لا يخدم الباحث العلمي، ولا يمكنه من الوصول إلى الفقه الإسلامي بشكله المطلوب.

مضافاً إلى أنّ ناقدي المتن يعتقدون بأنّ عملهم يبتعد عن جانبي الإفراط والتفريط، وأنّ إخضاع الحديث لسلطان العقل يخرج الشريعة من التعبّد بأحكام الله، بل تكون من باب حكومة الهوى في الحديث لا الحديث في العقل(١) .

وفي الوقت نفسه لا يرتضون الأخذ بكلّ حديث ثبتت صحته في المجاميع الحديثية مع كونه مخالفاً للأُصول المسلّمة الشريعة والفطرة البشرية، حيث إنّ

____________________

(١) انظر ضحى الإسلام لأحمد أمين ٣: ٨٥.

١٨

الاعتقاد بصحّة تلك الأحاديث والبتّ في صدورها عن النبي (ص) ستكون ذريعة بيد الطاعنين في الإسلام للنيل من الشريعة المقدّسة.

وقد دخل بعض الأعلام في مناقشات لفظية وتأويلات بعيدة لتصحيح بعض تلك الأحاديث - المخالفة للعقل والفطرة - وقد صارت نفس تلك التأويلات ذريعة بيد المغرضين للنّيل من أصالة الفكر الإسلامي والهجوم على السنة الشريفة.

فنحن لو لاحظنا الجانبين في دراساتنا لتعادلت كفّتا الميزان، ولأمكن التعرّف على الحكم الإلهي الموافق للعقل والفطرة، ولم يكن في الشريعة ما يأباه الوجدان.

وأمّا تخوّف البعض من شيوع هذه الظاهرة في الدراسات، بحجّة أنّها تؤدّي إلى خروج بعض الأحاديث، فقد خاطبهم الدكتور الأدلبي في كتابه منهج نقد المتن بقوله:

وبالنسبة للذين يميلون إلى التضييق من شروط الصحيح، وعدم التشدّد فيها ويرون توسيع دائرة ما يشمله المقبول من صحيح وحسن، فهم إنّما أداهم الورع إلى الخوف أن يحكموا على نص بالضعف، ويكون في الحقيقة ثابتاً عن رسول الله (ص) وما درى هؤلاء بأنّ الأمر في الحديث ليس أمر تقليل ولا تكثير، بل هو تحرّ وتدقيق، بالإضافة إلى أن ما ثبت عن رسول الله (ص) فيه ما يهدينا إلى كلّ خير، ويباعدنا عن كلّ شر، ولا يحوجنا للاهتداء بأحد سواه.

أمّا موضوع الورع فهذا مهمّ جداً، ولكن هل نتورّع من أن نخرج من الحديث ما هو منه، ولا نتورع من أن ندخل فيه ما ليس منه؟!

الحقيقة أنّ كلاًّ منهما خطير، لكن ماذا يترتّب على كلّ واحد لنرى أيّهما أشّد خطراً؟

أرى أن إدخال ما ليس من الحديث في نصوص الحديث فيه زيادة نص،

١٩

وقد يؤدّي إلى زيادة حكم، ويخشى معه من الدخول تحت الوعيد الشديد الوارد فيمن كذب عليه (ص)، وأن إخراج ما هو من الحديث من نصوص الحديث فيه نقص نص، وقد يؤدّي إلى نقص حكم، ويخشى معه من الدخول تحت الوعيد الشديد الوارد فيمن كتم علماً، لكن النقص من مجموعة كاملة شاملة، غالباً ما يهتدى إليه ويستدلّ عليه، من نظائره في المجموعة الكاملة، فالخوف من النقص إن لم يكن أقل من الآخر خطراً فهو إن شاء الله ليس بأكثر منه والله أعلم(١) .

وعليه، فنحن لا نريد أن نميل إلى هذا القول أو ندحض ذلك، بل نؤكّد على لزوم دراسة كلا الجانبين في البحوث العلمية، وأن لا يكتفي المؤرّخ أو الفقيه بأحدهما تاركاً الآخر، وأنّ دراسة أسانيد الروايات دون معرفة ملابسات الحكم التاريخية والجغرافية والسياسيةلا تفيد الباحث العلمي كما قلنا، وأنّ وقوف المجتهد وحتى المكلف على تاريخ التشريع وتطوّر الحكم وملابسات صدوره تعطيه رؤية جديدة وتفتح أمامه آفاقاً واسعة.

وقد انتهجنا هذا الأُسلوب في دراستنا واتّبعناه لا لشيء، إلاّ لتطوير وإشاعة مثل هذه الدراسات في معاهدنا العلمية وجامعاتنا الإسلامية، على أمل تعاون المعنيين معنا في ترسيخ هذه الفكرة وتطويرها، وأن لا يدرسوا الفقه دراسة إسنادية فقط دون معرفة ملابسات الحكم التاريخية والسياسية، ونرى في طرح مثل هذه الدراسات رقيّاً للمستوى الفقهي والأُصولي عند المذاهب الإسلامية، وتقريب وجهات النظر بين المسلمين وترسيخ روح الإنفتاح فيهم، ومحاولة القضاء على مختلف النزاعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث العلمي، وعدم السماح لتحكيم الخلفيات الطائفية، والرواسب الذهنية في مثل هذه البحوث العلمية النظرية.

____________________

(١) منهج نقد المتن: ٢٣.

٢٠