قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 25%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52754 / تحميل: 7385
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

تُحدث فيه صوتاً مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، وفي الصحاح: الإنقاض صوت مثل النقر (١) .

إنّ المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث، وهو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمَّة الحوادث، ومتفرقات الأسباب والعلل الكونية، فهي تُحرِّك وحدها سلاسل العِلل والأسباب المختلفة المتفرّقة، أي تتعلّق بروحها الساري فيها المحرِّك لها، كما أنّ أزمّة المملكة - على اختلاف جهاتها وشؤونها وأشكالها - تجتمع في عرش الملك، والكلمة الواحدة الصادرة منه تُحرِّك سلاسل القوى والمقامات الفعّالة في المملكة، وتظهر في كل مورد بما يُناسبه من الشكل والأثر.

والرحم - كما عرفت - حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص، الذين يجمعهم جامع القرابة، فهي من متعلِّقات العرش، فإذا ظُلمت واضطُهدت لاذت بما تعلّقت به واستنصرت، وهو قوله (عليه السلام): (تنقضه انتقاض الحديد). وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد، الذي يحدث فيه رنيناً يستوعب بالارتعاش والاهتزاز جميع جسامة الحديد، كما في نقر الأجراس والجامات وغيرها.

قوله (عليه السلام): (فتُنادي: اللهمّ، صلْ مَن وصلني، واقطع مَن قطعني). حكاية لفحوى التجائها واستنصارها، وفي الروايات الكثيرة: (إنّ صلة الرحم تزيد في العمر) وأنَّ قطعها يقطعه.

إنّ مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض والغايات الصالحة، ولن يُهمَل في ذلك، وإذا فسد جزءٌ أو أجزاء

____________________

(١) الجوهري: الصحاح ج ٢، ص ١١١١، مادة (نقض).

٨١

منه عالج ذلك إمّا بإصلاح أو بالحذف والإزالة، وقاطع الرحم يُحارب الله في تكوينه، فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره، وأمّا أنّ الإنسان اليوم لا يحسّ بهذه الحقيقة وأمثالها، فلا غَرو لأنّ الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت، فالحسُّ لا يجد فراغاً يقوى به على إدراك الألم والعذاب.

- ٥ -

المجتمع الأول

الآيات القرآنية ظاهرة - ظهوراً قريباً - من الصراحة، في أنّ البشر الموجودين اليوم - ونحن منهم - ينتهون بالتناسل إلى زوج، أي رجل وامرأة بعينهما، وقد سُمِّي الرجل في القرآن بآدم وهما غير متكوِّنين من أب وأمٍّ، بل مخلوقان من تراب أو طين، أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن.

فهذا هو الذي تُفيده الآيات ظهوراً معتدَّاً به، وإن لم تكن نصّاً صريحاً لا يقبل التأويل، ولا المسألة من ضروريات الدين، نعم يمكن عدّ انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريّاً من القرآن، وأما أنّ آدم هذا هل أُريد به آدم النوعي - أعني الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص أو عدّة معدودة من الأفراد هم أُصول النسب والآباء والأُمهات الأولية - أو فرد إنساني واحد بالشخص؟ وعلى هذا التقدير؛ هل هو فرد من نوع الإنسان تولّد من نوع آخر - كالقردة مثلاً - على طريق تطوُّر الأنواع وظهور الأكمل من الكامل والكامل من الناقص، وهكذا؟ أو هو فرد من الإنسان كامل بالكامل الفكري تولّد من زوج من الإنسان غير المجهّز بجهاز التعقّل، فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهّز بالتعقُّل القابل للتكليف وانفصاله من النوع غير المجهز بذلك، فالبشر

٨٢

الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان، ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يُسمّى بآدم، وينشعب هذا النوع الكامل بالتولُّد تطوُّراً من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقُّل، وهو يسير القهقري في أنواع حيوانية مترتّبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزاً وأنقصها كمالاً، وإن أخذنا من هناك سائرين لم نَزَلْ ننتقل من ناقص إلى كامل، ومن كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقُّل، ثمّ إلى الإنسان الكامل، كل ذلك في سلسلة نسبية متّصلة مؤلّفة من آباء وأعقاب.

أو أنّ سلسلة التوالد والتناسل تنقطع بالاتّصال بآدم وزوجه، وهما متكوّنان من الأرض من غير تولُّد من أب وأمٍّ؟ فليس شيء من هذه الصور ضرورياً.

وكيف كان، فظاهرة الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة، وهي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه المتكوِّنين من الأرض من غير أب وأُمٍّ، غير أنّ الآيات لم تُبيِّن كيفية خلق آدم من الأرض، وأنّه هل عملت في خلقه عِلل وعوامل خارقة للعادة؟ وهل تمّت خلقته بتكوين إلهي آنيٍّ من غير مَهَل، فتبدّل الجسد المصنوع من طين بدناً عادياً ذا روح إنساني، أو أنّه عاد إنساناً تامّاً كاملاً في أزمنة معتدٍّ بها يتبدّل عليه فيها استعداد بعد استعداد وصورة وشكل بعد صورة وشكل، حتى تمّ الاستعداد فنفخ فيه الروح؟ وبالجُملة، اجتمعت عليه من العِلل والشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم.

ومن أوضح الدليل عليه قوله تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

فإنّ الآية نزلت جواباً عن احتجاج النصارى على نبوّة عيسى، بأنّه ولِد من غير أب بشريٍّ، ولا ولد إلاّ بوالد؛ فأبوه هو الله سبحانه، فردّ في الآية بما

____________________

(١) سورة آل عمران، الآية: ٥٩.

٨٣

محصّله: أنّ صفته كصفة آدم، حيث خلقه الله من أديم الأرض بغير والد يَلده، فلِمَ لا يقولون: بأنّ آدم ابن الله؟!

ولو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته، كسائر المتكوِّنين من النُّطَف إلى الأرض، كان المعنى: أنّ صفة عيسى ولا أب له كمَثل آدم، حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض، ومن المعلوم أنّ لا خصوصية لآدم على هذا المعنى، حتى يؤخَذ ويُقاس إليه عيسى، فيفسد معنى الآية في نفسه، ومن حيث الاحتجاج به على النصارى.

وبهذا تظهر دلالة جميع الآيات الدالّة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك، على المطلوب، كقوله: ( ... إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ) (١).

وقوله: ( ... وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) (٢) .

وأمّا قول مَن قال: إنّ المراد بآدم هو آدم النوعي، دون الشخصي، بمعنى الطبيعة الإنسانية الخارجية الفاشية في الأفراد، والمراد ببنوّة الأفراد له تكثُّر الأشخاص منه بانضمام القيود إليه، وقصّة دخوله الجنّة وإخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييلي، لمكانته في نفسه ووقوفه موقف القرب، ثمّ كونه في معرف الهبوط باتِّباع الهوى وطاعة إبليس. ففيه: أنّه مدفوع بالآية السابقة، وظواهر كثير من الآيات، كقوله: ( ... الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء... ) (٣) .

فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي، لم يبقَ لفرض الزوج لها محلٌّ، ونظير الآية الآيات التي تُفيد أنّ الله أدخله وزوجه الجنّة، وأنّه وزوجه

____________________

(١) سورة ص، الآية: ٧١.

(٢) سورة السجدة، الآية: ٧.

(٣) سورة النساء، الآية: ١.

٨٤

عصيا الله بالأكل من الشجرة.

على أنّ أصل القول: بآدم النوعي مبنيٌّ على قدم الأرض والأنواع المتأصّلة ومنها الإنسان، وأنّ أفراده غير متناهية من الجانبين، والأصول العلمية تُبطل ذلك بتاتاً، وأما القول: بكون النسل منتهياً إلى أفراد معدودين، كأربعة أزواج مختلفين، ببياض اللون، وسواده، وحمرته، وصفرته، أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة، وبعضهم بالدنيا الحديثة والأراضي المكشوفة أخيراً، وفيها بشر قاطنون كأمريكا واستراليا.

فمدفوع بجميع الآيات الدالّة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه؛ فإنّ المراد بآدم فيها إمّا شخص واحد إنساني وإمّا الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأفراد، وهو آدم النوعي، وأمّا الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك ألبتّة.

على أنّه مبنيٌّ على تباين الأصناف الأربعة في الإنسان: البيض، والسود، والحمر، والصفر، وكون كلٌّ من هذه الأصناف نوعاً برأسه، ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر، أو كون قارّات الأرض منفصلاً بعضها عن بعض انفصالاً أبديّاً غير مسبوق بالعدم، وقد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلاناً كاد يُلحقها بالبديهيات، وأما القول: بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصالاً، أو انفصلوا من نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه - كالقرد مثلاً - انفصال الأكمل من الكامل تطوُّراً.

ففيه أنّ الآيات السابقة - الدالّة على خلق الإنسان الأول من تراب من غير أب وأمٍّ - تدفعه.

على أنّ ما أُقيم عليه من الحجّة العلمية قاصر عن إثباته، كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي.

٨٥

وأمّا القول: بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكري، من طريق التولُّد، ثمّ انشعابهما وانفصالهما بالتطوّر من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكري، ثمّ انقراض الأصل وبقاء الفرع المتولِّد منهما، على قاعدة تنازع البقاء وانتخاب الأصلح.

فيدفعه قوله تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ، على التقريب المتقدِّم وما في معناه من الآيات.

على أنّ الحجّة التي أُقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته؛ فإنّها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقي وأجنّة الحيوان، والآثار الحفرية الدالّة على التغيُّر التدريجي في صفات الأنواع وأعضائها وظهور الحيوان تدريجاً آخذاً من الناقص إلى الكامل، وخلق ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشدُّ تركيباً.

وفيه: أنّ ظهور النوع الكامل، من حيث التجهيزات الحيوية بعد الناقص زماناً، لا يدلُّ على أزيد من تدرُّج المادة في استكمالها لقبول الصور الحيوانية المختلفة، فهي قد استعدّت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة، والشريفة بعد الخسيسة، وأمّا كون الكامل من الحيوان منشعباً من الناقص بالتوالد والاتصال النسبي، فلا ولم يعثر هذا الفحص والبحث - على غزارته وطول زمانه - على فرد نوع كامل متولّد من فرع نوع آخر، على أن يقف على نفس التولّد دون الفرد والفرد.

وما وجِد منها شاهداً على التغيّر التدريجي، فإنّما هو تغيُّر في نوع واحد، بالانتقال من صفة لها إلى صفة أُخرى، لا يخرج بذلك من نوعيّته، والمدّعى خلاف ذلك.

فالذي يتسلّم أنَّ نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة، بالكمال والنقص

٨٦

والشرف والخسّة، وأعلى مراتبها الحياة الإنسانية، ثمّ ما يليها، ثمّ الأمثل فالأمثل، وأمّا أنّ ذلك من طريق تبدّل كل نوع ممّا يُجاوره من النوع الأكمل، فلا يُفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج.

نعم، يوجب حدساً ما غير يقيني بذلك، فالقول بتبدُّل الأنواع بالتطوُّر فرضية حدسية، تبتني عليها العلوم الطبيعية اليوم، ومن الممكن أن يتغيّر يوماً إلى خلافها بتقدّم العلوم وتوسّع الأبحاث.

وربّما استُدلّ على هذا القول بقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١)، بتقريب: أنّ الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشيء، وإنّما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يُختار المصطفى من بينهم ويؤثَر عليهم، كما اصطُفي كلٌّ من نوح وآل إبراهيم وآل عمران من بين قومهم، ولا زال ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيُصطفى من بينهم عليهم، وليس إلاّ البشر الأوّلي غير المجهّز بجهاز التعقُّل فاصطُفي آدم من بينهم، فجُهِّز بالعقل، فانتقل من مرتبة نوعيتهم إلى مرتبة الإنسان المجهَّز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم، ثمّ نَسل وكثُر نسله، وانقرض الإنسان الأوّلي الناقص.

وفيه أنّ ( ... الْعَالَمِينَ ) في الآية جمع مُحلَّى باللام، وهو يُفيد العموم ويصدق على عامّة البشر إلى يوم القيامة، فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم والآتين بعدهم، كمثل قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ، فما المانع من كون آدم مصطفى مَختاراً من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟ وعلى تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين وعليهم، ما هو المانع من كونه مصطفى مختاراً من بين أولاده

____________________

(١) سورة آل عمران، الآية: ٣٣.

٨٧

المعاصرين له؟ ولا دلالة في الآية على كون اصطفائه أول خلقته قبل ولادة أولاده.

على أنَّ اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأوّلي - كما يذكره المستدلّ - كان ذلك بما أنّه مجهّز بالعقل، وكان ذلك مشتركاً بينه وبين بني آدم جميعاً على الإنسان الأوّلي، فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصاً من غير مُخصِّص.

وربّما استُدلّ بقوله: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ... ) (١) .

بناء على أنّ (ثمّ) على التراخي الزماني، فقد كان للنوع الإنساني وجود قبل خلق آدم وأمر الملائكة بالسجدة له.

وفيه أنّ (ثمّ) في الآية للترتيب الكلامي، وهو كثير الورود في كلامه تعالى، على أنّ هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في مكان آخر من كتاب الميزان.

وربّما استُدلّ بقوله: ( ... وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ... ) الآيات، وتقريبه: أنّ الآية الأُولى المتعرّضة لأوّل خلق الإنسان تذكر خلقته الأوّلية من تراب، التي يشترك فيها جميع الأفراد، والآية الثالثة تذكر تسويته ونفخ الروح فيه.

وبالجملة: كماله الإنساني، والعطف بثمّ تدلّ على توسّط زمان معتدٍّ به بين أول خلقته من تراب، وبين ظهوره بكماله.

وليس هذا الزمان المتوسّط إلاّ زمان توسّط الأنواع الأُخرى، التي تنتهي بتغيّرها التدريجي إلى الإنسان الكامل، وخاصة بالنظر إلى تنكّر ( ... سُلاَلَةٍ... )

____________________

(١) سورة الأعراف، الآية: ١١.

٨٨

المفيد للعموم.

وفيه أنّ قوله: ( ثُمَّ سَوَّاهُ... ) عطف على قوله (بدأ) والآيات في مقام بيان ظهور النوع الإنساني بالخلق، وأنّ بدء خلقه وهو خلق آدم كان من طين، ثمّ بدّل سلالة من ماء في ظهور أولاده، ثمّ تمّت الخلقة، سواء كان فيه أم في أولاده بالتسوية ونفخ الروح.

وهذا معنى صحيح، يقبل الانطباق على اللفظ، ولا يلزم منه حمل قوله: ( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ) على أنواع متوسّطة بين الخلق من الطين وبين التسوية ونفخ الروح، وكون ( سلالة ) نكرة لا يستلزم العموم، فإنّ إفادة النكرة للعموم إنّما هو فيما إذا وقعت في سياق النفي دون الإثبات.

- ٦ -

الطبيعة الإنسانية والمجتمع

المتأمّل في شؤون الاجتماع الإنساني، والناظر في الخواصّ والآثار التي يتعقّبها هذا الأمر المسمَّى بالاجتماع - من جهة أنّه اجتماع - لا يشكّ في أنّ هذا الاجتماع إنّما كوّنته ثمّ شعّبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الإنسانية، لمّا استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجي إلى الاجتماع، وتلزمها لتوفِّق إلى أفعالها وحركتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته، ثمّ استشعرت وأُلهمت بعلوم (صور ذهنية) وإدراكات تُوقِعها على المادة، وعلى حوائجها فيها، وعلى أفعالها وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها، كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الأصول الاجتماعية من الرئاسة والمرؤوسية، والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصّة، وسائر القواعد والنواميس العمومية

٨٩

والآداب والرسوم القومية، التي لا تخلو عن التحوُّل والاختلاف باختلاف الأقوام والمناطق والأعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرّة عليها من صنع الطبيعة الإنسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطّفت بها طبيعة الإنسان؛ لتُمثِّل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثمّ تتحرّك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال.

والتوجُّه العبادي إلى الله سبحانه، وهو المنزّه عن شؤون المادة والمقدّس عن تعلُّق الحسّ المادي إذا أُريد أن يتجاوز حدّ القلب والضمير، وتنزّل على موطن الأفعال - وهي لا تدور إلاّ بين المادّيات - ولم يكن في ذلك بدّ ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل، بأن يُلاحظ التوجُّهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثمّ تمثّل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال وأشكالها، كالسجدة يُراد بها التذلّل، والركوع يُراد به التعظيم، والطواف يُراد به تفدية النفس، والقيام يُراد به التكبير، والوضوء والغسل يُراد بها الطهارة للحضور ونحو ذلك.

ولا شكّ أنّ التوجّه إلى المعبود، استقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حياة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحقُّقها.

٩٠

٩١

الفصل الثالث

المرأة

٩٢

٩٣

من المعلوم أنّ الإسلام - والذي شرّعه هو الله عزَّ اسمه - لم يبن شرائعه على أصل التجارب، كما بُنيت عليه سائر القوانين، لكنّا في قضاء العقل في شرائعه ربّما احتجنا إلى التأمّل في الأحكام والقوانين، والرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة والقرون الخالية، ثمّ البحث عن السعادة الإنسانية، وتطبيق النتيجة على المحصّل من مذاهبهم ومسالكهم، حتى نزن به مكانته ومكانتها، ونُميِّز به روحه الحيّة الشاعرة من أرواحها، وهذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ المِلل وسيرها، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة؛ ولذلك فإنّا نحتاج في البحث عمّا يراه الإسلام ويعتقده في:

١ - هوية المرأة والمُقايسة بينها وبين هوية الرجل.

٢ - وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الإنساني.

٣ - حقوقها والأحكام التي شُرِّعت لأجلها.

٩٤

٤ - الأساس الذي بُنيت عليه الأحكام المربوطة بها.

إلى استحضار ما جرى عليه التأريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام، وما كانت الأُمم غير المسلمة يُعاملها عليه حتى اليوم، من المتمدّنة وغيرها، والاستقصاء في ذلك وإن كان خارجاً عن طوق الكتاب، لكنّا نذكر طرفاً منه.

- ١ -

حياة المرأة في الأُمم غير المتمدِّنة

كانت حياة النساء في الأُمم والقبائل الوحشية، كالأُمم القاطنين بأفريقيا واستراليا، والجزائر المسكونة بالأوقيانوسية، وأمريكا القديمة وغيرها، بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهلية من الأنعام وغيرها، بالنسبة إلى حياة الإنسان.

فكما أنّ الإنسان - لوجود قريحة الاستخدام فيه - يرى لنفسه حقّاً أن يمتلك الأنعام وسائر الحيوانات الأهلية، ويتصرّف فيها كيفما شاء، وفي أيّ حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها ووبرها، ولحمها وعظمها، ودمها وجلدها، وحليبها وحفظها وحراستها، وسفادها ونتاجها ونمائها، وفي حمل الأثقال، وفي الحرث، وفي الصيد، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا تُحصى كثرة.

وليس لهؤلاء العُجَم من الحيوانات، من مبتغيات الحياة وآمال القلوب، في المأكل والمشرب، والمسكن والسفاد الراحة إلاّ ما رضي به الإنسان الذي امتلكها، ولن يرضى إلاّ بما لا يُنافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة، وربّما أدّى ذلك إلى تهكّمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر

٩٥

الحيوان المستخدم، لو كان هو الناظر في أمر نفسه، فمن مظلوم من غير أيّ جرم كان أجرمه، ومُستغيث وليس له أيّ مُغيث يُغيثه، ومن ظالم من غير مانع يمنعه، ومن سعيد من غير استحقاق، كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش وألذه عنده، ومن شقيٍّ من غير استحقاق، كحمار الحمل وفرس الطاحونة.

وليس لها من حقوق الحياة إلاّ ما رآه الإنسان المالك لها حقّاً لنفسه، فمَن تعدّى إليها لا يؤاخذ إلاّ لأنّه تعدّى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه؛ كل ذلك لأنّ الإنسان يرى وجودها تبعاً لوجود نفسه، وحياتها فرعاً لحياته ومكانتها مكانة الطفيلي.

كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأُمم والقبائل حياة تبعيّة، وكانت النساء مخلوقة عندهم (لأجل الرجال) بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود، والحياة لهم من غير استقلال في حياة، ولا في حق، فكان آبائهن ما لم يُنكَحن وبعولتهنّ بعد النكاح أولياء لهنّ على الإطلاق.

كان للرجل أن يبيع المرأة ممّن شاء، وكان له أن يهبها لغيره، وكان له أن يُقرضها لمَن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، وكان له أن يسوسها حتى بالقتل، وكان له أن يُخلّي عنها، ماتت أو عاشت، وكان له أن يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة، وخاصة في المجاعة وفي المآدب، وكان له ما للمرأة من المال والحق، وخاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشراء وأخذ وردٍّ.

وكان على المرأة أن تُطيع الرجل - أباها أو زوجها - في ما يأمر به طوعاً أو كُرهاً، وكان عليها أن لا تستقلّ عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، وكان عليها أن تلي أُمور البيت والأولاد، وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، وكان

٩٦

عليها أن تتحمّل من الأشغال أشقّها، كحمل الأثقال، وعمل الطين وما يجري مجراهما، ومن الحرف والصناعات أرداها وسفسافها، وقد بلغ عجيب الأمر إلى حيث أنَّ المرأة الحامل في بعض القبائل، إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، ونام الرجل على فراشها أيام يتمرَّض ويُداوي نفسه، هذه كلِّيات ما له وعليها، ولكل جيل من هذه الأجيال الوحشية خصائل وخصائص، من السنن والآداب القومية، باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها والأجواء المحيطة بها، يطّلع عليه مَن راجع الكتب المؤلّفة في هذه الشؤون.

- ٢ -

حياة المرأة في الأُمم المتمدّنة قبل الإسلام

نعني بهم الأُمم التي كانت تعيش تحت الرسوم المليئة، المحفوظة بالعادات الموروثة، من غير استناد إلى كتاب أو قانون، كالصين والهند، ومصر القديم وإيران ونحوها.

تشترك جميع هذه الأُمم، في أنّ المرأة عندهم، ما كانت ذات استقلال وحرّية، لا في إرادتها ولا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، لا تُنجز شيئاً من قِبَل نفسها، ولا كان لها حقّ المداخلة في الشؤون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

وكان عليها أن تُشارك الرجل في جميع أعمال الحياة، من كسب وغير ذلك.

وكان عليها أن تختصّ بأُمور البيت والأولاد، وكان عليها أن تُطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويُريد منها.

٩٧

وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالاً بالنسبة إليها في الأُمم غير المتمدّنة، فلم تكن تُقتل ويؤكَل لحمها، ولم تُحرم من تملُّك المال بالكلّية، بل كانت تمتلك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك، وإن لم تكن لها أن تتصرّف فيها بالاستقلال، وكان للرجل أن يتّخذ زوجات متعدِّدة من غير تحديد، وكان له تطليق مَن شاء منهن، وكان للزوج أن يتزوّج بعد موت الزوجة، ولا حق لها في الغالب، وكانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالباً.

ولكل أُمّة من هذه الأُمم مختصّات بحسب اقتضاء المناطق والأوضاع، كما أنّ تمايز الطبقات في إيران ربّما أوجب تميّزاً لنساء الطبقات العالية، من المداخلة في المُلك والحكومة، أو نيل السلطنة ونحو ذلك، أو الازدواج بالمحارم، من أمّ أو بنت أو أُخت أو غيرها.

وكما أنّه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعاً من اشتراء نفسها ومملوكيتها، وكانت هي ممنوعة من الإرث، ومن أن تُشارك الرجال حتى أبنائها في التغذّي، وكان للرجال أن يتشارك في أكثر من واحدة منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتُّع بها، والانتفاع من أعمالها، ويلحق الأولاد أقوى الأزواج غالباً.

وكما أنّ النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهنّ، لا يحلّ لهنّ الازدواج بعد توفّي أزواجهنّ أبداً، بل إمّا أن يُحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مُذلّلات، وهنّ في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب، وكذا ثيابها وكل ما لامستها بالبشرة.

ويمكن أن يُلخَّص شأنها في هذه الأُمم: أنّها كالبرزخ بين الحيوان والإنسان، يُستفاد منها استفادة الإنسان المتوسّط الضعيف، الذي لا يحق له إلاّ

٩٨

أن يمدّ الإنسان المتوسّط في أمور حياته، كالولد الصغير بالنسبة إلى وليّه، غير أنّها تحت الولاية والقيمومة دائماً.

- ٣ -

حال المرأة عند الأُمم القديمة

كانت الأُمم المذكورة آنفاً، أُمماً تجري معظم آدابها ورسومهم الخاصة على أساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها، من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهراً، لكنْ هناك أُمم أُخرى، كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة والروم واليونان.

أمّا الكلدة والآشور، فقد حكم فيهم شرع (حامورابي)، بتبعية المرأة لزوجها، وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل، حتى إنّ الزوجة لو لم تُطع زوجها في شيء من أمور المعاشرة، أو استقلّ بشيء فيها، كان له أن يُخرجها من بيته، أو يتزوّج عليها ويُعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضاً، ولو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير، كان له أن يرفع أمرها إلى القاضي، ثم يُغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.

وأمّا الروم، فهي أيضاً من أقدم الأُمم وضعاً للقوانين المدنية، وضِع القانون فيها أوَّل ما وضِع، حدود سنة أربعمئة قبل الميلاد، ثم أخذوا في تكميله تدريجاً، وهو يُعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصّة به، ولربّ البيت - وهو زوج المرأة وأبو أولادها - نوع ربوبية، كان يعبده لذلك أهل البيت، كما كان يعبد هو مَن تقدّمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، وكان له الاختيار التام والمشيئة النافذة في جميع ما يريده ويأمر به على أهل البيت، من زوجة وأولاد، حتى القتل لو رأى أنّ الصلاح فيه، ولا يُعارضه في ذلك معارض، وكانت النساء نساء البيت، كالزوجة والبنت

٩٩

والأُخت أردء حالاً من الرجال، حتى الأبناء التابعين محضاً لربّ البيت، فإنهنّ لم يَكُنَّ أجزاء للاجتماع المدني فلا تُسمع لهنّ شكاية، ولا يُنفّذ منهنّ معاملة، ولا تصحّ منهنّ في الأمور الاجتماعية مداخلة، لكن الرجال - أعني الإخوة والذكور في الأولاد حتى الأدعياء (فإنّ التبنّي وإلحاق الولد بغير أبيه كان معمولاً شائعاً عندهم وكذا في اليونان وإيران وعند العرب) - كان من الجائز أن يأذن لهم ربّ البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقاً لأنفسهم.

ولم يكن أجزاء أصيلة في البيت، بل كان أهل البيت هم الرجال، وأمّا النساء فتبع، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثّرة في التوارث ونحوها مختصّة بما بين الرجال، وأمّا النساء فلا قرابة بينهنّ أنفسهنّ، كالأُمّ مع البنت، أو الأُخت مع الأُخت، ولا بينهنّ وبين الرجال، كالزوجين أو الأُمّ مع الابن، أو الأُخت مع الأخ، أو البنت مع الأب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية، نعم القرابة الطبيعية (وهي التي يوجبها الاتّصال في الولادة) كانت موجودة بينهم، وربّما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، وولاية رئيس البيت وربّه لها.

وبالجملة؛ كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدني والبيتي)، زمام حياتها وإرادتها بيد ربّ البيت، من أبيها إن كانت في بيت الأب، أو زوجها إن كانت في بيت الزوج، أو غيرهما، يفعل بها ربُّها ما يشاء، ويحكم فيها ما يريد، فربّما باعها، وربّما وهبها، وربّما أقرضها للتمتُّع، وربّما أعطاها في حق يُراد استيفاؤه منه، كدين وخراج ونحوهما، وربّما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئاً بالازدواج أو الكسب، مع إذن وليّها لا بالإرث؛ لأنّها كانت محرومة منه، وبيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها، وبيد زوجها تطليقها.

وأمّا اليونان، فالأمر عندهم في تكوّن البيوت وربوبية أربابها فيها كان

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233