قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 25%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52434 / تحميل: 7342
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فتزوّج بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).

وتزوّج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، قُتل زوجها يوم خيبر، وقُتل أبوها مع بني القريظة،، وكانت في سبي خيبر فاصطفاها واعتقها وتزوّج بها، فوقاها بذلك من الذلّ، ووصل سببه ببني إسرائيل.

وتزوّج بميمونة واسمها برّة بنت الحارث سيد بني المصطلق، بعد وقعة بني المصطلق، وقد كان المسلمون أسروا منهم مئتي بيت بالنساء والذراري، فتزوّج (صلّى الله عليه وآله وسلم) بها، فقال المسلمون: هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم واعتقوهم جميعاً، فاسلم بنو المصطلق بذلك، ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جمّاً غفيراً، وأثّر ذلك أثراً حسناً في سائر العرب.

وتزوّج بميمونة واسمها برّة بنت الحارث الهلالية، وهي التي وهبت نفسها للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزّى، فاستنكحها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتزوّج بها، وقد نزل فيها القرآن.

وتزوّج بأمّ حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان، وكانت زوجة عبيد الله بن جحش، وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية، فتنصّر عبيد الله هناك، وثبتت هي على الإسلام، وأبوها أبو سفيان، يجمع الجموع على الإسلام يومئذ، فتزوّج بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأحصنها.

وتزوّج بحفصة بنت عمر، وقد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر، وبقيت أرملة وتزوّج بعائشة بنت أبي بكر وهي بكر.

فالتأمل في هذه النماذج والخصوصيات، مع ما تقدّم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره وآخره، وما سار به من الزهد وترك الزينة، وندبه نساءه إلى ذلك، لا يبقى للمتأمِّل موضع شكٍّ في أن ازدواجه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بها من النساء لم يكن على حدِّ غيره من عامة الناس، أضف إلى ذلك جمل

١٦١

صنائعه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في النساء، وإحياء ما كانت قرون الجاهلية وأعصار الهمجية أماتت من حقوقهنّ في الحياة، وأخسرته من وزنهنّ في المجتمع الإنساني، حتى روي أنّ آخر ما تكلّم به (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو توصيتهنّ لجامعة الرجال قال (صلّى الله عليه وآله وسلم): (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلِّفوهم ما لا يُطيقون، الله الله في النساء؛ فإنّهنّ عوانٍ في أيديكم).

وكانت سيرته (صلّى الله عليه وآله وسلم) في العدل بين نسائه وحُسن معاشرتهنّ ورعاية جانبهنّ، ممّا يختصّ به (صلّى الله عليه وآله وسلم) - على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله - وكان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصّاته التي مُنعت عنها الأمّة، وهذه الخصال وظهورها على الناس، هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربُّصهم الدوائر به.

قضايا الزواج:

قوله تعالى: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... ) ، المحصنات - بفتح الصاد - اسم مفعول من الإحصان، وهو المنع، ومنه الحِصن الحصين، أي المنيع يُقال: أحصنت المرأة إذا عفّت فحفظت نفسها وامتنعت عن الفجور، قال تعالى: ( ... الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا... ) (١) ، أي عفّت، ويُقال: أحصنت المرأة - بالبناء للفاعل والمفعول، إذا تزوّجت فأحصن زوجها أو التزوُّج إيَّاها من غير زوجها، ويُقال: أحصنت المرأة إذا كانت حرّة فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا؛ لأنّ ذلك كان فاشياً في الإماء.

والظاهر أنّ المراد بالمُحصنات في الآية هو المعنى الثاني، أي

____________________

(١) سورة التحريم، الآية: ١٢.

١٦٢

المتزوِّجات دون الأول والثالث؛ لأنّ الممنوع المحرّم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوّجات فحسب، فلا منع من غيرها من النساء، سواء كانت عفيفة أم غيرها، وسواء كانت حرّة أم مملوكة، فلا وجه لأن يُراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف، ثمّ يرتكب تقييد الآية بالتزويج، أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الإماء أيضاً مثلهنّ، ثمّ ارتكاب التقييد بالتزويج فإنّ ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم.

فالمراد بالمحصنات من النساء المزوّجات، وهي التي تحت حبالة التزويج، وهو عطف على موضع أُمّهاتكم، والمعنى: وحُرِّمت عليكم كل مزوّجة من النساء، ما دامت مزوّجة ذات بعل.

وعلى هذا؛ يكون قوله: ( ... إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... ) رفعاً لحكم المنع عن مُحصنات الإماء، على ما ورد في السنّة أنّ لمولى الأمة المزوّجة أن يحول بين مملوكته وزوجها، ثمّ ينالها عن استبراء، ثمّ يردُّها إلى زوجها.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين، أنّ المراد بقوله: ( ... إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... ) إلاّ ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف، فالمراد بالملك الاستمتاع والتسلُّط على المباشرة. ففيه:

أولاً: أنّه يتوقّف على أن يُراد بالمُحصنات العفائف دون المزوّجات، وقد عرفت ما فيه.

وثانياً: أنّ المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى، وهو ملك الرقبة دون التسلُّط على الانتفاع ونحوه.

وكذا ما ذكره بعض آخر، أنّ المراد بما ملكته الأيمان الجواري المسبيّات إذا كنّ ذوات أزواج من الكفّار، وأيّد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري: أنّ الآية نزلت في سبي أوطاس، حيث أصاب المسلمون نساء

١٦٣

المشركين، وكانت لهنّ أزواج في دار الحرب، فلما نزلت نادى منادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ألاّ لا توطأ الحُبالى حتى يضعن، ولا غير الحُبالى حتى يستبرأن. وفيه - مضافاً إلى ضعف الرواية - أنّ ذلك تخصيص للآية من غير مخصّص، فالمصير إلى ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( ... كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ... ) أي ألزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم، وقد ذكر المفسّرون أنّ قوله: ( ... كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ... ) منصوب مفعولاً مطلقاً لفعل مقدّر، والتقدير: كتب الله كتاباً عليكم، ثمّ حُذِف الفعل وأُضيف المصدر إلى فاعله وأُقيم مقامه، ولم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل؛ لما ذكره النحويون أنّه ضعيف العمل لا يتقدّم معموله عليه، هذا.

قوله تعالى: ( ... وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) ظاهر التعبير بـ (ما) الظاهرة في غير أُولي العقل، وكذا الإشارة بذلكم الدالّ على المفرد المذكّر، وكذا قوله بعده: ( ... أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم... ) ، أن يكون المراد بالموصل واسم الإشارة هو المقدار في قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ... ) ، المتعلّق به التحريم من الوطء والنيل أو ما هو من هذا القبيل.

والمعنى: وأُحلّ لكم من نيلهنّ ما هو غير ما ذُكِر لكم، وهو النيل بالنكاح في غير مَن عُدَّ من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين، وحينئذ يستقيم بدلية قوله: ( ... أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم... ) ، من قوله: ( ... وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) كل الاستقامة.

وقد ورد عن المفسِّرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة، كقول بعضهم: إن معنى قوله: ( ... وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) : أُحلّ لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم، وقول بعض آخر: إن المراد: أُحلّ لكم ما دون الخمس، وهي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح، وقول

١٦٤

بعض آخر: إنّ المعنى أُحلّ لكم ما وراء ذلكم ممّا ملكت أيمانكم، وقول بعض آخر: معناها أُحلّ لكم ما وراء ذات المحارم والزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحاً أو ملك يمين.

وهذه وجوه سخيفة، لا دليل على شيء منها من قبل اللفظ في الآية، على أنّها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على أُولي العقل، ولا موجب له كما عرفت آنفاً، على أنّ الآية في مقام بيان المحرّم من نيل النساء، من حيث أصناف النساء، لا من حيث عدد الأزواج؛ فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية.

فالحق؛ أنّ الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء، فيما سوى الأصناف المعدودة منهنّ في الآيتين السابقتين، بالنكاح أو بملك اليمين.

قوله تعالى: ( ... أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ... ) بدل أو عطف بيان من قوله: ( ... مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) يتبيّن به الطريق المشروع في نيل النساء ومباشرتهن؛ وذلك أنّ الذي يشمله قوله: ( ... وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) من المصداق ثلاثة: النكاح، وملك اليمين، والسفاح، وهو الزنا فبيّن بقوله: ( ... أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم... ) إلخ، المنع عن السفاح، وقصر الحلّ في النكاح وملك اليمين، ثمّ اعتبر الابتغاء بالأموال وهو في النكاح المهر والأجرة - ركن من أركانه - وفي ملك اليمين الثمن - وهو الطريق الغالب في تملك الإماء - فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا: أحلّ لكم فيما سوى الأصناف المعدودة، أن تُطلبوا مباشرة النساء ونيلهنّ بإنفاق أموالكم، في أُجرة المنكوحات من النساء، نكاحاً من غير سفاح، أو إنفاقها في ثمن الجواري والإماء.

ومن هنا يظهر؛ أنّ المراد بالإحصان في قوله: ( ... مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ... ) إحصان العفّة دون إحصان التزوُّج، وإحصان الحرّية؛ فإنّ المراد بابتغاء الأموال في الآية أعمُّ ممّا يتعلّق بالنكاح أو بملك اليمين، ولا دليل على قصرها في النكاح، حتى يُحمل الإحصان على إحصان التزوُّج، وليس المراد

١٦٥

بالإحصان العفّة الاحتراز عن مباشرة النساء، حتى يُنافي المورد، بل ما يُقابل السفاح، أعني التعدّي إلى الفحشاء بأيِّ وجه كان، بقصر النفس في ما أحلّ الله، وكفّها عمَّا حرّم الله من الطرق العادية في التمتّع المباشري، الذي أودع النزوع إليه في جبلّة الإنسان وفطرته.

وبما قدّمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ قوله: ( ... أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم... ) ، بتقدير لام الغاية أو ما يؤدّي معناها، والتقدير لتبتغوا، أو إرادة أن تبتغوا، وذلك أنّ مضمون قوله: ( ... أَن تَبْتَغُواْ... ) ، بوجه عين ما أُريد بقوله: ( ... مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) ، لا أنّه أمر مترتّب عليه مقصود لأجله، وهو ظاهر.

وكذا ما يظهر من كلام بعضهم: أنّ المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء وصبِّه، من غير أن يُقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الإنسان لأجلها، وهي غرض تكوين البيت وإيجاد النسل والولد، وبالمقابلة يكون الإحصان هو الازدواج الدائم، الذي يكون الغرض منه التوالد والتناسل؛ وإنّي لست أرى هذا القائل إلاّ أنّه اختلط عليه طريق البحث، فخلط البحث في ملاك الحكم المُسمَّى بحكمة التشريع، بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به من اللوازم.

وأحد البحثين (وهو البحث عن الملاك عقلي)، والآخر (وهو البحث عن الحكم الشرعي وما له من الموضوع والمتعلّق والشرائط والموانع) لفظي يتبع في السعة والضيق البيان اللفظي من الشارع، وإنّا لا نشكُّ أنّ جميع الأحكام المشرّعة تتبع مصالح وملاكات حقيقية، وحكم النكاح الذي هو أيضاً أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية وملاكاً حقيقياً، وهو التوالد والتناسل، ونعلم أنّ نظام الصنع والإيجاد أراد من النوع الإنساني البقاء النوعي ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثمّ احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البُنية الإنسانية بجهاز التناسل، الذي يفصل أجزاء منه فيربِّيه ويكوِّنه إنساناً جديداً يخلف الإنسان القديم

١٦٦

فتمتدّ به سلسلة النوع من غير انقطاع، واحتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل والإنتاج بإبداع القوّة الشهوانية التي يحنُّ بها أحد القبيلين - الذكر والأنثى - من الأفراد إلى الآخر، وينجذب بها كلٌّ إلى صاحبه بالوقوع عليه والنيل، ثمَّ كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقة.

وفي عين أنّ النظام بالغ أمره وواجد غرضه الذي هو بقاء النوع، لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر والأُنثى ولا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائماً، بل إنّما هي مقدّمة غالبية، فليس كل ازدواج مؤدّياً إلى ظهور الولد، ولا كل عمل تناسلي كذلك، ولا كل ميل إلى هذا العمل يؤثّر هذا الأثر، ولا كل رجل أو كل امرأة، ولا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد، فالجميع أُمور غالبية.

فالتجهُّز التكويني يدعو الإنسان إلى الازدواج؛ طلباً للنسل من طريق الشهوة، والعقل المودوع فيه يُضيف إلى ذلك التحرُّز وحفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش، الهادم لأساس البيوت، القاطع للنسل.

وهذه المصلحة المركّبة - أعني مصلحة الاستيلاد والأمن من دبيب الفحشاء - هي الملاك الغالبي الذي بُني عليه تشريع النكاح في الإسلام، غير أنّ الأغلبية من أحكام الملاك، وأمّا الأحكام المشرّعة لموضوعاتها، فهي لا تقبل إلاّ الدوام.

فليس من الجائز أن يُقال: إنّ النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض والملاك المذكور وجوداً وعدماً، فلا يجوز نكاح إلاّ بنيّة التوالد، ولا يجوز نكاح العقيم، ولا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة، ولا يجوز نكاح الصغيرة، ولا يجوز نكاح الزاني، ولا يجوز مباشرة الحامل، ولا مباشرة من

١٦٧

غير إنزال، ولا نكاح من غير تأسيس بيت، ولا يجوز.. ولا يجوز.

بل النكاح سنّة مشروعة بين قبيلي الذكر والأُنثى لها أحكام دائمية، وقد أُريد بهذه السنّة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت، فلا معنى لجعل سنّة مشروعة تابعة لتحقُّق الملاك وجوداً وعدماً، والمنع عمّا لا يتحقّق به الملاك من أفراده وأحكامه.

قوله تعالى: ( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً... ) ، كأنّ الضمير في قوله: (به) راجع إلى ما يدلُّ عليه قوله: ( ... وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ... ) ، وهو النيل أو ما يؤدِّي معناه، فيكون (ما) للتوقيت، وقوله (منهنّ) متعلّقاً بقوله: (استمتعتم) ، والمعنى: مهما استمتعتم بالنيل منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة.

ويمكن أن يكون ما موصولة، واستمتعتم صلة لها، وضمير به راجعاً إلى الموصول، وقوله: (منهن) بياناً للموصول، والمعنى: ومَن استمتعتم به من النساء (إلخ) والجملة، أعني قوله: ( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم... ) (إلخ) تفريع لما تقدّمها من الكلام؛ لمكان الفاء تفريع البعض على الكل، أو تفريع الجزئي على الكلّي بلا شكٍّ، فإنّ ما تقدّم من الكلام أعني قوله: ( ... أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ... ) ، كما تقدّم بيانه شامل لما في النكاح وملك اليمين، فتفريع قوله: ( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ... ) عليه يكون من تفريع الجزء على الكل، أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على المقسم الكلّي.

وهذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى، كقوله عزّ مَن قال: ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ... ) (١) .

وقوله: ( ... فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى

____________________

(١) سورة البقرة، الآية: ١٨٤.

١٦٨

الْحَجِّ... ) (١) .

وقوله: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ... ) (٢) إلى غير ذلك.

والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المُتعة بلا شكٍّ؛ فإنّ الآية مدنيّة نازلة في سورة النساء، في النصف الأول من عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة، على ما يشهد به مُعظم آياتها، وهذا النكاح - أعني نكاح المتعة - كانت دائرة بينهم، معمولة عندهم في هذه البُرهة من الزمان من غير شكٍّ - وقد أطبقت الأخبار على تسلُّم ذلك - سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أم لم يكن، فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شكّ فيه، وكان اسمه هذا الاسم ولا يُعبّر عنه إلاّ بهذا اللفظ، فلا مناص من كون قوله: ( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ... ) محمولاً عليه مفهوماً منه هذا المعنى، كما أنّ سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة، كلّما نزلت آية متعرِّضة لحكم متعلّق بشيء من تلك الأسماء بإمضاء أو ردٍّ، أو أمر أو نهي، لم يكن بدٌّ من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المُسمّاة بها، من غير أن تُحمل على معانيها اللغوية الأصلية.

وذلك كالحج، والبيع، والربا، والربح، والغنيمة، وسائر ما هو من هذا القبيل، فلم يمكن لأحد أن يدّعي أنّ المراد بحجّ البيت قصده، وهكذا، وكذلك ما أتى به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الموضوعات الشرعية، ثمّ شاع الاستعمال حتى عُرفت بأسمائها الشرعية، كالصلاة والصوم، والزكاة وحج التمتع وغير، ذلك لا مجال - بعد تحقُّق التسمية - لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية، بعد تحقُّق الحقيقة الشرعية أو المتشرّعة فيها.

____________________

(١) سورة البقرة، الآية: ١٩٦.

(٢) سورة البقرة، الآية: ٢٥٦.

١٦٩

فمن المتعيِّن أن يُحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة؛ لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية، سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنّة أم لم نقل فإنّما هو أمر آخر.

وجملة الأمر؛ أنّ المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، وهو المنقول عن القدماء من مفسّري الصحابة والتابعين، كابن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وقتادة، ومجاهد، والسدّي، وابن جبير، والحسن وغيرهم، وهو مذهب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية، أنّ المراد بالاستمتاع هو النكاح؛ فإنّ إيجاد علقة النكاح طلب للتمتّع منها هذا، وربّما ذكر بعضهم أنّ السين والتاء في استمتعتم للتأكيد، والمعنى: تمتّعتم.

وذلك؛ لأنّ تداول نكاح المتعة (بهذا الاسم) ومعروفيّته بينهم لا يدع مجالاً لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين.

على أنّ هذا المعنى - على تقدير صحّته وانطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم - لا يُلائم الجزاء المترتِّب عليه أعني قوله: ( ... فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ... ) ، فإنّ المهر يجب بمجرّد العقد، ولا يتوقّف على نفس التمتُّع، ولا على طلب التمتّع الصادق على الخطبة وإجراء العقد والملاعبة والمباشرة وغير ذلك، بل يجب نصفه بالعقد ونصفه الآخر بالدخول.

على أنّ الآيات النازلة قبل هذه الآية، قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب، وذلك كقوله تعالى: ( وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً... ) (١) .

____________________

(١) سورة النساء، الآية: ٤.

١٧٠

وقوله تعالى: ( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً... ) (١) .

وقوله تعالى: ( لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ - إلى أن قال - * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ... ) (٢) .

وما احتمله بعضهم: أنّ الآية أعني قوله: ( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً... ) مسوقة للتأكيد. يرد عليه: أنّ سياق ما نُقل من الآيات وخاصة سياق ذيل قوله: ( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ... ) الآيتين أشدّ وآكد لحناً من هذه الآية، فلا وجه لكون هذه مؤكِّدة لتلك.

وأمّا النسخ، فقد قيل: إنّ الآية منسوخة بآية المؤمنون: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) (٣) .

وقيل: منسوخة بآية العدَّة: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... ) (٤) ، ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ... ) (٥) ؛ حيث إنّ انفصال الزوجين إنّما هو بطلاق وعدّة، وليسا في نكاح

____________________

(١) سورة النساء، الآية: ٢٠.

(٢) سورة البقرة، الآيتان: ٢٣٦ - ٢٣٧.

(٣) سورة المؤمنون، الآيات: ٥ - ٧.

(٤) سورة الطلاق، الآية: ١.

(٥) سورة البقرة، الآية: ٢٢٨.

١٧١

المتعة.

وقيل: منسوخة بآيات الميراث: ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ... ) (١) .

حيث لا إرث في نكاح المتعة.

وقيل: منسوخة بآية التحريم: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ... ) ؛ فإنّها في النكاح.

وقيل: منسوخة بآية العدد: ( ... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ... ) (٢) .

وقيل: منسوخة بالسنَّة، نسخها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عام خيبر. وقيل: عام الفتح. وقيل: في حجّة الوداع.

وقيل: أُبيحت متعة النساء، ثمّ حُرِّمت مرّتين أو ثلاثاً، وآخر ما وقع واستقرّ عليه من الحكم الحرمة.

أمّا النسخ بآية المؤمنون، ففيه أنّها لا تصلح للنسخ؛ فإنّها مكّية وآية المتعة مدنية، ولا تصلح المكّية لنسخ المدنية، على أنّ عدم كون المتعة نكاحاً والمتمتّع بها زوجة ممنوع، وناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوية، وفي كلمات السلف من الصحابة والتابعين من تسميتها نكاحاً.

والإشكال عليه بلزوم التوارث والطلاق وغير ذلك سيأتي الجواب عنه.

وأمّا النسخ بسائر الآيات، كآية الميراث، وآية الطلاق، وآية العَدد، ففيه أنّ النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ، بل نسبة العام والمُخصِّص، أو المطلق والمقيد، فإنّ آية الميراث مثلاً يعمُّ الأزواج جميعاً من كل دائم ومنقطع، والسنّة تُخصّصها بإخراج بعض أفرادها، وهو المنقطع من تحت عمومها، وكذلك القول في آية الطلاق وآية العدد، وهو ظاهر، ولعلّ القول بالنسخ ناشئ من عدم التمييز بين النسبتين.

____________________

(١) سورة النساء، الآية: ١٢.

(٢) سورة النساء، الآية: ٣.

١٧٢

نعم، ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثمّ عقبه عام يُخالفه في الإثبات والنفي، إلى أنّ العام ناسخ للخاص. لكنَّ هذا مع ضعفه - على ما بُيِّن في محلِّه - غير منطبق على مورد الكلام؛ وذلك لوقوع آيات الطلاق (وهي العام) في سورة البقرة، وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة، وكذلك آية العدد واقعة في سورة النساء، متقدِّمة على آية المتعة، وكذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متّصل في سورة واحدة، فالخاص - أعني آية المتعة - متأخِّر عن العام على أيِّ حال.

وأمّا النسخ بآية التحريم، فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام:

أما أولاً: فلأنّ مجموع الكلام الدالِّ على التحريم والدالِّ على حكم نكاح المتعة كلام واحد، مسرود متَّسق الأجزاء، متّصل الأبعاض، فكيف يمكن تصوُّر تقدّم ما يدلُّ على المتعة، ثمّ نسخ ما في صدر الكلام لذيله؟!

وأمّا ثانياً: فلأنّ الآية غير صريحة، ولا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه، وإنّما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرّمة على الرجال، ثمّ بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين، ونكاح المتعة نكاح على ما تقدّم، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتى يؤول إلى النسخ.

ثمّ ربّما قيل: إنّ قوله تعالى: ( ... وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ... ) ، حيث قيّد حلّية النساء بالمهر وبالإحصان، من غير سفاح ولا إحصان في النكاح المنقطع؛ ولذلك لا يُرجم الرجل المتمتّع إذا زنا لعدم كونه محصناً، يدفع كون المتعة مرادة بالآية.

لكن يرد عليه ما تقدّم، أنّ المراد بالإحصان في قوله: ( ... مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ... ) هو إحصان العفَّة دون إحصان التزوُّج؛ لكون الكلام بعينه شاملاً لملك اليمين كشموله النكاح.

ولو سُلِّم أنّ المراد بالإحصان هو إحصان

١٧٣

التزوّج، عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتّع المحصن، بحسب السنّة دون الكتاب؛ فإنّ حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله.

وأمّا النسخ بالسنّة، ففيه - مضافاً إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله؛ لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه، والرجوع إلى الكتاب - ما سيأتي في البحث الروائي.

وقوله تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ... ) ، الطول الغنى والزيادة في القدرة، وكلا المعنيين يُلائمان الآية، والمراد بالمُحصنات الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات، وهذا بعينه يشهد على أنّ ليس المراد بها العفائف، وإلاّ لم تُقابل بالفتيات، بل بها وبغير العفائف، وليس المراد بها ذوات الأزواج؛ إذ لا يقع عليها العقد، ولا المسلمات وإلاّ لاستغنى عن التقيُّد بالمؤمنات.

والمراد بقوله: ( ... فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم... ) ما ملكته أيمان المؤمنين غير مَن يريد الازدواج، وإلاّ فتزوُّج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع، وقد نسب ملك اليمين إلى المؤمنين، وفيهم المُريد للتزوُّج بعدّ الجميع واحداً غير مختلف؛ لاتِّحادهم في الدين واتِّحاد مصالحهم ومنافعهم كأنّهم شخص واحد.

وفي تقييد المحصنات - وكذا الفتيات - بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية ومشركة، ولهذا الكلام تتمّة ستمرّ بك إن شاء الله تعالى.

ومحصّل معنى الآية: أنّ مَن لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات، لعدم قدرته على تحمُّل أثقال المهر والنفقة، فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن يتحرَّج من فقدان القدرة على الحرائر، ويعرض

١٧٤

نفسه على خطرات الفحشاء ومُعترَّض الشقاء.

فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم، والآية في سياق التنزُّل، أي إن لم يُمكنكم كذا فيُمكنكم كذا، وإنّما قصر الكلام في صورة التنزُّل على بعض أفراد المنزَّل عنه - أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز - لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعيّن بالطبع، في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت وإيجاد النسل وتخليف الولد، ونكاح المتعة تسهيل ديني خفَّف الله به عن عباده لمصلحة سدّ طريق الفحشاء، وقطع منابت الفساد.

وسوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن - وخاصّة في مقام تشريع الأحكام والقوانين - كثير شائع في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ( ... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... ) (١) ، مع أنَّ العذر لا ينحصر في المرض والسفر، وقوله تعالى ( ... وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً... ) (٢) .

والأعذار وقيود الكلام كما ترى مبنيّة على الغالب المعروف، إلى غير ذلك من الآيات.

هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم، ولا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزُّل والتوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم، وكون قوله: ( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ... ) غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهَّمه بعضهم؛ لأنّ هذا التنزُّل والتوسعة واقعٌ بطرفيه (المنزل عنه والمنزل إليه) وفي نفس هذه الآية أعني قوله: ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً... ) إلخ.

____________________

(١) سورة البقرة، الآية: ١٨٥.

(٢) سورة النساء: الآية ٤٣.

١٧٥

على أنّ الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح، الشامل للدائم والمنقطع، كما سيتّضح بالكلام على بقيّة فقراتها.

قوله تعالى: ( ... وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) ، لمّا كان الإيمان المأخوذ في متعلّق الحكم أمراً قلبيّاً لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب، وربّما أوهم تعليقاً بالمتعذّر أو المتعسّر، وأوجب تحرّج المكلفين منه، بيّن تعالى أنّه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين، وهو كناية عن أنّهم إنّما كلِّفوا الجري على الأسباب الظاهرية الدالّة على الإيمان، كالشهادتين، والدخول في جماعة المسلمين، والإتيان بالوظائف العامة الدينية، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه.

وفي هداية هؤلاء المكلّفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص وقصور آخر، في الوقوع موقع التأثير والقبول، وهو أنّ عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد والإماء هواناً في الأمر وخسّة في الشأن ونوع ذلّة وانكسار، فيوجب ذلك انقباضهم وجماح نفوسهم من الاختلاط بهم والمعاشرة معهم، وخاصة بالازدواج الذي هو اشتراك حيوي، وامتزاج باللحم والدم.

فأشار سبحانه بقوله: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) إلى حقيقة صريحة، يندفع بالتأمُّل فيها هذا التوهُّم الفاسد، فالرقيق إنسان كما أنّ الحرّ إنسان، لا يتميّزان في ما به يصير الإنسان واجداً لشؤون الإنسانية، وإنّما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الإنساني في إنتاجه سعادة الناس، ولا عبرة بهذه التميُّزات عند الله، والذي به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله، فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية، التي تُبعِّدهم عن حقائق المعارف المتضمِّنة سعادتهم وفلاحهم، فإنّ الخروج عن

١٧٦

مستوى الطريق المستقيم، وإن كان حقيراً في بادي أمره، لكنّه لا يزال يُبعد الإنسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة.

ومن هنا؛ يظهر أنّ الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط والتنزُّل، أعني قوله: ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم... ) ، إنّما هو جُري في الكلام على مجرى الطبع والعادة، وليس إلزاماً للمؤمنين على الترتيب، بمعنى أن يتوقّف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرّة، بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك، خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يُقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض، ونبَّه مع ذلك على أنّ الحرّ والرقّ من نوع واحد، بعض أفراده يرجع إلى بعض.

ومن هنا يظهر أيضاً فساد ما ذكره بعضهم، في قوله تعالى في ذيل الآية: ( ... وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ... ) أنّ المعنى وصبركم عن نكاح الإماء مع العفّة خير لكم من نكاحهنّ؛ لما فيه من الذلّ والمهانة والابتذال هذا، فإن قوله: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) يُنافي ذلك قطعاً.

قوله تعالى: ( ... فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ - إلى قوله - أَخْدَانٍ... ) ، المراد بالمحصنات العفائف، فإنّ ذوات البعولة لا يقع عليهنّ نكاح، والمراد بالمُسافحات ما يُقابل متّخذات الأخدان، والأخدان جمع خِدن بكسر الخاء، وهو الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع، وإنّما أتى به بصيغة الجمع، للدلالة على الكثرة نصَّاً، فمَن يأخذ صديقاً للفحشاء لا يقنع بالواحد والاثنين فيه؛ لأنّ النفس لا تقف على حدٍّ إذا أُطيعت فيما تهواه.

وبالنظر إلى هذه المقابلة، قال مَن قال: إنّ المراد بالسفاح الزنا جهراً وباتخاذ الخِدن الزنا سرّاً، وقد كان اتخاذ الخدن متداولاً عند العرب حتى

١٧٧

عند الأحرار والحرائر لا يُعاب به مع ذمِّهم زنا العَلن لغير الإماء.

فقوله: ( ... فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ... ) ، إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطاً بأن يكون بإذن مواليهن، فإنّ زمام أمرهنّ إنّما هو بيد الموالي لا غير، وإنّما عُبِّر عنهم بقوله: (أهلهنّ) جرياً على ما يقتضيه قوله قبل: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) ، فالفتاة واحدة من أهل بيت مولاها، ومولاها أهلها.

والمراد بإتيانهنّ أُجورهنّ بالمعروف توفيتهنّ مهور نكاحهن، وإتيان الأجور إيّاهن إعطاؤها مواليهن، وقد أرشد إلى الإعطاء بالمعروف عن غير بخس ومماطلة وإيذاء.

قوله تعالى: ( ... فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ... ) ، قرئ أُحصنّ بضم الهمزة بالبناء للمفعول وبفتح الهمزة بالبناء للفاعل، وهو الأرجح.

الإحصان في الآية، إن كان هو إحصان الازدواج، كان أخذه في الشرط المجرّد كون مورد لكلام في ما تقدّم ازدواجهن؛ وذلك أنّ الأمة تُعذَّب نصف عذاب الحرّة إذا زنت، سواء كانت مُحصنة بالازدواج أم لا، من غير أن يؤثّر الإحصان فيها شيئاً زائداً.

وأمّا إذا كان إحصان الإسلام كما قيل - ويؤيِّده قراءة فتح الهمزة - تمّ المعنى من غير مؤونة زائدة، وكان عليهنّ إذا زنين نصف عذاب الحرائر، سواء كنّ ذوات بعولة أم لا.

والمراد بالعذاب هو الجَلد دون الرجم؛ لأنّ الرجم لا يقبل الانتصاف، وهو الشاهد على أنّ المراد بالمُحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية، واللام للعهد.

فمعنى الآية - بالجملة - أنّ الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة وهو الزنا، فعليهنّ نصف حدِّ المحصنات غير ذوات الأزواج،

١٧٨

وهو جلد خمسين سوطاً.

ومن الممكن أن يكون المراد بالإحصان، إحصان العفّة، وتقريره: أنّ الجواري يومئذ لم يكن لهنّ الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهنّ من الأعمال، بما لهنّ من اتِّباع أوامر مواليهنّ وخاصة في الفاحشة والفجور، وكانت الفاحشة فيهنّ - لو اتّفقت - بأمر من مواليهن في سبيل الاستغلال بهنّ والاستدرار من عرضهنّ، كما يُشعر به النهي الوارد في قوله تعالى: ( ... وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا... ) (١) ، فالتماسهنّ الفجور واشتغالهنّ بالفحشاء، باتّخاذها عادة ومكسباً، كان فيما كان يأمر مواليهنّ، من دون أن يسع لهنّ الاستنكاف والتمرُّد، وإذا لم يُكرههن الموالي على الفجور، فالمؤمنات منهنّ على ظاهر تقوى الإسلام، وعفّة الإيمان، وحينئذ إن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب، وهو قوله تعالى: ( ... فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ... ) (إلخ).

ومن هنا؛ يظهر أنّ لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى، وذلك أنَّهنَّ إذا لم يُحصنّ ولم يعففن كنّ مكروهات من قِبل مواليهن، مؤتمرات لأمرهم، كما لا مفهوم لقوله تعالى: ( ... وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا... ) (٢) . حيث إنّهنّ إن لم يُردن التحصُّن لم يكن موضوع لإكراههن من قِبل الموالي لرضاهنّ بذلك.

قوله تعالى: ( ... ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ... ) ، العنت الجهد والشدّة والهلاك، وكان المراد به الزنا، الذي هو نتيجة وقوع الإنسان في مشقّة الشَّبق وجهد شهوة النكاح، وفيه هلاك الإنسان، والإشارة على ما قيل: إلى نكاح الجواري المذكور في الآية؛ وعليه فمعنى قوله: ( ... وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ... ) أن

____________________

(١) سورة النور، الآية: ٣٣.

(٢) سورة النور، الآية: ٣٣.

١٧٩

تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا خير لكم، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الإماء، أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شيء منهما من سابق سياق الآية، والله أعلم.

وكيف كان، فكون الصبر خيراً إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء، إنّما هو لما فيه من حقوق مواليهنّ وفي أولادهنّ على ما فُصِّل في الفقه، وإن كان المراد الصبر عن الزنا، إنّما هو لما في الصبر من تهذيب النفس وتهيئة ملكة التقوى فيها، بترك اتّباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه، والله غفور رحيم، يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء، عن نفوس المتّقين من عباده ويرحمهم برحمته.

وقوله تعالى: ( ... يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ... ) إلى آخر الآية، بيان وإشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الأحكام في الآيات الثلاث، والمصالح التي تترتّب عليها إذا عُمِل بها فقوله: ( ... يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ... ) ، أي أحكام دينه ممّا فيه صلاح دنياكم وعُقباكم، وما في ذلك من المعارف والحِكم، وعلى هذا؛ فمعمول قوله: يُبيِّن محذوف للدلالة على فخامة أمره وعظم شأنه، ويمكن أن يكون قوله: ( ... لِيُبَيِّنَ لَكُمْ... ) ، وقوله: ( ... وَيَهْدِيَكُمْ... ) متنازعين في قوله: ( ... سُنَنَ الَّذِينَ... ) .

قوله تعالى: ( ... وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... ) ، أي طرق حياة السابقين من الأنبياء والأُمم الصالحة، الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله، الحائزين به سعادة الدنيا والآخرة، والمراد بسُننهم على هذا المعنى سُننهم في الجملة لا سُننهم بتفاصيلها وجميع خصوصياتها، فلا يرد عليه أنّ من أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها، كازدواج الإخوة بالأخوات في سنّة آدم، والجمع بين الأُختين، في سنّة يعقوب (عليه السلام)، وقد جمع (عليه السلام) بين الأُختين - ليا أم يهودا وراحيل أمّ يوسف - على ما في بعض الأخبار، وهنا معنى آخر قيل به، وهو أنَّ المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الأوّل ـ: ما هو معنى ولاية الفقيه وما هي حقيقتها ؟

الثاني ـ: كيف يمارس الفقيه ولايته هذه، إلى جانب المؤسّسات الدستوريّة والتشكيلات الحكوميّة العليا التي مرّ ذكرها، وبشكل يتمشّى مع بقيّة المعايير الإسلاميّة في نظام الحكم الإسلاميّ الذي يعطي للاُمّة الحريّة في إدارة نفسها ضمن الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

وإليك فيما يلي الإجابة على هذين السؤالين.

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً

لقد كثر النقاش أخيراً حول ولاية الفقيه، فمن متوهّم أنّ نتيجة القول بولاية الفقيه هي اعتبار الاُمّة قاصرةً وعاجزةً عن إدارة أمرها، فلابدّ لها من وليّ يتولّى اُمورها.

ومن متصوّر بأنّ نتيجتها هي استبداد الفرد بالإدارة والحكم، ورفض الرأي العامّ، وهو أمر يتنافى مع ما قرّرناه ـ حسب المعايير الإسلاميّة ـ من اختيار الاُمّة الإسلاميّة في تشكيل الحكومة، نوّاباً ووزراء ورؤساء، وذلك في نطاق الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

ولكنّ هذه التوهّمات ناشئة عن عدم وضوح ( ولاية الفقيه ) وضوحاً لا يبقي شبهةً، ولا يترك غموضاً، فليس إقرار ولاية الفقيه بمعنى جعل الاُمّة الإسلاميّة الرشيدة بمنزلة القصّر، كما ليس نتيجتها استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة والعمل أو الترك كيفما شاء دون مشورة أو رعاية للمصالح والمعايير الإسلاميّة.

إنّ للمجتهد الفقيه العارف بأحكام الإسلام القادر على استنباط قوانينه ثلاثة مناصب وهي التي يعبّر عنها جميعاً بولاية الفقيه وهي :

الأوّل: منصب الإفتاء: فإنّ الأحكام الشرعيّة بأبوابها الأربعة، من عبادات ومعاملات وإيقاعات، وسياسات، لـمّا كانت أمراً نظرياً يحتاج إلى التعلّم والتعليم ولا يمكن لكلّ أحد من الناس معرفتها عن مصادرها العلميّة المتقنة ـ فإنّ ذلك يعوق الإنسان عن مهامّ اُموره الدنيويّة والمعيشيّة ـ عمد الإسلام إلى إرجاع ( نظام الإفتاء ) إلى

٢٢١

فقيه، عالم بشرائع دينه، وهذا هو الذي يطلق عليه في اصطلاح المتشرّعة ب‍ ( المفتي ) ليكون مرجعاً لأخذ الأحكام.

الثاني: القضاء: فإنّ من مقتضى القوى والغرائز النفسانيّة والطبيعيّة التوجّه إلى المنافع، والتباعد عن المضارّ، وهو بدوره يوجب نزاعاً على المنافع الذي قد ينجرّ إلى الحروب، فلدفع هذه المفسدة ترك أمر القضاء إلى الفقيه الجامع للشرائط.

الثالث: الحكومة: فإنّ من أهم مايحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه، ونفوسه واجتماع أمره ؛ وجود قائد بينهم يجب على الجميع إطاعة قوله واتباع فعله، وهو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرّعة بالحاكم والسائس(١) .

وعلى هذه الاُمور الثلاثة تدور رحى حياة المجتمع الإسلاميّ.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ للولاية مرتبةً عليا مختصّةً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الطاهرين وغير قابلة للتفويض إلى أحد، وهي بين تكوينيّة يعبّر عنها بالولاية التكوينيّة التي بها يتصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الكون إذا اقتضت المصلحة ذلك كما إذا كان في مقام الإعجاز، وفي ذلك يقول الإمام الخمينيّ: ( إنّ للنبيّ والإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيّةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون )(٢) .

وبين التشريعيّة التي يشير إليها قوله سبحانه:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب: ٦ ) وهي مختصّة بالنبيّ وأوصيائه المعصومين، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم(٣) .

وأمّا غير المختصّ بهم، فإنّما هو مقام الافتاء والقضاء، والولاية، التي أظهر مصاديقها نظم البلاد والجهاد والدفاع وسدّ الثغور وإجراء الحدود، وأخذ الزكاة وإقامة

__________________

(١) اقتباس من دروس الإمام الخمينيّ في علم الاُصول ألقاها في مدينة قم المقدّسة عام ( ١٣٧٠ ه‍ ) وقد قرّرها الاُستاذ السبحاني ونشرها في كتاب تهذيب الاُصول ٣: ١٣٦.

(٢) الحكومة الإسلاميّة: ٥٢.

(٣) لاحظ منية الطالب تقريراً لبحث المحقّق النائينيّ: ٣٢٥.

٢٢٢

الجمعة وغيرها.

فالأوّلان من هذه المناصب ( الثلاثة ) ثابتان للفقيه ـ باتفاق الكلمة ـ كما سيوافيك بيانه عند بيان السلطات الثلاث.

وأمّا الولاية والحكومة بالمعنى الماضي، فلا وجه للشك في ثبوتها للفقيه حسب الأدلّة الواردة ولكنّ المراد منها يتلخّص في أمرين :

الأوّل: إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه(١) .

إذ كل ما يشترط من المواصفات في الحاكم التي يأتي بيانها، موجود في الفقيه العادل.

وأمّا الثاني: إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلاميّة فللفقيه العادل حينئذ أن يراقب سلوك الحكومة وتصرّفاتها، فيصحّح مسيرتها إذا انحرفت ويعدّل سلوكها إذا شذّ وعندئذ تكون ولاية الفقيه ضمانةً لاستقامة الدولة ومانعاً عن عدولها عن جادّة الحقّ وسنن الدين، فهو متخصّص عارف بالأحكام والحدود، وبما أنّه ورع يتّقي الله ويخشاه أكثر من سواه كما يقول الله سبحانه:( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر: ٢٨ ) وقد عاش بين أفراد المجتمع فعرف بالصلاح والورع والأمانة، فولايته تحجز الحكومة عن الخروج عن المعايير الإسلاميّة وارتكاب ما يخالف مصالح الإسلام والمسلمين دون أن ينحرف هو عن صراط الحقّ المستقيم.

كيف يمارسُ الفقيه ولايته

أمّا كيف يمارس الفقيه ولايته ـ وهو الشقّ الثاني ـ إلى جانب ما أقرّه الإسلام من أختيار للاُمّة في انتخاب حكّامها، وما أعطاه من الحرية لهم في نطاق المعايير الإسلاميّة ،

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ: ٤٩، بل يجب على الفقيه تشكيل الدولة الإسلاميّة إذا لم يكن هناك دولة إسلاميّة.

٢٢٣

فهو يتضح بما يلي :

إنّ الفقيه بحكم مسؤوليته اتّجاه الإسلام والمسلمين يتحرّى في جميع الظروف مصالح الاُمّة، فإذا كانت الحكومة التي إقامتها الاُمّة الإسلاميّة موافقةً للمعايير الإسلاميّة، ومطابقةً للمصلحة الاجتماعيّة العليا وجب عليه إمضاؤها، وإقرارها، وليس له أن يردّها، ولأجل ذلك لا يترتب على ( ولاية الفقيه ) إلّا استقرار الحكومة الإسلاميّة الصالحة، ولا يتغيّر بولايته أي شيء من الأركان والمؤسسات الحكوميّة المذكورة سلفاً، ولا تتعارض مع ما ذكرناه وأثبتناه من حريّة الاُمّة واختيارها.

ذلك هو مجمل حقيقة ولاية الفقيه، وهذه هي كيفيّة ممارستها إلى جانب التشكيلات الاُخرى في النظام الإسلاميّ.

وهي كما ترى خير ضمان جوهراً وممارسةً لاستقامة الحكومة في المجتمع الإسلاميّ، وإبقائها على الخط المستقيم دون أن يستلزم فرض هذه الولاية اعتبار الاُمّة قصراً، أو يلازم استبداداً كما يشاء البعض وصفها بذلك، أو يتوهّمونه خطأً وغفلةً عن حقيقة الحال لهذا العنصر العظيم في الفقه الإماميّ على صعيد الحكم.

* * *

كلمة أخيرة :

لقد تبيّن من هذا البحث الواسع حول لون الحكومة الإسلاميّة، أنّ الحكومة عند حضور الإمام المنصوص عليه من جانب الله حكومة إلهيّة محضة، وأمّا عند عدم إمكان التوصّل إليه فهي مزيج من ( الحاكميّة الإلهيّة والسيادة الشعبيّة ).

فهي إلهيّة: من جهة أنّ التشريع لله سبحانه بالأصالة، وأنّ على الاُمّة الإسلاميّة أن تراعي جميع الشرائط والضوابط الإسلاميّة في مجال الانتخاب، وأنّ على الحاكم الإسلاميّ أن يلتزم بتنفيذ الشريعة الإسلاميّة حرفاً بحرف، فلأجل هذه الجهات تعدُّ إلهيّة، أو حكومة قانون الله على الناس.

وهي شعبيّة: من جهة أنّ انتخاب الحاكم الأعلى وسائر الأجهزة الحكومية العليا

٢٢٤

موكول إلى الناس ومشروط برضاهم.

ثمّ إنّ هناك نظريتين في كيفيّة تشكيل الحكومة الإسلاميّة جنح إليها كثير من أهل السنّة وهما :

١. الشورى أساس الحكم.

٢. البيعة أساس الحكم.

ولتحقيق الحال نبحث عن كلتا النظريتين في البحث القادم.

٢٢٥

هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟

إنّ الظاهر من بعض من كتب حول الحكومة الإسلاميّة أنّ أساس الحكم في الإسلام هو الشورى، وقد ذهبوا إلى ذلك لأجل أمرين :

الأوّل: أنّهم جعلوه مكان الاستفتاء الشعبيّ، لأنّه لم يكن من الممكن ـ في صدر الإسلام ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مراجعة كلّ الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلاميّ لقلّة وسائل المواصلات، وفقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم.

الثاني: أنّهم أرادوا بذلك تصحيح الخلافة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ بعض الخلفاء توصّل إلى ذلك بالشورى، ثمّ عدّ هذا الاُسلوب إحدى الطرق لتعيين الحاكم.

وربّما يؤيّد الأوّل قول الإمام عليّعليه‌السلام : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(١) .

وهو إشارة إلى أنّ عدم إمكان أخذ البيعة بالصورة الواسعة يجوّز أخذها بصورة محدودة.

ولعلّ إلى ذلك نظر الشيخ عبد الكريم الخطيب إذ قال: ( إنّ الذين بايعوا أوّل

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (١٦٨) عبده.

٢٢٦

خليفة للمسلمين لم يتجاوز أهل المدينة، وربّما كان بعض أهل مكّة، وأمّا المسلمون ـ جميعاً ـ في الجزيرة العربية فلم يشاركوا في هذه البيعة، ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الخبر باستخلاف أبي بكر )(١) .

ويؤيّد الثاني ( أي اعتبار الشورى أساساً للحكم تصحيحاً للحكومات التي قامت بعد وفاة النبي ) أنّهم ذكروا ـ فيما تنعقد به الإمامة والخلافة نفس الأعداد التي تنطبق عليها خلافة أحد الخلفاء، فلم يكن اعتبار هذه الأعداد والوجوه إلّا للاعتقاد المسبّق بصحّة خلافة اُولئك الخلفاء.

ولأجل ذلك يقول الماورديّ: الإمامة تنعقد من وجهين :

أحدهما: باختيار أهل العقد والحلّ.

والثاني: بعهد الإمام من قبل.

فأمّا انعقاها باختيار أهل العقد والحلّ، فقد اختلف الفقهاء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى، فقالت طائفة لا تنعقد الإمامة إلّا بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة، باختيار من حضرها ولم ينتظر لبيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أخرى: أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين :

أحدهما: أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثمّ تابعهم الناس فيها وهم: ( عمر بن الخطاب ) و ( أبو عبيدة الجراح ) و ( أسيد بن حضير ) و ( بشر بن سعد ) و ( سالم مولى أبي حذيفة ).

الثاني: أنّ عمر (رض) جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

__________________

(١) الإمامة والخلافة: ٢٤١.

٢٢٧

وقال آخرون: من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً، وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بوليّ وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى: تنعقد بواحد لأنّ العبّاس قال لعليّ (رض): أمدد يدك اُبايعك فيقول الناس عمّ رسول الله بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ )(١) .

وقال القاضي العضديّ ـ في المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة ـ من كتابه: ( إنّها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع، وتثبت ببيعة أهل العقد والحلّ )(٢) .

ومن المعلوم، أنّ الاختلاف الواقع في عدد من تنعقد به الشورى يفيد ـ بوضوح ـ أنّه لم يكن هناك أي نصّ من الشارع المقدّس على أنّ الإمامة تنعقد بالشورى، ولذلك اختلفوا فيها على مذاهب وغاب عنهم وجه الصواب.

ثمّ إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى أنّ القائلين بها انقسموا ـ في أثرها ـ على قسمين :

الأوّل: وهم الأكثريّة، ذهبوا إلى أنّ انتخاب أهل الشورى كان ملزماً للاُمّة، فوجب عليها أن تسلِّم لمن اختاروه بهذا الطريق.

الثاني: أنّ انتخاب أهل الشورى لأحد ليس أزيد من ( ترشيح ) له، وكان للاُمّة هي أن تختاره، أو لا تختاره فكان الملاك هو رأي الاُمّة(٣) .

غير أنّ هذا الرأي لا يتفق مع خلافة الخلفاء الذين تسنّموا عرش الخلافة بالشورى، فقد كان انتخابهم ملزماً يومذاك على رأيهم، ولم يكن من باقي الاُمّة إلّا الاتباع والتسليم.

__________________

(١) الأحكام السلطانيّة للماورديّ: ٤.

(٢) شرح المواقف ٣: ٢٦٥.

(٣) راجع الشخصيّة الدوليّة لمحمّد كامل ياقوت: ٤٦٣.

٢٢٨

ما هي أدلّة الأخذ بالشورى ؟

إنّ البحث عن كون الشورى وسيلةً لتعيين الإمام يقع في ظرفين :

الأوّل: بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني: في زماننا الحاضر، حيث لا يمكن الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب الله سبحانه، بالاسم.

وبما أنّ القائلين بمبدأ الشورى يصرّون على أنّها كانت أساساً للخلافة والحكم بعد الرسول أيضاً، فإننا سنبحث الموضوع في كلا الموقعين معاً :

حكم الشورى بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد استدل القائلون بالشورى بآيتين هما :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( العمران: ١٥٩ ).

فإنّ الله سبحانه يأمر نبيّه بأن يشاور من حوله، وذلك تعليماً للاُمّة بأن تتشاور في مهامّ الاُمور، ومنها ( الخلافة ).

غير أنّ التأمّل والنظر في مفاد الآية، يكشف عن أنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته، وتمّت بوجه من الوجوه، فإنّ الله سبحانه يأمره بأن يشاور أفراد الاُمّة ويستضيء بأفكارهم، وينتفع بمشاورتهم توصّلاً إلى أحسن النتائج كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال في اُمورها شاركها في عقولها »(١) . فلا ارتباط للآية ومفادها بما نحن فيه.

وبعبارة اُخرى: إنّ الخطاب وإن كان يمكن التعدي عنه إلى سائر أفراد الاُمّة

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم (١٦١).

٢٢٩

قائلاً بعدم خصوصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب لكنّه لا يمكن التعدّي عن ذلك المنطوق إلّا إلى مقدار يشابه منطوق الآية لا أكثر، فأقصى ما تفيده الآية، هو أن لا يكون الحاكم الإسلاميّ، وصاحب السلطة التي تمت سلطته، مستبدّاً في أعماله بل ينبغي أن يتشاور مع أصحابه وأعوانه في مهامّ الاُمور وجسامها، وأمّا أن يصحّ تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى استدلالاً بهذه الآية، فلا يمكن الانتقال ممّا ذكرناه إلى هذا المورد.

هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من الآية هو أنّ ( الشورى ) لا توجب حكماً للحاكم ولا تلزمه بشيء، بل هو يقلّب وجوه الرأي، ويستعرض الأفكار المختلفة ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره، وهذا يتحقق في ظرف يكون هناك ( رئيس ) تام الاختيار في استحصال الأفكار، والعمل بالنافع منها، كما أنّ استحصال الأفكار هذا لا يتمّ إلّا أن يكون للمستشير مقاماً وسلطةً وولايةً مفروضة، ويكون رئيساً مستقرّ الحاكميّة، وأمّا إذالم يكن ثمة رئيس فلا يمكن أن يتم هذا الأمر، الذي ندب إليه القرآن وحثّ عليه، إذ ليس عندئذ هناك رئيس يندب الأفراد ويستعرض أراءهم ثمّ يتأمّل فيها ويأخذ بالنافع منها.

* * *

الثانية: قوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) ( الشورى: ٣٨ )، فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الضمير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكلّ أمر بما فيه الخلافة والإمامة، فالمؤمنون ـ بحسب هذه الآية ـ يتشاورون في جميع اُمورهم حتّى الخلافة.

ولكن ينبغي البحث في الموضوع الذي تأمر الآية بالمشورة فيه وأنّه ما هو ؟ فنقول: إنّ الآية تأمر بالمشورة في الاُمور المضافة إلى المؤمنين، فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( أي تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم، ومضاف إليهم، فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسّك بعموم الآية في مورده.

وبعبارة أخرى: إنّ الآية حثّت على الشورى في اُمورهم وشؤونهم لا فيما هو خارج عن حوزة اُمورهم وشؤونهم، ولما كان تعيين ( الإمام والخليفة ) من جانبهم مشكوكاً في

٢٣٠

كونه من اُمورهم، إذ لا يدرى هل من شؤونهم وصلاحياتهم، أم من شؤون الله سبحانه فعندئذ لا يجوز التمسّك بالآية في المورد.

وبعبارة ثالثة: هل أنّ الإمامة إمرة وولاية إلهيّة لتحتاج إلى نصب وتعيين إلهيّ، أو هي إمرة وولاية شعبيّة ليجوز للناس أن يعيّنوا بالشورى من أرادوا للإمامة والخلافة ؟

ومع الترديد والشكّ، لا يمكن الأخذ بإطلاق الآية المذكورة وتعميم ( أمرهم ) لأمر الإمامة، لأنّه من باب التمسك بالحكم عند الشكّ في الموضوع، وهذا نظير ما إذا قال أحد: ( أكرم العلماء ) فشككنا في رجل هل هو عالم أو لا، فلا يجوز التمسّك بالعامّ في هذا المورد المشكوك والقول بلزوم إكرام الرجل.

التمسّك بكلام عليّ عليه‌السلام في الشورى

ثمّ إنّ القائلين بمبدأ الشورى يتمسّكون بأحاديث في هذا المقام، وربّما تمسّكوا بقول الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١) .

ثمّ إنّ الشارح الحديديّ، كان أوّل من احتج بهذه الخطبة على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو نظام الشورى وتبعه بعض من تبعه، من دون رجوع إلى القرائن الحافّة بها والحال أنّ الاستدلال بالشورى استدلال جدليّ من باب:( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل: ١٢٥ ).

وقد نقل نصر بن مزاحم المنقريّ المتوفّى عام (٢١٢ ه‍ ) أي ١٤٧ عاماً قبل ميلاد ( الشريف الرضيّ جامع نهج البلاغة ) في كتابه القيّم ( وقعة صفّين ) العبارات

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦).

٢٣١

الكثيرة التي حذفها الرضيرحمه‌الله من الرسالة كما هو دأبه في أكثر الخطب والكتب(١) .

فإنّ الإمام عليّعليه‌السلام بدأ رسالته بقوله: « أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنّه بايعني ».

ثمّ ختمها بقوله: « وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي وكان نقضهما كردِّهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقُّ وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ».

ثمّ قال: « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله(٢) ، وأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن ».

هذا وقد طلب معاوية قبل أن يكتب إليه الإمام هذا الكتاب بأن يسلِّم إليه قتلة عثمان حتّى يقتصّ منهم ثمّ يبايع الإمام عليّاًعليه‌السلام هو ومن معه، وهذا هو ما سمّاه الإمام بخدعة الصبي عن اللبن.

وهذه الجمل والعبارات التي تركها الرضيّ في نقل الكتاب تشهد بأنّ الإمام كتب هذه الرسالة من باب الجدل والاستدلال بما هو موضع قبول الخصم.

ثمّ إنّ ملاحظة قول: « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان » تدلّ أيضاً على أنّ الإمام كان في مقام المجادلة وإفحام الخصم بما هو مسلّم عنده. فالابتداء بتماميّة الخلافة للشيخين بمبايعة المهاجرين والأنصار لهما لأجل إسكات معاوية الذي يعتبر هذه البيعة هي الملاك في خلافة الخليفة. ولولا هذا لما كان لذكر خلافة الشيخين عن طريق البيعة والشورى وجه. ولأجل ذلك نجد الإمامعليه‌السلام يردف هذه

__________________

(١) ولد الرضي عام ( ٣٥٩ ه‍ ) وتوفّي ( ٤٠٦ ه‍ ).

(٢) راجع ( وقعة صفّين ) لنصر بن مزاحم ( طبعة مصر ): ٢٩.

٢٣٢

العبارات بقوله: « فإن اجتمعوا على رجل » احتجاجاً بمعتقد معاوية.

فهذا الاُسلوب إنّما اتخذه الإمامعليه‌السلام عملاً بقوله سبحانه:( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وكيف لا، وللإمامعليه‌السلام كلمات ساخنة في تخطئة الشورى التي تمّت بها خلافة الخلفاء بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقف عليها كلّ من تصفّح نهج البلاغة، وسائر ما روي عنهعليه‌السلام في هذا المجال.

والذي يدلّ على ذلك وأنّ الشورى لم تكن أساساً للخلافة والحكومة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أصحاب الشورى في السقيفة ـ لا في غيرها ـ لم يتمسّكوا بها، ولا بالآيات والأحاديث الواردة حولها.

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة :

وهناك ملاحظات أساسيّة أخرى على جعل الشورى منشأً للحكم، وطريقاً لتعيين الحاكم نشير إلى بعضها :

١. لو كان أساس الحكم ومنشأه هو ( الشورى )، لوجب على الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان تفاصيلها وخصوصيّاتها وأسلوبها، أو خطوطها العريضة على الأقلّ.

فإنّ الإسلام إذا كان قد أرسى نظام الحكم على أساس ( الشورى )، وجعله طريقاً لتعيين الحاكم بحيث تكون هي مبدأ الولاية والحاكميّة، فإنّ من الطبيعيّ بل والضروريّ أن يقوم الإسلام بتوعية الاُمّة، وإيقافها ـ بصورة واسعة ـ على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة حتّى لاتتحيّر الاُمّة وتختلف في أمرها، ولكنّنا رغم هذه الأهميّة القصوى لا نجد لهذه التوعية الضروريّة أي ( أثر ) في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم.

ولقد بادر بعض الكتاب إلى الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ: الإسلام قد تكفّل

٢٣٣