المسائل المنتخبة العبادات و المعاملات

المسائل المنتخبة العبادات و المعاملات10%

المسائل المنتخبة العبادات و المعاملات مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
ISBN: 978-964-8629-59-0
الصفحات: 551

المسائل المنتخبة العبادات و المعاملات
  • البداية
  • السابق
  • 551 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 234189 / تحميل: 5615
الحجم الحجم الحجم
المسائل المنتخبة العبادات و المعاملات

المسائل المنتخبة العبادات و المعاملات

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٨٦٢٩-٥٩-٠
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

لخصوصيات هذه القصّة.

على أية حال هناك قولان راجحان من بين الاحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف ، يمكن أن نجملهما بما يلي :

أوّلا : إنّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب منها.

ويمكن في الوقت الحاضر مشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب من مدينة (أزمير) التركية ، وبالقرب من قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيث يوجد كهف لا يبتعد كثيرا عن (أفسوس).

إنّ هذا الكهف هو غار وسيع ، ويقال بأنّه يمكن في داخله مشاهدة آثار مئات القبور ، ويعتقد الكثيرون بأنّ هذا الغار هو غار أصحاب الكهف.

وقد نقل من شاهد الكهف أنّ فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي ، وقد كان هذا الموقع سببا في ترجيح شك بعض المفسّرين الكبار بكون هذا المكان هو غير غار أصحاب الكهف ، في حين أنّ هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح كون الغار هو الكهف المقصود لأنّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار ، وعند الغروب على يساره ، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلا نحو الشمال الشرقي.

بالطبع لا يقلّل من صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إلى جانبه ، حيث يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (17) قرن على الحادث.

ثانيا : يقع الغار بالقرب من (عمّان) عاصمة الأردن ، وبالقرب من قرية تسمّى «رجيب».

ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود ـ وفقا لبعض القرائن ـ إلى القرن الخامس الميلادي ، حيث تحوّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد

٢٤١

سيطرة المسلمين على ذلك المكان.

3 ـ الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف

هذه القصّة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية من أي خرافة أو وضع ، وفيها العديد من الدروس التربوية البنّاءة ، تماما كما في قصص القرآن الأخرى ، وإذا كنّا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات ، فإنّنا نرى من الضروري الآن أن نشير إليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر من الهدف الأساس للقرآن ، وفيما يلي أبرز هذه الدروس :

أ: إنّ أول دروس هذه القصّة هو تحطيم حاجز التقليد ، والابتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا ـ كما لا حظنا ـ على استقلالهم الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم ، وهذا الأمر أصبح سببا في نجاتهم وتحرّرهم.

وينبغي للإنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايرا له.

ب : الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصّة ذات العبر ، فهم قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفّهة المليئة بألوان النعم المادية ، وتركوا مناصبهم ، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان ـ في الغار الذي كان يفتقد كل شيء ـ لكي يحفظوا إيمانهم ، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر والشرك(1) .

ج : التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده من هذه القصّة ، لقد كانوا يصرون على عدم اطّلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم ، واحتاطوا ليبقى أمرهم وحالهم مخفيا ، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب ، وكي يتجنبوا أن يجبروا

__________________

(1) من أجل المزيد من التفاصيل حول مسألة الهجرة وفلسفتها في الإسلام يمكن مراجعة ما جاء في تفسير الآية (100) من سورة النساء من تفسيرنا هذا.

٢٤٢

على الرجوع إلى المحيط المنحرف الذي تخلّصوا منه.

ونحن نعرف أنّ التقية ليست سوى أن يتكتم الإنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة ، بل تكون سببا للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوّة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية(1) .

د : عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله ، فالوزير كان إلى جانب الراعي ، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر يتّضح من خلاله أنّ امتيازات الدنيا المادية ، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكية ، إذ الكل فيه سواء إنّ طريق الحق هو طريق التوحيد ، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

ه : الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل ، هي نتيجة أخرى يجب الاعتبار بها ، فقد رأينا كيف قام الخالق جلّ وعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك المدّة الطويلة ، من أجل إنقاذهم من تلك الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بهم.

وقد أيقظهم جلّ وعلا في الوقت المناسب ، أي في الوقت الذي أصبحوا رمزا من رموز التوحيد ، وقد رأينا ـ كشكل من أشكال العناية ـ كيف أنّ الله تعالى حفظ أجسادهم خلال هذه المدّة من تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة ، وجعل من الرعب والخوف أسلوبا للحفاظ عليهم في قبال أعدائهم.

و: لقد تعلّمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها ، لأنّ طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه ، وعند ما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة ، يبتعد الإنسان عن طريق الله ؛ طريق

__________________

(1) حول كون التقية أسلوبا للدفاع والوقاية ، يمكن مراجعة ما ذكرناه لدى تفسير الآية (62) من سورة يونس من تفسيرنا هذا ، وكذلك ملاحظة الملاكات الفقهية لهذه المسألة في كتابنا «القواعد الفقهية».

٢٤٣

التقوى.

ز : ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون من لطفه تعالى : وقول (إن شاء الله) في كل ما يتعلق بأمور المستقبل درس آخر نتعلمه من قصّة أصحاب الكهف.

ح : لقد رأينا أنّ القرآن سمّاهم : ب (الفتية) في حين أنّهم ـ طبقا للرّوايات ـ لم يكونوا شبابا من حيث العمر ، وإذا عرفنا أنّهم كانوا في البداية وزراء الملك الجبار ، يتأكد لنا أنّهم لم يكونوا صغارا من حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم ب (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطهر والفتوة العفو والتسامح.

ط : ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درس آخر نستفيده من قصّة أصحاب الكهف ، حيث إنّهم عند ما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم ، ذكروا أدلة منطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (15 ـ 16) من هذه السورة.

إنّ أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند ـ في العادة ـ إلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمر يلجأ إليه عند ما تفشل الحجة في أداء وظيفتها ، أو عند ما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.

ي : وأخيرا ، فإنّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة أخرى عند البعث ، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصّة ، وسنقرأ عنه تفصيلا في بحوث قادمة إن شاء الله تعالى.

إنّنا لا نستطيع القول بأنّ الدروس التربوية في قصّة أصحاب الكهف تقتصر على ما ذكرناه ، ولكنّا نعتقد أنّه حتى لو كان هناك درس واحد نستفيده من هذه القصة لكفانا ذلك ، فكيف بنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟!

على أية حال ، إنّ هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية ، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين ، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري المليء بالحوادث والمواقف.

٢٤٤

4 ـ هل أنّ قصّة أصحاب الكهف علمية؟

من المسلّم به أنّ قصّة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي من الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويجب أن لا تذكر ، لأنّ الحادثة ـ طبقا للتأريخ العام ـ كانت قد وقعت في القرون التي تلت ظهور المسيح عيسىعليه‌السلام .

إنّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان «دكيوس» (التي تعرّب بديقيانوس) حيث تعرّض المسيحيون في عصره إلى تعذيب شديد.

ويقول المؤرخون الأوربيون : إنّ هذه الحادثة وقعت في الفترة من 49 ـ 251 ميلادي ، وبذلك يرى هؤلاء المؤرخون أنّ مدّة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (157) سنة ، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يعرفون بيننا بأصحاب الكهف(1) .

والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ ومن أوّل عالم كتب كتابا عن قصّة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصل ذلك؟

(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين ، هي واحدة من مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء من مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب من نهر (كاستر) وعلى بعد (40) ميلا تقريبا جنوب شرقي (أزمير) حيث كانت عاصمة الملك (الونى).

وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف بـ «أرطاميس» الذي يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع(2) .

ويقولون : إنّ قصة أصحاب الكهف شرحت لأول مرّة في رسالة باللغة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيسا للكنيسة السورية ،

__________________

(1) أعلام القرآن ، ص 153.

(2) الكلام مقتبس من كتاب «قاموس الكتاب المقدّس» ، ص 87.

٢٤٥

وذلك في القرن الخامس الميلادي ، ثمّ شخص آخر يسمّى «جوجويوس» بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ «جلال الشهداء»(1) . وهذا الأمر يبيّن أنّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين من ظهور الإسلام ، وكانت الكنائس تهتم بها.

بالطبع بعض أحداث هذه القصّة ـ مثل مدّة نوم أصحاب الكهف ـ تختلف عمّا ورد في المصادر الإسلامية ، فالقرآن يقول ـ وبصراحة ـ بأنّ نومهم كان (309) سنة.

من جانب ثان وطبقا لما ينقله ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد الثّاني ص 806) وطبقا لما ينقله «ابن خردادبه» في كتاب «المسالك والممالك» (صفحة 106 ـ 110) وطبقا ـ أيضا ـ لما يقوله ابو ريحان البيروني في الصفحة (290) من كتاب «الآثار الباقية» : إنّ مجموعة من السوّاح القدماء قد وجدوا غارا في مدينة (آبس) فيه بعض الأجساد المتيبسة ، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصّة أصحاب الكهف.

من سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف ، وأسباب النّزول المذكورة في المصادر الإسلامية ، نستفيد أنّ الحادثة كانت أيضا معروفة بين علماء اليهود ، وأنّها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتّضح ـ بدقة ـ أنّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة(2) .

وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم ، ويعتبر أنّ ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية ، لذلك يضعها في قسم الأساطير والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي :

أوّلا : إنّ هذا العمر الطويل أمر غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين

__________________

(1) أعلام القرآن ، ص 154.

(2) المعاد والعالم بعد الموت ، ص 163 ـ 165.

٢٤٦

المستيقظين ، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟!

ثانيا : إذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين يمارسون الحياة بشكل طبيعي ، فإنّ ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين ، لأنّ هناك مشكلة الطعام والشراب،إذ كيف يمكن للإنسان أن يبقى طيلة هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، وإذا افترضنا مثلا أنّ الإنسان يحتاج يوميا إلى كيلو غرام واحد من الطعام أو لتر واحد من الماء ، فإنّ أصحاب الكهف كانوا بحاجة ، أثناء نومهم ، إلى (100) طن من الطعام و (100000) لتر من الماء، ومن الطبيعي أنّ الجسم لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات من الماء والطعام.

ثالثا : إذا تجاوزنا كل الأمور السابقة ، فسوف تكون أمامنا مشكلة جديدة ، وهي أن جسم الإنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة من دون أن تتأثّر أجهزته وتتضرّر بأضرار فادحة.

إنّ هذه الأمور قد تبدو للوهلة الأولى مانعا من التصديق بقصّة أصحاب الكهف ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن مناقشة الأمور السابقة وفقا لما يلي :

أوّلا : لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية ، حيث أنّنا نعلم أنّ طول عمر أي كائن حي ليس لها من الوجهة العلمية ميزان ثابت من حيث المدّة والعمر ، بحيث يكون موت الكائن عند هذا الحد المفترض أمرا حتميا.

بعبارة أخرى : صحيح أنّ الطاقة الجسمية للإنسان مهمّا بلغت فهي محدودة ولا بدّ أن تنتهي ، إلّا أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ جسم الإنسان ـ أو أي كائن حي آخر ـ ليست له قابلية البقاء أكثر من المقدار المألوف والمتعارف عليه.

أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية ، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة (100) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي ، فكذلك الإنسان إذا وصل إلى عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإنّ قلبه سيتوقف عن العمل.

٢٤٧

إنّ المسألة ليست على هذه الشاكلة ، بل إنّ ميزان طول عمر الكائنات الحية يرتبط ارتباطا كبيرا بوضعهم المعيشي ، فعند ما تتغيّر الظروف بالكامل تكون الموازين قابلة للتغيير هي الأخرى.

والدليل على ما نقول ، هو أنّنا لم نر أحدا من علماء العالم قد حدّد ميزانا معينا لعمر الإنسان ، ومن جانب ثان استطاعوا من خلال تجارب مختبرية من زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين ، أو الثلاثة في بعض الأحيان ، واستطاعوا في أحيان أخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (12) مرّة أو أكثر قياسا للعمر المألوف.

واليوم فإنّ هؤلاء العلماء يأملون بأن الإنسان يمكنه ـ في المستقبل ومع ظهور أساليب علمية جديدة ـ أن يعيش عدّة أضعاف عمره الطبيعي.

هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر.

ثانيا : أمّا فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل ، فنقول : إنّ نوم أصحاب الكهف لو كان عاديا وطبيعيا فنستطيع عندها أن نقبل بالإشكالات والاعتراضات السابقة. أمّا من الوجهة العلمية فإنّ الأصول العلمية تقول : إنّ حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائيه أثناء النوم أقل من حاجته إليها اليقظة ، إلّا أنّ الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدّخر ما يلزمه من طاقة غذائية لنوم طويل كنوم أصحاب الكهف.

وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ هناك أنواعا من النوم في عالم الطبيعة تكون فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية ، كما في حالة السبات مثلا.

حالة السبات :

هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمّى نومها علميا بـ «السبات».

في هذا النوع من النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريبا ، وتكون بأضعف حالة.

٢٤٨

فالقلب يتوقف عن العمل تقريبا ، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية بحيث لا يمكن الإحساس بها أبدا.

في هذه الحالات يمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد انطفائه سوى شعلة أو شمعة صغيرة دائبة الإشتغال. وواضح أنّ الطاقة التي تحتاجها هذه الأفران (من النفط أو غير) للاشتعال الطبيعي يعادل ما تحتاجه الشمعة الصغيرة من طاقة للاشتعال ، لعشرات أو مئات السنين. (يمكن أن نطبّق المثال على ما نحن فيه فتكون حالة اشتعال الفرن الطبيعي في شبيهة بحالة اليقظة ، أمّا حاله اشتعال الفرن على الشعلة الصغيرة فقط فهي شبيهة بحالة السبات والنوم الطويل).

من جهة أخرى يقول العلماء عن سبات بعض الأحياء : إنّنا إذا أخرجنا إحدى الزواحف وهي في حالة سبات ، فسوف نراها وكأنّها ميتة ، فلا هواء في رئتيها ، وضربات القلب ضعيفة بحيث لا يمكن الإحساس بها. ومن بين الحيوانات ذات الدم البارد نستطيع أن نعدّد الفراشات والحشرات والحلزون والزحافات وكلها تقوم بحاله السبات. كما أنّ بعض الحيوانات ذات الأثدية (ذات الدم الحار) تقوم بالسبات أيضا. وفي فترة السبات تكون الفعاليات الحياتية ضعيفة للغاية ، وتقوم الحيوانات السابتة باستهلاك المواد الدهنية المخزونة بالجسم بالتدريج»(1) .

المقصود من كل هذا العرض هو أن نقول : إنّ هناك نوعا من النوم تكون الحاجة فيه إلى الطعام قليلة جدّا ، وقد تصل النشاطات الحياتية في مثل هذه الحالة إلى درجة الصفر.

وبالمناسبة ، نذكر هنا أنّ هذا الأمر يساعد في منع تلاشي أعضاء الجسم أو تضرّر الأجهزة الجسمية ، ويعين ـ أيضا ـ على طول عمر الكائن الحي.

__________________

(1) اقتباس عن دائرة المعارف الفارسية الجديدة ، مادة (سبات).

٢٤٩

إنّ السبات بالنسبة للحيوانات التي لا تستطيع الحصول على غذائها فرصة ثمينة للغاية لكي تديم حياتها عن هذا الطريق.

نموذج آخر : دفن المرتاضين

فيما يخص المرتاضين يشاهد أنّ بعضهم يتمّ وضعه بالتابوت ويدفن أحيانا تحت التراب لمدّة أسبوع ، وذلك أمام عيون المشاهدين الحيارى التي لا تكاد تصدّق ما ترى ، وبعد أن تنتهي المدّة المقرّرة يتمّ إخراجه ويجري له التدليك والتنفس الاصطناعي حتى يعود إلى حالته الطبيعية.

وحتى لو افترضنا أن حاجة أجسادهم إلى الطعام غير ملحّة ، فإنّ الحاجة إلى الأوكسجين حاجة مهمّة للغاية ولا يمكن للجسم التخلّي عنها ، إذا نعرف هنا أنّ حساسية الخلايا المخية للاوكسجين وحاجتها إليه كبيرة للغاية ، بحيث إذا حرمت منها لبضعة دقائق فإنّها ستتلف.

والآن يتساءل : كيف يتحمّل الشخص المرتاض قلّة الأوكسجين مثلا لمدّة قد تصل إلى حدود الأسبوع؟

الجواب على هذا السؤال ـ ومع مراعاة ما ذكرناه قبل قليل ـ ليس بالأمر الصعب ، ففي هذه المدّة تتوقف (تقريبا) الفعاليات الحياتية لجسم المرتاض ، لذا فإنّ حاجة الخلايا للأوكسجين واستهلاكها لها ستقل بشدّة ، بحيث أنّ الهواء الموجود في فضاء التابوت يكفي في هذه المدّة لتغذية الخلايا.

تجميد جسم الإنسان وهو حي :

اليوم ثمّة نظريات كثيرة حول تجميد جسم الأحياء بما فيهم الإنسان (لزيادة العمر) وقد تمّ تنفيذ قسم من هذه النظريات في الوقت الحاضر.

طبقا لهذه النظريات ، فإنّه عند وضع جسم الإنسان أو أي حيوان في درجة

٢٥٠

حرارة تحت الصفر ـ بأسلوب خاص ـ فإنّ حياته ستتوقف بدون أن يموت. وبعد مدّة معينة يوضع الكائن في درجة حرارية معينة حيث يرجع إلى الحالة العادية.

وقد تمّ اقتراح مجموعة حالات من هذه الحالة للإفادة منها في الرحلات الفضائية إلى الكواكب البعيدة التي يستغرق الوصول إليها مئات أو آلاف السنين ، حيث يتمّ تجميد أجسام روّاد الفضاء في محفظة خاصّة ، وبعد سنين طويلة ، وعند الاقتراب من الكواكب المعنية ترجع الحرارة العادية إلى تلك المحفظة بشكل أوتوماتيكي ، وعندها سيعود هؤلاء الروّاد إلى حالتهم العادية دون أن يحدث أي ضرر لهم.

ذكرت إحدى المجلات العلمية أنّ كتابا صدر مؤخرا حول تجميد جسم الإنسان بهدف إطالة عمره بقلم «روبرت نيلسون» وكان لهذا الكتاب صدى واسعا في عالم المعرفة. ففي المقالة التي نشرتها تلك المجلة في هذا المجال ، ذكر الكاتب أنّه تمّ أخيرا إضافة فرع علمي جديد إلى الفروع العلمية الأخرى ، يتكفل التخصص في هذا المجال.

ونقرأ في تلك المقالة أيضا : «لقد كانت الحياة الأبدية ـ على طول التأريخ ـ حلما من الأحلام الذهبية والقديمة للإنسان ، وفي الوقت الحاضر فقد تحقق هذا الحلم ، والسبب يعود إلى التقدّم العجيب لعلم حديث يسمّى (كريونيك) وهو علم يرسل الإنسان إلى عوالم الانجماد ، ويحفظه على شكل جسد منجمد على أمل أن يستطيع العلماء إعادته يوما إلى الحياة مرّة أخرى.

هل يمكن تصديق هذا الكلام؟ هناك العديد من العلماء البارزين الذين يقومون بالتفكير في هذا الأمر من جوانبه المختلفة. وهناك نشريات كثيرة تقوم ببحث هذا الموضوع مثل (لايف) و (اسكواير) والصحف العالمية في مختلف أنحاء العالم. والأهم من ذلك أنّ هناك برنامج في هذا المجال هو قيد التنفيذ في

٢٥١

الوقت الحاضر(1) .

لقد أعلنت الصحف قبل مدّة عن اكتشاف سمكّة منجمدة بين ثلوج القطب الشمالي يعود عمرها إلى آلاف السنين ، كما تبيّن ذلك من طبقات الثلج القشرية ، وبعد أن وضعت السمكّة في ماء معتدل عادت إلى حياتها الطبيعية وبدأت بالحركة وسط دهشة الجميع.

ويتّضح من ذلك أنّ الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات الانجماد ، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئا للغاية.

ومن مجموع هذه الأحاديث يتبيّن أنّه بالإمكان إيقاف الحياة أو تعويق حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريبا ، وبذا يكفيه المخزون القليل المدّخر في الجسم لإدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.

ويجب أن لا يفسّر كلامنا هذا بأنّنا نستهدف انكار الجانب الإعجازي في نوم أصحاب الكهف ، بل نريد أن نقرّب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من المحتم أنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا كمنامنا في الليل ، لقد كان نومهم ذا جنبة استثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدّة الطويلة (بإرادة الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام ، ومن دون أن تتضرّر أجسامهم وأجهزتهم الحيويه.

والطريف في الأمر أنّنا نستفيد من آيات سورة الكهف أنّ طبيعة نومهم كانت تختلف عن النوم العادي :( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) (2) . إنّ هذه الآية تدل على أن نومهم لم

__________________

(1) مجلة «دانشمند» ، عدد 47 ، ص 4.

(2) الكهف ، 18.

٢٥٢

يكن نوما عاديا ، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).

إضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أنّ نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم ، ولأنّه من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى ، وفي منطقة باردة ، فإنّ ذلك يعدّ مؤشرا على الحالة الاستثنائية لنومهم ، ومن جانب آخر فإنّ القرآن يقول :( وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ ) (1) .

ومن الآية يتبيّن أنّهم لم يكونوا على حالة واحدة ، وأنّ هناك عوامل وقوى غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة مرّة واحدة) حتى لا تتضرّر أجسامهم.

والآن وبعد أن اتّضحت الجوانب العلمية في هذا البحث ، فإنّ المعاد لم يعد يحتاج إلى كلام كثير ، لأنّ اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت وتقرّب إلى الأذهان قضية المعاد(2)

* * *

__________________

(1) الكهف ، 18.

(2) لتفاصيل أكثر يراجع كتاب : المعاد والحياة بعد الموت.

٢٥٣

الآيات

( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) )

٢٥٤

سبب النّزول

يروي المفسّرون في سبب نزول الآيات الأولى في هذا المقطع من سورة الكهف المباركة( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) أنّ مجموعة من أشراف قريش ومن المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا رسول الله ، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم جباب الصوف)(1) جلسنا نحن إليك ، وأخذنا عنك ، لأنّه لا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء.

لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين والفقراء من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمثال سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب وعمّار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم ، إذ كان هؤلاء ممن التفّ حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممن قربه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه.

لذلك اشترط الأشراف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.

وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ ) فلمّا نزلت الآية قام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللهعزوجل ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي. معكم المحيا ومعكم الممات».

التّفسير

الحفاة الأطهار!

من الدروس التي نستفيدها من قصّة أصحاب الكهف أنّ مقياس قيمة البشر

__________________

(1) هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذر وغيره.

٢٥٥

ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة ، بل عند ما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي ، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الأمر:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) إنّ استخدام تعبير( اصْبِرْ نَفْسَكَ ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تعرّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يبعد عنه مجموع المؤمنين الفقراء ، لذلك جاءه الأمر الإلهي بالصبر والاستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إنّ استخدام تعبير( بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ ) إشارة إلى أنّهم كانوا دائما وأبدا يذكرون الله.

أمّا استخدام مصطلح( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (1) فهو دليل على إخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعا بالجنة (بالرغم من نعمها الكبيرة والثمينة) ولا خوفا من الجحيم وعذابه (بالرغم من شدّة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته المنزّهة ، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإيمان بالله تعالى.

ثمّ تستمر الآيات مؤكّدة خطابها للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (2) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثمّ من أجل التأكيد مجددا يقول تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) .

( وَاتَّبَعَ هَواهُ ) والمطيع لاهوائه النّفسية ، والمفرط في أفعاله دائما( وَكانَ

__________________

(1) فيما يخص معنى (وجه) وأنها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحيانا بمعنى (وجه الإنسان) وفي سبب انتخاب ذلك في هذه الموارد فيما يخص كل ذلك يمكن مراجعة ما كتبناه مفصلا لدى تفسير الآية (272) من سورة البقرة في تفسيرنا هذا.

(2) (لا تعد) مأخوذة من كلمة «عدا يعدو و...» وهي بمعنى تجاوز الشيء وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك عنهم كي تنظر إلى الآخرين).

٢٥٦

أَمْرُهُ فُرُطاً ) (1) .

الطريف هنا أنّ القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما من حيث الصفات، وكان الأمر كما يلي :

مؤمنون حقيقيون إلّا أنّهم فقراء ، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله ، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.

الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله ، والذين لا يتبعون سوى هواهم ، وخارجون عن حدّ الاعتدال في كل أمورهم ويفرطون ويسرفون.

إنّ الموضوع ـ أعلاه ـ من الأهمية بمكان ، بحيث أنّ القرآن يقول للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بصراحة ـ في الآية التي بعدها :( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .

ولكن اعلموا أنّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصّة ، والذين يعيشون حياة مرفهة باذخة ومليئة بالزينة ، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب :( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ) .

نعم ، إنّهم كانوا اعطشوا في هذه الدّنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات ، ولكنّهم عند ما يطلبون الماء في جهنّم يؤتي إليهم بماء كالمهل :( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) (2) .

( بِئْسَ الشَّرابُ ) .

ثمّ( وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ) (3) .

__________________

(1) «فرط» تعني التجاوز عن الحد ، وكل شيء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يقال له (فرط).

(2) «مهل» على وزن «قفل» وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات : هي المقدار المترسب من الدهن والذي يكون عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم ، إلّا أنّ بعضا آخر من المفسّرين يقولون بأنّها تعني أي معدن مذاب.

والظاهر أنّ تعبير (يشوي الوجوه) يرجّح المعنى الثّاني.

(3) «مرتفق» من كلمة «رفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

٢٥٧

تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إذا اقترب من الوجه فإنّ حرارته ستشوي الوجه؟إن ذلك بسبب أنّهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المنعشة والباردة ، في حين أنّهم أجّجوا في قلوب المحرومين نيرانا ، إنّ هذه النار هي نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.

والطريف في أمر هؤلاء أنّ القرآن ذكر لهم بعض «التشريفات» وهم في جهنّم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليس فيها نصيب للفقراء ، وهذه السرادق ستتحوّل إلى خيام عظيمة من لهيب نار جهنّم!

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرّد مناداة الساقي ، وفي جهنّم يوجد أيضا ساق وأشربة ، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إنّه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم ، إنّ كل ما هو موجود هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).

وبما أنّ أسلوب القرآن أسلوب تربوي وتطبيقي ، فإنّه بعد ما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا ، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مختصر ، ثمّ بشكل تفصيلي نوعا ما.

ففي البدء قال تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) أي إنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة ، كلية أو جزئية ، ومن أي شخص وفي أي عمر كان :

( أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) (الجنات الخالدة).

( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) (من تحت الأشجار والقصور).

( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) (1) .

__________________

(1) «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في

٢٥٨

( وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) (من حرير ناعم وسميك).

( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ) (1) .

( نِعْمَ الثَّوابُ ) .

( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (وحسنت مجمعا للأحبّة).

* * *

بحوث

1 ـ الرّوح الطبقية مشكلة اجتماعية كبيرة

ليست الآيات الآنفة الذكر ـ وحدها ـ تحارب تقسيم المجتمع إلى مجموعتين من الأغنياء والفقراء ، بل إنّنا نجد الكثير من الآيات القرآنية الأخرى ، ممّا ذكرنا سابقا أو سنذكرها لاحقا ، تؤكّد جمعها على هذا الموضوع.

إنّ المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مرفهة وغارقة في الإسراف والتبذير وملوّثة بأنواع المفاسد ، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة أخرى ، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإنسانية. ومثل هذا المجتمع يرفضه الإسلام وليس مجتمعا إنسانيا.

مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الاستقرار أبدا ، وسوف يلقي الاستعمار والاستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالبا ما تقوم الحروب الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الاضطرابات فيها أبدا.

ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تكدّس النعم الإلهية بيد حفنة معدودة من الناس وبدون سبب ، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب

__________________

الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عرّبت واشتقت منها الأفعال العربية.

(1) «أرائك» جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعا مغطاة ، وهي في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة من (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون منها مظلّة ؛ أو من (أروك) بمعنى الإقامة والتوّقف.

٢٥٩

والمرض؟

إنّ مثل هذا المجتمع يكون مملوءا ـ حتما ـ بالكراهية والحسد والكبر والعداء والغرور والظلم والتكّبر ، وكل عوامل الفساد الأخرى.

ولو دققنا النظر في تأريخ النّبوات لرأينا أنّ الأنبياءعليهم‌السلام بأجمعهم ، وخصوصا رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه من الأغنياء الظالمين من أجل تأمين عوامل الاستقرار داخل المجتمع.

في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين منفصلة عن مجالس الفقراء ، وأماكنهم ، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثمّ إنّ العادات والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماما.

إنّ هذا الانفصال المجافي للروح الإنسانية ، وروح كل القوانين السماوية ، لن يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكما بشدّة في المجتمع العربي الجاهلي ، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء من أمثال سلمان وأبو ذر حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإيمان وبصفات الشهامة والإيثار.

في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النّبي المصلح نوحعليه‌السلام ، قال المترفون من الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحاعليه‌السلام : لماذا اتبعك الذين هم أراذلنا (على حدّ قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (27) من سورة هود في قوله تعالى :( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) .

وهكذا نرى أنّ عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس ـ حتى للحظات ـ قرب الفقراء المؤمنين!

ولاحظنا ـ أيضا ـ كيف أن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرده للمجموعة الأولى

٢٦٠

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكّل مجتمعا توحيديا بمعنى الكلمة ، مجتمعا تفجّرت فيه الطاقات الكامنة ، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا سليما أبدا.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة :

لقد قلنا مرارا : إنّ تجسّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم ، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة ، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية ، وكانوا سكارى بهواهم ، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء ، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضا (سرادق) ولكنّها من النار الحارقة ، لأنّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هناك يشربون من شراب يجسّد باطن شراب الدنيا ، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين ، ومثل هذا الشراب يقدّم للظالمين في ذلك العالم ، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب ، بل يكون كالمعدن

٢٦١

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدّة حرارته.

وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أصول العدالة ، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة ، وتحمّلوا كل الصعوبات والمنغصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة هؤلاء تنتظرهم هناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية ، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة ، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإنسانية تخضع إمّا لله تعالى أو للأهواء ، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين ، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله ، عبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية ؛ وأخيرا فإنّ عبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنّ الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكّر إلّا في إشباع شهواته ، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإيثار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.

وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإثنين بشكل جلي في قوله تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى ، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى) ، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟

قد يكون السبب أنّ الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما ، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات ، لا يكفيه نفس

٢٦٢

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة ، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج ، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهّز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار ، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا ، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال : لقد ذمّ الله تعالى الزينة والتزيّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة ، إلّا أنّه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم ، إذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسّرون الآيات على هذا الأساس ، لقد تعلمنا من القرآن الكريم أنّ المعاد ذو جانبين : معاد روحاني ومعاد جسماني.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين ، واللذات الروحية ـ طبعا ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّنا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة ، ونسمع كلاما يشير إليها.

لماذا؟ لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأم ، فإذا قدّر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين ، فلا يسعها إلّا أن توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير ، والعيون الفوّارة ، والبساتين والورود وما شابهها ، حيث لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإنّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

٢٦٣

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول : إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة والانقطاع عن الله.

إنّ الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات ، فإنّ الحصول على هذه الزينة لا يسبّب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان ، ولا للحقد والنفرة ، ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله ، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإذا كان الحال كذلك فلما ذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الاقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة ، هو أنّه يجب علينا أن لا نمتنع عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مرّفهة ، بل إنّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية ، ونصبح مصداقا لقوله تعالى :( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أمّا إذا كان الهدف هو الهداية والإرشاد ، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات الإيجابية والمهمّة اجتماعيا ، فانّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب ، بل هو واجب.

* * *

٢٦٤

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) )

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتعاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين ، ثمّ عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأخرى.

الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين

٢٦٥

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين ، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) .

البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء :( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) .

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سر الحياة ، وأمرا مهمّا لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف :( وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) .

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار :( وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ) .

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث التفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه :( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

بناء على هذا فأنا أملك قوّة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة ، وأنا أملك ـ أيضا ـ نفوذا وموقعا اجتماعيا ، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فما ذا تستطيع أن تقول ، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجيا ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي أمور أبديّة ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

٢٦٦

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفا ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

٢٦٧

الآيات

( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) )

التّفسير

جواب المؤمن :

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان ، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود ، حتى ينتهي من كلامه ، ثمّ قال له :( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

٢٦٨

يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

وهنا قد يثار هذا السؤال ، وهو : إنّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرّ ذكره في الآيات الآنفة ، لم يصرّح فيه بإنكار الحق جلّ وعلا ، في حين أنّ جواب الإنسان المؤمن ركزّ فيه أوّلا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنّه وجّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب ، حيث امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض ، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات ، والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان ، وانعقدت نطفته من هذه المواد ، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحوّلت إلى إنسان كامل ، الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض ، فهو يفكّر ويصمّم ويسخّر كلّ شيء لأجله.

نعم ، إنّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوّل إلى هذا الموجود العجيب ، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه ، وهذا من الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسّرون تفاسير معتدّدة نجملها فيما يلي :

1 ـ قالت مجموعة منهم : بما أنّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكك فيه ، فإنّه يلزم من ذلك إنكار الخالق ، لأنّ منكر المعاد الجسماني ينكر في الواقع قدرة الله ، ولا يصدّق بأنّ هذا التراب المتلاشي سوف تعود له الحياة مرّة أخرى ، لذا فإنّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ بإشارته للمراحل الأخرى ـ أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنّ قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

٢٦٩

2 ـ وقال آخرون : إنّ شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الاحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن ، لذا نرى في الآية التي بعدها أنّ الرجل المؤمن قال لصاحب البستان ما مضمونه : إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك أبدا.

على أي حال ، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة ، ويمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن الموحّد إشارة الى هذه الاحتمالات جميعا.

ثمّ عمد الرجل الموحّد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال :( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ) (1) . وإنّي أفتخر بهذا الإعتقاد وأتباهى به ، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا ؛ إلّا أنّني أفتخر بأنّ الله ربّي ، إنّه خالقي ورازقي؛إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي :( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) .

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل المصيرية ، جدّد لومه لصاحبه قائلا :( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) (2) .

فلما ذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جلّ وعلا ، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل :( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) .

فإذا كنت قد هيّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار ، وفعلت كلّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه ؛

__________________

(1) كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

(2) جمله( ما شاءَ اللهُ ) لها محذوف إذ تكون مع التقدير : ما شاء الله كان ، أو : ما شاء الله ، فإنّ هذا هو الشيء الذي يريده الله.

٢٧٠

فإنّ كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك ، حيث أنّك لا تملك شيئا من عندك ، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له : ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا :( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ) .

( فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) .

وليس فقط أن يعطيني أفضل ممّا عندك ، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء :( وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) .

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء :( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) .

«حسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب» ، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها ، وتأتي أيضا بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص ، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنّ قدم الإنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة ، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية ، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار ، أو ـ كما يصطلح عليه ـ إخراجها من حال الزلق والانزلاق).

في الواقع ، إنّ الرجل المؤمن والموحّد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم ، لأنّها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.

٢٧١

إنّه أراد أن يقول لصاحبه : لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنّ الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلّا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفّف العيون ، بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول : لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة ؛ فلما ذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

٢٧٢

الآيات

( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) )

التّفسير

العاقبة السوداء :

أخيرا انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحّد المؤمن في أعماق الغني المغرور ، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية ، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء ، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا ، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عند ما خيّم الظلام ، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هو جاء مخيفة ، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّا كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

٢٧٣

والزرع المثمر ، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب :( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) .

«أحيط» مشتقّة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان ، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش ، بحيث أنّ فمه بقي مفتوحا من شدة التعجّب ، وعيناه توقفتا عن الحركة والاستدارة.

لم يكن يعلم بأنّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب ، النباتات مدمّرة ، وليس ثمّة أي أثر للحياة هناك!

كان الأمر بشكل وكأنّه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة ، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب ، قلبه بدأ ينبض بقوّة ، بهت لونه ، يبس الماء في فمه ، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنّه صحا من نوم عميق :( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة :( وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) .

والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والابتلاءات :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر ، فإنّ مصيره :( وَما كانَ مُنْتَصِراً ) .

لقد انهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور ، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء ، فهو من جانب كان يقول : إنّي لا أصدق بأنّ هذه الثروة العظيمة

٢٧٤

من الممكن أن تفنى ، إلّا أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول : إنّني أقوى منك وأكثر أنصارا ومالا ، ولكنّه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومن جانب ثالث فإنّه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية ، ويعتقد بأنّ غير قدرته محدودة ، لكنّه بعد هذه الحادثة ، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء ، انتبه إلى خطئه الكبير ، لأنّه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك الخسارة الكبرى.

وعادة ، فإنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى ، وقد يفكّر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في الأيّام الصعبة ، ولكن عند ما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلّان من حوله ، لأنّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي ، بل كانت لأسباب مادية ، فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم ، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود ، وهي بلا قيمة ، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

صحيح أنّه ذكر عبارة( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) وهي نفس الجملة التي كان قد قالها له صديقه المؤمن ، إلّا أنّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء ، بينما ردّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ ) نعم ، لقد اتضح أنّ جميع النعم منه تعالى ، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته ، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل :( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) .

إذن ، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شيء ما ، أو يأمل بهديه من

٢٧٥

شخص ما ، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره ، وموقع آماله ، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة ، وقد عرفنا أنّ هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعند ما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو الوجاهة الاجتماعية ، فإنّهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق ، ويرون من التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

إنّ ظنّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد ، فيكون لسان حالهم :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .

والأنكى من ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي ، فيقولون :( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا ، مع فوارق نسبية فيما بينهم ، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما

٢٧٦

لديهم من قوة وقدرة ، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإنكار المعاد ، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنما دون سواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذكر هنا بشكل سريع يتضمّن بالإضافة إلى الدرس الآنف ، دروسا أخرى ينبغي أن نتعلمها ، وهذه الدروس هي :

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة ، فإنّها غير مطمئنة وغير ثابتة ، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة من عمر الإنسان ، وتحيلها إلى تل من تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إنّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة ، بالشكل الذي لا يمكن معه ترميمها أبدا.

ب : إنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر من الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنه في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونه وحيدا لهمومه :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

هذا النوع من الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا له نماذج تبرهن على أنّ الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده ، وأنّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية ، إذ يستمر ودّ هؤلاء في حال الفقر والثروة ، في الشباب والشيبة ، في الصحة والمرض ، في العز والذلة ، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج : لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء :

لقد أشرنا مرارا إلىّ أنّ اليقظة الإجبارية لدى الإنسان ليست دليلا على يقظة

٢٧٧

داخلية حقيقية هادية ، وليست علامة على تغيير مسير الإنسان ، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها من معصية وانحراف ، بل كل ما في الأمر هو أنّ الإنسان عند ما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة ، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف ، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قرارا بتغيير مصيره ، ولكن لأنّه لا يملك أساسا متينا في أعماقه ، فإنّه بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) من سورة النساء لرأينا من خلالها أنّ أبواب التوبة تغلق أمام الإنسان عند رؤية علائم الموت ، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) من سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عند ما صار مصيره إلى الغرق وعصفت به الأمواج ، فإذا به يصرخ ويقول :( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) إلّا أنّ هذه التوبة ترد عليه ولا تقبل منه :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ) !

د : لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة :

وهذا درس آخر نتعلمه من الآيات أعلاه ، طبيعي أنّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالبا ما تتوهم بأنّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة ، لهذا السبب لاحظنا أنّ مشركي العصر الجاهلي يعجبون من يتمّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقره ويقولون :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) .

ه : أسلوب تحطيم الغرور :

عند ما تبدأ بواعث الغرور تقترب من الإنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة من جذورها ، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كان فيه ترابا لا قيمة له ، وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها ، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليدا ضعيفا لا يقدر على الحركة.

__________________

(1) الزخرف ، 31.

٢٧٨

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد من خلال خطاب الرجل المؤمن ، صاحب البستان إلى وضعه العادي :( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

و: درس من عالم الطبيعة :

القرآن عند ما يصف البساتين المثمرة يقول :( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) ولكنّه عند ما يتحدث عن صاحب البستان يقول :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

يعني : أيّها الإنسان ، أنظر إلى الوجود من حولك ، ولا حظ أنّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك ، فلا مجال عندها للاحتكار والحسد والبخل ، فعالم الوجود هو ساحة للإيثار والبذل والعفو ، فما تمتلكه الأرض تقدمه بإيثار إلى الحيوانات والنباتات ، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إختيار الإنسان والأحياء الأخرى ، وقرص الشمس يضعف يوما بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة ، الغيوم تمطر والرياح تهب ، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود ، ولكنّك أيّها الإنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

٢٧٩

الآيتان

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) )

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن عدم دوام نعم الدنيا ، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ 80) سنة يعتبر أمرا صعبا بالنسبة للأفراد العاديين ، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عند ما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء ، وتعيد الحياة للبذور

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

( أحكام المزارعة )

( مسألة ٨١٤ ) : المزارعة هي ( الاتفاق بين مالك الأرض او من له حق التصرف فيها وبين الزارع على زرع الارض بحصة من حاصلها ).

( مسألة ٨١٥ ) : يعتبر في المزارعة أمور :

(١) الايجاب من المالك والقبول من الزارع بكل ما يدل عليهما من لفظ : كأن يقول المالك للزارع ( سلمت اليك الأرض لتزرعها ) فيقول الزارع ( قبلت ) ، أو فعلٍ دالٍ على تسليم الأرض للزارع وقبوله لها.

(٢) أن يكونا بالغين عاقلين مختارين غير محجورين ، نعم يجوز أن يكون الزارع محجوراً عليه لفلس إذا لم تقتض المزارعة تصرفه في امواله التي حجر عليها.

(٣) أن يجعل لكل واحد منهما نصيب من الحاصل وان يكون محدداً بالكسور كالنصف والثلث ، فلو لم يجعل لأحدهما نصيب أصلاً ، أو عيّن له مقدار معين كطن مثلاً ، أو جعل نصيبه ما يحصد في الأيام العشرة الأولى من الحصاد والبقية للآخر لم تصح المزارعة ، نعم لا بأس أن يشترط اختصاص أحدهما بنوع ـ كالذي يحصد أولاً ـ والآخر بنوع آخر ، فلو قال المالك ( ازرع ولك النصف الأوّل من الحاصل ، أو النصف الحاصل من القطعة الكذائية ) صحت المزارعة.

(٤) تعيين المدة بمقدار يدرك الزرع فيه عادة ، ولو عينا اول المدة وجعلا آخرها إدراك الحاصل كفى.

(٥) أن تكون الارض قابلة للزرع ولو بالعلاج والاصلاح.

(٦) تعيين المزروع من حيث نوعه ، وانه حنطة أو شعير أو رز أو غيرها ، وكذا تعيين صنفه إذا كان للنوع صنفان فاكثر تختلف فيها الأغراض ،

٣٢١

ويكفي في التعيين الانصراف المغني عن التصريح ـ لتعارف أو غيره ـ ولو صرحا بالتعميم صح ويكون للزارع حق اختيار أي نوع أو صنف شاء.

(٧) تعيين الارض فيما إذا كانت للمالك قطعات مختلفة في مستلزمات الزراعة وسائر شؤونها ، واما مع التساوي فلا يلزم التعيين.

(٨) تعيين ما عليهما من المصارف إذا لم يتعين مصرف كل منهما بالتعارف خارجاً.

( مسألة ٨١٦ ) : لو اتفق المالك مع الزارع على أن يكون مقدار من الحاصل لأحدهما ، ويقسم الباقي بينهما بنسبة معينة بطلت المزارعة وان علما ببقاء شيء من الحاصل بعد استثناء ذلك المقدار ، نعم يجوز الاتفاق على إستثناء مقدار الخراج ( الضريبة ) وكذا مقدار البذر لمن كان منه.

( مسألة ٨١٧ ) : إذا حددا للمزارعة امداً معيناً يدرك الزرع خلاله عادة ، فانقضى ولم يدرك ، فان لم يكن للتحديد المتفق عليه بينهما اطلاق يشمل صورة عدم ادراك الزرع على خلاف العادة الزم المالك ببقاء الزرع في الأرض الى حين الادراك ، وان كان له اطلاق من هذا القبيل فمع تراضي المالك والزارع على بقاء الزرع ـ بعوض أو مجاناً ـ لا مانع منه ، وان لم يرض المالك به فله أن يجبر الزارع على ازالته وان تضرر الزارع بذلك ، وليس له إجبار المالك على بقاء الزرع ولو باجرة.

( مسألة ٨١٨ ) : اذا ترك الزارع الارض بعد عقد المزارعة فلم يزرع حتى انقضت المدة فان كانت الارض في تصرفه ضمن اجرة مثلها للمالك ، وان لم تكن في تصرفه بل في تصرف المالك فلا ضمان عليه الا مع جهل المالك بالحال ، هذا اذا لم يكن ترك الزرع لعذر عام كانقطاع الماء عن الأرض والا كشف ذلك عن بطلان المزارعة.

( مسألة ٨١٩ ) : عقد المزارعة من العقود اللازمة ولا ينفسخ الا برضا الطرفين ، نعم لو اشترط في ضمن العقد استحقاق المالك أو الزارع أو

٣٢٢

كليهما للفسخ جاز الفسخ حسب الشرط ، وكذا لو خولف بعض الشروط المأخوذة فيه من أحدهما على الآخر.

( مسألة ٨٢٠ ) : لا تنفسخ المزارعة بموت المالك أو الزارع بل يقوم الوارث مقام مورثه ، الا إذا قيدت بمباشرة الزارع للعمل فمات قبل انتهائه منه فانها تنفسخ بموته ، واذا كان العمل المستحق على الزارع كلياً مشروطاً بمباشرته لم تنفسخ المزارعة بموته ـ وان كان للمالك حق فسخها ـ كما لا تنفسخ إذا مات الزارع بعد الانتهاء مما عليه من العمل مباشرة ولو قبل ادراك الزرع ، فتكون حصته من الحاصل لوارثه ، كما ان له سائر حقوقه ، ويحق له ايضاً إجبار المالك على بقاء الزرع في ارضه حتى انتهاء مدة المزارعة.

( مسألة ٨٢١ ) : إذا ظهر بطلان المزارعة بعد الزرع ، فان كان البذر للمالك فالحاصل له ، وعليه للزارع ما صرفه ، وكذا أُجرة عمله واجرة الآلات التي استعملها في الأرض ، وان كان البذر للزارع فالزرع له وعليه للمالك أُجرة الارض وما صرفه المالك وأُجرة آلاته التي استعملت في ذلك الزرع.

( مسألة ٨٢٢ ) : إذا كان البذر للزارع فظهر بطلان المزارعة بعد الزرع فان رضي المالك والزارع على ابقاء الزرع في الارض بأجرة أو مجاناً جاز والا فالأحوط لزوماً للمالك عدم اجبار الزارع على إزالة الزرع لو اراد ابقاءه في الأرض بأجرة ، ولو اراد الزارع قلعه فليس للمالك اجباره على ابقائه ولو مجاناً.

( مسألة ٨٢٣ ) : الباقي من اصول الزرع في الارض بعد الحصاد وانقضاء المدة إذا إخضر في السنة الجديدة وادرك فحاصله لمالك البذر إن لم يشترط في المزارعة اشتراكهما في الاصول والا كان بينهما بالنسبة.

٣٢٣

( أحكام المضاربة )

( مسألة ٨٢٤ ) : المضاربة : هي ( عقد واقع بين شخصين على أن يدفع احدهما إلى الآخر مالاً ليتّجر به ويكون الربح بينهما ) ويعتبر فيها أمور :

( الأوّل ) : الإيجاب والقبول ، ويكفي فيهما كل ما يدل عليهما من لفظ أو فعل.

( الثاني ) : البلوغ والعقل والرشد والاختيار في كل من المالك والعامل ، وأما عدم الحجر من فلس فهو إنّما يعتبر في المالك دون العامل إذا لم تقتض المضاربة تصرفه في أمواله التي حجر عليها.

( الثالث ) : تعيين حصة كل منهما بالكسور من نصف أو ثلث أو نحو ذلك ـ الاّ أن يكون هناك تعارف خارجي ينصرف إليه الإطلاق ـ ولا يجوز تعيين حصة أي منهما بغير ذلك ، كأن تعين حصة المالك بمائة دينار في كل شهر ، نعم يجوز بعد ظهور الربح ان يصالح أحدهما الآخر عن حصته منه بمبلغ محدد.

( الرابع ) : أن يكون الربح بينهما فلو شرط مقدار منه لأجنبي لم تصح المضاربة الاّ إذا اشترط عليه عمل متعلق بالتجارة.

( الخامس ) : ان يكون العامل قادراً على التجارة فيما كان المقصود مباشرته للعمل ، فإذا كان عاجزاً عنه لم تصح.

هذا إذا أخذت المباشرة قيداً ، وأما إذا كانت شرطاً لم تبطل المضاربة ولكن يثبت للمالك الخيار عند تخلف الشرط.

وأما إذا لم يكن لا هذا ولا ذالك وكان العامل عاجزاً من التجارة حتى بالتسبيب بطلت المضاربة ، ولا فرق في البطلان بين تحقّق العجز من الأوّل وطروه بعد حين فتنفسخ المضاربة من حين طرو العجز.

٣٢٤

( مسألة ٨٢٥ ) : العامل أمين لا ضمان عليه لو تلف المال أو تعيب تحت يده الا مع التعدي أو التفريط ، كما أنّه لا ضمان عليه من جهة الخسارة في التجارة بل هي واردة على صاحب المال ، ولو اشترط المالك على العامل ان يكون شريكاً معه في الخسارة كما يكون شريكاً معه في الربح بطل الشرط ، ولو اشترط أن يكون تمام الخسارة على ذمته صحّ الشرط ولكن يكون تمام الربح ايضا للعامل من دون مشاركة المالك فيه ، ولو اشترط عليه أن يعوضه عما تقع من الخسارة في رأس المال ـ كلاًّ أو بعضاً ـ صحّ الشرط ولزم العامل الوفاء به.

( مسألة ٨٢٦ ) : المضاربة الإذنية عقد جائز من الطرفين بمعنى أن للمالك أن يسحب إذنه في تصرف العامل في ماله متى شاء ، كما أن للعامل أن يكف عن العمل متى ما أراد سواء أكان قبل الشروع في العمل أم بعده ، وسواء كان قبل تحقّق الربح أو بعده ، وسواء كان العقد مطلقاً أو مقيداً إلى أجل خاص ، نعم لو اشترطا عدم فسخه إلى أجل معين صح الشرط ووجب العمل به ولكن مع ذلك ينفسخ بفسخ أي منهما وان كان الفاسخ آثماً.

( مسألة ٨٢٧ ) : يجوز للعامل مع اطلاق عقد المضاربة التصرف حسب ما يراه مصلحة من حيث البائع والمشتري ونوع الجنس ، نعم لا يجوز له أن يسافر به إلى بلدٍ آخر إلاّ إذا كان أمراً متعارفاً بحيث يشمله الاطلاق أو يستأذن المالك فيه بالخصوص ، ولو سافر من دون اذنه وتلف المال أو خسر ضمن.

( مسألة ٨٢٨ ) : تبطل المضاربة الاذنية بموت كل من المالك والعامل ، أما على الأوّل فلفرض انتقال المال إلى وارثه بعد موته فابقاء المال بيد العامل يحتاج إلى مضاربة جديدة ، وأما على الثاني فلفرض اختصاص الإذن به.

( مسألة ٨٢٩ ) : يجوز لكل من المالك والعامل أن يشترط على الآخر في عقد المضاربة مالاً أو عملاً كخياطة ثوب ونحوها ، ويجب الوفاء بالشرط ما دام العقد باقياً لم يفسخ سواء تحقّق ربح أم لا.

٣٢٥

( مسألة ٨٣٠ ) : ما يرد على مال المضاربة من خسارة أو تلف ـ بحريق او سرقة او غيرهما ـ يجبر بالربح ما دامت المضاربة باقية من دون فرق في ذلك بين الربح اللاحق والسابق ، فملكية العامل لحصته من الربح السابق متزلزلة كلها أو بعضها بعروض الخسران أو التلف فيما بعد ، ولا يحصل الاستقرار إلا بانتهاء أمد المضاربة أو حصول الفسخ ، نعم إذا اشترط العامل على المالك في ضمن العقد عدم كون الربح جابراً للخسران أو التلف المتقدّم على الربح أو المتأخر عنه صح الشرط وعمل به.

( مسألة ٨٣١ ) : يجوز ايقاع الجعالة على استثمار الأموال بطرقه المشروعة بجزء من الربح العائد منه ، بان يدفع مالاً إلى شخص ويقول له ( استثمر هذا المال في العمل الكذائي ـ كالتجارة ـ ولك نصف الربح ) فيكون جعالة تفيد فائدة المضاربة.

٣٢٦

( أحكام المساقاة )

( مسألة ٨٣٢ ) : المساقاة : هي ( اتفاق شخص مع آخر على رعاية أشجار ونحوها واصلاح شؤونها إلى مدة معينة بحصة من حاصلها ).

( مسألة ٨٣٣ ) : يعتبر في المساقاة أمور :

( الأوّل ) : الايجاب والقبول بكل ما يدل عليهما من لفظ أو فعل ، فيكفي دفع المالك أشجارهُ ـ مثلاً ـ للفلاح وتسلمه أيّاها بهذا القصد.

( الثاني ) : البلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر لسفه أو فلس في كل من المالك والفلاح ، نعم لا بأس بكون الفلاح محجوراً عليه لفلس إذا لم تقتض المساقاة تصرفه في أمواله التي حجر عليها.

( الثالث ) : أن تكون اصول الاشجار مملوكة عيناً ومنفعة أو منفعة فقط أو يكون تصرفه فيها نافذاً بولاية أو وكالة.

( الرابع ) : تعيين مدة العمل بمقدار تبلغ فيها الثمرة عادة ، ولو عيّن أولها وجعل آخرها إدراك الثمرة صحّت.

( الخامس ) : ان يجعل لكلٍّ منهما نصيب من الحاصل محدداً باحد الكسور كالنصف والثلث ، ولا يعتبر في الكسر أن يكون مشاعاً في جميع الحاصل كما تقدّم نظيره في المزارعة ، وان اتفقا على ان يكون طن من الثمرة للمالك والباقي للفلاح بطلت المساقاة.

( السادس ) : تعيين ما على المالك من الامور وما على الفلاح من الأعمال ، ويكفي الانصراف ـ إذا كان ـ قرينة على التعيين.

( مسألة ٨٣٤ ) : لا يعتبر في المساقاة أن يكون العقد قبل ظهور الثمرة فتصح إذا كان العقد بعده أيضاً ، إذا كان قد بقي عمل يتوقف عليه اكتمال نمو الثمرة أو كثرتها أو جودتها أو وقايتها عن الافات ونحو ذلك ، وأمّا إذا

٣٢٧

لم يبق عمل من هذا القبيل وان احتيج الى عمل من نحو آخر كإقتطاف الثمرة وحراستها أو ما يتوقف عليه تربية الاشجار ففي الصحة إشكال.

( مسألة ٨٣٥ ) : تصح المساقاة في الاصول غير الثابتة ، كالبطيخ والخيار ، كما تصح في الاشجار غير المثمرة إذا كانت لها حاصل آخر من ورد أو ورق ونحوهما مما له مالية يعتد بها عرفاً كشجر الحناء الذي يستفاد من ورقه.

( مسألة ٨٣٦ ) : تصح المساقاة في الاشجار المستغنية عن السقي بالمطر أو بمص رطوبة الارض إن احتاجت إلى أعمال اخر مما تقدّم في المسألة (٨٣٤).

( مسألة ٨٣٧ ) : عقد المساقاة لازم لا يبطل ولا ينفسخ إلاّ بالتقايل والتراضي او الفسخ ممن له الخيار ولو من جهة تخلف بعض الشروط التي جعلاها في ضمن العقد أو بعروض مانع يوجب البطلان.

( مسألة ٨٣٨ ) : لا تنفسخ المساقاة بموت المالك ، ويقوم ورثته مقامه.

( مسألة ٨٣٩ ) : إذا مات الفلاح قام وارثه مقامه ، ان لم تؤخذ المباشرة في العمل قيداً ولا شرطاً ، فان لم يقم الوارث بالعمل ولا استأجر من يقوم به فللحاكم الشرعي أن يستأجر من مال الفلاح من يقوم بالعمل ، ويقسم الحاصل بين المالك ووراث الفلاح ، وأما إذا أخذت المباشرة في العمل قيداً انفسخت المعاملة ، كما أنها إذا أخذت شرطاً كان المالك بالخيار بين فسخ المعاملة والرضا بقيام الوارث بالعمل مباشرة أو تسبيباً.

( مسألة ٨٤٠ ) : إذا اتفّق المالك والفلاح على ان يكون تمام الحاصل للمالك وحده لم يصح العقد ولم يكن مساقاة ، ومع ذلك يكون تمام الحاصل للمالك ، وليس للفلاح مطالبته بالاجرة لأنّه اقدم على العمل مجاناً ، ولو بطلت المساقاة لفقد شرط آخر وجب على المالك أن يدفع للفلاح اجرة ما عمله على النحو المتعارف.

٣٢٨

( مسألة ٨٤١ ) : تجب الزكاة على كل من المالك والعامل إذا بلغت حصة كل منهما حد النصاب فيما إذا كانت الشركة قبل زمان الوجوب وإلاّ فالزكاة على المالك فقط.

( مسألة ٨٤٢ ) : المغارسة جائزة وهي أن يدفع أرضاً إلى الغير ليغرس فيه أشجاراً على أن يكون الحاصل لهما ، سواء اشترط كون حصة من الارض أيضاً للعامل أم لا ، وسواء كانت الاصول من المالك أم من العامل ، والأحوط الأولى ترك هذه المعاملة ، ويمكن التوصل إلى نتيجتها بمعاملة لا اشكال في صحتها كايقاع الصلح بين الطرفين على النحو المذكور ، أو الاشتراك في الاصول بشرائها بالشركة ثم اجارة الغارس نفسه لغرس حصة صاحب الارض وسقيها وخدمتها في مدة معينة بنصف منفعة أرضه إلى تلك المدة أو بنصف عينها مثلاً.

٣٢٩

( أحكام الحجر )

( مسألة ٨٤٣ ) : لا ينفذ تصرف غير البالغ في ماله ولا في ذمته مستقلاً ولو كان في كمال التمييز والرشد ، ولا يجدي في الصحة إذن وليه ، ويستثنى من ذلك موارد منها : الاشياء اليسيرة التي جرت العادة بتصدي الصبي المميز لمعاملتها كما مرَّ في المسألة (٦٤٤) ، ومنها : وصيته لذوي ارحامه وفي المبرّات والخيرات العامة كما سيأتي في المسألة (١٢٩٠) ، وعلامة البلوغ في الانثى اكمال تسع سنين هلالية ، وفي الذكر احد الامور الثلاثة : (١) نبات الشعر الخشن على العانة ، وهي بين البطن والعورة. (٢) خروج المني. (٣) إكمال خمس عشرة سنة هلالية.

( مسألة ٨٤٤ ) : نبات الشعر الخشن في الخد وفي الشارب علامة للبلوغ ، وأما نباته في الصدر وتحت الابط ، وكذا غلظة الصوت ونحوها فليست امارة عليه.

( مسألة ٨٤٥ ) : لا ينفذ تصرف المجنون ولو كان ادوارياً حال جنونه في ماله ولا في ذمته ، وكذا لا ينفذ تصرف السفيه في ماله أو ذمته إلا باذن وليه أو إجازته ، وهكذا المفلس إذا حجر عليه الحاكم لم تنفذ تصرفاته في امواله التي حجر عليها إلاّ باذن غرمائه أو اجازتهم.

( مسألة ٨٤٦ ) : الولاية في مال الطفل وكذلك في المجنون والسفيه إذا بلغا كذلك للاب والجد له ، فان فقدا فللقيم من قبل احدهما ، فان فقد أيضاً فالولاية للحاكم الشرعي ، وأما السفيه والمجنون اللذان عرض عليهما السفه والجنون بعد البلوغ ففي كون الولاية عليهما للجد والاب أيضاً أو للحاكم خاصة اشكال ، فالأحوط وجوباً توافقهما معاً ، وأما المفلس فللحاكم الولاية عليه في بيع أمواله التي حجر عليها لتسديد ديونه ان هو أبى من بيعها.

٣٣٠

( مسألة ٨٤٧ ) : يجوز للمالك صرف ماله في مرض موته في الانفاق على نفسه ومن يعوله والصرف على ضيوفه وفي حفظ شأنه واعتباره والتصدق لأجل عافيته وشفائه وغير ذلك مما يليق به ولا يعد سرفاً وتبذيراً ، وكذا يجوز له بيع ماله بالقيمة المتعارفة واجارتها كذلك ، وأما تصرفه في ماله بمثل الهبة والوقف والابراء والصلح بلا عوض ونحوها من التصرفات التبرعية ، وكذا بيع ماله واجارته بالأقل من المتعارف فحكمه حكم وصاياه في نفوذه بمقدار الثلث فما دونه ، وأما بالنسبة إلى الأكثر منه فلا يصح الا مع اجازة ورثته ، ويقتصر في المرض الذي يطول بصاحبه فترة طويلة على أواخره القريبة من الموت فالتصرفات التبرعية الصادرة قبل ذلك نافذة من الاصل.

٣٣١

( أحكام الوكالة )

( مسألة ٨٤٨ ) : الوكالة هي : ( تسليط الشخص غيره على معاملة من عقد أو ايقاع أو ما هو من شؤونهما كالقبض والاقباض ) كأن يوكّل شخصاً في بيع داره ، أو قبض الثمن له.

( مسألة ٨٤٩ ) : لا تعتبر الصيغة في الوكالة ، بل يصح انشاؤها بكل ما دل عليها ، فلو دفع ماله إلى شخص لبيعه وقبضه الوكيل بهذا العنوان صحت الوكالة ، وهكذا لو كتب إلى شخص بأنه قد وكلّه في بيع ماله فقبل ذلك فإنّه تصح الوكالة ، وان كان الوكيل في بلد آخر وتأخر وصول الكتاب إليه.

( مسألة ٨٥٠ ) : يعتبر في الموكل والوكيل : العقل والقصد والاختيار ، ويعتبر في الموكل أيضاً البلوغ إلاّ فيما تصح مباشرته من الصبي المميز ، كما يعتبر فيه أن يكون جائز التصرف فيما وكل فيه فلا يصح توكيل المحجور عليه لسفه أو فلس فيما حجر عليهما فيه دون غيره كالطلاق ونحوه ، ويعتبر في الوكيل أيضاً كونه متمكناً عقلاً وشرعاً من مباشرة ما وكلّ فيه فالمُحرِم لا يجوز أن يتوكل في عقد النكاح لأنّه يحرم عليه اجراء العقد.

( مسألة ٨٥١ ) : يعتبر في متعلق الوكالة أن لا يكون مما يعتبر ايقاعه مباشرة كاليمين والنذر والعهد والشهادة والاقرار ، كما يعتبر أن يكون امراً سائغاً في نفسه فلا تصح الوكالة في المعاملات الفاسدة كالبيع الربوي والطلاق الفاقد للشروط الشرعية.

( مسألة ٨٥٢ ) : يصح التوكيل العام في جميع الاعمال التي ترجع إلى الموكل ولا يصح التوكيل في عمل غير معين منها ، نعم يجوز التوكيل في الجامع بين امرين أو أكثر كأن يقول : وكلتك في بيع داري أو إجارتها.

٣٣٢

( مسألة ٨٥٣ ) : تبطل الوكالة ببلوغ العزل إلى الوكيل ، والعمل الصادر منه قبل بلوغ العزل إليه بطريق معتبر شرعاً صحيح.

( مسألة ٨٥٤ ) : للوكيل ان يعزل نفسه وان كان الموكل غائباً.

( مسألة ٨٥٥ ) : ليس للوكيل أن يوكل غيره في ايقاع ما توكل فيه لا عن نفسه ولا عن الموكل ، الا أن يأذن له الموكل في ذلك ، فيوكل في حدود اذنه ، فإذا قال له : ( اختر وكيلاً عني ) فلا بد أن يوكل شخصاً عنه ، لا عن نفسه.

( مسألة ٨٥٦ ) : لا يعتبر التنجيز في الوكالة ، فيجوز تعليقها على شيء كأن يقول مثلاً ( إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي في بيع داري ).

( مسألة ٨٥٧ ) : إذا وكله في بيع سلعةٍ أو شراء متاع ولم يصرح بكون البيع أو الشراء من غيره أو مما يعم نفسه جاز للوكيل أن يبيع السلعةِ من نفسه أو يشتري المتاع من نفسه إلاّ مع انصراف الاطلاق إلى غيره.

( مسألة ٨٥٨ ) : إذا وكل شخص جماعة في عمل على أن يكون لكل منهم القيام بذلك العمل وحده جاز لكل منهم ان ينفرد به ، وان مات احدهم لم تبطل وكالة الباقين ، وان وكلهم على أن يكون لكل واحد منهم القيام بالعمل بعد موافقة الآخرين لم يجز لواحد منهم ان ينفرد به ، وان مات احدهم بطلت وكالة الباقين.

( مسألة ٨٥٩ ) : تبطل الوكالة بموت الوكيل أو الموكل وكذا بجنون احدهما أو إغمائه ان كان مطبقاً ، واما ان كان ادوارياً فبطلانها في زمان الجنون أو الاغماء ـ فضلاً عما بعده ـ محل إشكال فلا يترك مراعاة الاحتياط في مثل ذلك ، وتبطل أيضاً بتلف مورد الوكالة كالحيوان الذي وكل في بيعه.

( مسألة ٨٦٠ ) : لو جعل الموكل عوضاً للعمل الذي يقوم به الوكيل وجب دفعه إليه بعد إتيانه به.

٣٣٣

( مسألة ٨٦١ ) : إذا لم يقصر الوكيل في حفظ المال الذي دفعه الموكل إليه ولم يتصرف فيه بغير ما اجازه الموكل فيه ، فتلف اتفاقاً لم يضمنه ، وأما لو قصر في حفظه ، أو تصرف فيه بغير ما اجازه الموكل فيه وتلف ضمنه ، فلو لبس الثوب الذي وكل في بيعه وتلف حينذاك لزمه عوضه.

( مسألة ٨٦٢ ) : لو تصرف الوكيل في المال الذي دفعه الموكل إليه بغير ما اجازه لم تبطل وكالته ، فيصح منه الإتيان بما هو وكيل فيه ، فلو توكل في بيع ثوب فلبسه ثم باعه صح البيع.

٣٣٤

( أحكام القرض والدين )

( مسألة ٨٦٣ ) : القرض هو ( تمليك مال لآخر بالضمان في الذمة بمثله إن كان مثلياً وبقيمته ـ حين الاقراض ـ ان كان قيمياً ) وإقراض المؤمنين من المستحبات الاكيده ولا سيما لذوي الحاجات منهم ، واما الإقتراض فهو مكروه مع عدم الحاجة وتخف كراهته مع الحاجة ، وكلما خفّت الحاجة اشتدت الكراهة وكلما اشتدت خفَّت إلى أن تزول.

( مسألة ٨٦٤ ) : لا تعتبر الصيغة في القرض فلو دفع مالاً إلى أحد بقصد القرض واخذه ذاك بهذا القصد صح ، ويعتبر فيه القبض فلو قال ( أقرضتك هذا المال ) فقال ( قبلت ) لم يملكه إلا بعد قبضه.

( مسألة ٨٦٥ ) : يعتبر في كل من المقرض والمقترض البلوغ والعقل والقصد والاختيار والرشد ، ويعتبر في المقرض عدم الحجر لفلس ، ويعتبر في المال المقترض أن يكون عيناً فلو كان ديناً أو منفعة لم يصح القرض ، كما يعتبر أن يكون مما يصح تملكه شرعاً فلا يصح أقراض الخمر والخنزير.

( مسألة ٨٦٦ ) : لا يجوز اشتراط الزيادة في القرض سواء أكان الشرط صريحاً أم مضمراً بان وقع العقد مبنياً عليه ـ ويستثنى من ذلك موارد تقدمت في المسألة (٦٥٥) ـ ولا فرق في حرمة اشتراط الزيادة بين أن تكون عينية كما إذا أقرضه عشرة دنانير على أن يؤدي اثني عشر ديناراً ، أو تكون منفعة كخياطة ثوب ، أو انتفاعاً كالانتفاع بالعين المرهونة عنده ، أو صفة كان كأن يقرضه ذهباً غير مصوغ ويشترط عليه الوفاء بالمصوغ ، فإن ذلك كله من الربا المحرم ، نعم يستحب للمقترض دفع الزيادة بلا اشتراط بل هو مستحب وان كان يكره للمقرض أخذها.

٣٣٥

( مسألة ٨٦٧ ) : إذا اقرض مالاً وشرط على المقترض أن يبيع منه شيئاً بأقل من قيمته أو يؤاجره بأقلَّ من اجرته كان داخلاً في شرط الزيادة فيحرم ، ومثله على الأحوط لزوماً أن يشتري منه شيئاً بأقلّ من قيمته ويشترط عليه البايع أن يقرضه مبلغاً معيناً.

( مسألة ٨٦٨ ) : حرمة اشتراط الزيادة تعم المقرض والمقترض ولكن لا يبطل به القرض وأنّما يبطل الشرط فقط ، فيملك المقترض ما يأخذه قرضاً ولا يملك المقرض ما يأخذه من الزيادة فلا يجوز له التصرف فيه ، نعم إذا كان المعطي راضياً بتصرفه فيه مع علمه بأنه لا يستحقه شرعاً جاز له التصرف فيه.

( مسألة ٨٦٩ ) : إذا اقترض شيئاً من النقود أو غيرها من المثليات كان وفاؤه باعطاء مثله ، فللمقرض المطالبة به وليس للمقترض الامتناع وان ترقى سعره عما أخذه بكثير ، كما أن المقترض لو أعطاه للمقرض ليس له الامتناع عن أخذه وان تنزل سعره بكثير ، ويجوز التراضي على أداء غيره في كلتا الصورتين.

( مسألة ٨٧٠ ) : يجوز في قرض المثلي ان يشترط المقرض على المقترض أن يؤديه من غير جنسه ، بأن يؤدي مثلاً عوض الدينار دولاراً وبالعكس ، ويلزم عليه ذلك بشرط أن يكونا متساويين في القيمة عند الوفاء أو كان ما شرط عليه أقل قيمة مما اقترضه.

( مسألة ٨٧١ ) : يجوز دفع مبلغ نقدي إلى شخصٍ او بنك قرضاً ليحوله إلى شخص أو بنك آخر باقل مما دفع إليه ولا يجوز أن يكون بأكثر من ذلك لأنّه من الربا.

( مسألة ٨٧٢ ) : من أخذ الربا وكان جاهلاً بحرمته أو بكونه من الربا ثم علم بالحال فتاب حلّ له ما أخذه وعليه أن يتركه فيما بعد ، ولو ورث مالاً فيه الربا فإن كان مخلوطاً بالمال الحلال فلا شيء عليه وان كان مميزاً عنه

٣٣٦

وعرف صاحبه رده اليه وان لم يعرفه جرى عليه حكم مجهول المالك.

( مسألة ٨٧٣ ) : الدين(١) أما حاّل وهو ما ليس لادائه وقت محدد وإما مؤجل وهو بخلافه ، وإذا كان الدين مؤجلاً لم يحق للدائن أن يطالب المدين بادائه قبل حلول الاجل إلاّ إذا كان الاجل حقّاً له فقط ـ لا حقاً للمدين أو لهما معاً ـ فتجوز له في هذه الصورة المطالبة به في اي وقت اراد كما يجوز له ذلك فيما إذا لم يؤجل الدين ، وإذا أراد المدين وفاء دينه فليس للدائن الامتناع عن القبول في أي وقت كان إلاّ إذا كان الدين مؤجلاً مع كون التأجيل حقاً للدائن أو لهما معاً فإن له في هذه الصورة الامتناع عن القبول قبل حلول الاجل.

( مسألة ٨٧٤ ) : يجب على المدين أداء الدين الحال وما بحكمه فوراً عند مطالبة الدائن إن قدر عليه ولو ببيع بضاعته ومتاعه وعقاره ونحو ذلك من ممتلكاته غير دار سكناه وأثاث منزله وسائر ما يحتاج اليه بحسب حاله وشأنه مما لولاه لوقع في عسر وشدّة أو حزازة ومنقصة فإنّه لا يجب عليه بيعها لأداء الدين.

ولو توقف أداء الدين على التكسب اللائق بحال المدين وجب عليه ذلك إذا كان ممن شغله التكسب بل مطلقاً على الأحوط لزوماً.

( مسألة ٨٧٥ ) : إذا كان المدين معسراً لا يقدر على الوفاء حرم على الدائن مطالبته به بل عليه الصبر والنظرة الى الميسرة ، ويجب على المدين أن يكون من قصده الأداء عند التمكن منه.

( مسألة ٨٧٦ ) : إذا فقد المدين دائنه ويئس من الوصول إليه أو إلى ورثته في المستقبل لزمه أن يؤديه إلى الفقير صدقة عنه ، والأحوط لزوماً أن يستجيز في ذلك الحاكم الشرعي ، وأمّا إذا احتمل الوصول إليه أو الى ورثته

__________________

(١) الدين هو المملوك الكلي الثابت في ذمة شخص لآخر ومن أسبابه القرض والبيع نسيئة والسلف وغير ذلك.

٣٣٧

ولم يفقد الأمل في ذلك لزمه الانتظار والفحص عنه فإن لم يجده أوصى به عند الوفاة حتى يجيء له طالبه ، وإذا كان الدائن مفقوداً عن أهله وجب تسليم دينه إلى ورثته مع انقطاع خبره بعد مضي عشر سنين من غيبته ، بل يجوز ذلك بعد مضي اربع سنين إذا فحص عنه في هذه المدّة.

( مسألة ٨٧٧ ) : إذا مات المدين وجب اخراج الدين ـ وان كان مؤجلاً ـ من أصل تركته وإذا لم تف التركة إلاّ بمصارف كفنه ودفنه الواجبة صرفت فيها وليس للدائن ـ فضلاً عن الورثة ـ حينئذٍ شيء من التركة.

( مسألة ٨٧٨ ) : يجوز تعجيل الدين المؤجل بنقصان مع التراضي ، ولا يجوز تأجيل الدين الحال بزيادة لأنّه ربا وكذلك زيادة أجل المؤجل بزيادة لأنّه ربا.

٣٣٨

( أحكام الحوالة )

( مسألة ٨٧٩ ) : الحوالة هي ( تحويل المدين ما في ذمته من الدين إلى ذمة غيره بإحالة الدائن عليه ) فهي متقومة بأشخاص ثلاثة : ( المحيل ) وهو المديون و ( المحال ) وهو الدائن و ( المحال عليه ) وإذا تحققت الحوالة وفق شروطها الشرعية برئت ذمة المحيل ، وانتقل الدين إلى ذمة المحال عليه ، فليس للدائن مطالبة المديون الأوّل بعد ذلك.

( مسألة ٨٨٠ ) : يعتبر في الحوالة الايجاب من المحيل والقبول من المحال والمحال عليه سواء كان بريئاً أم مديناً ، ويكفي في الإيجاب والقبول كل قول وفعل دال عليهما.

( مسألة ٨٨١ ) : يعتبر في الحوالة أن يكون الدين ثابتاً في ذمة المحيل فلا تصح في غير الثابت في ذمته وان وجد سببه كمالِ الجعالة قبل العمل فضلاً عمّا إذا لم يوجد سببه كالحوالة بما سيقترضه.

( مسألة ٨٨٢ ) : يستحق المحال عليه البرئ ان يطالب المحيل بالمحال به ولو قبل ادائه ، نعم إذا كان الدين المحال به مؤجّلاً لم يكن له مطالبة المحيل به إلاّ عند حلول أجله وان كان قد أدّاه قبل ذلك ، ولو تصالح المحال مع المحال عليه على أقل من الدين لم يجز له أن يأخذ من المحيل إلاّ الأقلّ.

( مسألة ٨٨٣ ) : الحوالة عقد لازم فليس للمحيل ولا المحال عليه فسخها ، وكذلك المحال وان اُعسر المحال عليه بعدما كان مؤسراً حين الحوالة ، بل لا يجوز فسخها مع إعسار المحال عليه حين الحوالة إذا كان المحال عالماً بحاله ، نعم لو لم يعلم به ـ حينذاك ـ كان له الفسخ إلاّ إذا صار المحال عليه غنياً حين استحقاق المحال عليه للدين فان في ثبوت حق

٣٣٩

الفسخ له في هذه الصورة اشكالاً فلا يترك مراعاة مقتضى الاحتياط في ذلك.

( مسألة ٨٨٤ ) : يجوز اشتراط حق الفسخ للمحيل والمحال والمحال عليه أو لأحدهم.

( مسألة ٨٨٥ ) : إذا أدى المحيل الدين ، فان كان بطلب من المحال عليه وكان مديوناً للمحيل فله أن يطالب المحال عليه بما أداه ، وان لم يكن بطلبه أو لم يكن مديوناً فليس له ذلك.

( مسألة ٨٨٦ ) : لا فرق في المحال به بين كونه عيناً في ذمة المحيل وبين كونه منفعة أو عملاً لا يعتبر فيه المباشرة ، كما لا فرق فيه بين كونه مثلياً كالنقود أو قيميّاً كالحيوان.

( مسألة ٨٨٧ ) : تصح الحوالة مع اختلاف الدين المحال به مع الدين الذي على المحال عليه جنساً ونوعاً كما تصح مع إتّحادهما في ذلك ، فلو كان على ذمته لشخص دنانير وله على ذمة غيره دراهم جاز أن يحيله عليه بالدراهم أو بالدنانير.

( مسألة ٨٨٨ ) : إذا أحال البائع دائنه على المشتري بدينه وقبلها المشتري على أساس كونه مديناً للبائع بالثمن ثم تبيّن بطلان البيع بطلت الحوالة ، وهكذا اذا أحال المشتري البائع بالثمن على شخص آخر ثم ظهر بطلان البيع فإنّه تبطل الحوالة أيضاً بخلاف ما إذا انفسخ البيع بخيار أو بالإقالة فإنّه تبقى الحوالة ولا تتبع البيع فيه.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551