قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 0%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الصفحات: 233
المشاهدات: 49657
تحميل: 6740

توضيحات:

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49657 / تحميل: 6740
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يُشاهَد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذّه طبعها، فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللّذة، وأمّا نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور، فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة.

وهذا المعنى - أعني لزوم الشدّة والبأس لقَبيل الذكور واللين والانفعال لقَبيل الإناث - ممّا يوجب الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الأُمم، حتى سرى إلى مختلف اللغات، فسُمِّي كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر، وكل ليِّن سهل الانفعال بالأُنثى، يقال: حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر، وهكذا.

وهذا الأمر جارٍ في نوع الإنسان، دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوّعة في الجملة، وإن كان ربّما لم يخلُُ من الاختلاف زيادة ونقيصة.

وقد اعتبره الإسلام في تشريعه قال تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ... ) (1) .

فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

- 3 -

تعدُّد الزوجات

وأمر الوحدة والتعدُّد فيما نُشاهده من أقسام الحيوان غير واضح، ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحّد الإناث وتختصُّ بالذكور، لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الأفراخ وتربيتها، وربّما تغيَّر الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة، أعني بالتأهُّل والتربية

____________________

(1) سورة النساء، الآية: 34.

١٤١

كما يُشاهد من أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها.

وأمّا الإنسان، فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الأُمم القديمة، كمصر والهند، والصين والفرس، بل الروم واليونان، فإنّهم كانوا ربَّما يُضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يُصاحبونها، بل وكان ذلك عند بعض الأُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه، كاليهود والعرب، فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة والعشرين وأزيد، وقد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

وأغلب ما كان يقع تعدُّد الزوجات إنّما هو في القبائل ومَن يحذو حذوهم، من سكّان القُرى والجبال، فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الأعضاء، فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد؛ ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم، وليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤس والسؤدد في قومهم، على ما في كثرة الازدواج من تكثُّر الأقرباء بالمُصاهرة.

وما ذكره بعض العلماء، أنّ العامل في تعدُّد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم، كأعمال الحمل والنقل، والرعي والزراعة، والسقاية والصيد، والطبخ والنسج وغير ذلك، فهو وإن كان حقّاً في الجملة، إلاّ أنّ التأمّل في صفاتهم الروحية يُعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمّية عندهم، وما ذكرناه هو الذي يتعلّق به قصد الإنسان البدوي أولاً وبالذات، كما أن شيوع الادّعاء والتبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الأُمم عامل أساسي آخر لتداول تعدُّد الزوجات بينهم، وهو زيادة عدد النساء على الرجال بما لا يُتسامح فيه، فإنّ هذه الأُمم

١٤٢

السائرة بسيرة القبائل، كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات، وقتل الفتك والغيلة، فكان القتل يُفني الرجال، ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة، لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلاّ بتعدّد الزوجات. هذا.

والإسلام شرّع الازدواج بواحدة، وأنفذ التكثير إلى أربع، بشرط التمكُّن من القسط بينهن، مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدُّد، على ما سنُشير إليها، قال تعالى: ( ... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ... ) (1) .

وقد استشكلوا على حكم تعدُّد الزوجات:

أولاً: إنّه يضع آثاراً سيئة في المجتمع؛ فإنّه يقرع قلوب النساء في عواطفهن، ويُخيِّب آمالهن ويُسكِّن فورة الحبِّ في قلوبهن؛ فينعكس حسُّ الحبِّ إلى حسِّ الانتقام؛ فيُهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الأولاد، ويُقابلن الرجل بمثل ما أساؤوا إليهنّ؛ فيشيع الزنا والسفاح، والخيانة في المال والعرض، فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطَّ في أقرب وقت.

وثانياً: إنّ التعدّد في الزوجات يُخالف ما هو المشهود المُتراءى من عمل الطبيعة؛ فإنَّ الإحصاء في الأُمم والأجيال يُفيد أنّ قبيلَي الذكورة والإناث متساويان عدداً تقريباً، فالذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

وثالثاً: إنّ في تشريع تعدُّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره والشهوة، وتقوية لهذه القدرة في المجتمع.

ورابعاً: إنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع، بمعادلة الأربع منهنّ بواحد من الرجال، وهو تقويم جائر، حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سُوِّيَ فيه بين امرأتين ورجل، كما في الإرث والشهادة وغيرهما، ولازمه

____________________

(1) سورة البقرة، الآية: 228.

١٤٣

تجويز التزوج باثنتين منهنّ لا أزيد، ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيِّ حال من غير وجه.

وهذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام، أو مَن يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع.

والجواب عن الأول - ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدِّمة -: أنّ الإسلام وضع بُنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقُّلية دون الحياة الإحساسية، فالمتَّبع عنده هو الصلاح العقلي في السُنن الاجتماعية، دون ما تهواه الإحساسات وتنجذب إليه العواطف.

وليس في ذلك إماتة العواطف والإحساسات الرقيقة، وإبطال حكم المواهب الإلهية والغرائز الطبيعية؛ فإنَّ من المُسلَّم في الأبحاث النفسية، أنّ الصفات الروحية والعواطف والإحساسات الباطنة، تختلف - كمَّاً وكيفاً - باختلاف التربية والعادة، كما أنّ كثيراً من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مذمومة عند الغربيين، وبالعكس، وكل أُمّة تختلف مع غيرها في بعض الأمور.

والتربية الدينية في الإسلام تُقيم المرأة الإسلامية مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها.

نعم، المرأة الغربية، حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولُقِّنت بذلك جيلاً بعد جيل؛ استحكم في روحها عاطفة نفسانية تُضادُّ التعدُّد؛ ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع، الذي شاعت بين الرجال والنساء في الأُمم المتمدِّنة اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل مَن هووها وهوتهم من نسائهم، من محارم وغيرها، ومن بكر أو ثيِّب، ومن ذات بعل أو غيرها، حتى إنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا، سواء

١٤٤

في ذلك الرجال والنساء، ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعاً قلَّ ما يسلم منه فرد، حتى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قُبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العُظمى أن يُبيح لهم اللواط (سنّة قانونية)، وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية؟!

وأمّا النساء - وخاصة الأبكار وغير ذوات البعل من الفتيات - فالأمر فيهنّ أغرب وأفظع.

فليت شعري! كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرّجن ولا تنكسر قلوبهنّ ولا تتألّم عواطفهن حين يُشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟! وكيف لا تتألّم عواطف الرجال وإحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيِّباً فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتى يتباهى بين الأقران أنّ سيّدته ممّن جذبت الرجال إلى نفسها وتنافس عليها العشرات والمئات؟!!.

إنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم، ونزعة الحرّية تمكّنت من أنفسهم، حتى صارت عادة عريقة مألوفة، لا تمتنع منها العواطف والإحساسات، ولا تستنكرها النفوس! فليس إلاّ أنّ السنن الجارية تميل العواطف الإحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها.

وأمّا ما ذكروه، من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت، وتثاقلهن في تربية الأولاد، وشيوع الزنا والخيانة، فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك، فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام، وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته، بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللاتي يُتزوّج بهنّ على الزوجة الأُولى، في المجتمع الإسلامي وسائر المجتمعات التي ترى ذلك - أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة - إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء ورغبة منهنّ، وهنّ من نساء هذه المجتمعات، ولم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات أُخرى، ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا، وإنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية،

١٤٥

فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدُّد الزوجات، ولا قلوبهنَّ تتألّم منها، بل لو كان شيء من ذلك، فهو من لوازم وعوارض الزوجية الأُولى، أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبُّ أن ترد عليها وعلى بيتها أُخرى؛ لخوفها أن تُميل عنها بعلها أو تترأَّس عليها غيرها أو يختلف الأولاد ونحو ذلك، فعدم الرضى والتألُّم فيما كان، إنّما منشأه حالة عرضية (التوحُّد بالبعل) لا غريزة طبيعية.

والجواب عن الثاني: إنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مُختلٌّ من وجوه.

منها: أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الذي ذكروه فحسب، بل هناك عوامل وشرائط أُخرى لهذا الأمر، فأولاً الرشد الفكري والتهيُّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال، فالنساء وخاصة في المناطق الحارّة إذا جُزن التسع صلحن للنكاح، والرجال لا يتهيَّؤون لذلك غالباً قبل الستِّ عشرة من السنين (وهو الذي اعتبره الإسلام للنكاح).

ومن الدليل على ذلك؛ السنّة الجارية في فتيات الأُمم المتمدّنة، فمن الشاذِّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنِّ البلوغ القانوني، فليس إلاّ أنّ الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيُّئتها الرجال لذلك.

ولازم هذه الخاصة؛ أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (والفرض تساوي عدد الذكورة والإناث فيهم)، كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة، وهم مواليد السنة الأُولى المفروضة، والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين، وهي مواليد السنة الأُولى إلى السابعة، ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة، وهي سن بلوغ الأشدِّ من الرجال؛ حصل في السنة الخامسة

١٤٦

والعشرين على الصلوح في الرجال مواليد عشرة سنين، ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة، وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى، حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

وثانياً: أنّ الإحصاء - كما ذكروه - يُبيِّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال، ولازمه أن تهيِّئ سنة الوفاة والموت عدداً من النساء ليس بحذائهن رجال.

وممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطِّلاعات المنتشرة في طهران المؤرّخة بالثلاثاء 11 دي ماه سنة 1335 هـ ش) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصّل بحسب الإحصاء أنّه يولَد في فرنسا حذاء كل (100) مولودة من البنات (105) من البنين، ومع ذلك، فإنّ الإناث يربو عدّتهن على عدّة الذكور بما يُعادل (1765000) نسمة، ونفوس المملكة (40 مليوناً)؛ والسبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض، ويهلك بها (5%) الزائد منهم إلى سنة (19) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدَّة الذكور في النقص ما بين 25 - 30 من السنين، حتى إذا بلغوا سنيِّ 60 - 65 لم يبقَ تِجاه (1500000) من الإناث إلاّ (750000) من الذكور.

وثالثاً: أنّ خاصّة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء، فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سنّ الخمسين، ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، وربّما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي - وهي مائة سنة - فيكون عمر صلاحية الرجل للتوليد وهو ثمانون سنة تقريباً ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريباً، وإذا ضُمَّ هذا الوجه إلى الوجه السابق؛ أنتج أنّ الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدِّي من الزوجة

١٤٧

الواحدة إلى غيرها، فلا معنى لتهيئة قوّة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محلٍّ شأنه ذلك؛ فإنّ ذلك ممّا تأباه سنّة العلل والأسباب الجارية.

ورابعاً: أنّ الحوادث المُبيدة لأفراد المجتمع - من الحروب والمقاتل وغيرهما - تحلُّ بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يُقاس، كما تقدم أنّه كان أقوى العوامل لشيوع تعدّد الزوجات في القبائل، فهذه الأرامل والنساء العزّل لا محيص لهنّ عن قبول التعدُّد أو الزنا، أو خيبة القوّة المودعة في طبائعهنّ وبطلانها.

وممّا يتأيّد به هذه الحقيقة، ما وقع في ألمانيا الغربية قبل عدّة شهور، من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعية النساء العزّل تحرُّجها من فقدان البعولة، وسألت الحكومة أن يسمح لهنّ بسنّ تشريع تعدُّد الزوجات الإسلامية، حتى يتزوّج مَن شاء من الرجال بأزيد من واحدة، ويرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أنّ الحكومة لم تُجبهنّ في ذلك، وامتنعت الكنيسة من قبوله، ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به.

ومنها: أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد - مع الغضِّ عمَّا تقدَّم - إنّما يستقيم فيما لو فُرض أن يتزوَّج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء، لكنّ الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك، ولا يسع ذلك بالطبع إلاّ لبعضهم دون جميعهم، والإسلام لم يشرِّع تعدُّد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال، بل إنّما أباح ذلك لمَن استطاع أن يُقيم القسط منهم، ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجاً ولا فساداً أنّ سير هذه السنّة بين المسلمين - وكذا بين سائر الأُمم الذين يرون ذلك - لم يستلزم حرجاً من قحط النساء وإعوازهن على الرجال، بل بالعكس من ذلك أعدَّ تحريم التعدُّد في البلاد التي فيها ذلك ألوفاً من النساء حُرمن الأزواج والاجتماع المنزلي (الأُسرة)

١٤٨

واكتفين بالزنا.

ومنها: أنَّ الاستدلال المذكور - مع الإغماض عن ما سبق - إنّما يستقيم لو لم يُصلح هذا الحكم ولم يُعدَّل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهِّمة، فقد شرط الإسلام على مَن يُريد من الرجال التعدُّد، أن يُقيم العدل في معاشرتهنّ بالمعروف، وفي القسم، والفراش، وفرض عليهم نفقتهنَّ، ثمّ نفقة أولادهن، ولا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلاً ومَن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك، إلاّ لبعض أُولي الطول والسعة من الناس لا لجميعهم.

على أنَّ هناك طُرقاً دينية شرعيّة، يمكن أن تستريح إليها المرأة، فتُلزم الزوج على الاقتصار عليها والإغماض عن التكثير.

والجواب عن الثالث: أنَّه مبنيٌّ على عدم التدبُّر في نحو التربية الإسلامية، ومقاصد هذه الشريعة؛ فإنّ التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي، الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف، والحياء وعدم الخرق، تُنمِّي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجال (على الرغم ممَّا شاع أنّ شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدلَّ عليه بتولِّعها المُفرط بالزينة والجمال طبعاً) وهذا أمر لا يكاد يَشكُّ فيه رجال المسلمين ممَّن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية، فشهوة النكاح في المتوسِّط من الرجال تُعادل ما في أكثر من امرأة واحدة، بل والمرأتين والثلاث.

ومن جهة أُخرى، من عناية هذا الدين، أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس، فاعتبر أن لا تُختزن الشهوة في الرجل ولا يُحرم منها، فيدعوه ذلك إلى التعدِّي إلى الفجور والفحشاء، والمرأة الواحدة ربّما اعتذرت فيما يقرب من ثُلث أوقات المعاشرة والمصاحبة، كأيام العادة

١٤٩

وبعض أيّام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك، والإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم - ما تكرَّر منّا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - أنّ الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقُّلية دون الحياة الإحساسية، فبقاء الإنسان على حالة الإحساس، الداعية إلى الاسترسال في الأهواء والخواطر السوء، كحال التعزُّب ونحوه، من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

ومن جهة أُخرى، من أهمِّ المقاصد عند الشارع الإسلام تكثُّر نسل المسلمين، وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد.

فهذه الجهات وأمثالها، هي التي اهتمَّ بها الإسلام في تشريع تعدُّد الزوجات، دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها، ولو أنصف هؤلاء المستشكلون، كان هذه السنن الاجتماعية، المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتُّع المادي، أولى بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الإسلام، الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية.

على أنّ في تجويز تعدُّد الزوجات تسكيناً لثورة الحرص، التي هي من لوازم الحرمان، فكل محروم حريص، ولا همّ للممنوع المحبوس إلاّ أن يهتك حجاب المنع والحبس، فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة، فإنّه على سكن وطيّب نفس من أنّه ليس بممنوع عن التوسُّع في قضاء شهوته لو تحرّجت نفسه يوماً إليه، وهذا نوع تسكين لطيش النفس، وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الأعراض المحرَّمة.

وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين؛ حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل، أقوى من تحريم الكنيسة تعدُّد

١٥٠

الزوجات.

والجواب عن الرابع: أنّه ممنوع؛ فقد بيّنا في بعض المباحث السابقة - عند الكلام في حقوق المرأة في الإسلام - أنّه لم يحترم النساء ولم يُراعِ حقوقهنّ كل المراعاة أيُّ سنَّة من السنن الدينية أو الدنيوية، من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الإسلام، وسنزيد في ذلك وضوحاً.

وأمّا تجويز تعدُّد الزوجات للرجل، فليس بمبني على ما ذكر، من إبطال الوزن الاجتماعي، وإماتة حقوقهنَّ، والاستخفاف بموقفهنّ في الحياة، وإنّما هو مبنيٌّ على جهات من المصالح تقدَّم بيان بعضها.

وقد اعترف بحُسن هذا التشريع الإسلامي، وما في منعه من الفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية، جمع من باحثي الغرب، من الرجال والنساء، مَن أراده فليُراجع إلى مظانِّه.

وأقوى ما تشبَّث به مخالفو سنّة التعدُّد من علماء الغرب، وزوقوه في أعين الناظرين، ما هو مشهود في بيوت المسلمين، تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة:

ضرّتان أو ضرائر؛ فإنّ هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرَّتان من أول يوم حلّتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد، حتى إنَّهم سموا الحسد بداء الضرائر، وعندئذ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جُبلت عليها النساء من الحبِّ ولين الجانب، والرقّة والرأفة، والشفقة والنصح، وحفظ الغيب والوفاء، والمودة والرحمة والإخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة، وبيته وجميع ما يتعلّق به إلى أضدادها، فينقلب البيت - الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألُّم الروح والجسم من مشاقِّ الأعمال

١٥١

والجُهد في المكسب - معركة قتال يُستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه، لا يؤمن فيه من شيء لشيء، ويتكدّر فيه صفو العيش، وترتحل لذّة الحياة، ويحلُّ محلُّها الضرب والشتم، والسبُّ واللعن، والسعاية والنميمة، والرقابة والمكر والمكيدة، واختلاف الأولاد وتشاجرهم، وربَّما انجرَّ الأمر إلى همِّ الزوجة بإهلاك الزوج وقتل بعض الأولاد بعضاً أو آبائهم، وتتبدّل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت، أضف إلى ذلك، ما يسري من ذلك إلى المجتمع، من الشقاء وفساد الأخلاق، والقسوة والظلم، والبغي والفحشاء، وانسلاب الأمن والوثوق، وخاصة إذا أُضيف إلى ذلك جواز الطلاق؛ فإباحة تعدُّد الزوجات والطلاق يُنشئان في المجتمع رجالاً ذوّاقين مُترفين، لا همَّ لهم إلاّ اتِّباع الشهوات والحرص والتولُّع على أخذ هذه وترك تلك، ورفع واحدة ووضع أُخرى، وليس فيه إلاَّ تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه، وهو قبيل النساء، وبذلك يفسد النصف الآخر.

هذا محصَّل ما ذكروه، وهو حقٌّ، غير أنّه إنّما يرد على المسلمين لا على الإسلام وتعاليمه، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام، حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟! وقد فقدوا منذُ قرون الحكومة الصالحة، التي تُربِّي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة، بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار، التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده، هي طبقة الحكَّام والولاة على المسلمين، والناس على دين ملوكهم، ولو اشتغلنا بقصِّ بعض السير الجارية في بيوت الملوك، والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام وولاته، منذ أن تبدّلت الحكومة الدينية بالمُلك والسلطنة المستبدّة لجاء بحياله تأليفاً مستقلاً.

وبالجملة؛ لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين؛ في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمّن سعادة

١٥٢

عيشتهم، ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها، بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط.

والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والأولاد، وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم؛ وذلك أنّ سيرة هؤلاء الرجال وتفدِّيتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم، وصفاء جوِّ مجتمعهم في سبيل شرههم وجهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد، والمنبت لكل هذه الشقوة المُبيدة.

أمّا الإسلام، فلم يُشرِّع تعدُّد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل، وإنّما نظر في طبيعة الأفراد، وما ربّما يعرضهم من العوارض الحادثة، واعتبر الصلاح القاطع في ذلك (كما مرّ تفصيله)، ثمّ استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها، فأباح عند ذلك التعدُّد؛ حفظاً لمصلحة المجتمع الإنساني، وقيّده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة، وهو وثوق الرجل بأنّه سيقسط بينهنّ ويعدل، فمَن وثق من نفسه بذلك ووُفِّق له فهو الذي أباح له الدين تعدُّد الزوجات، وأمّا هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ولا كرامة عندهم إلاَّ ترضية بطونهم وفروجهم، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلاّ أنّها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذّته، فلا شأن للإسلام فيهم، ولا يجوز لهم إلاّ الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه.

على أنّ في أصل الإشكال خلطاً بين جهتين مفرقتين في الإسلام، وهما جهتا التشريع والولاية.

توضيح ذلك: أنَّ المدار في القضاء بالصلاح والفساد، في القوانين الموضوعة والسنن الجارية عند الباحثين اليوم، هو الآثار والنتائج المرضيّة أو غير المرضية، الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليّتها

١٥٣

الموجودة وعدم قبولها، وما أظنُّ أنّهم على غفلة، من أنَّ المجتمع ربّما اشتمل على بعض سنن وعادات عوارض لا تُلائم الحكم بالمبحوث عنه، وأنّه يجب تجهيز المجتمع بما لا يُنافي الحكم أو السنَّة المذكورة، حتى يرى إلى ما يصير أمره، وماذا يبقى من الأثر خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضراً! إلاّ أنّهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يُريده ويستدعيه المجتمع، بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح، وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.

ولذلك؛ لمّا رأوا المسلمين تائهين في أودية الغيّ، فاسدين في معاشهم ومعادهم، نسبوا ما يشاهدونه منه من الكذب والخيانة، والخنى وهضم الحقوق، وفشوّ البغي وفساد البيوت، واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم؛ زعماً منهم أنّ السنّة الإسلامية - في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها - كسائر السنن الاجتماعية، التي تُحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم؛ ويستنتجون من ذلك أنّ الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية، ومنه ينشأ هذا البغي والفساد (وفيهم أبغى البغي وأخنى الخنى، وكل الصيد في جوف الفراء) ولو كان ديناً واقعياً، وكانت القوانين الموضوعة فيه جيّدة متضمّنة لصلاح الناس وسعادتهم لأثّرت فيهم الآثار المُسعدة الجميلة، ولم ينقلب وبالاً عليهم.

ولكنّهم خلطوا بين طبيعة الحُكم الصالحة المُصلِحة، وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، والإسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية، وقوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء، إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير، كالأدوية والمعاجين المركّبة، التي تحتاج في تأثيرها الصحّي إلى سلامة أجزائها وإلى محلٍّ مُعدٍّ مهيّأ لورودها وعملها، ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط

١٥٤

الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، وربّما أثّرت ما يُضادُّ أثرها المترقَّب منها.

هب أنّ السنّة الإسلامية لم تقوَ على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة؛ لضعف مبانيها التقنينية، فما بال السنّة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في البلاد الأوروبية؟! وما بالنا كلّما أمعنّا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقري؟! ولا يشكّ شاكٌّ أنّ الذمائم والرذائل اليوم أشدّ تصلُّباً وتعرُّقاً فينا، ونحن مدنيون متنوِّرون منها قبل نصف قرن، ونحن همجيُّون، وليس لنا حظٌّ في العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية، والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية، إلاّ أسماء نُسمِّيها وألفاظاً نسمعها.

فهل يمكن لمعتذر عن ذلك، إلاّ بأنّ هذه السنن المرضية إنّما لم تؤثِّر أثرها؛ لأنّكم لا تعملون بها، ولاتهتمُّون بإجرائها؟! فما بال هذا العذر يجري فيها وينجع ولا يجري في الإسلام ولا ينجع؟!

وهب أنّ الإسلام لوهن أساسها (والعياذ بالله) عجز عن التمكُّن في قلوب الناس، والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع، فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي، فلم يلبث دون أن عاد مهجوراً، فما بال السنّة الديمقراطية وكانت سنّة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأُولى عن روسيا، وانمحت آثارها وخلقتها السنّة الشيوعية؟! وما بالها انقلبت إلى السنّة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتوني واستوني وليتواني ورومانيا والمجر ويوغسلافيا وغيرها، وهي تهدِّد سائر الممالك، وقد نفذت فيها نفوذاً؟!

وما بال السنّة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة،

١٥٥

وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني، ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون في فضيلتها أنّها المشرَّعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكُّم الاستبداد ولا استثمار الديمقراطية، وأنّ البلاد التي تعرّقت فيها هي الجنّة الوعودة، ثمّ لم يلبث هؤلاء الدعاة والأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدهم الوحيد (ستالين) الذي كان يتولَّى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة، وأوضحوا أنّ حكومته كانت حكومة تحكُّم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية، ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلّق بذلك، فلم ينتش شيء من ذلك إلاَّ عن إرادة مستبدّة مستعبدة وحكومة فردية تُحيي ألوفاً وتُميت ألوفاً وتُسعد أقواماً وتُشقي آخرين؟! والله يعلم مَن الذي يأتي بعد هؤلاء ويقضي عليهم بمثل ما قضوا به على مَن كان قبلهم.

والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات (أعمّ من الصحيحة والفاسدة)، ثمّ المرتحلة عنها لعوامل متفرِّقة، أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الأفراد المستنِّين بها كثيرة، يعثر عليها مَن راجع كُتب التواريخ.

فليت شعري! ما الفرق بين الإسلام من حيث إنّها سنّة اجتماعية وبين هذه السنن المتقلّبة المتبدّلة؛ حيث يُقبل العذر فيها ولا يُقبل في الإسلام؟! نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية، فلا سماء تُظلُّها ولا أرض تُقلُّها.

وعلى أيّ حال، يجب أن يتنبّه ممّا فصّلناه، أنّ تأثير سنّة من السنن أثرها في الناس وعدمه، وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط - كل الارتباط - بصحّتها وفسادها، حتى يُستدلّ عليه بذلك، بل لسائر العلل والأسباب تأثير في ذلك، فما من سنّة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار والعهود إلاّ وهي تنتج يوماً وتُعقم آخر، وتُقيم بين الناس بُرهة من الزمان وترتحل عنهم في أُخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، وتلك الأيام

١٥٦

نُداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء.

وبالجملة؛ القوانين الإسلامية والأحكام التي فيها، تُخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس، فإنّ القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار وتتبدّل بتبدُّل المصالح، لكنّ القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدُّل من واجب أو حرام، أو مستحب أو مكروه أو مباح، غير أنّ الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها، وكل تصرُّف له أن يتصرَّف به أو يدعه، فلوليِّ الأمر أن يأمر الناس بها أو يناهم عنها، ويتصرّف في ذلك كأنّ المجتمع فرد والوالي نفسه المتفكّرة المريدة.

فلو كان للإسلام والٍ أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدُّد الزوجات وغير ذلك، من غير أن يتغيّر الحكم الإلهي بإباحته، وإنّما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة، نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدُّد الزوجات، لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم، بل لأنّه حكم إباحي له أن يعزم على تركه.

١٥٧

تعدُّد أزواج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم):

وممّا اعترضوا عليه تعدّد زوجات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إنّ تعدّد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعي الشهوة، وهو (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يقنع بما شرّعه لأُمّته من الأربع حتى تعدّى إلى التسع من النسوة.

والمسألة ترتبط بآيات متفرّقة كثيرة في القرآن، والبحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يُستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها؛ ولذلك أخّرنا تفصيل القول إلى محالّه المناسبة له، وإنّما نُشير ههنا إلى ذلك إشارة إجمالية.

فنقول: من الواجب أن يُلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أنّ قصّة تعدّد زوجات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليست على هذه السذاجة (أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالغ في حبِّ النساء حتى أنهى عدّة أزواجه إلى تسع نسوة) بل كان اختياره لمَن اختارها منهنّ على نهج خاص في مدى حياته، فهو (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان تزوّج - أول ما تزوّج - بخديجة رضي الله عنها، وعاش معها مقتصراً عليها نيِّفاً وعشرين سنة (وهي ثُلثا عمره الشريف بعد الازدواج) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل

١٥٨

الهجرة من مكّة، ثمّ هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين، وتزوّج بعدها من النساء منهنّ البكر، ومنهنّ الثيّب، ومنهنّ الشابّة، ومنهنّ العجوز، والمكتهلة، وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين، ثمّ حُرِّم عليه النساء بعد ذلك إلاّ من هي في حبالة نكاحه، ومن المعلوم أنّ هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرّد حبّ النساء والولوع بهنّ، والوله بالقرب منهنّ، فأوّل هذه السيرة وآخرها يُناقضان ذلك.

على أنّا لا نشكُّ - بحسب ما نُشاهده من العادة الجارية - أنّ المتولّع بالنساء، المغرم بحبهنّ والخلاء بهنّ والصبوة إليهنّ، مجذوب إلى الزينة، عشيق للجمال، مفتون بالغنج والدلال، حنين إلى الشباب ونضارة السنِّ وطراوة الخلقة، وهذه الخواص أيضاً لا تنطبق على سيرته (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإنّه بنى بالثيّب بعد البكر، وبالعجوز بعد الفتاة الشابّة، فقد بنى بأمّ سلمة وهي مسنّة، وبنى بزينب بنت جحش وسنّها يومئذٍ يربو على الخمسين بعدها تزوّج بمثل عائشة وأُمّ حبيبة، وهكذا.

وقد خيّر نساءه بين التمتيع والسراح الجميل، وهو الطلاق إن كنّ يُردن الدنيا وزينتها، وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمُّل إن كنّ يُردن الله ورسوله والدار الآخرة، على ما يشهد به قوله تعالى في القصة:

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

وهذا المعنى أيضاً - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مُغرم بجمال النساء، صابٍ إلى وصالهنّ.

____________________

(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 28 - 29.

١٥٩

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمِّق - إذا أنصف - إلاّ أن يوجّه كثرة ازدواجه (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل أُخَر، غير عامل الشره والشبق والتلهِّي.

فقد تزوّج (صلّى الله عليه وآله وسلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتساباً للقوّة وازدياداً للعضد والعشيرة، وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقّياً من بعض الشرور، وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق وإدارة المعاش؛ وليكون سنّة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز من المسكنة والضيعة، وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه؛ عملاً لكسر السنن المنحطّة والبدع الباطلة الجارية بين الناس، كما في تزوجه بزينب بنت جحش، وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثمّ طلّقها زيد، وقد كان زيد هذا يُدعى ابن رسول الله على نحو التبنّي، وكانت زوجة المدعوّ ابناً عندهم كزوجة الابن الصُلبي، لا يتزوّج بها الأب، فتزوّج بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونزل فيها الآيات.

وكان (صلّى الله عليه وآله وسلم) تزوّج لأول مرّة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة، وقد توفِّي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة، ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفّار لفتنوها، كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل، والإكراه على الكفر.

وتزوّج بزينب بنت خزيمة، بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أُحد، وكانت من السيدات الفُضليات في الجاهلية، تُدعى أمَّ المساكين؛ لكثرة برِّها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم، فصان بازدواجها ماء وجهها.

وتزوّج بأمّ سلمة واسمها هند، وكانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمّة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأخيه من الرضاعة، أول مَن هاجر إلى الحبشة، وكانت زاهدة فاضلة، ذات دين ورأي، فلمّا توفِّي عنها زوجها كانت مسنّة ذات أيتام

١٦٠