قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج 25%

قضايا المجتمع والأسرة والزواج مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 233

قضايا المجتمع والأسرة والزواج
  • البداية
  • السابق
  • 233 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52745 / تحميل: 7385
الحجم الحجم الحجم
قضايا المجتمع والأسرة والزواج

قضايا المجتمع والأسرة والزواج

مؤلف:
الناشر: دار الصفوة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

تُحدث فيه صوتاً مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، وفي الصحاح: الإنقاض صوت مثل النقر (١) .

إنّ المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث، وهو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمَّة الحوادث، ومتفرقات الأسباب والعلل الكونية، فهي تُحرِّك وحدها سلاسل العِلل والأسباب المختلفة المتفرّقة، أي تتعلّق بروحها الساري فيها المحرِّك لها، كما أنّ أزمّة المملكة - على اختلاف جهاتها وشؤونها وأشكالها - تجتمع في عرش الملك، والكلمة الواحدة الصادرة منه تُحرِّك سلاسل القوى والمقامات الفعّالة في المملكة، وتظهر في كل مورد بما يُناسبه من الشكل والأثر.

والرحم - كما عرفت - حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص، الذين يجمعهم جامع القرابة، فهي من متعلِّقات العرش، فإذا ظُلمت واضطُهدت لاذت بما تعلّقت به واستنصرت، وهو قوله (عليه السلام): (تنقضه انتقاض الحديد). وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد، الذي يحدث فيه رنيناً يستوعب بالارتعاش والاهتزاز جميع جسامة الحديد، كما في نقر الأجراس والجامات وغيرها.

قوله (عليه السلام): (فتُنادي: اللهمّ، صلْ مَن وصلني، واقطع مَن قطعني). حكاية لفحوى التجائها واستنصارها، وفي الروايات الكثيرة: (إنّ صلة الرحم تزيد في العمر) وأنَّ قطعها يقطعه.

إنّ مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض والغايات الصالحة، ولن يُهمَل في ذلك، وإذا فسد جزءٌ أو أجزاء

____________________

(١) الجوهري: الصحاح ج ٢، ص ١١١١، مادة (نقض).

٨١

منه عالج ذلك إمّا بإصلاح أو بالحذف والإزالة، وقاطع الرحم يُحارب الله في تكوينه، فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره، وأمّا أنّ الإنسان اليوم لا يحسّ بهذه الحقيقة وأمثالها، فلا غَرو لأنّ الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت، فالحسُّ لا يجد فراغاً يقوى به على إدراك الألم والعذاب.

- ٥ -

المجتمع الأول

الآيات القرآنية ظاهرة - ظهوراً قريباً - من الصراحة، في أنّ البشر الموجودين اليوم - ونحن منهم - ينتهون بالتناسل إلى زوج، أي رجل وامرأة بعينهما، وقد سُمِّي الرجل في القرآن بآدم وهما غير متكوِّنين من أب وأمٍّ، بل مخلوقان من تراب أو طين، أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن.

فهذا هو الذي تُفيده الآيات ظهوراً معتدَّاً به، وإن لم تكن نصّاً صريحاً لا يقبل التأويل، ولا المسألة من ضروريات الدين، نعم يمكن عدّ انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريّاً من القرآن، وأما أنّ آدم هذا هل أُريد به آدم النوعي - أعني الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص أو عدّة معدودة من الأفراد هم أُصول النسب والآباء والأُمهات الأولية - أو فرد إنساني واحد بالشخص؟ وعلى هذا التقدير؛ هل هو فرد من نوع الإنسان تولّد من نوع آخر - كالقردة مثلاً - على طريق تطوُّر الأنواع وظهور الأكمل من الكامل والكامل من الناقص، وهكذا؟ أو هو فرد من الإنسان كامل بالكامل الفكري تولّد من زوج من الإنسان غير المجهّز بجهاز التعقّل، فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهّز بالتعقُّل القابل للتكليف وانفصاله من النوع غير المجهز بذلك، فالبشر

٨٢

الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان، ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يُسمّى بآدم، وينشعب هذا النوع الكامل بالتولُّد تطوُّراً من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقُّل، وهو يسير القهقري في أنواع حيوانية مترتّبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزاً وأنقصها كمالاً، وإن أخذنا من هناك سائرين لم نَزَلْ ننتقل من ناقص إلى كامل، ومن كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقُّل، ثمّ إلى الإنسان الكامل، كل ذلك في سلسلة نسبية متّصلة مؤلّفة من آباء وأعقاب.

أو أنّ سلسلة التوالد والتناسل تنقطع بالاتّصال بآدم وزوجه، وهما متكوّنان من الأرض من غير تولُّد من أب وأمٍّ؟ فليس شيء من هذه الصور ضرورياً.

وكيف كان، فظاهرة الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة، وهي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه المتكوِّنين من الأرض من غير أب وأُمٍّ، غير أنّ الآيات لم تُبيِّن كيفية خلق آدم من الأرض، وأنّه هل عملت في خلقه عِلل وعوامل خارقة للعادة؟ وهل تمّت خلقته بتكوين إلهي آنيٍّ من غير مَهَل، فتبدّل الجسد المصنوع من طين بدناً عادياً ذا روح إنساني، أو أنّه عاد إنساناً تامّاً كاملاً في أزمنة معتدٍّ بها يتبدّل عليه فيها استعداد بعد استعداد وصورة وشكل بعد صورة وشكل، حتى تمّ الاستعداد فنفخ فيه الروح؟ وبالجُملة، اجتمعت عليه من العِلل والشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم.

ومن أوضح الدليل عليه قوله تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

فإنّ الآية نزلت جواباً عن احتجاج النصارى على نبوّة عيسى، بأنّه ولِد من غير أب بشريٍّ، ولا ولد إلاّ بوالد؛ فأبوه هو الله سبحانه، فردّ في الآية بما

____________________

(١) سورة آل عمران، الآية: ٥٩.

٨٣

محصّله: أنّ صفته كصفة آدم، حيث خلقه الله من أديم الأرض بغير والد يَلده، فلِمَ لا يقولون: بأنّ آدم ابن الله؟!

ولو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته، كسائر المتكوِّنين من النُّطَف إلى الأرض، كان المعنى: أنّ صفة عيسى ولا أب له كمَثل آدم، حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض، ومن المعلوم أنّ لا خصوصية لآدم على هذا المعنى، حتى يؤخَذ ويُقاس إليه عيسى، فيفسد معنى الآية في نفسه، ومن حيث الاحتجاج به على النصارى.

وبهذا تظهر دلالة جميع الآيات الدالّة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك، على المطلوب، كقوله: ( ... إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ) (١).

وقوله: ( ... وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) (٢) .

وأمّا قول مَن قال: إنّ المراد بآدم هو آدم النوعي، دون الشخصي، بمعنى الطبيعة الإنسانية الخارجية الفاشية في الأفراد، والمراد ببنوّة الأفراد له تكثُّر الأشخاص منه بانضمام القيود إليه، وقصّة دخوله الجنّة وإخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييلي، لمكانته في نفسه ووقوفه موقف القرب، ثمّ كونه في معرف الهبوط باتِّباع الهوى وطاعة إبليس. ففيه: أنّه مدفوع بالآية السابقة، وظواهر كثير من الآيات، كقوله: ( ... الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء... ) (٣) .

فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي، لم يبقَ لفرض الزوج لها محلٌّ، ونظير الآية الآيات التي تُفيد أنّ الله أدخله وزوجه الجنّة، وأنّه وزوجه

____________________

(١) سورة ص، الآية: ٧١.

(٢) سورة السجدة، الآية: ٧.

(٣) سورة النساء، الآية: ١.

٨٤

عصيا الله بالأكل من الشجرة.

على أنّ أصل القول: بآدم النوعي مبنيٌّ على قدم الأرض والأنواع المتأصّلة ومنها الإنسان، وأنّ أفراده غير متناهية من الجانبين، والأصول العلمية تُبطل ذلك بتاتاً، وأما القول: بكون النسل منتهياً إلى أفراد معدودين، كأربعة أزواج مختلفين، ببياض اللون، وسواده، وحمرته، وصفرته، أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة، وبعضهم بالدنيا الحديثة والأراضي المكشوفة أخيراً، وفيها بشر قاطنون كأمريكا واستراليا.

فمدفوع بجميع الآيات الدالّة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه؛ فإنّ المراد بآدم فيها إمّا شخص واحد إنساني وإمّا الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأفراد، وهو آدم النوعي، وأمّا الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك ألبتّة.

على أنّه مبنيٌّ على تباين الأصناف الأربعة في الإنسان: البيض، والسود، والحمر، والصفر، وكون كلٌّ من هذه الأصناف نوعاً برأسه، ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر، أو كون قارّات الأرض منفصلاً بعضها عن بعض انفصالاً أبديّاً غير مسبوق بالعدم، وقد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلاناً كاد يُلحقها بالبديهيات، وأما القول: بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصالاً، أو انفصلوا من نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه - كالقرد مثلاً - انفصال الأكمل من الكامل تطوُّراً.

ففيه أنّ الآيات السابقة - الدالّة على خلق الإنسان الأول من تراب من غير أب وأمٍّ - تدفعه.

على أنّ ما أُقيم عليه من الحجّة العلمية قاصر عن إثباته، كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي.

٨٥

وأمّا القول: بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكري، من طريق التولُّد، ثمّ انشعابهما وانفصالهما بالتطوّر من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكري، ثمّ انقراض الأصل وبقاء الفرع المتولِّد منهما، على قاعدة تنازع البقاء وانتخاب الأصلح.

فيدفعه قوله تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ، على التقريب المتقدِّم وما في معناه من الآيات.

على أنّ الحجّة التي أُقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته؛ فإنّها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقي وأجنّة الحيوان، والآثار الحفرية الدالّة على التغيُّر التدريجي في صفات الأنواع وأعضائها وظهور الحيوان تدريجاً آخذاً من الناقص إلى الكامل، وخلق ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشدُّ تركيباً.

وفيه: أنّ ظهور النوع الكامل، من حيث التجهيزات الحيوية بعد الناقص زماناً، لا يدلُّ على أزيد من تدرُّج المادة في استكمالها لقبول الصور الحيوانية المختلفة، فهي قد استعدّت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة، والشريفة بعد الخسيسة، وأمّا كون الكامل من الحيوان منشعباً من الناقص بالتوالد والاتصال النسبي، فلا ولم يعثر هذا الفحص والبحث - على غزارته وطول زمانه - على فرد نوع كامل متولّد من فرع نوع آخر، على أن يقف على نفس التولّد دون الفرد والفرد.

وما وجِد منها شاهداً على التغيّر التدريجي، فإنّما هو تغيُّر في نوع واحد، بالانتقال من صفة لها إلى صفة أُخرى، لا يخرج بذلك من نوعيّته، والمدّعى خلاف ذلك.

فالذي يتسلّم أنَّ نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة، بالكمال والنقص

٨٦

والشرف والخسّة، وأعلى مراتبها الحياة الإنسانية، ثمّ ما يليها، ثمّ الأمثل فالأمثل، وأمّا أنّ ذلك من طريق تبدّل كل نوع ممّا يُجاوره من النوع الأكمل، فلا يُفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج.

نعم، يوجب حدساً ما غير يقيني بذلك، فالقول بتبدُّل الأنواع بالتطوُّر فرضية حدسية، تبتني عليها العلوم الطبيعية اليوم، ومن الممكن أن يتغيّر يوماً إلى خلافها بتقدّم العلوم وتوسّع الأبحاث.

وربّما استُدلّ على هذا القول بقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١)، بتقريب: أنّ الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشيء، وإنّما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يُختار المصطفى من بينهم ويؤثَر عليهم، كما اصطُفي كلٌّ من نوح وآل إبراهيم وآل عمران من بين قومهم، ولا زال ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيُصطفى من بينهم عليهم، وليس إلاّ البشر الأوّلي غير المجهّز بجهاز التعقُّل فاصطُفي آدم من بينهم، فجُهِّز بالعقل، فانتقل من مرتبة نوعيتهم إلى مرتبة الإنسان المجهَّز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم، ثمّ نَسل وكثُر نسله، وانقرض الإنسان الأوّلي الناقص.

وفيه أنّ ( ... الْعَالَمِينَ ) في الآية جمع مُحلَّى باللام، وهو يُفيد العموم ويصدق على عامّة البشر إلى يوم القيامة، فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم والآتين بعدهم، كمثل قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ، فما المانع من كون آدم مصطفى مَختاراً من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟ وعلى تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين وعليهم، ما هو المانع من كونه مصطفى مختاراً من بين أولاده

____________________

(١) سورة آل عمران، الآية: ٣٣.

٨٧

المعاصرين له؟ ولا دلالة في الآية على كون اصطفائه أول خلقته قبل ولادة أولاده.

على أنَّ اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأوّلي - كما يذكره المستدلّ - كان ذلك بما أنّه مجهّز بالعقل، وكان ذلك مشتركاً بينه وبين بني آدم جميعاً على الإنسان الأوّلي، فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصاً من غير مُخصِّص.

وربّما استُدلّ بقوله: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ... ) (١) .

بناء على أنّ (ثمّ) على التراخي الزماني، فقد كان للنوع الإنساني وجود قبل خلق آدم وأمر الملائكة بالسجدة له.

وفيه أنّ (ثمّ) في الآية للترتيب الكلامي، وهو كثير الورود في كلامه تعالى، على أنّ هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في مكان آخر من كتاب الميزان.

وربّما استُدلّ بقوله: ( ... وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ... ) الآيات، وتقريبه: أنّ الآية الأُولى المتعرّضة لأوّل خلق الإنسان تذكر خلقته الأوّلية من تراب، التي يشترك فيها جميع الأفراد، والآية الثالثة تذكر تسويته ونفخ الروح فيه.

وبالجملة: كماله الإنساني، والعطف بثمّ تدلّ على توسّط زمان معتدٍّ به بين أول خلقته من تراب، وبين ظهوره بكماله.

وليس هذا الزمان المتوسّط إلاّ زمان توسّط الأنواع الأُخرى، التي تنتهي بتغيّرها التدريجي إلى الإنسان الكامل، وخاصة بالنظر إلى تنكّر ( ... سُلاَلَةٍ... )

____________________

(١) سورة الأعراف، الآية: ١١.

٨٨

المفيد للعموم.

وفيه أنّ قوله: ( ثُمَّ سَوَّاهُ... ) عطف على قوله (بدأ) والآيات في مقام بيان ظهور النوع الإنساني بالخلق، وأنّ بدء خلقه وهو خلق آدم كان من طين، ثمّ بدّل سلالة من ماء في ظهور أولاده، ثمّ تمّت الخلقة، سواء كان فيه أم في أولاده بالتسوية ونفخ الروح.

وهذا معنى صحيح، يقبل الانطباق على اللفظ، ولا يلزم منه حمل قوله: ( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ) على أنواع متوسّطة بين الخلق من الطين وبين التسوية ونفخ الروح، وكون ( سلالة ) نكرة لا يستلزم العموم، فإنّ إفادة النكرة للعموم إنّما هو فيما إذا وقعت في سياق النفي دون الإثبات.

- ٦ -

الطبيعة الإنسانية والمجتمع

المتأمّل في شؤون الاجتماع الإنساني، والناظر في الخواصّ والآثار التي يتعقّبها هذا الأمر المسمَّى بالاجتماع - من جهة أنّه اجتماع - لا يشكّ في أنّ هذا الاجتماع إنّما كوّنته ثمّ شعّبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الإنسانية، لمّا استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجي إلى الاجتماع، وتلزمها لتوفِّق إلى أفعالها وحركتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته، ثمّ استشعرت وأُلهمت بعلوم (صور ذهنية) وإدراكات تُوقِعها على المادة، وعلى حوائجها فيها، وعلى أفعالها وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها، كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الأصول الاجتماعية من الرئاسة والمرؤوسية، والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصّة، وسائر القواعد والنواميس العمومية

٨٩

والآداب والرسوم القومية، التي لا تخلو عن التحوُّل والاختلاف باختلاف الأقوام والمناطق والأعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرّة عليها من صنع الطبيعة الإنسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطّفت بها طبيعة الإنسان؛ لتُمثِّل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثمّ تتحرّك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال.

والتوجُّه العبادي إلى الله سبحانه، وهو المنزّه عن شؤون المادة والمقدّس عن تعلُّق الحسّ المادي إذا أُريد أن يتجاوز حدّ القلب والضمير، وتنزّل على موطن الأفعال - وهي لا تدور إلاّ بين المادّيات - ولم يكن في ذلك بدّ ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل، بأن يُلاحظ التوجُّهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثمّ تمثّل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال وأشكالها، كالسجدة يُراد بها التذلّل، والركوع يُراد به التعظيم، والطواف يُراد به تفدية النفس، والقيام يُراد به التكبير، والوضوء والغسل يُراد بها الطهارة للحضور ونحو ذلك.

ولا شكّ أنّ التوجّه إلى المعبود، استقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حياة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحقُّقها.

٩٠

٩١

الفصل الثالث

المرأة

٩٢

٩٣

من المعلوم أنّ الإسلام - والذي شرّعه هو الله عزَّ اسمه - لم يبن شرائعه على أصل التجارب، كما بُنيت عليه سائر القوانين، لكنّا في قضاء العقل في شرائعه ربّما احتجنا إلى التأمّل في الأحكام والقوانين، والرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة والقرون الخالية، ثمّ البحث عن السعادة الإنسانية، وتطبيق النتيجة على المحصّل من مذاهبهم ومسالكهم، حتى نزن به مكانته ومكانتها، ونُميِّز به روحه الحيّة الشاعرة من أرواحها، وهذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ المِلل وسيرها، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة؛ ولذلك فإنّا نحتاج في البحث عمّا يراه الإسلام ويعتقده في:

١ - هوية المرأة والمُقايسة بينها وبين هوية الرجل.

٢ - وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الإنساني.

٣ - حقوقها والأحكام التي شُرِّعت لأجلها.

٩٤

٤ - الأساس الذي بُنيت عليه الأحكام المربوطة بها.

إلى استحضار ما جرى عليه التأريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام، وما كانت الأُمم غير المسلمة يُعاملها عليه حتى اليوم، من المتمدّنة وغيرها، والاستقصاء في ذلك وإن كان خارجاً عن طوق الكتاب، لكنّا نذكر طرفاً منه.

- ١ -

حياة المرأة في الأُمم غير المتمدِّنة

كانت حياة النساء في الأُمم والقبائل الوحشية، كالأُمم القاطنين بأفريقيا واستراليا، والجزائر المسكونة بالأوقيانوسية، وأمريكا القديمة وغيرها، بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهلية من الأنعام وغيرها، بالنسبة إلى حياة الإنسان.

فكما أنّ الإنسان - لوجود قريحة الاستخدام فيه - يرى لنفسه حقّاً أن يمتلك الأنعام وسائر الحيوانات الأهلية، ويتصرّف فيها كيفما شاء، وفي أيّ حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها ووبرها، ولحمها وعظمها، ودمها وجلدها، وحليبها وحفظها وحراستها، وسفادها ونتاجها ونمائها، وفي حمل الأثقال، وفي الحرث، وفي الصيد، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا تُحصى كثرة.

وليس لهؤلاء العُجَم من الحيوانات، من مبتغيات الحياة وآمال القلوب، في المأكل والمشرب، والمسكن والسفاد الراحة إلاّ ما رضي به الإنسان الذي امتلكها، ولن يرضى إلاّ بما لا يُنافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة، وربّما أدّى ذلك إلى تهكّمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر

٩٥

الحيوان المستخدم، لو كان هو الناظر في أمر نفسه، فمن مظلوم من غير أيّ جرم كان أجرمه، ومُستغيث وليس له أيّ مُغيث يُغيثه، ومن ظالم من غير مانع يمنعه، ومن سعيد من غير استحقاق، كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش وألذه عنده، ومن شقيٍّ من غير استحقاق، كحمار الحمل وفرس الطاحونة.

وليس لها من حقوق الحياة إلاّ ما رآه الإنسان المالك لها حقّاً لنفسه، فمَن تعدّى إليها لا يؤاخذ إلاّ لأنّه تعدّى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه؛ كل ذلك لأنّ الإنسان يرى وجودها تبعاً لوجود نفسه، وحياتها فرعاً لحياته ومكانتها مكانة الطفيلي.

كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأُمم والقبائل حياة تبعيّة، وكانت النساء مخلوقة عندهم (لأجل الرجال) بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود، والحياة لهم من غير استقلال في حياة، ولا في حق، فكان آبائهن ما لم يُنكَحن وبعولتهنّ بعد النكاح أولياء لهنّ على الإطلاق.

كان للرجل أن يبيع المرأة ممّن شاء، وكان له أن يهبها لغيره، وكان له أن يُقرضها لمَن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، وكان له أن يسوسها حتى بالقتل، وكان له أن يُخلّي عنها، ماتت أو عاشت، وكان له أن يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة، وخاصة في المجاعة وفي المآدب، وكان له ما للمرأة من المال والحق، وخاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشراء وأخذ وردٍّ.

وكان على المرأة أن تُطيع الرجل - أباها أو زوجها - في ما يأمر به طوعاً أو كُرهاً، وكان عليها أن لا تستقلّ عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، وكان عليها أن تلي أُمور البيت والأولاد، وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، وكان

٩٦

عليها أن تتحمّل من الأشغال أشقّها، كحمل الأثقال، وعمل الطين وما يجري مجراهما، ومن الحرف والصناعات أرداها وسفسافها، وقد بلغ عجيب الأمر إلى حيث أنَّ المرأة الحامل في بعض القبائل، إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، ونام الرجل على فراشها أيام يتمرَّض ويُداوي نفسه، هذه كلِّيات ما له وعليها، ولكل جيل من هذه الأجيال الوحشية خصائل وخصائص، من السنن والآداب القومية، باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها والأجواء المحيطة بها، يطّلع عليه مَن راجع الكتب المؤلّفة في هذه الشؤون.

- ٢ -

حياة المرأة في الأُمم المتمدّنة قبل الإسلام

نعني بهم الأُمم التي كانت تعيش تحت الرسوم المليئة، المحفوظة بالعادات الموروثة، من غير استناد إلى كتاب أو قانون، كالصين والهند، ومصر القديم وإيران ونحوها.

تشترك جميع هذه الأُمم، في أنّ المرأة عندهم، ما كانت ذات استقلال وحرّية، لا في إرادتها ولا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، لا تُنجز شيئاً من قِبَل نفسها، ولا كان لها حقّ المداخلة في الشؤون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

وكان عليها أن تُشارك الرجل في جميع أعمال الحياة، من كسب وغير ذلك.

وكان عليها أن تختصّ بأُمور البيت والأولاد، وكان عليها أن تُطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويُريد منها.

٩٧

وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالاً بالنسبة إليها في الأُمم غير المتمدّنة، فلم تكن تُقتل ويؤكَل لحمها، ولم تُحرم من تملُّك المال بالكلّية، بل كانت تمتلك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك، وإن لم تكن لها أن تتصرّف فيها بالاستقلال، وكان للرجل أن يتّخذ زوجات متعدِّدة من غير تحديد، وكان له تطليق مَن شاء منهن، وكان للزوج أن يتزوّج بعد موت الزوجة، ولا حق لها في الغالب، وكانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالباً.

ولكل أُمّة من هذه الأُمم مختصّات بحسب اقتضاء المناطق والأوضاع، كما أنّ تمايز الطبقات في إيران ربّما أوجب تميّزاً لنساء الطبقات العالية، من المداخلة في المُلك والحكومة، أو نيل السلطنة ونحو ذلك، أو الازدواج بالمحارم، من أمّ أو بنت أو أُخت أو غيرها.

وكما أنّه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعاً من اشتراء نفسها ومملوكيتها، وكانت هي ممنوعة من الإرث، ومن أن تُشارك الرجال حتى أبنائها في التغذّي، وكان للرجال أن يتشارك في أكثر من واحدة منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتُّع بها، والانتفاع من أعمالها، ويلحق الأولاد أقوى الأزواج غالباً.

وكما أنّ النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهنّ، لا يحلّ لهنّ الازدواج بعد توفّي أزواجهنّ أبداً، بل إمّا أن يُحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مُذلّلات، وهنّ في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب، وكذا ثيابها وكل ما لامستها بالبشرة.

ويمكن أن يُلخَّص شأنها في هذه الأُمم: أنّها كالبرزخ بين الحيوان والإنسان، يُستفاد منها استفادة الإنسان المتوسّط الضعيف، الذي لا يحق له إلاّ

٩٨

أن يمدّ الإنسان المتوسّط في أمور حياته، كالولد الصغير بالنسبة إلى وليّه، غير أنّها تحت الولاية والقيمومة دائماً.

- ٣ -

حال المرأة عند الأُمم القديمة

كانت الأُمم المذكورة آنفاً، أُمماً تجري معظم آدابها ورسومهم الخاصة على أساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها، من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهراً، لكنْ هناك أُمم أُخرى، كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة والروم واليونان.

أمّا الكلدة والآشور، فقد حكم فيهم شرع (حامورابي)، بتبعية المرأة لزوجها، وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل، حتى إنّ الزوجة لو لم تُطع زوجها في شيء من أمور المعاشرة، أو استقلّ بشيء فيها، كان له أن يُخرجها من بيته، أو يتزوّج عليها ويُعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضاً، ولو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير، كان له أن يرفع أمرها إلى القاضي، ثم يُغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.

وأمّا الروم، فهي أيضاً من أقدم الأُمم وضعاً للقوانين المدنية، وضِع القانون فيها أوَّل ما وضِع، حدود سنة أربعمئة قبل الميلاد، ثم أخذوا في تكميله تدريجاً، وهو يُعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصّة به، ولربّ البيت - وهو زوج المرأة وأبو أولادها - نوع ربوبية، كان يعبده لذلك أهل البيت، كما كان يعبد هو مَن تقدّمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، وكان له الاختيار التام والمشيئة النافذة في جميع ما يريده ويأمر به على أهل البيت، من زوجة وأولاد، حتى القتل لو رأى أنّ الصلاح فيه، ولا يُعارضه في ذلك معارض، وكانت النساء نساء البيت، كالزوجة والبنت

٩٩

والأُخت أردء حالاً من الرجال، حتى الأبناء التابعين محضاً لربّ البيت، فإنهنّ لم يَكُنَّ أجزاء للاجتماع المدني فلا تُسمع لهنّ شكاية، ولا يُنفّذ منهنّ معاملة، ولا تصحّ منهنّ في الأمور الاجتماعية مداخلة، لكن الرجال - أعني الإخوة والذكور في الأولاد حتى الأدعياء (فإنّ التبنّي وإلحاق الولد بغير أبيه كان معمولاً شائعاً عندهم وكذا في اليونان وإيران وعند العرب) - كان من الجائز أن يأذن لهم ربّ البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقاً لأنفسهم.

ولم يكن أجزاء أصيلة في البيت، بل كان أهل البيت هم الرجال، وأمّا النساء فتبع، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثّرة في التوارث ونحوها مختصّة بما بين الرجال، وأمّا النساء فلا قرابة بينهنّ أنفسهنّ، كالأُمّ مع البنت، أو الأُخت مع الأُخت، ولا بينهنّ وبين الرجال، كالزوجين أو الأُمّ مع الابن، أو الأُخت مع الأخ، أو البنت مع الأب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية، نعم القرابة الطبيعية (وهي التي يوجبها الاتّصال في الولادة) كانت موجودة بينهم، وربّما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، وولاية رئيس البيت وربّه لها.

وبالجملة؛ كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدني والبيتي)، زمام حياتها وإرادتها بيد ربّ البيت، من أبيها إن كانت في بيت الأب، أو زوجها إن كانت في بيت الزوج، أو غيرهما، يفعل بها ربُّها ما يشاء، ويحكم فيها ما يريد، فربّما باعها، وربّما وهبها، وربّما أقرضها للتمتُّع، وربّما أعطاها في حق يُراد استيفاؤه منه، كدين وخراج ونحوهما، وربّما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئاً بالازدواج أو الكسب، مع إذن وليّها لا بالإرث؛ لأنّها كانت محرومة منه، وبيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها، وبيد زوجها تطليقها.

وأمّا اليونان، فالأمر عندهم في تكوّن البيوت وربوبية أربابها فيها كان

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233