قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 0%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الصفحات: 233
المشاهدات: 49656
تحميل: 6740

توضيحات:

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49656 / تحميل: 6740
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قضايا

المُجتمع والأُسرة والزواج

على ضوء القرآن الكريم

العلاَّمة

السيد محمَّد حسين الطباطبائي

دار الصفوة

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

الفصل الأوّل

أُسس المجتمع الإسلامي

٥

٦

- 1 -

الإنسان والمجتمع

كون النوع الإنساني نوعاً اجتماعياً لا يحتاج في إثباته إلى بحث كثير، فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، ولم يزل الإنسان يعيش في وضع اجتماعي، على ما ينقله لنا التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي يعيش فيها الإنسان ويحكم على هذه الأرض.

وقد أنبأ القرآن الكريم عن ذلك أحسن إنباء في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

وقال تعالى: ( ... رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً... ) (2) .

وقال تعالى: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) (3) .

____________________

(1) سورة الحجرات، الآية: 13.

(2) سورة الزخرف، الآية: 32.

(3) سورة آل عمران، الآية: 195.

٧

وقال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً... ) (1) إلى غير ذلك من الآيات.

- 2 -

الإنسان ونموُّه في مجتمعه

المجتمع الإنساني كسائر الخواصّ الروحية الإنسانية، وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تامَّاً كاملاً لا يقبل النماء والزيادة، بل هو كسائر الأُمور الروحية الإدراكية الإنسانية، لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية والمعنوية، وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقّع أن تُستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواصّ الإنسانية، فتظهر أول ظهورها تامّة كاملة، أتمّ ما يكون وأكمله، بل هي كسائر الخواصّ الإنسانية التي لها ارتباط بقوَّتي العلم والإدارة تدريجية الكمال في الإنسان.

والذي يظهر من التأمّل في حال هذا النوع، أنّ أول ما ظهر من المجتمع فيه الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي، وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحقُّقه إلاّ بأزيد من فرد واحد أصلاً، بخلاف مثل التغذِّي وغيره، ثمّ ظهرت منه الخاصة التي سمّيناها في مباحث كتابنا (الميزان) بالاستخدام وهو توسيط الإنسان غيره، في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه، ثمّ برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة، ورئيس القبيلة، ورئيس الأمّة، وبالطبع كان المقدّم المتعيِّن من بين العدَّة أولاً أقواهم وأشجعهم، ثمّ أشجعهم وأكثرهم مالاً وولداً، وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة، وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنيّة، وقيامها على ساقها حتى اليوم.

____________________

(1) سورة الفرقان، الآية: 54.

٨

وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها (المنزلي وغيره) وإن لم تُفارق الإنسانية في هذه الأدوار ولو برهة، إلاّ أنّها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلاً، بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواصّ الأُخرى المعنيّ بها للإنسان، كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك.

والقرآن الكريم يُخبر أنّ أول ما نبّه الإنسان بالاجتماع تفصيلاً، واعتنى بحفظه استقلالاً نبّهته به النبوة.

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ... ) (1) .

وقال أيضاً: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ... ) (2) ، حيث يُنبئ أنّ الإنسان في أقدم عهوده كان أمّة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم، حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات، فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب؛ ليرفع به الاختلاف، ويردّهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة.

وقال تعالى: ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... ) (3) .

فأنبأ أنّ رفع الاختلاف من بين الناس، وإيجاد الاتّحاد في كلمتهم إنّما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرُّق فيه، فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.

والآية: - كما ترى - تحكي هذه الدعوة (ودعوة الاجتماع والاتحاد)

____________________

(1) سورة يونس، الآية: 19.

(2) سورة البقرة، الآية: 213.

(3) سورة الشورى، الآية: 13.

٩

عن نوح (عليه السلام)، وهو أقدم الأنبياء أولي الشريعة والكتاب، ثمّ عن إبراهيم، ثمّ عن موسى، ثمّ عن عيسى (عليهم السلام)، وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النَّزر اليسير من الأحكام، وأوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى، وتتبعه شريعة عيسى على ما يُخبر به القرآن، وهو ظاهر الأناجيل، وليس في شريعة موسى - على ما قيل - سوى ستمائة حكم تقريباً.

فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلّة صريحة، إلاّ من ناحية النبوّة في قالب الدين، كما يُصرّح به القرآن، والتاريخ بصدقه.

- 3 -

- الإسلام وعنايته بالمجتمع -

لا ريب أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسّس بنيانه على الاجتماع صريحاً، ولم يُهمل أمر المجتمع في أقلّ شأن من شؤونه، فانظر - إن أردت زيادة التبصر في ذلك - إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة، وإلى تشعُّبها إلى أجناسها، وأنواعها، وأصنافها، ثمّ انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها، ترى عجباً، ثمّ أنظر إلى تقليبه ذلك كلّه في قالب المجتمع، ترى أنّه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ.

ثمّ خُذْ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقّة التي يعتني بها القرآن، وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، حتى تُعاين النسبة وتعرف المنزلة.

وأمَّا ما لا يعتني به القرآن الكريم، من الشرائع كأديان الوثنية والصابئية والمانوية والثنوية، وغيرها، فالأمر فيها أظهر وأجلى.

وأمّا الأُمم المُتمدّنة وغيرها، فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلاّ أنّها كانت تتّبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام،

١٠

واجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية، فكان الاجتماع القومي، والوطني والإقليمي يعيش تحت راية الملك والرئاسة، ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتني أمّة من هذه الأمم عناية مستقلّة بأمره، وتجعله مورداً للبحث والعمل، حتى الأُمم المُعظمة - التي كانت لها سيادة الدنيا - حينما شرقت شارقة الدين، وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني إمبراطورية الروم والفرس، فإنّها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع أُممها تحت لواء الملك والسلطنة، ويتبعها الاجتماع في رُشده ونموّه ويمكث بمكثها.

نعم، يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، إلاّ أنّها كانت أوراقاً وصحائف لا ترد مورد العمل، ومثلاً ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج، والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.

فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني، ودعا به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر المجتمع، بجعله موضوعاً مستقلاً خارجاً عن زاوية الإهمال وحكم التبعية، هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربّه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين.

وقد قال تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ... ) (1) .

وقال تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ - إلى أن قال تعالى: - وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (يُشير إلى حفظ المجتمع عن التفرُّق والانشعاب) وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ

____________________

(1) سورة الانعام، الآية: 153.

١١

الْبَيِّنَاتُ... ) (1) .

وقال: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ... ) (2) .

إلى غير ذلك من الآيات المطلقة، الداعية إلى أصل الاجتماع والاتّحاد.

قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ... ) (3).

وقال: ( ... وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ... ) (4) .

وقال: ( ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى... ) (5) .

وقال أيضاً: ( ... وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ... ) (6) .

إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتّفاق والاتّحاد، في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية، والدفاع عنه على ما سنتحدّث فيه إن شاء الله تعالى.

- 4 -

اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع

الصنع والإيجاد أولاً يجعل أجزاءً ابتدائية لها آثار وخواصّ، ثمّ يُركّبها ويؤلّف بينها على ما فيها من جهات البينونة، فيستفيد منها فوائد جديدة، مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة، فالإنسان - مثلاً - له أجزاء وأبعاض

____________________

(1) سورة آل عمران، الآيات: 103 - 105.

(2) سورة الأنعام، الآية: 159.

(3) سورة الحجرات، الآية: 10.

(4) سورة الأنفال، الآية: 46.

(5) سورة المائدة، الآية: 2.

(6) سورة آل عمران، الآية: 104.

١٢

وأعضاء وقوى، لها فوائد متفرّقة مادّية وروحية، ربّما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الأجزاء، وثقل المجموع والتمكّن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك، وربّما لم تأتلف وبقيت على حال التباين والتفرّق، كالسمع والبصر والذوق والإرادة والحركة، إلاّ أنّها جميعاً من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الذي هو الإنسان، وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه، وهي فوائد جمّة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية، كالنطفة - مثلاً - إذا استكملت نشأتها، قدرت على إفراز شيء من المادة من نفسها وتربيتها إنساناً تامّاً آخر، يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الأفعال المادّية والروحية، فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان وهي واحد، وأفعالها كثيرة عدداً واحدة نوعاً، وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية، فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد، وهي ذات خواصّ كثيرة نوعها واحد، وكلّما جُمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر.

وقد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية، هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناصّ من اعتباره.

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى... ) (1) .

وقال أيضا: ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... ) (2) .

وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع - لا محالة - تؤدّي إلى كينونة أُخرى في المجتمع، حسب ما يمدُّه الأشخاص من وجودهم وقواهم، وخواصّهم وآثارهم، فيتكوّن في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود، وخواصّ الوجود وهو ظاهر مشهود؛ ولذلك اعتبر القرآن للأمّة وجوداً وأجلاً،

____________________

(1) سورة الحجرات، الآية: 13.

(2) سورة آل عمران، الآية: 195.

١٣

وكتاباً وشعوراً،وفهماً وعملاً، وطاعة ومعصية، فقال تعالى: ( ... وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (1) .

وقال أيضاً: ( ... كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا... ) (2) .

وقال: ( ... زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ... ) (3) ( ... يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ... ) (4) .

وقال: ( ... وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) (5).

وقال أيضاً: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ... ) (6) .

ومن هنا؛ ما نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الأُمم كاعتنائه بقصص الأشخاص، بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلاّ ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء، ولم يشتغل المؤرّخون بتواريخ الأُمم والمجتمعات إلاّ بعد نزول القرآن، فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم، كالمسعودي وابن خلدون، حتى ظهر التحوّل الأخير في التأريخ النقلي بتبديل الأشخاص أُمماً، وأول مَن سنّه - على ما يُقال: - أوغست كُمت الفرنسي، المتوفّى سنة 857 ميلادية.

وبالجملة؛ لازم ذلك - على ما مرّت الإشارة إليه - تكون قوى وخواصّ اجتماعية قويّة تقهر القوى والخواصّ الفردية عند التعارض والتضادّ.

على أنّ

____________________

(1) سورة الأعراف، الآية: 34.

(2) سورة الجاثية، الآية: 28.

(3) سورة الأنعام، الآية: 108.

(4) سورة آل عمران، الآية: 113.

(5) سورة غافر، الآية: 5.

(6) سورة يونس، الآية: 47.

١٤

الحسّ والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معاً، فمهمّة الجماعة وإرادتها في أمر - كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية - لا تقوم لها إرادة معارضة، ولا مضادّة من واحد من أشخاصها وأجزائها، فلا مفرّ للجزء من أن يَتْبع كلَّه ويجري على ما يجري العامة، كما في موارد الانهزام وانسلاب الأمن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها، كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطرُّ الفرد على الاتّباع، وتسلب عنه قوّة الإدراك والفكر.

وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع، ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يُماثله في واحد من الأديان الأُخر، ولا في سُنن الملل المتمدّنة (ولعلّك لا تكاد تُصدِّق ذلك) ، فإنّ تربية الأخلاق والغرائز في الفرد - وهو الأصل في وجود المجتمع - لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادّة القوية القاهرة في المجتمع إلاّ يسيراً، لا قدر له عن القياس والتقدير.

فوضع أهمّ أحكامه وشرائعه، كالحج والصلاة، والجهاد والإنفاق، وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع، وحافظ على ذلك، مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، العامة لجميع الأمّة بجعل غرض المجتمع الإسلامي - وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية، والقُرب والمنزلة عند الله، وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان وسرِّه - فضلاً عمّا في ظاهره - وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو الذي ذكرنا أنّ الإسلام تفوّق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السُنن والطرائق.

١٥

- 5 -

هل تقبل سنّة الإسلام الاجتماعية الإجراء والبقاء؟

ولعلّك تقول: لو كان ما ذُكر - ومن كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناءً وأتقن أساساً حتى من المجتمعات التي كوّنتها الملل المتمدّنة المترقية - حقّاً، فما باله لم يقبل الإجراء إلاّ بُرهة يسيرة، ثمّ لم يملك نفسه دون أن تبدّل قيصرية وكسروية؟! وتحوّل إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالاً ممّا كان قبله بخلاف المدنيّة الغربية التي تستديم البقاء!

وهذا هو الدليل على كون مدنيّتهم أرقى وسنّتهم في الاجتماع أتقن وأشدّ استحكاماً، وقد وضعوا سنّتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمّة واقتراح الطباع والميول، ثمّ اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم، لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة، وغلبة الأكثر سنّة جارية في الطبيعة مشهودة، فإنّا نجد كلاَّ ًمن العلل المادّية والأسباب الطبيعية مؤثّرة على الأكثر لا على الدوام، وكذا العوامل المختلفة المتنازعة، إنّما يؤثِّر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل، فمن الحريّ أن يُبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السُّنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر، وأمّا فرضية الدين فليست في الدينا الحاضرة إلاّ أُمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالاً عقلياً غير جائز النيل.

وقد ضمّنت المدنيّة الحاضرة - فيما ظهرت فيه من الممالك - قوّة المجتمع وسعادتها وتهذيب الأفراد وطهارتهم من الرذائل، وهي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع، كالكذب والخيانة، والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك.

وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا

١٦

معاشر الشرقيين، وخاصة الباحثين من الفضلاء المفكرين في نطاق البحث الاجتماعي والنفسي، غير أنّهم وردوا هذا البحث من غير مورده؛ فاختلط عليهم حقُّ النظر، ولتوضيح ذلك نقول:

أمّا قولهم: إنّ السنّة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا، على خلاف سُنن المدنيّة الحاضرة في جوِّ الظروف القائمة، ومعناه أنّ الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تُلائم الأحكام المشرّعة في الإسلام. فهو مسلَّم، لكنّه لا يُنتج شيئاً، فإنّ جميع السُّنن الدائرة في المجتمع الإنساني، إنّما حدثت بعد ما لم تكن، وظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع والظروف الموجودة، إلاّ مناقضة له طاردة إيّاه، فانتهضت، ونازعت السُّنن السابقة المستمرّة المتعرّقة، وربّما اضطُهدِت وانهزمت في أول نهضتها، ثمّ عادت ثانياً وثالثاً، حتى غلبت وتمكّنت وملكت سيطرتها، وربّما بادت وانقرضت؛ إذ لم يُساعدها العوامل والظروف بعد، والتاريخ يشهد بذلك في جميع السُّنن الدينية والدنيوية، حتى في مثل الديمقراطية والاشتراكية، وإلى مثله يُشير قوله تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) (1) .

فالآية تُشير إلى أنّ السنّة التي تُصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حَسنة محمودة.

فمجرّد عدم انطباق سنّة من السُّنن على الوضع الإنساني الحاضر، ليس يكشف عن بطلانه وفساده، بل هو في جملة السُّنن الطبيعية الجارية في العالم، لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة.

____________________

(1) سورة آل عمران، الآية: 137.

١٧

والإسلام كسائر السُّنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي، وليس بمستثنى من هذه الكلّية، فحاله - من حيث التقدُّم والتأخُّر والاستظهار بالعوامل والظروف - حال سائر السُّنن، وليس حال الإسلام اليوم - وقد تمكّن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون (1) من أفراد البشر، ونشب في قلوبهم - بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قامت دعوة كلٍّ منهم بنفس واحدة لم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد، ثمّ انبسطت وتعرّقت وعاشت، واتّصل بعضها ببعض، فلم ينقطع حتى اليوم. وقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة، ولم يكن معه مَن يستظهر به يومئذ إلاّ رجل وامرأة، ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد، واليوم يوم العُسرة كل العُسرة، حتى أتاهم نصر الله، فتشكّلوا مجتمعاً صالحاً، ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى، ومكثوا بُرهة على الصلاح الاجتماعي، حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان.

وهذا الأنموذج اليسير - على قصر عمره وضيق نطاقه - لم يلبث حتى انبسط في أقلِّ من نصف قرن على مشارق الأرض ومغاربها، وحوّل التاريخ تحويلاً جوهرياً، يُشاهد آثاره الهامّة إلى يومنا، وستدوم ثمّ تدوم.

ولا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري، عن الاعتراف بأنّ المنشأ القريب، والعامل التام للتحوُّل المعاصر المشهور في الدنيا، هو ظهور السنّة الإسلامية وطلوعها، ولم يُهمل جُلّ الباحثين في أوربّا استيفاء البحث عن تأثيرها في المجتمع الإنساني، إلاّ لعصبية دينية أو عِلل سياسية، وكيف يسع لباحث خبير - لو أنصف النظر - أن يُسمِّي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية، ويعدُّ المسيح (عليه السلام) قائدها وحامل

____________________

(1) يُقدَّر عدد المسلمين أكثر من ذلك، بل حتى أكثر من مليار نسمة.

١٨

لوائها، والمسيح يُصرِّح بأنَّه إنَّما يهتمُّ بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم، ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة؟ وهو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع والتألُّف ويتصرَّف في جميع شؤون المجتمع الإنساني وأفراده من غير استثناء، فهل هذا الصفح والإغماض منهم إلاَّ لإطفاء نور الإسلام ( ... وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ... ) وإخماد ناره عن القلوب بغياً وعدواناً؟! حتى يعود جنسية لا أثر لها إلاَّ أثر الأنسال المُنشعبة.

وبالجملة؛ قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم، وما هذا شأنه لا يسمَّى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانية، ولا مأيوساً من قوله: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً... ) (1) .

إنّ البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية، يؤدّي إلى أنّ النوع الإنساني سيبلغ غايته وينال بغيته، وهي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا، وتولّيه التام أمر المجتمع الإنساني، وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابة العزيز قال: ( ... فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ... ) (2) .

وقال: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً... ) (3) .

وقال: ( ... أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (4) .

وهنا جهة أُخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم، وهي أنّ الاجتماع الإسلامي

____________________

(1) سورة البقرة، الآية: 231.

(2) سورة المائدة، الآية: 54.

(3) سورة النور، الآية: 55.

(4) سورة الأنبياء، الآية: 105.

١٩

شعاره الوحيد هو اتّباع الحق في النظر والعمل، والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتّباع ما يراه ويريده الأكثر، وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون، فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية الفعلية، بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه، فيُعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله في طريق العبودية، بل يكون مقدّمة توصِل إليها، وفيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه، وهي الراحة الكبرى (وإن كنَّا لا نُدركها اليوم حقَّ الإدراك؛ لاختلال التربية الإسلامية فينا) ؛ ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتّباع الحق، وشدّد في المنع عمّا يُفسد العقل السليم، وألقى ضمان إجراء الجميع - من الإعمال والأخلاق والمعارف الأصلية - إلى عُهدة المجتمع، مضافاً إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية من إجراء السياسات والحدود وغيرها، وهذا - على أيِّ حال - لا يوافق طباع العامة من الناس، ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء والأماني الذي نُشاهده في كافّة المُترفين والمعدمين، ويسلب حرّيتهم في الاستلذاذ والتلهِّي، والسبعية والافتراس، إلاّ بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حدِّ سائر الأمور الراقية، التي يحتاج الإنسان في التلبُّس بها إلى همّة قاطعة وتدرُّب كافٍ وتحفُّظ على ذلك مُستدام.

وأمَّا غاية الاجتماع المدني الحاضر، فهي التمتُّع من المادة، ومن الواضح أنّ هذه تستتبع حياة أساسية تتَّبع ما يميل إليه الطبع، سواء وافق ما هو الحق عند العقل أم لم يوافق، بل إنَّما يتّبع العقل فيما لا يُخالف غايته وغرضه.

ولذلك كانت القوانين تتّبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم، وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال، وأمّا الأخلاق والمعارف الأصلية، فلا ضامن لإجرائها، بل

٢٠