قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 0%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الصفحات: 233
المشاهدات: 49621
تحميل: 6727

توضيحات:

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49621 / تحميل: 6727
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سائر السبل يحفظهم عن التفرّق ويحفظ لهم الاتّحاد والاتّفاق، ثم قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ... ) (1) .

تدلّ الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين، ويُرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلُّم، فيستريحوا في كل حادث فكري أو شُبهة مُلقاة إلى الآيات المتلوّة عليهم والتدبُّر فيها لحسم مادة الاختلاف، وقد قال تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (2) .

وقال أيضاً: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) (3) .

وقال تعالى: ( ... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (4) ، فأفاد أنّ التدبّر في القرآن، أو الرجوع إلى مَن يتدبّر فيه يرفع الاختلاف من البين.

وتدلّ على أنّ الإرجاع إلى الرسول - وهو الحامل لثقل الدين - يرفع من بينهم الاختلاف، ويُبيّن لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتّبعوه، قال تعالى: ( ... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (5) .

وقريب منه قوله تعالى: ( ... وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ... ) (6) .

____________________

(1) سورة آل عمران، الآيتان: 102 - 103.

(2) سورة النساء، الآية: 82.

(3) سورة العنكبوت، الآية: 43.

(4) سورة النحل، الآية: 43.

(5) سورة النحل، الآية: 44.

(6) سورة النساء، الآية: 83.

٦١

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1).

فهذه صورة التفكُّر الاجتماعي في الإسلام.

ومنه يظهر أنّ هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفُّظ على معارفه الخاصة الإلهية، كذلك يسمح للناس بالحرّية التامّة في الفكر، ويرجع محصّله إلى أنّ من الواجب على المسلمين أن يتفكّروا في حقائق الدين، ويجتهدوا في معارفه تفكّراً واجتهاداً بالاجتماع والمرابطة، وإن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه ومعارفه، أو لاح لهم ما يُخالفها فلا بأس به، وإنّما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المُخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبّر في بحث اجتماعي، فإن لم يداوِ داءَه عرضه على الرسول أو مَن أقامه مقامه، حتى تنحلَّ شبهته، أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلاً، قال تعالى: ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (2) .

والحرّية في العقيدة، والفكر على النحو الذي بيَّناه غير الدعوة إلى هذا النظر، وإشاعته بين الناس قبل العرض، فإنّه مُفضٍ إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم.

هذا أحسن ما يمكن أن يُدبَّر به أمر المجتمع، في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه، مع الحفظ على حياته الشخصية، وأمّا تحميل الاعتقاد على النفوس، والختم على القلوب، وإماتة غريزة الفكرة في الإنسان عَنوة

____________________

(1) سورة النساء، الآية: 59.

(2) سورة الزمر، الآية: 18.

٦٢

وقهراً، والتوسُّل في ذلك بالسوط أو السيف، أو بالتفكير والهجرة، وترك المخالفة، فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يُشرّع ما يؤيّده، وإنَّما هو خصيصة نصرانية، وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكُّماتها في هذا الباب - وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين - بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه. ولكن من الأسف أنّا معاشر المسلمين سُلِبنا هذه النعمة وما لزمها (الاجتماع الفكري وحرّية العقيدة) كما سُلبنا كثيراً من النعم العظام، التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها، كما فرّطنا في جنب الله و ( ... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ... ) ، فحكمت فينا سيرة الكنيسة، واستتبع ذلك أن تفرّقت القلوب وظهر الفتور وتشتّت المذاهب والمسالك، يغفر الله لنا ويوفِّقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم.

- 15 -

الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة

والعاقبة للتقوى، فإنّ النوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه، تطلب سعادته الحقيقة، وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معاً حياة اجتماعية، بإعطاء نفسه حظّه من السلوك الدنيوي والأخروي، وقد عرفت أنّ هذا هو الإسلام ودين التوحيد. وأمّا الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته، وفي ارتقائه إلى أوجّ كماله، فإنّما هو من جهة الخطأ في التطبيق، لا من جهة بطلان حكم الفطرة، والغاية التي يعقبها الصنع والإيجاد لابدّ أن تقع يوماً معجلاً أو على مَهَلٍ، قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * - يريد أنّهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيلياً وإن علمته فطرتهم إجمالاً، إلى أن قال: - لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى أن

٦٣

قال: - ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (1) .

وقال تعالى: ( ... فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ... ) (2) .

وقال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) ، وقال تعالى: ( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) (4) . فهذه وأمثالها آيات تُخبرنا أنّ الإسلام سيظهر ظهوره التام، فيحكم على الدنيا قاطبة.

ولا تُصْغِ إلى قول مَن يقول: إنّ الإسلام وإن ظهر ظهوراً ما - وكانت أيّامه حلقة من سلسلة التاريخ، فأثّرت أثرها العام في الحلقات التالية، واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة - لكنّ ظهوره التامّ (أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع مواردها وصورها وغاياتها) ممّا لا يقبله طبع النوع الإنساني، ولن يقبله أبداً ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحّة وقوعه خارجاً وحكومته على النوع تامّة.

وذلك أنّك عرفت أنّ الإسلام - بالمعنى الذي نبحث فيه - غاية النوع الإنساني وكماله الذي هوّم بغريزته متوجّه إليه، شعر به تفصيلاً أو لم يشعر، والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكوّنات يدلّ على أنّها متوجّهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة، والإنسان غير مستثنى من هذه الكلّية.

____________________

(1) سورة الروم، الآيات: 30 - 41.

(2) سورة المائدة، الآية: 54.

(3) سورة الأنبياء، الآية: 105.

(4) سورة طه، الآية: 132.

٦٤

على أنّ شيئاً من السُّنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية، لم يتَّكِ - في حدوثه وبقائه وحكومته - على سبق تجربة قاطعة، فهذه شرائع نوح، وإبراهيم، وموسى، عيسى ظهرت حينما ظهرت، ثمّ جرت بين الناس، وكذا ما أتى به (برهما، وبوذا، وماني) وغيرهم، وتلك سُنن المدنية المادية كالديمقراطية والكمونيسم وغيرهما، كل ذلك جرى في المجتمعات الإنسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة، من غير سبق تجربة، وإنّما تحتاج السُّنن الاجتماعية - في ظهورها ورسوخها في المجتمع - إلى عزائم قاطعة وهِمَم عالية من نفوس قوية، لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عيٌّ ولا نصب، ولا تُذعن بأنّ الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب، ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية.

٦٥

الفصل الثاني

الطبيعة البشرية

٦٦

٦٧

- 1 -

عمر النوع الإنساني

يذكر تاريخ اليهود، أنّ عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة الآف سنة، والاعتبار يُساعده، فإنّا لو فرضنا ذكراً وأُنثى (زوجين اثنين) من هذا النوع، وفرضناهما عائشين زماناً متوسّطاً من العمر، في مزاج متوسّط في وضع متوسّط من الأمن والخصب والرفاهية، ومساعدة سائر العوامل والشرائط المؤثّرة في حياة الإنسان، ثمّ فرضناهما وقد تزوّجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسّطة متناسبة، ثمّ جعلنا الفرض بعينه مطّرداً فيما أولدا من البنين والبنات على ما يُعطيه متوسِّط الحال في جميع ذلك، وجدنا ما فرضناه من العدد أولاً وهو اثنان فقط، يتجاوز في قرن واحد (رأس المئة) الألف، أي أنّ كل نسمة يولَد في المائة سنة ما يقرب من خمسمائة نسمة.

ثمّ إذا اعتبرنا ما يتصدّم به الإنسان من العوامل المضادّة له، من الوجود والبلايا العامة لنوعه، من الحَرِّ والبرد، والطوفان والزلزلة، والجدب والوباء،

٦٨

والطاعون والخسف، والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الأُخرى غير العامة، وأعطيناها حظّها من هذا النوع أوفر حظّ، وبالغنا في ذلك، حتى أخذنا الفناء يعمُّ الأفراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الألف، وأنّه لا يبقى في كل مئة سنة من الألف إلاّ واحد، أي إنّ عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف.

ثمّ إذا صعدنا بالعدد المفروض أولاً بهذا الميزان إلى مدّة سبعة الآف سنة (70 قرناً)، وجدناه تجاوز بليونين ونصفاً، وهو عدد النفوس الإنسانية اليوم - على ما يذكره الإحصاء العالمي -.

فهذا الاعتبار يؤيّد ما ذُكِر من عمر نوع الإنسان في الدنيا، لكنّ علماء الجيولوجيا (علم طبقات الأرض)، ذكروا أنّ عمر هذا النوع يزيد على ملايين السنين، وقد وجدوا من الفسيلات الإنسانية والأجساد والآثار، ما يتقدّم عهده على خمسمائة ألف سنة - على ما استظهروه - فهذا ما عندهم، غير أنّه لا دليل معهم يُقنع الإنسان ويُرضي النفس باتِّصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية والأُمم الماضية من غير انقطاع، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض، ثمّ كثر ونما وعاش، ثمّ انقرض، ثمّ تكرّر الظهور والانقراض، ودار الأمر على ذلك عدّة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.

وأمّا القرآن الكريم، فإنّه لم يتعرّض تصريحاً لبيان أنّ ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها، أو أنّ له أدواراً متعدِّدة نحن في آخرها؟ وإن كان ربّما يُستشمُّ من قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء... ) (1) ، سبق دورة إنسانية أُخرى على هذه الدورة الحاضرة.

نعم، في بعض الروايات

____________________

(1) سورة البقرة، الآية: 30.

٦٩

الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ما يُثبت للإنسانية أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة.

في التوحيد: عن الصادق (عليهم السلام) في حديث قال: (لعلّك ترى أنّ الله لم يخلق بشراً غيركم؟! بلى والله، لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين) (1) .

أقول: ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة، عن الباقر (عليه السلام) ما في معناه، ورواه الصدوق في الخصال أيضاً (2) .

- 2 -

أصل المجتمع البشري

ربَّما قيل: إنّ اختلاف الألوان في أفراد الإنسان - وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا وأوربا، والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية، والصفرة كلون أهل الصين واليابان، والحمرة كلون الهنود الأمريكيين - يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر؛ لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء، وعلى هذا فالمبادئ الأُوَل لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.

وربّما يُستدلُّ عليه: بأنّ قارّة أمريكا انكشفت ولها أهل، وهم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقي - بالبُعد الشاسع الذي بينهما - انقطاعاً لا يُرجى ولا يُحتمل معه أنّ النسلين يتّصلان بانتمائهما إلى أب واحد وأمٍّ واحدة، والدليلان - كما ترى - مدخولان:

أمّا مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان؛ فلأنّ الأبحاث الطبيعية

____________________

(1) الصدوق: التوحيد ص 277، حديث 2، طبع إيران مكتبة الصدوق.

(2) الصدوق: الخصال ص 652، حديث 54، طبع إيران مؤسّسة النشر الإسلامي.

٧٠

اليوم مبنيّة على فرضية التطوُّر في الأنواع، ومع هذا البناء كيف يطمأنُّ بعدم استناد اختلاف الدماء، فاختلاف الألوان إلى وقوع التطوُّر في هذا النوع، وقد جزموا بوقوع تطوُّرات في كثير من الأنواع الحيوانية، كالفرس، والغنم، والفيل وغيرها، وقد ظهر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟! على أنّ العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء.

وأمّا مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار، فإنّ العهد الإنساني - على ما يذكره علماء الطبيعة - يزهو إلى ملايين من السنين، والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستّة آلاف سنة، وإذا كان كذلك، فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تُجزِّي قارّة أمريكا عن سائر القارات؟! وهناك آثار أرضية كثيرة، تدلُّ على تغييرات هامّة في سطح الأرض بمرور الدهور، من تبدُّل بحر إلى برٍّ وبالعكس، وسهل إلى جبل وبالعكس، وما هو أعظم من ذلك كتبدُّل القطبين والمنطقة على ما تشرحه علوم طبقات الأرض والهيئة الجغرافيا، فلا يبقى لهذا المستدلِّ إلاَّ الاستيعاب فقط. هذا.

وأمّا القرآن، فظاهره القريب من النصِّ أنّ هذا النسل الحاضر المشهود من الناس ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأُنثى، هما الأب والأمّ لجميع الأفراد، أمّا الأب، فقد سمّاه الله تعالى في كتابه بآدم، وأمّا زوجته فلم يُسمِّها في كتابه، ولكنّ الروايات تُسمِّيها حوّاء، كما في التوراة (الموجودة بين الأيدي).

قال تعالى: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ) (1).

وقال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ

____________________

(1) سورة السجدة، الآيتان: 7 - 8.

٧١

لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) .

وقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا... ) (2) .

وقال تعالى: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (3) .

فإن الآيات - كما ترى - تشهد بأنّ سنّة الله في بقاء هذا النسل، أن يتسبّب إليه بالنطفة، لكنّه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، وأنّ آدم خُلِق من تراب، وأنَّ الناس بَنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته ممّا لا ريب فيه، وإن لم تمتنع من التأويل.

وربّما قيل: إنّ المراد بآدم في آيات الخِلْقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي، كأن مطلق الإنسان من حيث انتهاء خَلقه إلى الأرض، ومن حيث قيامه بأمر النسل والإيلاد سُمِّي بآدم، وربّما اسُتظهر ذلك من قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ... ) (4) ، فإنّه لا يخلو عن إشعار بأنّ الملائكة إنَّما أُمروا بالسجدة لمَن هيّأه الله لها بالخلق والتصوير، وقد ذكرت الآية أنّه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معيَّن حيث قال: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ... ) ، وهكذا قوله تعالى: ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - إلى أن قال: - * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * - إلى أن قال: - قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ

____________________

(1) سورة آل عمران، الآية: 59.

(2) سورة البقرة، الآيتان: 30 - 31.

(3) سورة ص، الآيتان: 71 - 72.

(4) سورة الأعراف، الآية: 11.

٧٢

أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) . حيث أبدل ما ذكره مفرداً أولاً من الجمع ثانياً.

ويردُّه - مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلنا من الآيات - ظاهر قوله تعالى بعد سرده لقصّة آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس في سورة الأعراف: ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا... ) (2) ، فظهور الآية في شخصية آدم ممَّا لا ينبغي أن يرتاب فيه.

وكذا قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ) (3) .

وكذا الآية المبحوث عنها: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء... ) ، بالتقريب الذي مرّ بيانه، والآيات - كما ترى - تأبى أن يُسمَّى الإنسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر، وكذا تأبى أن تنسب الخِلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر، وخاصّة في مثل قوله تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) الآية؛ وإلاَّ لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية، فالقول بآدم النوعي في حدِّ التفريط، والإفراط الذي يُقابله قول بعضهم: إنّ القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنّة.

____________________

(1) سورة ص، الآيات:75 - 83.

(2) سورة الأعراف، الآية: 27.

(3) سورة الإسراء، الآيتان: 61 - 62.

٧٣

- 3 -

الإنسان نوع مُستقلٌّ غير متحوِّل من نوع آخر

الآيات التي ذكرناها تكفي مؤونة هذا البحث، فإنَّها تُنهي هذا النسل الجاري بالنطقة إلى آدم وزوجته، وتُبيِّن أنّهما خُلِقا من تراب، فالإنسانية تنتهي إليهما، وهما لا يتّصلان بآخر يُماثلهما ويُجانسهما، وإنّما حدثا حدوثاً.

والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان، أنّ الإنسان الأول فرد تكامل إنساناً، وهذه الفرضية بخصوصها، وإن لم يتسلّمها الجميع تسلُّماً يقطع الكلام، واعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب، لكنّ أصل الفرضية وهي (أنّ الإنسان حيوان تحوّل إنساناً)، ممّا تسلّموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان.

فإنّهم فرضوا أنّ الأرض - وهي أحد الكواكب السيّارة - قطعة من الشمس مشتقّة منها، وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان، ثمّ أخذت في التبرُّد من تسلُّط عوامل البرودة، وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة، وتجري عليها السيول، وتتكوَّن فيها البحار، ثمّ حدثت تراكيب مائيّة وأرضية، فحدثت النباتات المائية، ثمّ حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك، وسائر الحيوان المائي ثمّ السمك الطائر ذو الحياتين، ثمّ الحيوان البرّي، ثمّ الإنسان، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة، يتحوّل به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة، فالنبات، ثمّ الحيوان المائي، ثمّ الحيوان ذو الحياتين، ثمّ الحيوان البرّي، ثم الإنسان على الترتيب. هذا.

كل ذلك لما يُشاهد من الكمال المنظّم في بنيها، نَظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال؛ ولما يُعطيه التجريب في موارد جزئية التطوُّر.

٧٤

وهذه فرضية افتُرضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص والآثار، من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها، مع إمكان فرض هذه الأنواع متبائنة من غير اتّصال بينها بالتطوُّر، وقصر التطوُّر على حالات هذه الأنواع دون ذواتها، وهي التي جرى فيها التجارب، فإنّ التجارب لم يتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان، وإنّما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها ولوازمها وأعراضها.

واستقصاء هذا البحث يُطلب من غير هذا الموضع، وإنّما المقصود الإشارة إلى أنّه فرض افترضوه؛ لتوجيه ما يرتبط به من المسائل، من غير أن يقوم عليه دليل قاطع، فالحقيقة التي يُشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعاً مفصولاً عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء.

- 4 -

كيف تناسلت الطبقة الثانية من البشر؟

الطبقة الأُولى من الإنسان، وهي آدم وزوجته، تناسلت بالازدواج، فأولدت بنين وبنات (إخوة وأخوات)، فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم - وهم أخوة وأخوات - أو بطريق غير ذلك؟ ظاهر إطلاق قوله تعالى: ( ... وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء... ) الآية - على ما تقدّم من التقريب - أنّ النسل الموجود من الإنسان إنّما ينتهي إلى آدم وزوجته، من غير أن يُشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أُنثى، ولم يذكر القرآن للبثّ إلاّ إيّاهما، ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال: وبثّ منهما ومن غيرهما، أو ذكر ذلك بما يُناسبه من اللفظ، ومن المعلوم أنّ انحصار مبدأ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواجٍ بنيهما من بناتهما.

٧٥

وأمّا الحكم بحرمته في الإسلام، وكذا في الشرائع السابقة عليه - على ما يُحكى - فإنّما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد، لا تكويني غير قابل للتغيير، وزمامه بيد الله سبحانه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فمَن الجائز أن يُبيحه يوماً لاستدعاء الضرورة ذلك، ثمّ يُحرِّمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.

والقول: بأنّه على خلاف الفطرة، وما شرّعه الله لأنبيائه دين فطري، قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ... ) (1) . فاسد ؛ فإنَّ الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهة تنفُّرها من هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ الأخت)، وإنّما تُبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفّة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الإنساني، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من التماس والمباشرة إنّما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم، وأمّا المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلاّ الأخوة والأخوات، والمشيّة الإلهيّة متعلّقة بتكثُّرهم وانبثاثهم، فلا ينطبق عليه هذا العنوان.

والدليل على أنّ الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية، تداوله بين المجوس أعصار طويلة (على ما يقصُّه التاريخ)، وشيوعه قانونياً في روسيا (على ما يُحكى)، وكذا شيوعه سُفاحاً من غير طريق الازدواج القانوني في أوروبا.

وربّما يُقال: إنّه مخالف للقوانين الطبيعية، وهي التي تجري في الإنسان قبل عقده المجتمع الصالح لإسعاده، فإنّ الاختلاط والاستيناس في

____________________

(1) سورة الروم، الآية: 30.

٧٦

المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشُّق والميل الغريزي بين الإخوة والأخوات، كما ذكره مونتسكيو في كتابه (روح القوانين).

وفيه أنّه ممنوع كما تقدّم أولاً، ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانياً، ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع، ومتكفّلة لسعادة المجتمعين، وإلاّ فمعظم القوانين المعمولة والأصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية.

وفيما يلي بعض الروايات في هذا المضمار.

عن أبي جعفر (عليه السلام): (لقد خلق الله عز وجل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين، ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض، فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه، ثمّ خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذرِّيته منه) الحديث.

وفي نهج البيان للشيباني، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من أيِّ شيء خلق الله حواء؟ فقال (عليه السلام): (أيُّ شيء يقولون هذا الخلق؟!). قلت: يقولون: إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم. فقال: (كذبوا! أكان الله يُعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟!). فقلت: جُعلت فداك، من أيّ شيء خلقها؟ فقال: (أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين، فخلطها بيمينه - وكلتا يديه يمين - فخلق منها آدم، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء).

أقول: ورواه الصدوق عن عمرو مثله، وهناك روايات أُخر، تدلّ على أنّها خُلقت من خلف آدم، وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، وكذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، وهذا المعنى وإن لم يستلزم

٧٧

في نفسه محالاً، إلاّ أنّ الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدّم.

وفي الاحتجاج، عن السجاد (عليه السلام) في حديث له مع قريش يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أُخت قابيل، وتزويج قابيل باقليما أُخت هابيل، قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: (نعم). فقال له القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، قال: فقال: (إنّ المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله - ثمّ قال له: - لا تُنكر هذا، إنَّما هي شرائع الله جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثمّ أحلّها له؟! فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثمّ أنزل الله التحريم بعد ذلك) (1) .

أقول: وهذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار، وهناك روايات أُخر تُعارضها، وهي تدلُّ على أنّهم تزوّجوا بمَن نزل إليهم من الحور والجانّ، وقد عرفت الحق في ذلك.

وفي المَجْمع في قوله تعالى: ( ... وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ... ) ، عن الباقر (عليه السلام): (واتّقوا الأرحام أن تقطعوها) (2) .

أقول: وبناؤه على قراءة النصب.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي: هي أرحام الناس، إنّ الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها، ألا ترى أنّه جعلها معه؟ (3) .

أقول: قوله: ألا ترى (إلخ) بيان لوجه التعظيم، والمراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى: ( ... وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ... ) .

وفي الدرِّ المنثور: أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: ( ... الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ... ) قال: قال ابن عباس: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (يقول

____________________

(1) الطبري، الاحتجاج ص 171 المطبعة المرتضوية النجف، 1350 هـ.

(2) الطبرسي: مجمع البيان ج 2، ص 3 دار إحياء التراث العربي.

(3) تفسير العيّاشي ج 1، ص 217 المكتبة العلمية: إيران.

٧٨

الله تعالى: صلوا أرحامكم؛ فإنَّه أبقى لكم في الحياة الدنيا، وخير لكم في آخرتكم) (1) .

أقول: قوله: فإنّه أبقى لكم (إلخ) إشارة إلى ما ورد مستفيضاً: (أنَّ صلة الرحم تزيد في العمر)، وقطعها بالعكس من ذلك، ويمكن أن يستأنس لوجهه كما سيأتي في تفسير قوله تعالى: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ... ) (2) .

ويمكن أن يكون المراد بكونه أبقى، كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها، فإنّ الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأرقاب؛ فيتقوّى بذلك الإنسان قِبال العوامل المخالفة، لحياته المضادّة لرفاهية عيشه في البلايا والمصائب والأعداء.

وفي تفسير العيّاشي، عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار، فأيُّما رجل منكم غضب على ذي رحمه، فليدنُ منه؛ فإن الرحم إذا مسَّتها الرحم استقرّت، وإنّها متعلّقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتُنادي: اللهمّ، صلْ مَن وصلني، واقطع مَن قطعني، وذلك قول الله في كتابه: ( ... وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ، وأيُّما رجل غضب وهو قائم، فليلزم الأرض من فوره؛ فإنّه يُذهب رجس الشيطان) (3) .

أقول: والرحم - كما عرفت - هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان، من حيث اتِّصال مادة وجودهم في الولادة من أب وأمٍّ أو أحدهما، وهي جهة حقيقية سائرة بين أُولي الأرحام، لها آثار حقيقية خُلُقية وخَلقية،

____________________

(1) السيوطي: الدرّ المنثور، ج 2، ص 117 (مكتبة مرعشي: إيران).

(2) سورة النساء، الآية: 9.

(3) تفسير العياشي: ج 1، ص 217، وكذا مجمع البيان، ج 2، ص 3.

٧٩

وروحية وجسمية، غير قابلة الإنكار، وإن كان ربّما توجد معها عوامل مخالفة تُضعف أثرها أو تُبطله بعض الأبطال، حتى يلحق بالعدم، ولن يبطل من رأس.

وكيف كان؛ فالرحم من أقوى أسباب الالتئام الطبيعي بين أفراد العشيرة، مستعدّة للتأثير أقوى الاستعداد؛ ولذلك كان ما يُنتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشدَّ ممّا يُنتجه ذلك بين الأجانب، وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشدّ أثراً منها في مورد الأجانب.

وبذلك يظهر معنى قوله (عليه السلام): (فأيُّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدنُ منه) إلخ، فإنّ الدنوّ من ذي الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها، فتتنبّه بسببه وتحرَّك لحكمها، ويتجدَّد أثرها، بظهور الرأفة والمحبّة.

وكذلك قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: (وأيُّما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض) إلخ، فإنّ الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستنداً إلى هواها، وإغفال الشيطان إيّاها وصرفها إلى أسباب واهية وهميّة، وفي تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد، يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد، فتنصرف عن الغضب بذلك؛ لأنّ نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب؛ ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب، كما في المجالس عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه أنّه ذكر الغضب فقال: (إنّ الرجل ليَغضب حتى ما يرضى أبداً، ويدخل بذلك النار، فأيُّما رجل غضب وهو قائم فليجلس؛ فإنَّه سيُذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالساً فليقم، وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه وليدنُ منه وليمسّه؛ فإنّ الرحم إذا مسّت الرحم سكنت).

أقول: وتأثيره محسوس مجرَّب.

قوله (عليه السلام): (وإنّها متعلِّقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد) إلخ، أي

٨٠