الشيعة تجيب

الشيعة تجيب20%

الشيعة تجيب مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 191

الشيعة تجيب
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43510 / تحميل: 6012
الحجم الحجم الحجم
الشيعة تجيب

الشيعة تجيب

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فيقول المفسّرون في شأن نزول هذه الآية الشريفة أنّ عمار بن ياسر وأباه واُمّه ابتُلوا بالكفّار والمشركين، فعرضوا عليهم أن يكفروا وأن يتركوا دين الإسلام ويرجعوا إلى دينهم الأوّل، فشهد من كان مع عمّار بالوحدانيّة لله سبحانه وبنبوّة النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستشهد بعضٌ وعُذّب بعضٌ، وأما عمّار فقد ابرز خلاف ما يعتقد تقيّة، وقال بلسانه ما يرضي الكفّار. فلما ذهب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في قلق وعدم ارتياح مما صدر منه، فهدّأه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسكّن عليه، فنزلت الآية المذكورة(١) .

فيتّضح من هذه الآية ومن أقوال المفسّرين أنّ التقيّة - التي هي كتمان العقيدة لحفظ النفس وللوقاية من التعرّض للضرر المادّي والمعنوي - كانت على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أقرّها دين الإسلام العزيز.

التقيّة في النظرة الشيعيّة

لما كانت الحكومات الظالمة لبني اُميّة وبني العباس ومن تلاهما في مختلف العصور قد شنّت حرباً شعواء ضدّ الشيعة، فحاولت قتلهم، استخدم الشيعة اُسلوب التقيّة القرآني للحفاظ على أرواحهم وأرواح إخوانهم خلال تلك الظروف القاسية.

ومن الواضح أنّه في مثل هذه الأجواء التي خيّم عليها الاستبداد والظلم لا يوجد سبيل آخر للشيعة للنجاة من هذه المحنة ومن هذا الظلم الذي هدّد كيان الشيعة بالفناء. ولهذا فلو لم يسلك حكّام الجور وأتباعهم سبيل قتل وتعذيب وإقصاء الشيعة لما كان مبرّر للشيعة في استخدام التقيّة.

____________________

(١) راجع تفسير الدر المنثور، ج ٤، ص ١٣١، وغيره ذيل الآية.

١٦١

الجدير بالذكر أنّ التقيّة لا تختصّ بالشيعة، بل إنّ بقيّة المسلمين يقولون بها أيضاً تجاه العدوّ الفاجر الذي يخالف جميع المذاهب ; كالخوارج، والحكومات الظالمة التي لا تتحرّج من سفك الدماء ومن كلّ حرام، ففي صورة عدم إمكان مواجهتهم يلتجئون إلى درع التقيّة، فيسترون عقيدتهم لحفظ دمائهم.

وعليه فإذا عاش المسلمون جميعاً في أجواء تسودها الاُلفة والتفاهم والوحدة فسوف لا يبقى مجال للتقيّة.

النتيجة:

نستنتج مما مرّ الاُمور التالية:

١ - إنّ للتقيّة جذوراً قرآنيّة، واستخدام الصحابة لها وتأييد الرسول الأكرم لها دليل واضح على جوازها وتحقّقها والعمل بها في صدر الإسلام.

٢ - إنّ الحافز لاستخدام الشيعة للتقيّة هو التوقّي عمّا كانوا يعيشونه من الظلم والقتل الذريع، والذي كان يهدّد الكيان الشيعي بالزوال والفناء.

٣ - عدم اختصاص التقيّة بالشيعة بل هي موجودة عند غيرهم من المسلمين أيضاً.

٤ - إنّ التقيّة لا تختصّ بالتقيّة من الكفّار والمشركين وذلك بكتمان العقائد الإسلاميّة عنهم، بل الملاك في التقيّة وكتمان العقائد هو حفظ النفس من العدوّ الذي لا يتحرّج من سفك الدماء، ولا يمكن مقاومته، أو أنّ الشرائط الحاكمة غير مناسبة لمواجهته.

٥ - إذا عاش المسلمون جميعاً في أجواء تسودها الاُلفة والتفاهم والوحدة فسوف لا يبقى مجال للتقيّة.

١٦٢

السؤال الثاني والثلاثون

لماذا اعتبر القانون الأساسي للجمهوريّة الإسلاميّة المذهب الجعفري المذهب الرسمي؟

الجواب:

لا شكّ ولا ريب في أنّ جميع المذاهب الإسلاميّة محترمة في نظر القانون الأساسي للجمهوريّة الإسلاميّة. كما لا ريب في وجود الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة - من الجعفريّة والشافعيّة والمالكيّة والحنفيّة والحنبليّة - في تعيين الوظائف الشرعيّة.

ومن جانب آخر ينبغي رعاية الاتّساق والانسجام بين القوانين والمقرّرات الحقوقيّة للمجتمع حين تدوينها، ومن هنا فلابدّ من رعاية مذهب واحد من المذاهب الإسلاميّة لوضع القوانين المختلفة، وإلاّ فإنّه مع تعدد المنابع التي تنهل منها القوانين لا يمكن أن توضع قوانين منسجمة ومتناسقة.

وعلى هذا فمن المناسب اختيار مذهب واحد من بين المذاهب الإسلاميّة المختلفة بعنوانه أساساً لتدوين القوانين للحيلولة دون حصول الخلل والتبعثر وعدم الانسجام في قوانين الدولة، وتسهيل الطريق لسَنِّ قوانين متّفقة ومتّسقة في مختلف المجالات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة وغيرها.

الأساس والملاك في تعيين المذهب الجعفري

وهنا يطرح سؤال آخر وهو: على أيّ أساس تمّ اختيار المذهب الجعفري من بين المذاهب الإسلاميّة المتعدّدة وجعله محوراً لقوانين الدولة ؟

١٦٣

وجوابه: إنّ الأغلبيّة الساحقة من سكّان الجمهوريّة الإسلاميّة هم من المسلمين ومن أتباع المذهب الجعفري، فهم يعيّنون وظائفهم الفرديّة والاجتماعيّة من خلال هذا المذهب لا غير. وعليه فمن الطبيعي جدّاً أن يكون المذهب الرسمي للدولة هو المذهب الجعفري، وهذا لا ينافي شيئاً من الموازين المنطقيّة والحقوقيّة.

احترام المذاهب الإسلاميّة الاُخرى

القانون الأساسي للجمهوريّة الإسلاميّة وإن كان وفقاً للمذهب الجعفري، لكن لوحظ فيه احترام جميع المذاهب الإسلاميّة الاُخرى من الشافعيّة والمالكيّة والحنفيّة والحنبليّة والزيدية وغيرها، بل روعيت فيه حقوق أتباع المذاهب الاُخرى في أداء ما يلي وفقاً لمذاهبهم وفقههم:

١- أداء الشعائر الدينيّة والمذهبيّة.

٢- التعليم والتربية الدينية.

٣- أداء الأفعال الفرديّة.

٤- الأحكام المذهبيّة الخاصّة ; كالزواج، والطلاق، والإرث، والوصيّة، وغيرها.

مضافاً إلى ذلك كلّه فإنّ المدن التي غالبيّة سكّانها من أحد المذاهب الاُخرى تعطى بعض الصلاحيّات لمسؤوليها وفقاً للمذهب الغالب في تلك المدينة، ضمن إطار صلاحيّات الهيئة المشرفة على البلديّة، في نفس الوقت الذي تحفظ فيه حقوق المذاهب الاُخرى.

ولأجل رفع الإبهام وإيضاح المسألة بنحو أكثر نذكر الأصل الثاني عشر من الفصل الأوّل من فصول القانون الأساسي للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة:

١٦٤

«الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الإثني عشري، وهذا الأصل لا يقبل التغيير إلى الأبد. وأما المذاهب الإسلاميّة الاُخرى من الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة والزيدية فإنّ لها الاحترام الكامل، ولأتباع هذه المذاهب الحرّية التامّة في أداء شعائرهم الدينيّة والمذهبيّة طبقاً لمذاهبهم وفقههم، وفي التعليم والتربية الدينيّة، والأحوال الشخصيّة (كالزواج، والطلاق، والإرث، والوصيّة)، والدعاوى المتعلّقة بها في المحاكم لها صفة رسميّة. وتكون القوانين المحليّة - ضمن إطار صلاحيّات الهيئة المشرفة على البلديّة - في كلّ مدينة غالبيّة سكّانها من أحد المذاهب الاُخرى وفقاً لذلك المذهب مع حفظ حقوق المذاهب الاُخرى».

فعلى ضوء هذا الأصل تتّضح مكانة ومنزلة المذاهب الاُخرى ومدى احترامها في نظر القانون الأساسي للجمهوريّة الإسلاميّة.

١٦٥

السؤال الثالث والثلاثون

هل يعتقد الشيعة وجوب صلاة الوتر ؟

الجواب:

صلاة الوتر إحدى النوافل والصلوات الليليّة التي يرى المسلمون وأتباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استحبابها. لكن تبعاً للروايات الشريفة ذكر فقهاء الشيعة بعض الاُمور بعنوان أنّها «خصائص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله »، ومنها وجوب صلاة الوتر عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فذكر العلاّمة الحلّيقدس‌سره في كتابه «تذكرة الفقهاء» حوالي سبعين خصّيصة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال في أوّل كلامه:

«لا شكّ أنّ الله تعالى شرّف رسوله محمّداً عليه ] وآله [ أفضل الصلاة والسلام، وميّزه عن سائر خلقه بأن خصّه بأشياء فرضها عليه دون خلقه... فأما الواجبات عليه دون غيره من اُمّته اُمور:

(أ) السواك.

(ب) الوتر.

(ج) الاُضحية.

روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «ثلاث كتبت عليّ ولم تكتب عليكم; السواك، والوتر، والاُضحية...»(١) .

____________________

(١) تذكرة الفقهاء، ج ٢، ص ٥٦٥ كتاب النكاح، المقدمة الرابعة.

١٦٦

فعلى هذا يعتقد الشيعة وجوب صلاة الوتر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله واستحبابها للمسلمين عامّة.

١٦٧

السؤال الرابع والثلاثون

هل الاعتقاد بقدرة أولياء الله الغيبيّة توجب الشرك ؟

الجواب:

من الواضح أنّ كلّ إنسان حينما يطلب شيئاً من آخر فهو يعتقد أنّه قادر على الإتيان به، وهذه القدرة على نوعين:

أ - أن تكون قدرته على الإتيان بالشيء قدرة مادّية ; نظير طلبنا من شخص الإتيان بقدح من الماء.

ب - أن تكون قدرته على الإتيان بالشيء قدرة غيبيّة وخارجة عن نطاق المادّة ; نظير اعتقادنا بأنّ عبداً مخلصاً لله كعيسى بن مريم له القدرة على علاج ما يعجز عنه الأطبّاء، فبِنَفَسه المبارك يداوي المرضى.

فمن الواضح أنّ هذه القدرة الغيبيّة التي نعتقد بها إذا كانت معتمدة على قدرة الله سبحانه وإرادته فلا تنافي التوحيد بل هي نظير الاعتقاد بالقدرة المادّية، فكلاهما موهبة من الله سبحانه، فكما أعطى سبحانه الناس هذه القدرة المادّية، كذلك أعطى هذه القدرة الغيبيّة لبعض عباده المخلصين.

ولتوضيح الجواب نقول: الاعتقاد بالقدرة الغيبيّة لأولياء الله سبحانه يمكن أن تتصوّر على نحوين:

أ - الاعتقاد بالقدرة الغيبيّة لشخص مع اعتقاد استقلاله في القدرة، بحيث ننسب الفعل الإلهي إليه مستقلاًّ.

١٦٨

فلا شكّ ولا ريب أنّ الاعتقاد بالقدرة الاستقلاليّة عن قدرة الله سبحانه بهذا النحو شركٌ بالله ; وذلك أنّه يجعل غير الله منشأً للقدرة بالأصالة والاستقلال، وينسب الفعل الإلهي إليه، مع أنّ الباري عزّ اسمه هو القادر وهو المنشئ لجميع أنواع القدرة.

ب - الاعتقاد بالقدرة الغيبيّة لبعض أولياء الله المخلصين مع الاعتقاد بأنّها نابعة من قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنّ أفعال أولياء الله هذه بإذنه سبحانه، وأنّهم ليسوا إلاّ وسائط لظهور هذه القدرة وتجلّيها، وليس لهم قدرة مستقلّة عن قدرته عزّوجلّ، بل هم معتمدون في وجودهم وفي قدرتهم على فعل هذه الأفعال على الباري سبحانه وتعالى.

ومن الواضح أنّ مثل هذا الاعتقاد لا يوجب شركاً، فاعتقاد هذا النحو من القدرة ليس اعتقاداً بالوهيّة هؤلاء الأولياء، وليس فيه نسبة الأفعال الإلهيّة لهم، فإنّ هؤلاء الأولياء الصالحين فعلوا هذه الأفعال بقدرتهم الغيبيّة التي وهبها الله لهم، وقد فعلوها بإذنه تعالى وبإرادته التي لا تتخلّف.

قال تعالى في كتابه الكريم والذكر الحكيم:

( وَ ما كانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَة إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (١) .

وبهذا البيان المختصر اتّضح أنّ هذه العقيدة لا توجب الشرك، بل هي منسجمة تماماً مع التوحيد.

____________________

(١) الرعد: ٣٨.

١٦٩

القدرة الغيبيّة لأولياء الله في نظر القرآن

ذكر الكتاب العزيز صراحة أسماء جملة من أولياء الله المخلصين الذين كانوا يتمتّعون بهذه القدرة الغيبيّة بإذن الله سبحانه، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من الذكر الحكيم في هذا المجال:

١ - القدرة الغيبيّة لموسىعليه‌السلام

أمر الباري سبحانه نبيّه موسىعليه‌السلام أن يضرب الصخرة بعصاه لتتفجّر منها عيون الماء الزلال، وذلك قوله:

( وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا ) (١) .

٢ - القدرة الغيبيّة لعيسىعليه‌السلام

ذكرت القدرة الغيبيّة لعيسىعليه‌السلام في القرآن الكريم في مواضع عديدة، نشير إلى نموذج منها:

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الاَكْمَهَ وَ الاَبْرَصَ وَ أُحْيِي الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ... ) (٢) .

٣ - القدرة الغيبيّة لسليمانعليه‌السلام

يبيّن القرآن الكريم القدرات الغيبيّة التي وهبها الله لنبيّه سليمانعليه‌السلام بقوله:

( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْء إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (٣) .

____________________

(١) البقرة: ٦٠.

(٢) آل عمران: ٤٩.

(٣) النمل: ١٦.

١٧٠

فلا ريب أنّ ما صدر عن موسىعليه‌السلام من تفجير عيون الماء من الصخرة الصلدة بسبب ضربها بعصاه الخفيفة، وما صدر عن عيسىعليه‌السلام من خلق الطير من الطين، ومعالجة المرضى الذين عجز الأطبّاء عن علاجهم، وإحياء الموتى، وما صدر عن سليمانعليه‌السلام من فهم منطق الطير، كلّها اُمور خارقة للعادة، وخارجة عن المجرى الطبيعي للاُمور، وهي نوع من تنفيذ القدرة الغيبيّة.

فهل يعدّ اعتقادنا بقدرة أولياء الله الغيبيّة شركاً وبدعة في الدين، والحال أنّ القرآن الكريم يصرّح ويصدع بهذه الآيات البيّنة لبيان قدرتهم الغيبيّة ؟ !

وبهذا يتّضح جيداً أنّ الاعتقاد بالقدرة الغيبيّة لأولياء الله الصالحين لا تعني الاعتقاد بالوهيّتهم، ولا تعني نسبة الأفعال الإلهيّة إليهم، وإلاّ فإنّه يلزم منه القول بأنّ موسى وعيسى وسليمانعليهم‌السلام وغيرهم آلهة بحسب النظرة القرآنيّة، مع أنّ جميع المسلمين يعلم بأن القرآن يعدّ الأنبياء عبيداً مخلصين لله سبحانه وتعالى.

وبهذا اتّضح إلى هنا أنّ الاعتقاد بالقدرة الغيبيّة لأولياء الله المخلصين إذا كانت مستندة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنّ أولياء الله وسائط لظهور هذه القدرة وتجلّيها، فلا توجب شركاً، بل هي منسجمة مع التوحيد تماماً، فإنّ المعيار في التوحيد هو أن ننسب جميع ما في الكون من القدرة لله سبحانه وتعالى، وأن نعتقد أنّه تعالى المنشئ والمفيض لأنواع القدرة والحركة على المخلوقات.

١٧١

السؤال الخامس والثلاثون

لماذا تقولون أنّ مقام الإمامة أرفع من مقام النبوّة ؟

الجواب:

للإجابة على هذا السؤال لابدّ من بيان المعنى الدقيق للعناوين التالية لورودها في القرآن الكريم والروايات الشريفة: «النبوّة»، «الرسالة»، «الإمامة»، ليتضح سبب رفعة مقام الإمامة على النبوة والرسالة.

١- مقام النبوّة

لفظ «النبيّ» مشتقّ من مادّة «نبأ»(١) ، والنبأ هو الخبر المهمّ، وعليه فمعنى «النبيّ» هو الحامل للخبر المهم أو المخبر به. ويطلق النبيّ في الاصطلاح القرآني على الإنسان الذي يتلقّى الوحي عن الله عزّوجلّ، فيخبر الناس عن الله من دون واسطة اُخرى من البشر، ولهذا فقد عرّف العلماء النبيّ بما يلي:

«هو الذي يؤدّي عن الله تعالى بلا واسطة من البشر»(٢)

فعلى هذا الأساس تكون وظيفة النبيّ مشخّصة ومحدّدة في هذا الإطار ; وهو تلقّي الوحي من السماء، وإبلاغ الناس ما اُوحي إليه، ولهذا فإن القرآن الكريم يقول في هذا المضمار:

( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) .

____________________

(١) قال الجوهري: النَبِيءُ: المُخْبِر عن اللّه عزّوجلّ، مَكِّيَّةٌ، لأَنه أَنْبَأَ عنه، وهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل. وفي النهاية: فَعِيل بمعنى فاعِل للمبالغة من النَّبَإِ ; الخَبَر، لأَنه أَنْبَأَ عن الله ; أَي أَخْبَرَ. قال: ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه (لسان العرب: ١ / ١٦٢ / نبأ).

(٢) التبيان للشيخ الطوسي، ج ٤، ص ٤٧٤. النكت الإعتقادية للشيخ المفيد، ص ٣٤. روضة الواعظين، ص ٤٩.

١٧٢

٢ - مقام الرسالة

يطلق مصطلح الرسول في قاموس الوحي على النبيّ الذي عليه مسؤوليّتان ; تلقّي الوحي من السماء وإبلاغ الناس به، ومسؤوليّة تبليغ الرسالة الإلهيّة الملقاة على عاتقه إلى الناس. يقول القرآن الكريم في هذا المضمار:

( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) (١) .

وبهذا يتّضح أنّ مقام الرسول غير مقام النبيّ، وأنّ الرسالة مقام يمنح للنبيّ. وبعبارة اُخرى: أنّ النبوّة والرسالة عنوانان يشيران إلى خصوصيّات الأنبياء، فالنبوّة باعتبار أنّ النبيّ حامل للأنباء والأخبار عن الله عزّوجلّ، والرسالة باعتبار أنّ النبيّ مبلّغ للرسالة الإلهيّة.

فنستنتج من مجموع ما ذكر أنّ مهمّة الأنبياء والمرسلين هي بيان الأحكام من الحلال والحرام وهداية الناس إلى طريق السعادة، وليس لهم مهمّة غير إخبار الناس وإبلاغ الرسالة.

٣ - مقام الإمامة

مقام الإمامة في النظرة القرآنيّة غير مقامي النبوّة والرسالة، ومقام الإمامة يلازم منح الصلاحيّات الكثيرة للإمام لأجل قيادة وإدارة الاُمّة.

وإليك فيما يلي الأدلّة الواضحة على ما ذكرناه من خلال الآيات الشريفة:

١- ذكر القرآن الكريم في شأن منح إبراهيم الخليلعليه‌السلام مقام الإمامة:

( وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمامًا قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٢) .

____________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) المائدة: ٩٢.

١٧٣

فالآية الكريمة تبيّن أمرين:

أ - تدلّ الآية بوضوح على مغايرة الإمامة لمفهومي النبوّة والرسالة ; وذلك أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان نبيّاً قبل جعله إماماً بسنين كثيرة، ومرّ بامتحانات عسيرة، منها عزمه على ذبح ولده إسماعيلعليه‌السلام . والدليل على أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان نبيّاً قبل جعله إماماً هو:

إنّنا نعلم أنّ إبراهيمعليه‌السلام لم يكن له ولد، وإنّما رزق إسماعيل وإسحاقعليهما‌السلام في سنّ الكهولة من عمره، فالقرآن الكريم يقول عن لسان إبراهيم:

( اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ ) (١) .

فمن هنا يعلم أنّ امتحان إبراهيمعليه‌السلام بذبح إسماعيلعليه‌السلام - والذي كان بعد مروره بامتحانات عسيرة اُخرى - هو الذي هيّأه لمقام الإمامة، وقد نال مقام الإمامة في أواخر أيام حياتهعليه‌السلام ، مع أنّه كان نبيّاً قبل ذلك بسنين متطاولة ; حيث اُوحي إليه قبل أن يرزق ذرّية، والوحي علامة النبوّة(٢) .

ب - يستفاد من قوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمامًا ) أنّ مقام الإمامة الإلهيّة وقيادة الاُمّة في مرتبة أعلى وأرفع من مرتبة النبوّة والرسالة ; فإنّ القرآن الكريم يصرّح بأن إبراهيمعليه‌السلام نال هذا المقام بعد أن كان رسولاً

____________________

(١) البقرة: ١٢٤.

(٢) إبراهيم: ٣٩.

١٧٤

نبيّاً وبعد أن ابتُلي ببلايا شديدة وامتحانات صعبة، وخرج منها مرفوع الرأس، مُنح له مقام الإمامة، وسبب ذلك واضح وهو أنّ مقام الإمامة أرفع من مقام النبوّة والرسالة ; فإنّ من وظائف مقام الإمامة مضافاً إلى تلقّي الوحي وتبليغ الرسالة هو قيادة الاُمّة، وإدارة شؤونهم بنحو صحيح في طريق الهداية لأجل إيصالهم إلى الكمال والسعادة، ومن الواضح أنّ هذا المقام مقام جليل رفيع، ولا يناله أحد إلاّ بعد المرور بامتحانات عسيرة ومتتالية.

٢ - يتّضح من الآية المتقدّمة أنّ إبراهيمعليه‌السلام بعد أن نال مقام الإمامة الإلهيّة وقيادة الاُمّة بعد تلك الامتحانات طلب من الله عزّوجلّ أن يجعل هذا المقام والمنصب في ذرّيته. ومن الآيات الاُخرى الواردة في الكتاب الحكيم يتبيّن أنّ الله قد استجاب دعاء وطلب إبراهيمعليه‌السلام ، وأنّه جعل الإمامة في صالحي نسله وذرّيته، فقال تعالى:

( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (١) .

فيستفاد من الآية أنّ مقام الإمامة وقيادة الاُمّة غير مقام النبوّة والرسالة، وأنّ الله منح هذا المقام خليله إبراهيمعليه‌السلام بعد ابتلائه بامتحانات عسيرة، فعندها طلب خليل الرحمن من ربّ العزّة أن يبقي الإمامة وقيادة الاُمّة في ذرّيته، فأبقى الله هذا المقام في صالحي ذرّيته، فأعطاهم) الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (وهو رمز النبوّة والرسالة ،) وَ آتَيْناهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (وهو مقام الإمامة وقيادة الاُمّة وزعامة الناس، وبهذا فقد لبّى طلب إبراهيمعليه‌السلام ، ولهذا نجد أنّ بعض ذرّيته - كيوسف، وداود، وسليمان - كانوا قادة للاُمّة وأئمّة مضافاً إلى كونهم أنبياء.

____________________

(١) النساء: ٥٤.

١٧٥

وبهذا يتّضح أنّ مقام الإمامة غير مقام النبوّة والرسالة. ولأهمّيّة مقام الإمامة وسعة الصلاحيّات المعطاة للإمام فإن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوّة.

رفعة منزلة الإمامة

اتّضح من البيانات السابقة أنّ مهمّة النبيّ والرسول - باعتبارهم أنبياء ورسل - هي إيضاح طريق الحقّ والهداية للناس، ومتى ما نال النبيّ أو الرسول مقام الإمامة تحمّل عبء مسؤوليّة أكبر، وبالتالي تحمّل أعباء مسؤوليّة تحقيق الأهداف السماوية، وتطبيق الأحكام الشرعيّة، لتحقيق مجتمع سعيد ومثالي، ويقود الاُمّة في طريق يضمن لها فيه سعادة الدارين ; الدنيا والآخرة.

ومن الواضح أنّ تحمّل مسؤوليّة خطيرة كهذه بحاجة إلى مؤهّلات خاصّة، وقدرة معنوية فائقة، واستعداد على مستوى رفيع، فإن القيام بهذه المهمّة الصعبة يلازم مواجهة المشاكل الكثيرة، ويحتاج إلى مقاومة الأهواء، والصبر على الأذى في سبيل الله سبحانه، ولا يمكن تحقّقها من دون وجود المحبّة الإلهيّة في القلب، والفناء في ساحة رضاه تقدّست أسماؤه.

ومن هنا فإنّ الله سبحانه لم يمنح إبراهيمعليه‌السلام هذا المقام إلاّ بعد امتحانه الشديد، وابتلائه المتتالي، وفي آخر سنين عمره الشريف. ولهذا فلم يتزيّن بهذا المقام إلاّ عباد الله المخلصين، كنبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تودع قيادة الاُمّة إلاّ إلى هؤلاء.

هل يوجد تلازم بين النبوّة والإمامة ؟

يطرح السؤال التالي نفسه وهو أنّ النبيّ الذي وصل إلى مقام النبوّة هل يجب أن يكون إماماً ؟ والإمام الذي وصل إلى مقام الإمامة هل يجب أن يكون نبيّاً ؟

١٧٦

وجواب هذا السؤال بكلا شطريه هو النفي. وإليك فيما يلي توضيح الجواب من خلال آيات الكتاب العزيز.

فيتّضح من الآيات النازلة في بيان قتال طالوت وجالوت أنّ الله سبحانه وتعالى جعل النبوّة بعد موسىعليه‌السلام في رجل اسمه «اشموئيل»، مع أنّ مقام الإمامة وقيادة الاُمّة كانت في عاتق طالوت، وإليك تفصيل الكلام:

بعد رحيل النبيّ موسىصلى‌الله‌عليه‌وآله قال طائفة من بني إسرائيل لنبيّ زمانهم:

( ابْعَثْ لَنا مَلِكًا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (١) .

فقال لهم نبيّهم:

( وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكًا قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

فيستفاد من الآية المذكورة ما يلي:

١ - من الممكن أن توجب المصلحة انفكاك النبوّة عن الإمامة وقيادة الاُمّة، فتكون النبوّة في شخص، والإمامة وقيادة الاُمّة في شخص آخر، وكلاهما في زمان واحد، وكلّ منهما يليق بمنصبه. ولم يعترض بنو إسرائيل على تفكيك أحد هذين المنصبين عن الآخر ; بأن يقولوا: أيّها النبيّ أنت أولى وأليق بمقام الإمامة وقيادة الاُمّة. وإنما قالوا في مقام الاعتراض: نحن أولى وأليق منه بمقام القيادة.

____________________

(١) البقرة: ٢٤٦.

(٢) البقرة: ٢٤٧.

١٧٧

٢- إنّ المقام الذي حازه طالوت كان من عند الله وبفضل الله سبحانه، وذلك قوله:

( إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكًا ) .

وقال أيضاً:

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ ) .

٣- إنّ منصب ومقام طالوت لم يكن منحصراً في قيادة الجيش، بل كان قائداً لبني اسرائيل، وذلك بشهادة قوله تعالى:) مَلِكًا (، وإن كان الهدف الرئيسي من قيادة بني إسرائيل هو قيادتهم للجهاد في سبيل الله، ولكن منصبه الإلهي كان يسمح ويجيز له أن يتصرّف بما يليق بالحكومة بشهادة آخر الآية وهو قوله تعالى:

( وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ )

٤- إنّ أهم شرط من شرائط الإمامة والقيادة هو العلم الواسع، والقدرة في الجسم، والمؤهلات المعنوية. وخصوصاً للقادة في ذلك الزمان الذين كانوا يقودون الجيوش، ويجاهدون معهم.(١)

فاستبان مما مرّ أنّه لا تلازم بين النبوّة والإمامة، وأنّه يمكن انفصالهما فتكون النبوّة في شخص ولا يكون إماماً وقائداً للاُمّة، أو أن تكون الإمامة الإلهيّة وقيادة الاُمّة في شخص ولا يكون نبياً. ويمكن أن يجتمع المقامان في شخص واحد له أهليّة كلا المقامين، كما يقول تعالى:

( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ ) (٢) .

____________________

(١) اقتباس من كتاب «منشور جاويدان» للشيخ السبحاني.

(٢) البقرة: ٢٥١.

١٧٨

السؤال السادس والثلاثون

ما هو المعيار في معرفة التوحيد من الشرك ؟

الجواب:

من أهم المسائل المطروحة في مباحث التوحيد والشرك هو معرفة المعيار فيهما، وما دام هذا السؤال باقياً من دون إجابة فلا يمكن الإجابة عن بعض الأسئلة الاُخرى المبنيّة عليه أيضاً، فالإجابة عن هذا السؤال بمنزلة الأساس لغيره من الأجوبة أيضاً. ومن هنا سنطرح فيما يلي مسائل التوحيد والشرك بصورة مختصرة:

١- التوحيد في الذات

التوحيد في الذات يطرح بشكلين، هما:

أ- إنّ الله واحد، وليس له مثيل أو نظير، وهو التوحيد الذي ذكره الباري في كتابه العزيز بصور مختلفة، كقوله تعالى:

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (١) .

وقوله في موضع آخر:

( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (٢) .

لكن قد يفسّر هذا التوحيد الوارد في الآية بتفسير ساذج ينسجم مع أذهان عوامّ الناس، فيأخذ صبغة التوحيد العددي ; وهو أن يقال: إنّ الله واحد لا إثنان.

____________________

(١) الشورى: ١١.

(٢) التوحيد: ٤.

١٧٩

ومن الواضح أنّ التوحيد العددي لا يناسب مقام العظمة الإلهيّة.

ب - أنّ الذات الإلهيّة بسيطة لا تركيب فيها، فإنّ التركيب في الموجود دليل على حاجته، سواء كان التركيب في الأجزاء أو كان التركيب ذهنيّاً ; لأنّ التركيب في موجود معيّن دليل على حاجته إلى أجزائه، والحاجة علامة الإمكان، والإمكان يلازم الحاجة إلى العلّة، وكلّ ذلك ينافي وجوب الوجود.

٢- التوحيد في الخالقيّة

التوحيد في الخالقيّة هو أحد مراتب التوحيد، وقد أيّده العقل والنقل. فدلّ العقل على أنّ كلّ ما في عالم الإمكان من الموجودات فهو عار عن كلّ جمال وكمال، وأنّ كلّ جمال وكمال في الوجود فهو من منبع الفيض، أعني الغني بالذات، واجب الوجود. فكلّ ما نشاهده من الجمال والكمال فهو جماله وكماله تقدّست أسماؤه.

وأمّا النقل فقد دلّت الآيات الكثيرة بصراحة على هذا النوع من التوحيد، نظير قوله تعالى:

( قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ ) (١) .

فعلى هذا لا يمكن أن يتصوّر خلاف في أصل التوحيد في الخالقيّة.

نعم، يوجد تفسيران للتوحيد في الخالقيّة، هما:

أ - إنّ كلّ ما في الوجود من نظام العلّيّة والمعلوليّة أو الأسباب والمسبّبات بين الموجودات فلابدّ أن ينتهي إلى علّة أصيلة هي علّة العلل، ومسبّبة الأسباب، هو الخالق المستقلّ والأصيل لتمام

____________________

(١) الرعد: ١٦. ونظير الآية ١٠٢ من سورة الأنعام:( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191