قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 0%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الصفحات: 233
المشاهدات: 49630
تحميل: 6727

توضيحات:

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49630 / تحميل: 6727
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الناس في التلبُّس بها وتبعيّتها وعدمه، إلاّ أنَّ تزاحم القانون في مسيره ممتنع حينئذ.

ولازم ذلك؛ أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب، فيستحسن كثيراً ممّا كان يستقبحه الدين، وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية، مستظهراً بالحرّية القانونية.

ولازم هذا اللازم؛ أن يتحوّل نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي العاطفي، فربّما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والإحساسات، وسُمِّي فتوَّة وبشراً وحسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبّان، وبين الرجال والنساء والكلاب، وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم، وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص، وغير ذلك ممّا ينقبض عن ذكره لسان المتأدّب بأدب الدين، وربّما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس، كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والإدراك باختلاف الطريق، ولا يُستفاد في هذه السُّنن الإحساسية من التعقُّل - كما عرفت - إلاَّ بمقدار ما يسوّى به الطريق إلى التمتّع والتلذُّذ، فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شيء، ولا يمنع منها شيء إلاّ في صورة المعارضة بمثلها، حتى إنّك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال (الانتحار) و (دئل) وغيرهما، فللنفس ما تُريده وتهواه إلاّ أن يُزاحم ما يريده ويهواه المجتمع.

إذا تأمّلت هذا الاختلاف، تبيّن لك وجه أوفقية سنّة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية، دون سنّة المجتمع الديني، غير أنّه يجب أن يتذكّر أنّ سنّة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة - لطباع الناس - حتى تترجّح بذلك وحدها، بل جميع السُّنن المعمولة - الدائرة بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة - تشترك في أنّ الناس

٢١

يُرجّحونها على الدين الداعي إلى الحق، في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.

ولو تأمّلت حق التأمُّل، وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلاّ مؤلّفة من سنن الوثنية الأُولى، غير أنّها تحوّلت من حال الفردية إلى حال الاجتماع، ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقّة الفنّية.

والذي ذكرناه - من بناء السنّة الإسلامية على اتّباع الحق دون موافقة الطبع - من أوضح الواضحات في بيانات القرآن.

قال الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ... ) (1) .

وقال تعالى: ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ... ) (2) .

وقال في وصف المؤمنين: ( ... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ... ) (3) .

وقال: ( لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (4) .

فاعترف بأنّ الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم، ثمّ ردّ لزوم موافقة أهواء الأكثرية، بأنَّه يؤول إلى الفساد فقال: ( ... بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ) (5).

ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوماً فيوماً ما بيّنه تعالى في هذه الآية.

وقال تعالى: ( ... فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (6)

____________________

(1) سورة التوبة، الآية: 33.

(2) سورة المؤمن، الآية: 20.

(3) سورة العصر، الآية: 3.

(4) سورة الزخرف، الآية: 78.

(5) سورة المؤمنون، الآيتان: 70 - 71.

(6) سورة يونس، الآية: 32.

٢٢

والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جدّاً، وإن شئت زيادة تبصُّر فيه فراجع سورة يونس، فقد كرَّر فيه ذكر الحق بضعاً وعشرين مرّة.

وأمّا قولهم: إنَّ اتِّباع الأكثر سنّة جارية في الطبيعة. فلا ريب أنّ الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها، إلاّ أنّها ليست بحيث تُبطل أو تُعارض وجوب اتّباع الحق، فإنّها نفسها بعض مصاديق الحق، فكيف تُبطل نفسها.

وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور:

أحدهما: إنّ الأمور الخارجية التي هي أصول عقائد الإنسان العلمية والعملية، تتبع في تكونها وأقسام تحوُّلها نظام العلّية والمعلولية، وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء، أطبق على ذلك المحصّلون من أهل العلم والنظر، وشهد به القرآن على ما مرّ. فالحدث الخارجي لا يتخلّف عن الدوام والثبات؛ حتى إنّ الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسيّة هي في أنّها أكثرية دائمة ثابتة، مثلاً: النار التي تفعل السخونة غالباً بالقياس إلى جميع مواردها (سخونتها الغالبية) أثر دائم لها وهكذا، وهذا هو الحق.

والثاني: إنّ الإنسان بحسب الفطرة يتّبع ما وجده أمراً واقعياً خارجياً بنحو، فهو يتّبع الحق بحسب الفطرة؛ حتى إنّ مَن يُنكر وجود العلم الجازم إذا أُلقي إليه قول، لا يجد من نفسه التردُّد فيه خضع له بالقبول.

والثالث: إنّ الحق - كما عرفت - هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتّبعه في عمله، وأمّا نظر الإنسان وإدراكه، فإنّما هو وسيلة يتوسّل بها إليه، كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.

إذا عرفت هذه الأمور؛ تبيّن لك أنّ الحقيّة - وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضاً - إنّما هي صفة الخارج الواقع وقوعاً دائمياً أو أكثرياً، دون العلم والإدراك.

وبعبارة أُخرى: هي صفة

٢٣

الأمر المعلوم لا صفة العلم، فالوقوع الدائمي والأكثري أيضاً بوجه من الحق، وأمّا آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلّين فليست بحق دائماً، بل ربّما كانت حقّاً إذا طابقت الواقع، وربّما لم تكن إذا لم تُطابق، وحينئذ؛ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان، ولا أنّه يخضع لها لو تنبّه للواقع، فإنّك إذا أيقنت بأمر ثمّ خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم، وإن اتّبعتهم فيه ظاهراً فإنّما تتّبعهم لخوف أو حياء، أو عامل آخر، لا لأنّه حق واجب الاتّباع في نفسه، ومن أحسن البيان في أنّ رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقّاً واجب الاتّباع، قوله تعالى: ( ... بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (1) ، فلو كان كل ما يراه الأكثر حقّاً، لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه.

وبهذا البيان يظهر فساد وبناء اتّباع الأكثرية على سنّة الطبيعة، فإنّ هذه السنّة جارية في الخارج الذي يتعلّق به العلم دون نفس العلم والفكر، والذي يتّبعه الإنسان من هذه السنّة في إرادته وحركاته، إنّما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع، لا ما اعتقده الأكثرون، أعني أنّه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري، وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها، قال تعالى: ( ... مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2) .

وقال تعالى: ( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (3) ، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.

____________________

(1) سورة المؤمنون، الآية: 70.

(2) سورة المائدة، الآية: 6.

(3) سورة البقرة، الآية: 183.

٢٤

وأمّا قولهم: إنّ المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقّية سعادة المجتمع، وهذّب الأفراد وطهّرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع. فكلام غير خالٍ من الخلط والاشتباه.

وكأنّ مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع، في عدّتها وقوّتها، وتعاليها في استفادتها من المنابع المادّية، وقد عرفت كراراً أنّ الإسلام لا يعدّ ذلك سعادة، والبحث البرهاني أيضاً يؤيّده، بل السعادة الإنسانية أمر مؤلَّف من سعادة الروح والبدن، وهي تُنعم الإنسان من النعم المادّية، وتُحلّيه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقّة الإلهية، وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأُخرى، وأمّا الانغمار في لذائذ المادّة مع إهمال سعادة الروح، فليس عنده إلاّ شقاء.

وأمّا استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر، وغير ذلك فيما بين أفراد الأمم المترقّية، فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه؛ وذلك أنّ جُلَّ المتفكّرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكير الاجتماعي، وإنّما يتفكّرون تفكُّراً فردياً، فالذي يراه الواحد منّا نُصب العين أنّه موجود إنساني مستقلّ عن كل الأشياء، غير مرتبط بها ارتباطاً تبطل استقلاله الوجودي (مع أنّ الحق خلافه)، ثمّ لا يتفكّر في حياته إلاّ لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضارِّ عن نفسه، فلا يشتغل إلاّ بشأن نفسه وهو التفكُّر الفردي، ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه، فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.

وهذا القضاء إن صحَّ، فإنّما يصحّ فيمَن يجري في تفكُّره هذا المجرى، وأمّا مّن يتفكّر تفكُّراً اجتماعياً، ليس نُصب عينيه إلاّ أنّه جزء غير منفكٍّ ولا مستقلٍّ عن المجتمع، وأنّ منافعه جزء من منافع مجتمعه، يرى خير المجتمع

٢٥

خير نفسه وشرّه شرَّ نفسه، وكل وصف وحال له وصفاً وحالاً لنفسه، فهذا الإنسان يتفكّر نحواً آخر من التفكّر، ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلاّ بمَن هو خارج عن مجتمعه، وأمّا اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتمُّ به ولا يقدِّره شيئاً.

واستوضح ذلك بما نورده من المثال: الإنسان مجموع مؤلّف من أعضاء وقوى عديدة، تجتمع الجميع نوع اجتماع يُعطيها وحدة حقيقية نُسمِّيها الإنسانية، يوجب ذلك استهلاك الجميع - ذاتاً وفعلاً - تحت استقلاله، فالعين والأُذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للإنسان، وإنّما يلتذُّ كلٌّ بفعله ضمن التذاذ الإنسان به، وكل واحدة من هذه الأعضاء والقوى همُّها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شرّ، فالعين أو الأُذن، أو اليد أو الرجل، إنّما تريد الإحسان أو الإساءة إلى مَن يُريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلاً، وأمّا معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الإنسانية الواحدة، فقلمَّا يتَّفق أن يُسيء بعضها إلى بعض أو يتضرّر بعضها ببعض.

فهذا حال أجزاء الإنسان وهي تسير سيراً واحداً اجتماعياً، وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني، إذا تفكّروا تفكُّراً اجتماعياً، فصلاحهم وتقواهم، أو فسادهم وإجرامهم، وإحسانهم وإساءتهم، إنّما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف، إذا أُخذ ذا شخصية واحدة.

وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأُمم والأقوام، التي ألجأتهم التعصُّبات المذهبية أو القومية أن يتفكّروا تفكُّراً اجتماعياً، كاليهود والأعراب وعدّة من الأُمم السالفة، فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين، ويُعاتب الحاضرين ويوبّخهم بأعمال الغائبين والماضين؛ كل ذلك لأنّه القضاء الحق فيمَن يتفكّر فكراً اجتماعياً، وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة، لا حاجة إلى نقلها.

٢٦

نعم، مقتضى الأخذ بالنصفة، أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك، إن وجِدوا في مجتمع واحد، فإنَّهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم، إلاَّ أنّ قلوبهم غير متقذِّرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطِّن الفاشي في مثل هذا المجتمع، وأشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله وبُنيته، وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام، فاستثنى الصلحاء والأبرار.

ويتبيّن ممّا ذكرنا، أنّ القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدّنة الراقية على خلاف أفراد الأُمم الأخرى، لا ينبغي أن يُبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية، بل بالبناء على شخصيّتهم الاجتماعية البارزة في مماسّتها ومصاكّتها سائر الأُمم الضعيفة، ومخالطتها الحيويّة سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم، فهذه هي التي يجب أن تُراعى وتُعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه، وسعادته وشقائه، وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا، ثمّ إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤوا فليتعجّبوا.

ولعمري، لو طالع المطالع المتأمِّل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الأوروبية، وتعمَّق فيما عاملوا به غيرهم من الأُمم والأجيال المسكينة الضعيفة، لم يلبث دون أن يرى أنّ هذه المجتمعات التي يُظهرون أنَّهم امتلؤوا رأفة ونُصحاً للبشر، يفدون بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرّية والأخذ بيد المظلوم المهضوم حقّاً، وإلغاء سنّة الاسترقاق والأسر، يرى أنّهم لا همّ لهم إلاّ استعباد الأُمم الضعيفة؛ مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلاً بما وجدوا إليه من سبيل فيوماً بالقهر، ويوماً بالاستعمار، ويوماً بالاستملاك، ويوماً بالقيمومة، ويوماً باسم حفظ المنافع المشتركة، ويوماً باسم الإعانة على حفظ الاستقلال، ويوماً باسم حفظ الصلح ودفع ما يُهدِّده، ويوماً باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة

٢٧

المحرومة ويوماً.. ويوماً.

والمجتمعات التي هذا شأنها، لا ترتضي الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تُذعن لها بالسعادة، وإن أغمضت النظر عمّا يُشخِّصه قضاء الدين وحكم الوصي والنبوّة من معنى السعادة.

وكيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تُجهِّز أفرادها بما تُجهِّزها على السواء، ثمّ تُناقض نفسها فتُعطي بعضاً منهم عهداً أن يتملّكوا الآخرين، تملُّكاً يُبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ويسوِّي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم، والتصرُّف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يَلْقَه ولا قاساه إنسان القرون الأُولى، والمعوَّل في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأُمم وما يُقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم، فإن سمِّي عندهم سعادة وصلاحاً فلتكن بمعنى التحكُّم وإطلاق المشيئة.

- 6 -

بماذا يتكوَّن ويعيش المجتمع الإسلامي؟

لا ريب أنَّ الاجتماع - أيُّ اجتماع كان - إنَّما يتحقَّق ويحصل بوجود وغاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتِّتة، وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتَّحد بها نوع اتِّحاد، وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكوِّنة غير الدينية، إنَّما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان، لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد، لا على نحو الانفراد، وهي التمتُّع من مزايا الحياة المادّية على نحو الاجتماع.

والفرق بين التمتُّع الاجتماعي والانفرادي - من حيث الخاصية - أنّ الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتُّعاته، حيث لا معارض له ولا رقيب، إلاَّ ما قيَّد به بعض أجهزته بعضاً، فإنَّه لا يقدر أن

٢٨

يستنشق كل الهواء، فإنَّ الرئة لا تسعه وإن اشتهاه، ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية إلاَّ إلى حدٍّ، فإنَّ جهاز الهاضمة لا يتحمَّله، فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض، وأمَّا بالنسبة إلى إنسان آخر مثله، فإذا كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادّة على الفرض، فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله، ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله.

وهذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته، فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لأدّى ذلك إلى التمانع والتزاحم، الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع، وقد بيّنا ذلك في مباحث النبوّة السابقة أوفى بيان.

وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع، غير أنَّ المجتمعات الهمجيّة لا تتنبّه لوضعها عن فكر ورويَّة، وإنَّما يكون الآداب والسُّنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفِّرة بين أفرادها، فتضطرُّ الجميع إلى رعاية أُمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ، ولمَّا لم تكن مبنيّة على أساس مُستحكم، كانت في معرض النقض والإبطال تتغيّر سريعاً وتنقرض، ولكنّ المجتمعات المتمدّنة تبنيه على أساس قويم، بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة، فيرفعون به التضادّ والتمانع الواقع بين الإرادات وأعمال المجتمع بتعديلها، بوضع حدود وقيود لها، ثمّ ركز القدرة والقوّة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون.

ومن هنا يظهر:

أولاً: أنّ القانون حقيقة هو ما تُعدَّل به إرادات الناس وأعمالهم، برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها.

وثانياً: أنّ أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه، كما هو مقتضى تجهُّز الإنسان بالشعور والإرادة بعد التعديل؛ ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرَّض لأمر المعارف الإلهية والأخلاق، وصار هذان المهمَّان

٢٩

يُتصوران بصورة يُصوّرها بهما القانون، فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية، فيعودان - عاجلاً أو آجلاً - رسوماً ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي؛ ولذلك السبب أيضاً ما نُشاهده من لعب السياسة بالدين، فيوماً تقضي عليه وتدحضه، ويوماً تميل إليه فتُبالغ في إعلاء كلمته، ويوماً تطوي عنه كشحاً فتُخلِّيه وشأنه.

وثالثاً: أنّ هذه الطريقة لا تخلو عن نقص، فإنّ القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركَّزها في فرد أو أفراد، لكن لا ضمان على إجرائه بالنهاية، بمعنى أنَّ منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحوَّل سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع، وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوِّله إلى مجراه العدل. وعلى هذا القول شواهد كثيرة ممَّا شاهدناه في زمننا هذا، وهو زمان الثقافة والمدنية، فضلاً عمّا لا يُحصى من الشواهد التاريخية. وأضف إلى هذا النقص نقصاً آخر، وهو خفاء نقض القانون على القوّة المُجرية أحياناً، أو خروجه عن حومة قدرته.

وبالجملة؛ الاجتماعات المدنية توحِّدها الغاية الواحدة، التي هي التمتُّع من مزايا الحياة، وهي السعادة عندهم، ولكنّ الإسلام لمّا كان يرى أنّ الحياة الإنسانية أوسع مداراً من الحياة الدنيا المادّية، بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة، ويرى أنّ هذه الحياة لا تنفع فيها إلاّ المعارف الإلهية، التي تنحل بجملتها إلى التوحيد، ويرى أنّ هذه المعارف لا تنحفظ إلاَّ بمكارم الأخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة، ويرى أنّ هذه الأخلاق لا تتمُّ ولا تكمل إلاًَّ بحياة اجتماعية صالحة، معتمدة على عبادة الله سبحانه، والخضوع لما تقتضية ربوبيّته، ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ (أعني الإسلام) الغاية التي يتكوّن عليها المجتمع البشري ويتوحّد بها دين التوحيد، ثمّ وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد، ولم يكتفِ

٣٠

فيه على تعديل الإرادات والأفعال فقط، بل تمَّمه بالعباديات، وأضاف إليها المعارف الحقّة والأخلاق الفاضلة.

ثمّ جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلامية أولاً، ثمّ في عهدة المجتمع ثانياً، وذلك بالتربية الصالحة علماً وعملاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن أهمّ ما يُشاهد في هذا الدين، ارتباط جميع أجزائه ارتباطاً يؤدِّي إلى الوحدة التامة بينها، بمعنى أنَّ روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين، وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يُكلَّف بها أفراد المجتمع، فالجميع من أجزاء الدين الإسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد، والتوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق والأعمال، فلو نزل لكان هي، ولو صعدت لكان هو، ( ... إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ... ) .

فإن قلت: ما أُوْرِد من النقص على القوانين المدنية - فيما إذا عصت القوّة التنفذية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلاً - وارد بعينه على الإسلام، وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الإسلامي، وليس إلاَّ لفقدانه مَن يحمل نواميسه على الناس يوماً.

قلت: حقيقة القوانين العامة - سواء كانت إلهية أم بشرية - ليست إلاَّ صوراً ذهنية في أذهان الناس وعلوماً تحفظها الصدور، وإنّما ترد مورد العمل وتقع موقع الحسّ بالإرادات الإنسانية تتعلّق بها، فمن الواضح أن لو عُصِمت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين، وإنّما الشأن فيما يُحفَظ به تعلُّق هذه الإرادات بالوقوع، حتى تقوم القوانين على ساقها، والقوانين المدنية لا تهتمُّ بأكثر من تعليق الأفعال بالإدارات، أعني بإرادة الأكثرية، ثمّ لم يهتمُّوا بما تحفظ هذه الإرادة، فمهما كانت الإرادة حيّة

٣١

شاعرة فاعلة جرى بها القانون، وإذا ماتت - من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس، وهرم يطرأ على بُنية المجتمع، أو كانت حيّة لكنَّها فقدت صفة الشعور والإدراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسُّعه في الإتراف والتمتُّع، أو كانت حيّة شاعرة لكنّها فقدت التأثير لظهورة قوّة مستبدّة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية، وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوّة التنفيذية على الوقوف عليها كالجرائم السرِّية، أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها، ففي جميع هذه الموارد - لا تنال الأمَّة أُمْنيتها من تطبيق القانون وحصانة المجتمع من المفاسد والتلاشي، وعُمدة الانشعابات الواقعة في الأُمم الأوروبية - بعد الحرب العالمية الكبرى الأُولى والثانية - من أحسن الأمثلة في هذا الباب.

وليس ذلك (أعني انتقاض القوانين وتفسُّخ المجتمع وتلاشيه) إلاَّ لأنَّ المجتمع لم يهتمَّ بالسبب الحافظ لإرادات الأمّة على قوّتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية؛ إذ لا تستمدُّ الإرادة في بقائها واستدامة حياتها إلاَّ في الخُلق المناسب لها، كما بُيِّن ذلك في علم النفس، فلولا استقرار السنّة القائمة في المجتمع، واعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم في الأخلاق العالية، كانت كشجرة اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار. واعتُبر في ذلك ظهور الشيوعية، فليست إلاَّ من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين، فكان بُعداً شاسعاً بين نقطتي القساوة وفقد النصفة، والسخط وتراكم الغيظ والحِنق، وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرَّة بعد مرَّة وهي تُهدِّد الإنسانية ثالثة، وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل، ولا عامل لها إلاَّ غريزة الاستكبار والشره والطمع، هذا.

ولكنَّ الإسلام بنى سنَّته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق، وبالغ في تربية الناس عليها؛ لكون القوانين الجارية في الأعمال في

٣٢

ضمانها على عهدتها، فهي مع الإنسان في سرِّه وعلانيته، وخلوته وجلوته، تؤدِّي وظيفتها وتعمل عملها أحسن ما يؤدِّيه شُرطيٌّ مراقب، أو أيُّ قوَّة تبذل عنايتها في حفظ النُظُم.

نعم، تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة، وتبذل جهدها في حض الناس، وترغيبهم إليها، لكن لا ينفعهم ذلك شيئاً.

أمَّا أولاً: فلأنَّ المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق، ليس إلاَّ الإسراف والإفراط في التمتُّع المادي والحرمان البالغ فيه، وقد أعطت القوانين للناس الحرِّية التامّة فيه، فأمتعت بعضاً وحرمت آخرين، فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلاّ دعوة إلى المتناقضين أو طلباً للجمع بين الضدَّين.

على أنَّ هؤلاء - كما عرفت - يفكِّرون تفكُّراً اجتماعياً، ولا تزال مجتمعاتهم تُبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم، والتمتُّع بما في أيديهم، واسترقاق نفوسهم، والتوسُّع في التحكُّم عليهم ما قدروا، والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة، ليست إلاَّ دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.

وأما ثانياً: فلأنَّ الأخلاق الفاضلة أيضاً، تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها، وليس إلاَّ التوحيد أعني القول: بأنَّ للعالم إلهاً واحداً، ذا أسماء حُسنى، خَلقَ الخلق لغاية تكميلهم وسعادتهم، وهو يحبُّ الخير والصلاح، ويُبغض الشرَّ والفساد، وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء، فيُجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

ومن الواضح، أنَّ لولا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتِّباع الهوى والكفِّ عن حظوظ النفس الطبيعية، فإنَّما الطبيعة الإنسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها، لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر، إلاَّ إذا رجع بنحو إلى مُشتهى

٣٣

نفسها. ففيما كان للإنسان - مثلاً - تمتُّع في إماتة حق من حقوق الغير، ولا رادع يردعه، ولا مُجازٍ يُجازيه، ولا لائم مُعاتب يلومه ويُعاتبه، فأيُّ مانع يمنعه في اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت؟ وأمَّا ما يُتوهَّم - وكثيراً ما يُخطئ فيه الباحث - من الروادع المختلفة، كالتعلُّق بالوطن وحبِّ النوع والثناء الجميل ونحو ذلك، فإنّما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظاً عليها، إلاَّ التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب؛ فهي - إذن - أوصاف اتِّفاقية وأمور عادية، لا مانع معها يمنع من زوالها، فلماذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره، ليتمتَّع بالعيش بعده، وهو يرى أنَّ الموت فناء وبطلان؟ والثناء الجميل إنَّما هو في لسان آخرين ولا لذَّة يلتذُّ به الفادي بعد بطلان ذاته.

وبالجملة؛ لا يرتاب المتفكِّر البصير في أنَّ الإنسان لا يُقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء، ولا يعود إليه منه نفع، والذي يعده ويمنِّيه في هذه الموارد، ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر، فإنَّما هو غرور يغترُّ به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه، فيُخيَّل إليه أنَّه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته، فيشعر بذكره الجميل فيلتذُّ به، وليس ذلك إلاَّ من غلط الوهم كالسكران يتسخَّر بهيجان إحساساته، فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لو يُقدم عليه لو صحا وعقل، وهو سكران لا يعقل، ويعدُّ ذلك فتوَّة وهو سفه وجنون.

فهذه العثرات وأمثالها ممَّا لا حصن للإنسان يتحصَّن فيه منها، غير التوحيد الذي ذكرناه؛ ولذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة، التي جعلها جزءاً من طريقته الجارية على أساس التوحيد، الذي من شؤونه القول بالمعاد، ولازمه أن يلتزم الإنسان بالإحسان ويجتنَّب الإساءة أينما كان ومتى ما كان، سواء علم به أم لم يعلم، وسواء حمده حامد أم لم يحمد، وسواء كان معه

٣٤

مَن يحمله عليه أو يردعه عنه أم لم يكن، فإن معه الله العليم الحفيظ، القائم على كل نفس ما كسبت ووراءه، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحضراً وما عملت من سوء، وفيه تُجزى كل نفس بما كسبت.

- 7 -

التعقُّل والإحساس

أمَّا منطق الإحساس، فهو يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه، فإذا قارن الفعل نفع وأحسن به الإنسان فالإحساس متوقِّد شديد التوقان في بعثه وتحريكه، وإذا لم يحسَّ الإنسان بالنفع فهو خامد هامد، وأمّا منطق التعقُّل فإنّما يبعث إلى اتِّباع الحق، ويرى أنّه أحسن ما ينتفع به الإنسان، أحسّ مع الفعل بنفع مادي أو لم يحس، فإنَّ ما عند الله خير وأبقى، وقِسْ في ذلك بين قول عنترة، وهو على منطق الإحساس:

وقولي كلَّما جشأت وجاشت

مكانكِ تُحمدي أو تستريحي

يريد أنِّي استثبت نفسي كلّما تزلزت فيَّ الهزاهز والمواقف المهولة من القتال، بقولي لها: اثبتي، فإن قُتلِت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام، وإن قتلت العدوّ استرحت ونلت بغيتك، فالثبات خير على أيِّ حال، وبين قوله تعالى... وهو على منطق التعقُّل: ( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ) (1) .

يريد أنَّ أمر ولايتنا وإنصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شيء ممَّا يُصيبنا من ضرٍّ أو شرٍّ، إلاَّ ما وعدنا من الثواب على الإسلام له والالتزام لدينه

____________________

(1) سورة التوبة، الآيتان: 51 - 52.

٣٥

كما قال تعالى: ( ... لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (1) .

وإذا كان كذلك؛ فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شيء، كان لنا عظيم الأجر والعاقبة الحُسنى عند ربنا، فإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئاً، كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحُسنى والتمكُّن في الدنيا من عدوِّنا، فنحن على أيِّ حال سعداء مغبوطون، ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربّصون بنا في أمرنا إلاّ إحدى الحُسنيين، فنحن على الحُسنى والسعادة على أيِّ حال، وأنت على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين، وفي إحدى الحالين، وهو كون الدائرة لكم علينا، فنحن نتربص بكم ما يسؤوكم، وأنتم لا تتربّصون بنا إلاّ ما يسرُّنا ويُسعدنا.

فهذان منطقان، أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى إحساسي، وهو أن الثابت أحد نفعين، إمّا حمد الناس وإمّا الراحة من العدوّ، هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الإنسان المقاتل الذي يُلقي بنفسه إلى التهلكة، أمّا إذا لم يكن هناك نفع عائد، كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد، وتساوى عندهم الخدمة والخيانة، أو كانت الخدمة ممّا ليس من شأنه أن يظهر لهم ألبتّة، أو لا هي ولا الخيانة، أو لم يسترح الإحساس بفناء العدوّ، بل إنّما يستريح به الحق، فليس لهذا المنطق إلاّ العيّ واللُّكنة.

وهذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية، يقول الخائن المساهل في أمر القانون: إنّ خدمته لا تُقدَّر عند الناس بما يعدُّ

____________________

(1) سورة التوبة، الآيتان: 120 - 121.

٣٦

لها، وإنّ الخادم والخائن عندهم سواء، بل الخائن أحسن حالاً وأنعم عيشاً، ويرى كل باغٍ وجانٍ أنّه سيتخلص من قهر القانون، وأنّ القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه، فيخفى أمره ويلتبس على الناس شخصه، ويعتذر كل مَن يتثبّط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه، ويُداهنهم بأنّ القيام على الحق يذلِّله بين الناس، ويضحك منه الدنيا الحاضرة، ويعدُّونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير، فإن ذكَّرته بشرافة النفس وطهارة الباطن ردّ عليك قائلاً: ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلّة الحياة؟!

وأمّا المنطق الآخر، وهو منطق الإسلام، فهو يبني أساسه على اتِّباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله سبحانه، وإنّما يتعلّق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني، ومن المعلوم أنّه لا يشذُّ عن شموله مورد من الموارد، ولا يسقط كلِّيته من العموم والاطِّراد، فالعمل - أعمُّ من الفعل والترك - إنَّما يقع لوجهه تعالى، وإسلاماً له واتِّباعاً للحق الذي أراده، وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سِنَة ولا نوم، ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والله بما تعملون خبير.

فعلى كل نفس - فيما وردت مورد عمل أو صدرت - رقيب شهيد قائم بما كسبت، سواء شهده الناس أم لا، حمدوه أم لا، قدروا فيه على شيء أم لا.

وقد بلغ من حُسن تأثير التربية الإسلامية، أنّ الناس كانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة، ويذوقون مرّ الحدود التي تُقام عليهم (القتل فما دونه)؛ ابتغاء رضوان الله وتطهيراً لأنفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات.

وبالتأمُّل في هذه النوارد الواقعة، يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب

٣٧

تأثير البيان الديني في نفوس الناس، وتعويده لهم السماحة في ألذّ الأشياء وأعزِّها عندهم، وهي الحياة وما في تلوها، ولولا أنّ البحث قرآني لأوردنا طرفاً من الأمثلة التاريخية فيه.

- 8 -

الأجر الأخروي غاية المجتمع

ربَّما يتوهَّم المتوهِّم أنَّ جعل الأجر الأخروي - وهو الغرض العام في حياة الإنسان الاجتماعية - يوجب سقوط الإغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الإنسانية، وفيه فساد نظام الاجتماع، والانحطاط إلى منحطِّ الرهبانية، وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفُّظ على المقاصد المهمة الأُخرى؟ وهل هذا إلاَّ تناقض؟

لكنّه توهُّم ساذح، في الجهل بالحكمة الإلهية والأسرار التي تكشفت عنها المعارف القرآنية؛ فإنّ الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين - كما مرَّ ذكره مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب - قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ... ) (1).

وحاصله: أنَّ سلسلة الأسباب الواقعية التكونية، تعاضدت على إيجاد النوع الإنساني في ذيلها، وتوفّرت على سَوْقِه نحو الغاية الحيوية التي هُيّأت له، فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه؛ حتى لا تناقضها حياته فيؤدِّيه ذلك إلى الهلاك والشقاء، وهذا (لو تفهمه المتوهِّم) هو الدين الإسلامي بعينه، ولمَّا كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد - هو الموجِّه لها المدبِّر لأمرها فيما دقَّ وجلَّ وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكملة -

____________________

(1) سورة الروم: الآية 30.

٣٨

كان الواجب على الإنسان الإسلام له والخضوع لأمره، وهذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلامي.

ومن هنا يظهر؛ أنّ حفظ كلمة التوحيد والإسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طُرَّاً، وإعطاء كل ذي حق منها حقّه، من غير شرك ولا غفلة، فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية وأُخرى أُخروية، وله مقاصد مادّية وأُخرى معنوية، لكنّه لا يعتني في أمرها بأزيد ممّا ينبغي من الاعتناء والاهتمام؛ ولذلك بعينه، نرى أنّ الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه، والانقطاع إليه والإخلاص له والإعراض عن كل سبب دونه ومُبتغى غيره، ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية.

ومن هنا يظهر؛ أنّ أفراد المجتمع الإسلامي هُمْ السعداء بحقيقة السعادة في الدينا وفي الآخرة، وأنّ غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تُزاحم سائر الغايات الحيوية، إذا ظهرت واستؤثرت.

ومن هنا يظهر أيضاً؛ فساد توهُّم آخر، وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين، أنّ حقيقة الدين والغرض الأصلي منه، هو إقامة العدالة الاجتماعية، والعباديات فروع متفرِّعة عليها، فالذي يقيمها فهو على الدين، ولو لم يتلبّس بعقيدة ولا عبودية.

والباحث المتدبّر في الكتاب والسنّة - وخاصة في السيرة النبوية - لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهُّم إلى مؤونة زائدة وتكلُّف واستدلال، على أنَّ هذا الكلام الذي يتضمّن إسقاط التوحيد، وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية، فيه إرجاع للغاية الدينية، التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتُّع، وقد عرفت أنَّهما غايتان

٣٩

مختلفتان، لا ترجع إحداهما إلى الأُخرى، لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها.

- 9 -

الحرّية والمجتمع الإسلامي

كلمة الحرّية - على ما يُراد بها من المعنى - لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدّة قرون، ولعلّ السبب المُبتدع لها هي النهضة المدنية الأوروبية قبل بضعة قرون، لكنّ معناها كان يجول في الأذهان وأُمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة.

والأصل الطبيعي التكويني، الذي ينتشي منه هذا المعنى، هو ما تجهّز به الإنسان في وجوده من الإرادة الباعثة إيّاه على العمل، فإنّها حالة نفسية، في إبطالها إبطال الحسّ والشعور المنجرّ إلى إبطال الإنسانية.

غير أنّ الإنسان لمّا كان موجوداً اجتماعياً، تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع، وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات، وفعله في الأفعال المنجرّ إلى الخضوع لقانون يعدل الإرادات والأعمال بوضع حدود لها، فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة والعمل هي بعينها تحدِّد الإرادة والعمل، وتقيّد ذلك الإطلاق الابتدائي والحرّية الأوّلية.

والقوانين المدنية الحاضرة، لمّا وضعت بناء أحكامها على أساس التمتُّع المادي - كما عرفت - أنتج ذلك حرّية الأمّة في أمر المعارف الأصلية الدينية، من حيث الالتزام بها وبلوازمها، وفي أمر الأخلاق، وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الإنسان من الإرادات والأعمال، فهذا هو المراد بالحرّية عندهم.

٤٠