• البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43162 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
تأريخ جديد للتأريخ  على هامش الفرق الإسلامية

تأريخ جديد للتأريخ على هامش الفرق الإسلامية

مؤلف:
العربية

وزيد نفسه، قبل المبايعة وقبل القتال و ( رفضَ الشيخين ) يقول، كما ينقل عنه الرواة ( اني ابرأ الى الله من القدرية... ومن المرجئة... ومن الرافضة... ومن المارقة... )(١) .

فاصطلاح الرافضة اذن، لا يمكن الا ان يكون معروفاً في ذلك العصر، شأنه شأن الاصطلاحات المذكورة الأخرى كالمرجئة والمارقة، والا لما استعمله زيد - كما استعمله الذين سبقوه - بهذا الشكل، لو لم يكن متداولاً، ولو لم يكن السامع على معرفة به، كما هو على معرفة بالقدرية والمرجئة والمارقة التي برى منها زيد فهل كان هؤلاء الرواة يكذبون فيما ينقلون عن الشعبي والمغيرة وزيد ؟ ام كانت رواية الذين قالوا ان زيداً هو الذي سماهم رافضة، هي الكاذبة ؟

ولكن مالنا نلتمس الحجة فيما يذهب اليه، عند هذا او ذاك، اذ يكفي ان نشير الى الأحاديث ( النبوية ) الكثيرة التي ذكرت الرافضة، وهو ما يثبت ان هذا الاصطلاح قد سبق في الوجود، زيداً وثورته والرواية التي استندت اليها(٢) .

وثانيها ان العديد من المؤرخين والمؤلفين في الرجال، حتى من الزيدية انفسهم، لم يتعرضوا الى هذه الرواية اطلاقاً، ولم يذكروها وهم يتحدثون عن زيد وعن ثورته واسباب فشلها. وآذكر على سبيل المثال، خليفة بن خياط المتوفى على الأرجح عام ٢٤٠ ه-(٣) وأبا حنيفة احمد بن داود الدينوري المتوفى عام ٢٨٢ ه-(٤) واليعقوبي المتوفى قبل عام ٣٠٠ ه-(٥) والمسعودي

____________________

١- فيروي قاضي القضاة في فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص٢٢٨ ( ان زيد بن عليعليه‌السلام لما خرج على هشام بن عبد الملك بالكوفة جاءه أبو الخطاب فقال عرفنا ما تذهب إليه حتى نبايعك... ) فكان رد زيد ما ذكرنا بعضه وهو يثبت أن اصطلاح الرافضة كان موجوداً ومعروفاً قبل ثورة زيد ذلك أن السائل كما رأينا طلب من زيد معرفة رأيه أولا قبل أن يقرر إن كان سيبايعه بعد ذاك أم لا.

٢ - تأريخ خليفة بن خياط تحقيق أكرم ضياء العمري ط أولى ١٩٦٧ مطبعة الآداب في النجف ص٣٦٩.

٣- أحمد بن داوود الدينوري ٢٨٢ أصله من دينور إحدى إقليم همدان أحد أعلام اللغة والأدب والتأريخ من كتبه المعروفة ( الأخبار الطوال ) في التأريخ تحقيق عبد المنعم عامر ومراجعة الدكتور جمال الدين الشيال ط أولى القاهرة ١٩٦٠ ص٣٤٤.

٤- تأريخ اليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب المعروف بابن واضح الاخباري ت بعد ٢٩٢ ه- من أشهر كتبه تأريخه المعروف بتأريخ اليعقوبي نشر المكتبة المرتضوية في النجف ١٣٥٨ ه- ج٣ ص٦٥ - ٦٦.

٥- مروج الذهب نشر دار الأندلس بيروت ط رابعة ج٣ ص٢٠٦ - ٢٠٧.

٢١

المتوفى عام ٣٤٦ ه-(١) الذين لم يوردوا في تواريخهم شيئاً عن هذه الرواية ولم يعرضوا لها.

وابو الفرج، وقد افرد للحديث عن زيد اكثر من عشرين صفحة في كتابه ( مقاتل الطالبيين )، لم يتطرق للرواية ولا للتسمية التي اقترنت بها، برغم انه فصل اخبار زيد ولم يفته شيء مما تعلق بثورته وبمصرعه(٢) .

ثم ان الذين رثوا زيداً بعد مقتله، لم يشر واحد منهم الى ( الرافضة ) وموقفهم من زيد وخذلانهم له، مع ان هذا الموقف، لو صح، لكان جديراً - وهو السبب فيما انتهى اليه زيد - ان يثير الشعراء ضد الرافضة، ويدفعهم الى الهجوم عليهم، وتحمليهم مسؤولية قتله، والشعر اسهل واسرع في الحفظ والنقل. وبين هؤلاء الشعراء، وهم كثر، من عاصر زيداً، ومن له رحم ماسة به كالفضل بن عبد الرحمن بن العباس(٣) من بني الحارث بن عبد المطلب، وقد رثى زيداً بقصيدة طويلة، فيها حزن ولوعة وفيها تهديد لبني الحكم ووعيد.

أفلا يستحق الرافضة الذين خذلوا زيداً وأسلموه، هم ايضاً، تأنيباً وتهديداً ووعيداً ؟ ألا يستحق موقفهم ذلك اشارة، على الأقل، في هذه القصيدة الطويلة، او في غيرها مما رثي به زيد في ذلك العهد.

كما اذكر ايضا ابن سعد في طبقاته(٤) ، وصاحب الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية(٥) ، فكلاهما لم يأتيا بذكر للرواية عند ترجمة زيد بن علي.

وابن قتيبة في المعارف، وهو يتحدث عن زيد وعن الزيدية في موضعين من كتابه(٦) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد، وهو يتناول الموضوع نفسه(٧) ، وآخرين غير هؤلاء.

____________________

١- مقاتل الطالبيين تحقيق السيد أحمد صقر ط ثانية طهران ١٩٧٠ من ص١٢٧ - ١٥١.

٢- هذا هو اسمه كما ورد في المصادر وكما يورده أبو الفرج نفسه في ص٢٥٤ من مقاتل الطالبيين لكنه في ص١٤٨ وهو يورد القصيدة يقدم العباس على عبد الرحمن في سلسلة آباء الفضل فيقول: الفضل بن العباس بن عبد الرحمن.

٣- كتاب ( الطبقات الكبير ) لمحمد بن سعد الزهري بالولاء مولده في البصرة عام ١٦٨ه- ووفاته في بغداد عام ٢٣٠ه- اشهر كتبه ( الطبقات الكبير ) المعروف بطبقات ابن سعد تصحيح ادوارد سخو ط ليدن ١٣٣٣ ج٥ ص٢٣٩ في ترجمة زيد بن علي.

٤- الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية لحميد الدين بن احمد مخطوط ج١ ص١٤٣ في مكتبة الشيخ الوالدرحمه‌الله .

٥- المعارف لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ٢١٣- ٢٧٦ه- الأعلام المؤلفين في مختلف الفنون من كتبه ( المعارف ) تحقيق الدكتور ثروت عكاشة مطبعة دار الكتب ١٩٦٠ ص٢١٦ و ٦٢٣.

٦- العقد الفريد لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأديب الأندلسي المعروف ولد وتوفي في قرطبة ٢٤٦ه- - ٣٢٨ه- من أشهر تآليفه ( العقد الفريد ) تحقيق محمد سعيد العريان نشر دار الفكر ج٢ ص٢٢٢.

٧- كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ت نحو ٣١٤ ط أولى مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن في الهند ج٨ ص١١٠ وما بعدها.

٢٢

ومنهم من اورد السؤال الذي قيل انه وجه لزيد عن موقفه من ابي بكر وعمر، وما أجاب به زيد، وانصراف اصحابه عنه بعد سماعهم جوابه، لكنهم لم يذكروا اسم الرافضة ولم يربطوا بينه وبين انصراف اصحاب زيد عنه، ومفارقتهم له، ومن هؤلاء صاحب ( الفتوح )(١) وصاحب ( البدء والتأريخ )(٢) .

ثم ان أياً من المؤلفين، سواء ربطوا بين موقف زيد وبين التسمية، أو الذين لم يربطوا بينهما فأثبتوا سؤال زيد عن موقفه من الشيخين وتفرق اصحابه عنه بعد سماعهم رأيه، لكنهم لم يجعلوا ذلك اساساً لها.

ان اياً من هؤلاء لم يسم واحداً فقط من كل الذين يقال انهم سألوا زيداً عن موقفه من الشيخين، اذ ليس من المعقول ان يتجمهر الآلاف ممن بايعوا زيداً ويتوجهوا الى حيث يقيم، وهو مختف عن اعين السلطة، ليسألوه رأيه في ابي بكر وعمر، فلا بد اذن ان يكون هذا السؤال قد وجه من عدد محدود من رؤساء اصحابه الذين كانوا يختلفون اليه، وعنهم وعن طريقهم وصل السؤال والرد كما تذكر الرواية. فكيف عرفنا السؤال بكل تفاصيله، والرد بكل تفاصيله ايضاً، وكل ما ترتب على السؤال والرد من نتائج توردها الرواية، ولم نعرف واحداً من الذين طرحوا السؤال على زيد او من الذين نقلوا رد زيد عليه.

ويتصل بما سبق، هذا الاختلاف الذي نواجهه حتى عند من يربطون بين موقف زيد من ابي بكر وعمر وبين تسمية خاذليه بالرافضة.

____________________

١- البدء والتاريخ لمطهر بن طاهر المقدسي نشر كلمان هوار ١٩٠٣ ج٦ ص٤٩ - ٥٠ وهو يجعل اسم الرفض شاملاً للزيدية والإمامية ج٥ ص١٢٤.

٢- تاريخ الطبري ج٧ ص١٨١ والكامل لابن الأثير ج٤ ص٤٥٢.

٢٣

فالطبري وابن الاثير يريان ان تخلي اصحاب زيد كان بعد سؤالهم له عن رأيه في الشيخين، وأن هذا السؤال قد جاء قبل القتال، عندما علموا ان يوسف بن عمر قد بلغه خبر زيد، وانه جاد في أمره والبحث عنه(١) .

والأشعري والرازي يذهبان الى أن زيداً سمع من بعض اصحابه او عسكره الطعن على ابي بكر وعمر فأنكر ذلك، فتفرق عنه الذين بايعوه دون ان يورد المؤلفان أي ذكر للسؤال(٢) .

والبغدادي والأسفراييني يثبتان السؤال ويحددان وقته أثناء القتال لا قبله، فهما يختلفان عن الأشعري والرازي في اثبات السؤال، وعن الطبري وابن الأثير في تحديد وقته(٣) .

فأنت في الواقع امام روايات ثلاث متعارضة، لا رواية واحدة، للذين يربطون بين موقف زيد وبين التسمية، وهذا وحده دافع قوي للشك فيها على الاقل.

ومن هذه الأسباب انه بالاضافة الى الذين لم يذكروا الرواية ولم يشيروا اليها.

وبالإضافة الى الذين ذكروا جزءها المتعلق بالسؤال دون الربط بينه وبين التسمية.

فان عدداً من الذين يأخذون بالرواية كالبغدادي والأسفراييني والرازي، ويجعلون موقف زيد من الشيخين اساساً لافتراق اصحابه عنه، وتسميتهم لذلك

____________________

١- مقالات الإسلاميين ج١ ص ١٣٠ واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص٥٢.

٢- الفرق بين الفرق ص٢٥ والتبصير في الدين ١٨.

٣- أما الأشعري فانه يعالج الكيسانية الذين يرتبط تأريخهم بالمختار بن أبي عبيد الثقفي ضمن فرق الرافضة مع أن المختار قتل عام ٦٧ه- أي قبل ميلاد زيد باثنتي عشرة

سنة لا ثورته التي يربط بها الأشعري تسمية الرافضة. أنظر مقالات الإسلاميين ج١ ص٨٩.

٢٤

رافضة يعالجون الزيدية في مؤلفاتهم ضمن الرافضة، وبوصفها فرقة من فرقها، لا يجنب الرافضة كفرقة مستقلة عنها(١) .

ولا أدري كيف استطاع هؤلاء ان يجعلوا الزيدية، وهم بالفرض، اصحاب زيد وأنصاره، جزءاً من الرافضة الذين رفضوا زيداً وفارقوه كما تزعم الرواية، الا ان يكون الرفض رفضاً لشيء آخر غير زيد.

بل ان اسم الرافضة عند هؤلاء يتناول بالاضافة الى الزيدية، فرق الإمامية والكيسانية والغلاة، أي كل الفرق التي اعتبروها شيعية، سواء في ذلك، التي وجدت قبل زيد، وهي الغالبية العظمى لتلك الفرق، او بعده.

وهذا ما لا يستقيم الا برفض الرواية التي اخذ بها هؤلاء المؤلفون او رفض ما كتبوه عن الفرق المذكورة.

وأنا إنما خصصت اولئك المؤلفين بالذكر، لأنهم يؤرخون الرفض بثورة زيد، ويجعلون من هذه الثورة بداية له كما رأينا، ومن هنا جاء تناقضهم.

أما المؤلفون الآخرون من الذين لا يربطون بين ثورة زيد وبين اسم الرافضة، فانهم يجعلون الرفض كما يظهر من مؤلفاتهم، اسماً عاماً لجميع الفرق التي يريدونها شيعية.

فابن قتيبة تحت عنوان ( الفرق ) يقول ( الكيسانية من مالرافضة... ) و ( السبئية من الرافضة... ) و ( الزيدية... وهم اقل الرافضة غلواً... )(٢) .

وابن عبد ربه يبحث تحت عنوان ( الرافضة ) السبئية والكيسانية والزيدية(٣) .

____________________

١- المعارف لابن قتيبة ص٦٢٢ و ٦٢٣ والعبارة نفسها تجدها في الاعلاق النفسية لابن رستة ص٢١٩.

٢- العقد الفريد لابن عبد ربه ج٢ ص٢١٨ و ٢٢٢.

٣- خطط المقريزي ج٤ ص١٧٣ وما بعدها.

٢٥

وكذلك يفعل المقريزي في خططه اذ يجعل الرفض اسماً عاماً لكل فرق الشيعة كما تصورها(١) .

ومنها ان مقام زيد في الكوفة قد تجاوز السنة(٢) وهو يحضر لثورته ويدعو الناس الى بيعته. فلماذا انتظر اصحابه المدة الطويلة تلك، فلم يسألوا ولم يبحثوا ولم يراجعوا زيداً يستطلعون رأيه في ابي بكر وعمر، ان لم يكن معروفاً لديهم، ما دام هذا الرأي يبلغ من الخطورة ما ينقضون البيعة بسببه ؟ بل كيف تمت بيعتهم له وهم يجهلون منها ما استوجب نقضها فيما بعد ؟ ان صيغة البيعة لزيد معروفة ومدونة يمكن الرجوع اليها والتأكد منها، وليس فيها ما يشير الى ابي بكر وعمر، لا مدحاً ولا ذماً. وهذه الصيغة كانت معروفة طبعاً لأصحاب زيد منذ بداية ثورته، وعلى اساسها قامت دعوته وبايعه أنصاره، فليس فيها ما هو مجهول او ما يستدعي السؤال، بعد اكثر من سنة عليها(٣) . ثم لنفترض ان اصحاب زيد هؤلاء كانوا قد عزموا على الغدر بزيد ونقض بيعته والقعود عن القتال معه، أكان صعباً علهيم ان يفعلوا ذلك دون هذا السؤال يطرحونه عليه. وهل يحتاج من أراد الغدر ونكث البيعة الى حجة وعذر وسؤال ؟ ! وهل احتاج الذين غدروا بالثوار قبل زيد وبعده الى مثل هذا السؤال ؟!

أظن العكس هو الصحيح، فالتخلي عن زيد ونقض بيعته وترك القتال معه سيكون لا شك، أسهل وأيسر في غيابه ومن غير مواجهته ولقائه الذي قد يعرضهم لحرج هم في غنى عنه، خصوصا وان زيداً كما يذكر مترجموه، كان

____________________

١- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصهباني ص١٣٥ وحسب عبارته ( بضعة عشر شهراً ).

٢- صيغة هذه البيعة كما أوردها الطبري في ج٧ ص١٧٢ وابن الأثير ج٤ ص٤٤٦ أحداث سنة ١٢١ه-: ( إنا ندعوكم الى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد الظالمين وأقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا ) أتبايعون على ذلك فإذا قالوا نعم وضع يده على يده ثم يقول ( عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن في السر والعلانية ) فإذا قال: نعم مسح يده على يده ثم قال ( اللهم اشهد ).

٣- سليمان بن صرد الخزاعي زعيم حركة التوابين ورأس الثوار في موقعة عين الوردة التي استشهد فيها عام ٦٥ه-.

٢٦

يملك من نفاذ الشخصية وقوة الحجة ما يستطيع معه، لو لقيهم، ان يملهم عما فكروا فيه وعزموا عليه من نقض البيعة وترك القتال، فيفسد بذلك تدبيرهم.

وأريد ان اطرح سؤلاً هنا، كما طرح اصحاب زيد سؤالاً هناك على زيد، حسب ما تدعي الرواية. ماذا مثلا لو اجابهم زيد بغير ما أجابهم به، هل يستمرون معه ويقاتلون في صفوفه ويثبتون على بيعته ؟ أم أن هناك سؤلاً أو اسئلة اخرى قد هيأوها، فهم لا يزالون يطرحون السؤال بعد السؤال، حتى يبلغوا ما أرادوا من عذر لنقض بيعة زيد والتخلي عنه ؟

ومنها ان تسمية الذي غدروا بزيد وتخلوا عنه بالرافضة، ليست هي التسمية الأنسب في هذا المقام، ولم يكن زيد بالذي يختارها على تسميات اخرى، قد تكون اليق منها واقوى دلالة واشد وقعاً على الذين غدروا به ونقضوا عهده، كالغادرة او الناكثة او ما شابه ذلك من تسميات. وليس الرافضة التي لا تحمل في ذاتها شيئاً من معنى الخيانة او الغدر ونقض البيعة.

أظن فيما قدمت من أسباب ما يكفي لسقوط الرواية زماناً ومكاناً وأشخاصاً.

ومع سقوط الرواية ينهض السؤال التالي: إذن ماذا يعني الرفض، وعلى ماذا ينصب وقد سبق القول أن التسمية كانت مستعملة ومعروفة قبل زيد وثورته ؟

خلال الحكم الأموي، كانت هناك فرقتان تناصبانه العداء: الخوارج والشيعة. فمنذ قيام هذا الحكم وثورات الفرقتين مستمرة لا تهدأ للإطاحة به

٢٧

وإسقاطه. فلقد ثار الشيعة مع الحسين وثاروا مع سليمان بن صرد بعد الحسين(١) ومع المختار وزيد بعد الحسين وسليمان.

وهم قبل ثوراتهم وبعد فشلها، وعلى امتداد عهد الحكم الأموي، لا يكتمون بغضهم وعداءهم و ( رفضهم ) لذلك الحكم الذي لم يقم على اساس من دين ولا سابقة من اسلام.

فالرفض اذن كما يبدو، هو رفض الشيعة للحكم الاموي القائم آنذاك، وما يمثله من جور وظلم وتعدٍ على قيم الإسلام وحقوق المسلمين كانوا هم من اول ضحاياه.

وكان الأمويون من ناحيتهم يبادلون الشيعة بغضاً ببغض وعداء بعداء ويلتمسون الفرص للإيقاع بهم والقضاء عليهم، بالسيف عند قيامهم بثورة، او بتشويه صورتهم وتأليب الرأي الإسلامي عليهم ان لم يكن هناك سيف ولا ثورة.

وليس في رفض الحكم الاموي ما يستوجب الذم وتشويه الصورة، او ما يدعو الى تأليب الرأي الإسلامي. فالمسلمون، حتى من غير الشيعة والخوارج، ثاروا ضده مع ابن الزبير وابن الأشعث وابن الملهب.

لم يبق اذن الا توجيه الرفض اتجاهاً آخر وإعطاؤه مضمونا آخر يستطيع ان يخدم مصالح الأمويين ويحقق لهم ما عجز ( ورفض ) الحكم عن تحقيقه.

وكان هناك الشيخان ابو بكر وعمر خليفتا المسلمين، ولهما من المكانة والحرمة ما لا يختلف فيه اثنان. فلماذا لا يزج بهما في المعركة ضد اعداء الحكم و ( رافضيه ) من الشيعة.

____________________

١- قد تجد بدايات استغلال اسم أبي بكر وعمر في الصراع السياسي بين الشيعة والأمويين وفي محاولة هؤلاء تحويل الرفض من رفض السلطة والحكم الاموي القائم انذاك، الى رفض لأبي بكر وعمر فيما أوصى به معاوية أركان سلطته وقد بعثوا للحسن بن علي يطلبون حضوره لمحاجته فقد قال لهم معاوية ( تقولون له أن أباك قتل عثمان وكره خلافة الخلفاء من قبله ) وهو يعني طبعاً أبا بكر وعمر. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج٦ ص٢٨٦.

وفي سؤال معاوية لعبد الله وقد دخل عليه وعند وجوه قريش فقال له معاوية... ( ما تقول في أبي بكر ؟ ) فلما مدحه وترحم عليه قال له معاوية ( فما تقول في عمر ابن الخطاب ؟ ) مروج الذهب ج٣ ص٥٠. ومن المؤكد أن معاوية لم يسأل ابن عباس عن أبي بكر وعمر الا وهو ينتظر كلمة ذم في حقهما يتعلق بها ضده وضد الهاشميين وأنصارهم من الشيعة. فما كان ذم معاوية وحكمه و ( رفضه ) بالذي يثير غضب الحاضرين واستنكارهم.

٢٨

وهكذا جاء اختيارهما واستغلال اسميهما. وتحول الرفض من رفض للحكم الأموي القائم آنذاك، وهو ( رافض ) يعتز به الشيعة، لأنه رفض مشروع ضد سلطة جائرة، الى رفض للشيخين ينبز به الشيعة وتشوه صورتهم(١) .

وقبل الرواية التي أثبتنا بطلانها، وقبل زيد وثورته. كان الحكم الأموي قد استغل اسم الشيخين في محاربة الشيعة، ضمن اسلحة اخرى منها سلاح الأحاديث ( النبوية ) لتثبيت لفظ ( الرافضة ) اسماً بديلاً لهم.

ولم يعدم الحكم من يزكي له هذا الاتجاه ويدفعه اليه، ومن هو على استعداد لأن يضع الف حديث وحديث، يقسم انه سمعها من النبي او ممن سمعها من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن أصبحت تجارة الأحاديث من أربح التجارات في ذلك العهد.

فحديث يقول " يا علي انت في الجنة وشيعتك يكونون في الجنة وسيكون بعدي قوم يدعون ولايتك يدعون الرافضة فان وجدتهم فاقتلهم فانهم مشركون ".

وحين سأل علي عن علامتهم لئلا يفوته قتلهم، أو يقتل غيرهم ممن ليسوا مشركين مثلهم ! أجيب "... ويشتمون أبا بكر وعمر "(٢) .

واظن صاحب الحديث قد غفل عن شيء مهم فيه، ذلك ان علياً لا يمكن ان يلتقي ( الرافضة ) الذين لم يوجدوا بهذا الاسم الا خلال الحكم الأموي وبعد اغتيال علي. وكان علي واضع هذا الحديث ان يلاحظ التواريخ بصورة افض،

____________________

١- التبصير في الدين للأسفراييني ص٢٥.

٢- المصدر السابق نفسه والصفحة.

٢٩

فصناعة الأحاديث ان كانت لا تتطلب الا الاستعداد للكذب والجرأة عليه، فانها تتطلب الكثير من الدقة والانتباه والذكاء.

وحديث عن " الروافض يهود هذه الامة "(١) .

ولا أدري لماذا ترك واضعوا الحديث المجوس فلم يلصقوهم بالروافض مكتفين باليهود وحدهم. فهل كان هؤلاء في نظرهم أشد عداوة للإسلام والمسلمين فاختاروهم للروافض، أم أن اسم المجوس كان قد سبق حجزه للمعتزلة فلم يجدوا امامهم غير اليهود اسماً للروافض.

وحديث آخريقول " سيكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الروافض يرفضون الاسلام فاقتلوهم فانهم مشركون ".

والحمد لله انهم ربطوا قتل الرافضة ببلوغ آخر الزمان، اذ سيكون الناس في ذلك الوقت مشغولين بأنفسهم وبجنتهم ونارهم، عن التفكير بالروافض والتفتيش عنهم لقتلهم.

وهكذا يبدو ان حصة الروافض من الأحاديث النبوية كانت أكثر من حصص غيرهم من الفرق والمذاهب. فالخوارج لم يخصهم تجار الاحاديث بأكثر من حديث واحد هو الذي يتحدث عن مروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية(٣) .

والمعتزلة لم تزد حصتهم ايضا على حديث واحد يجعلهم مجوس هذه الأمة، وحديث آخر، يشاركهم فيه المرجئة، عن الصنفين اللذين ليس لهما من الاسلام نصيب.

____________________

١- التبصير في الدين للأسفراييني ص٢٥.

٢- التبصير في الدين ص٢٩ والملل والنحل ج١ ص٢١ و١١٥.

٣- الملل والنحل ج١ ص٢٠ ومن هذا يبدو بوضوح أن الأحاديث ( النبوية ) لم تتفق على وصف واحد لهؤلاء ( الروافض ) فهم يهود ونصارى ومشركون مع أن المفروض ألا يكون هناك اختلاف أو تعارض في الأحاديث ( النبوية ) على الأقل وكان على واضعي الأحاديث ملاحظة هذه الجهة والاتفاق اولاً على الوصف الذي يعطونه للروافض تجنباً لنسبة التعارض الى الأحاديث ( النبوية ) لكن الشيء المتفق عليه هو ورود لفظ ( الروافض ) في جميع الأحاديث ( النبوية ) السابق ذكرها مما يؤكد وجود هذا الاصطلاح واستعماله قبل زيد وقبل ثورته بزمن غير قصير ما لم نكذب تلك الأحاديث و ( نرفضها ).

٣٠

اما الروافض فان نصيبهم من الأحاديث تجاوز ذلك، فما كانت السلطة لترضى بحديث واحد يجعل منهم يهوداً فحسب او مشركين فحسب، فلذلك كثرت الأحاديث عنهم، فواحد عن يهوديتهم، واثنان عن اشراكهم، مع المطالبة بقتلهم طبعاً اينما وجدوا، ورابع عن ( نصرانيتهم )(١) و... و...

وهكذا يبدو ايضاً ان الرواية ( الزيدية ) التي تربط بين التسمية وبين البراءة أو عدم البراءة من أبي بكر وعمر، لم تكن الا جزءاً من سلاح استعمله الأمويون ضد الشيعة لتشويه صورتهم.

لقد ثار زيد لكن ثورته أخفقت، كما أخفقت ثورات قبلها وثورات بعدها، لأسباب ترتبط بالظروف الداخلية والخارجية للثورة وخصومها، لا بسبب البراءة أو عدم البراءة من أبي بكر وعمر كما تزعم الرواية.

في كل الثورات قبل ثورة زيد وبعدها كان هناك من ينكث ومن يثبت وثورات تفشل وثورات تنجح:

لقد ثار عبد الله بن الزبير قبل زيد وفشل.

وثار عبد الرحمن بن الأشعث وفشل.

وثار يزيد بن المهلب وفشل.

وثار محمد النفس الزكية بعد زيد وفشل.

وثار ابراهيم اخوه وفشل.

وثار يزيد بن الوليد بعد زيد ونجح.

وثار العباسيون بعد زيد ونجحوا.

____________________

١- ويذكر النوبختي في فرق الشيعة ص٢٤ وجهاً رابعاً للتسمية فيقول ( وسماه - يعني محمد بن الحنفية - كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم ).

٣١

فلم يتعلق المؤرخون بسبب واحد كالبراءة او عدم البراءة من ابي بكر وعمر لتفسير الفشل او النجاح، ولم يسموا الذين تخلوا ونقضوا ونكثوا من اصحاب الثوار رافضة، ويختلقوا لهذا الرفض سبباً مباشراً وحيداً، كالذي اختلقوه في ثورة زيد سلاحاً يحارب به الأمويون الشيعة ويكيدون لهم.

هذه صورة ما حصل، وهذه تسمية الرافضة بداية ونهاية أرجو أن أكون نقلتها اليك بصدق لا شائبة فيه، وما كان زيد واحداً من أبطالها ولا الكوفة مسرحاً لأحداثها.

الكيسانية:

أول ما يواجهك وأنت تبحث الكيسانية هو ما يتعلق بتسميتها من أين جاءت ؟ هل من اسم رجل، واذا كانت كذلك فمن هو كيسان هذا الذي تحمل اسمه وتنتسب اليه ؟

وتختلف الروايات في الإجابة، فواحدة تدعي أن المختار كان يلقب ب- ( كيسان ) ومنه جاءت التسمية، وأخرى تزعم ان كيسان هو مولى لعلي بن أبي طالب، وثالثة تقول أنه ابو عمرة صاحب شرطة المختار(١) .

وأياً من كان كيسان هذا فقد ارتبطت الكيسانية بالمختار ارتباطاً يوجب الوقوف قليلاً عنده قبل المضي في الحديث عن الكيسانية ذاتها.

والمختار هو ابن ابي عبيد بن مسعود الثقفي، أهله من سادات ثقيف ولد بالطائف العام الأول للهجرة واستشهد ابوه في يوم الجسر ضد الفرس في خلافة عمر بن الخطاب.

____________________

١- تأريخ الطبري ج٦ أحداث سنة ٦٦ه- وما بعدها، الكامل لابن الأثير ج٤ حوادث سنة ٦٦ ه- ص٢٧ وما بعدها.

٣٢

فإذا تركنا النسب والولادة فإننا سنكون أمام واحد من كبار الثوار الذين لعبوا دوراً بارزاً على مسرح الحياة السياسية الإسلامية خلال الحكم الأموي.

حارب الأمويين الى جانب ابن الزبير حين ثار هذا بعد وفاة معاوية بن ابي سفيان، لكنه لم يستمر معه لما عرف عن ابن الزبير من انحراف شديد عن علي والعلويين وعموم الهاشميين، ففاقه وعاد الى الكوفة حيث تولى قيادة الحركة الشيعية بعد فشل ثورة التوابين في عين الوردة ومقتل ثوراها وعلى رأسها سليمان بن صرد الخزاعي عام ٦٥ ه-.

وفي الكوفة بدأ المختار نشاطه السياسي تحت شعار: الثأر من قتلة الحسين وآله.

وكان أمامه اكثر من خصم: الزبيريون من جهة، والأمويون من جهة أخرى، ثم عدد من قبائل الكوفة ورؤوسها ممن شاركوا في قتل الحسين، او ممن خافوا المختار على مصالحهم او كانوا على خلاف معه.

واستطاع المختار ان يجمع الشيعة حوله ويوحد صفوفهم، وكان ابراهيم بن الأشتر ( مالك بن الحارث النخعي احد اخلص واشجع اصحاب علي ) واحداً من اقوى شخصيات الشيعة واوسعهم سطوة ونفوذاً هناك، فعمل المختار على الاتفاق معه وضمه اليه.

وبعد ان تم للمختار ما أراد من ذلك، التفت الى الكوفة: جبهته الداخلية ومركز قيادته ونشاطه، فخاض على ارضها أكثر من معركة كان النصر حليفه فيها، حتى دانت له بعد ان غادرها جميع اعداء المختار وتركها واليها من قبل عبد الله بن الزبير، عبد الله بن مطيع العدوي(١) .

____________________

١- تأريخ الطبري ج٦ أحداث سنة ٦٨ ه- ص٨٦ وما بعدها، أبن الأثير ج٤ حوادث سنة ٦٧ ه- ص٦٠ وما بعدها.

٣٣

ثم كانت معركة الخازر في الموصل مع جيش اهل الشام بقيادة عبيد الله ابن زياد، وذلك في بداية حكم عبد الملك بن مروان، وكانت معركة حاسمة انتصر فيها جيش المختار بقيادة ابن الأشتر على جيش الامويين، وهو اكثر عدداً واتم سلاحاً ومعه الدولة بما تملك من وسائل الترغيب والترهيب. وقتل جميع قادة الجيش الأموي وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد(١) .

وجاءت اخيرا نهاية المختار، بعد معارك عنيفة خاضها جيشه ضد جيش مصعب بن الزبير، ثم خاضها المختار بنفسه، فقتل وقتل بعده آلاف من اصحابه صبراً، برغم نزولهم على حكم ابن الزبير واعطائهم الأمان من قبله(٢) حتى قال عبد الله بن عمر لمصعب ( انت القائل سبعة الاف من اهل القبلة في غداة واحدة غير ما بدا لك... والله لو قتلت عدتهم غنماً من تراث ابيك لكان ذلك سرفاً )(٣) .

هذه بإيجاز ثورة المختار. وهي كما ترى ثورة سياسية تعدد فيها الخصوم والوقائع والجبهات، وكان فيها من حلاوة النصر ومرارة الهزيمة ما يكون عادة في الثورات الكبيرة التي يطول أمدها وتتسع ساحتها، كثورة ابن الزبير نفسها التي انتهت هي الأخرى بالفشل وبقتل عبد اله بن الزبير بعد ان خذله وتخلى عنه حتى أهله وولده(٤) .

فثورة المختار اذن ثورة سياسية ليس مكانها كتب الفرق، كما هو حاصل حتى اليوم، وانما كتب التاريخ الى جنب الثورات السياسية الأخرى التي قامت ضد الحكم الأموي.

____________________

١- مروج الذهب ج٣ ص٩٩.

٢- تأريخ الطبري ج٦ ص١١٣، وابن الأثير ج٤ ص٧٢.

٣- تأريخ الطبري ج٦ حوادث سنة ٧٣ ه- ص١١٨.

٤- تأريخ الطبري ج٦ ص٧٦ و٧٧ وابن الأثير ج٤ ص٥٣ أما أبو الفرج فيجعل وصولهم ساعة إضرام النار. الأغاني ج٩ ص١٥ ترجمة كثير عزة.

٣٤

ثم ثورة الشيعة قبل ان ينقسموا فيما بعد الى فرقهم المذهبية المعروفة.

فتقسيم الشيعة الى كيسانية وغير كيسانية، ثم تقسيم الكيسانية الى فرق عديدة كما يذهب المؤلفون في الفرق والمذاهب، خطأ محض. فلم تعرف ثورة المختار ولا زمن المختار هذا التقسيم الذي لم يظهر الا في زمن تال.

أما علاقة المختار بمحمد بن علي بن ابي طالب ( ابن الحنفية ) فمن السهل تفسيرها. فمحمد هذا كان اكبر وافضل ولد علي بعد وفاة الحسن ومقتل الحسين. ولم يكن احد من العلويين ينازعه مقامه.

وكانت الثورة باسم الحسين اخي محمد وللثأر من قتلته. فأي غريب ان ترتبط هذه الثورة بمحمد، وهو اخو الحسين واكبر الموجودين من العلويين انذاك وافضلهم، وان يكون قائدها المختار على صلة دائمة به ؟ !

واذا كان المختار في حاجة للدعم الأدبي من ابن الحنفية، فان ابن الحنفية كان هو ايضا في حاجة للدعم الأدبي والمادي من المختار. فحين حبس عبد الله ابن الزبير، ابن الحنفية وعبد الله بن عباس ومعهما عدد من الهاشميين، ومن انصارهم من غير الهاشميين في عارم، لإرغامهم على مبايعته وهددهم بالاحراق ان لم يبايعوا حتى اجل ضربه لهم، وكاد يفعل، لم يجد ابن الحنفية غير المختار يكتب له ويطلب مساعدته لإطلاقهم من حبس عبد الله بن الزبير. وقد استجاب المختار له فأنفذ عدداً من اصحابه الى مكة حيث كان الهاشميون مسجونين، فأطلقوهم ولم يكن قد بقي من الأجل الذي ضربه ابن الزبير لإحراقهم الا يومان(١) .

____________________

١- ابن الأثير ج٤ ص٥٣ و ٥٥ وطبقات ابن سعد ج٥ ترجمة محمد بن الحنفية ص٧٧.

٣٥

وبقيت صلة المختار قوية بمحمد، وبقي محمد قوياً بالمختار حتى قتل، فضعف محمد بقتله(١) .

اما ما يزعم البعض عن براءة محمد من المختار، وانه اراد القدوم الى العراق بسبب ما بلغه عنه، لكنه عدل عن ذلك وبقي في مكة مخافة ان يقتله المختار لو دخل الكوفة. فأقل ما يوصف به انه جهل بما كان من علاقة بين الرجلين(٢) .

لقد استمرت ثورة المختار سنة ونصف سنة لم تنقطع خلالها الاتصالات بينهما. فما الذي منع ابن الحنفية من اعلان رأيه في المختار، وهو لا يخشى غائلته في مقر اقامته بمكة التي كانت تحت سيطرة عدو المختار عبد الله بن الزبير.

بل ان التفاف الشيعة حول المختار واستجابتهم له، لم تتم الا بعد عودة وفدهم الى مكة لمقابلة محمد بن الحنفية وسؤاله رأيه في المختار(٣) .

اكثر من ذاك المختار كان يرسل صلاته وعطاياه الى محمد بن الحنفية، وكان هذا يقبلها دون تردد، وما أظنه كان يجيز لنفسه ان يهتم المختار في دينه ويخشى على نفسه منه ثم يقبل في ذات الوقت هداياه، وهو من هو نبلا وشجاعة ودينا. ولو احتاج الى المال لكان له في غير المختار غنى.

انها واحدة من التهم الكثيرة التي لا أدري لماذا خص مؤلفو الفرق المختار وثورته بها دون باقي الثوار والثورات، فأجهدوا أنفسهم في محاولة النيل منه ومنها.

____________________

١- الفرق بين الفرق ص٣١.

٢- تاريخ الطبري ج٦ وما بعدها وابن الأثير ج٤ ص٢٩.

٣- الشهرستاني في الملل والنحل ج١ ص١٤٩ والبغدادي في الفرق بين الفرق ص٣٣، والأسفراييني في التبصير ص٢٠، والدينوري في الأخبار الطوال ص٣٠٣.

٣٦

لقد ثار ابن الزبير، وثار ابن الأشعث وابن المهلب، وثار العباسيون بعد هؤلاء. ثاروا كلهم ضد الأمويين فلم يتهمهم أحد بالمروق من الدين او ادعاء النبوة أو البراءة من الشيخين، ولا بما هو اكثر ولا بما هو اقل.

فلم هذا السباق في كيل التهم الى المختار واصحابه واصحاب زيد من بين كل الثائرين ؟! وما أظنهم كانوا سيقصرون في اتهام زيد نفسه لو وجدوا فيه مغمزا، ولما اكتفوا بتوجيه التهم الى صاحبه دونه.

ولقد عرضت سابقا لثورة زيد وما خاض فيه الرواة منها وما اثاروه حولها.

وأحاول الآن ان اقف عند بعض التهم التي وجهت الى المختار.

فمن هذه التهم ما قيل عن الملائكة التي كانت تقاتل مع جيش المختار وهي تهمة رددها بشكل او بآخر، غالبية الذين كتبوا عن المختار وثورته(١) .

واحسب ان الوقت قد حان الآن للوقوف عند هذه التهمة ومناقشتها في شيء من الجد، بعيدا عن عواطف الحب والبغض للمختار.

بطل هذه الرواية - التهمة - شخص اسمه سراقة بن مرداس البارقي كان قد وقع اسيرا لدى المختار في احدى معاركه بالكوفة.

وسأترك الطبري يروي لنا حديث سراقة عن ( حرب ) الملائكة هذه التي اصبحت من اخطر التهم الموجهة الى المختار وثورته.

يقول الطبري ( فلما انتهى - يعني سراقة - الى المختار قال له اصلحك الله ايها الامير سراقة بن مرداس يحلف بالله الذي لا اله الا هو لقد رأى الملائكة

____________________

١- تاريخ الطبري ج٤ حوادث سنة ٦٦ه- ص٥٥، ومن الطريف أن نذكر أن ابن سراقة هذا، المدعو سليمان بن سراقة هو الذي وشى بزيد بن علي لدى يوسف بن عمر الثقفي فبعث يوسف بطلبه عند الرجلين اللذين وشى بهما ابن سراقة وأتى بهما فضربت أعناقهما وحين بلغ الخبر زيداً خاف أن يؤخذ عليه الطريق فتعجل الخروج قبل الأجل الذي كان بينه وبين أصحابه ( مقاتل الطالبيين ص١٣٥ ).

٣٧

تقاتل على الخيول البلق بين السماء والارض فقال له المختار فاصعد المنبر فأعلم ذلك المسلمين فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل فخلا به المختار فقال اني قد علمت انك لم تر الملائكة وانما اردت ما قد عرفت الا اقتلك فاذهب عني حيث أحببت ولا تفسد علي أصحابي ).

ثم يضيف سراقة لتأكيد ما شاهده اوبالاحرى ما كذب فيه ( ما كنت في ايمان حلفت بها قط اشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في ايماني هذه التي حلفت لهم بها اني قد رايت الملائكة معهم تقاتل.. )(١) .

واول ما يرد من سؤال هو، من الملوم في هذه الرواية او التهمة على افتراض صحتها، ومن اولى بالذم فيها وأحق ان يرمى بالكذب. أهو المختار ؟ أم سراقة الذي لم يترك يميناً يمكن ان يطمئن اليها مسلم الا حلف بها انه راى الملائكة تقاتل كما يعترف هو ؟

أيبرأ سراقة الكاذب ويتهم المختار المكذوب عليه ؟!

أكان المؤرخون سيقبلون هذا لو حصل مع غير المختار وثورة غير ثورته ؟!

ومع ذلك فلنعد الى بداية حديث الملائكة، لنرى موقف المختار: ماذا كان، مما اورده واقسم عليه سراقة.

لقد قال المختار بلهجة الواثق من كذبه فيما يرويه ( اني قد علمت انك لم تر الملائكة وانما اردت ما قد عرفت الا اقتلك فاذهب عني حيث احببت ولا تفسد علي اصحابي ).

____________________

١- ديوان الأخطل.

٣٨

فالمختار لم يكن غير مؤمن فقط بمشاركة الملائكة ولا معتقد لها، وانما كان يرفض هذا ويحاربه، ويرى ان القول به يضر بأصحابه ويفسد عليهم عقيدتهم ويدخل فيها ما ليس منها، وحربهم واضحة، واهدافهم فيها واضحة. ولهذا يطلق سراحه ويأمره ان يذهب الى حيث أحب. والا لو كان المختار يؤمن بحرب الملائكة معه، او لو انه اراد ان يفيد من هذه الدعوى، لاستبقى سراقة اسيراً لديه واستغله في تثبيتها بين انصاره وصفوف جيشه، وكان سراقة مستعداً ان ينفذ كل ما يطلبه منه مقابل الابقاء عليه وعدم قتله.

ولأفترض اخيراً ان المختار قد طلب من سراقة ان يخبر اصحابه برؤيته الملائكة تقاتل معهم على الخيول، وهو ما يتناقض مع عموم النص ومع موقف المختار من سراقة كما رأينا.

فما الذي ينكر على قائد وهو يخوض معارك حاسمة ضد اعداء كثيرين اقوياء، ان يفيد من واحد من اعدائه جاء اليه يقسم بأغلظ الايمان انه راى الملائكة تحارب الى صفه ؟!

فلا المختار قال ذلك او ادعاه، ولا واحد من اصحابه قال ذلك او ادعاه، وانما الذي قاله وادعاه واحد من اعدائه من الذين حاربوه وحملوا السلاح ضده واسروا في قتاله.

٣٩

أكان يطلب من المختار ان يأمر سراقة بصعود المنبر ليخبر اصحابه ان الملائكة تحارب في صفوف اعدائهم ؟!

ثم ان حديث الملائكة لم يختص به المختار ولا ثورته. فقد سبق لهؤلاء الملائكة ان قاتلوا مع اهل الشام حين نزلوا مددا لهم في صفين كما يقول الاخطل(١) .

ويوم صفين والأبصار خاشعة أمدهم إذ دعوا من ربهم مدد

فما الفرق بين الملائكة الذين رآهم سراقة يحاربون الى جانب المختار، وبين الملائكة الذين نزلوا بصفين مددا لأهل الشام كما يقول الأخطل.

ان أحدا لم يذكر بسوء ولم يتهم الذين قال الأخطل ان الملائكة نزلت مددا وانتصارا لهم في صفين.

أكانت ملائكة صفين من جنس مختلف عن ملائكة المختار ؟! ام ان تلك الملائكة قد حاربت فعلا في صفين، ولم تكن الحرب التي خاضتها ملائكة المختار الا خدعة من خدع المختار هذا ؟!

بل ان من بين الملائكة المقاتلين، كان جبريل نفسه احيانا هو الذي يخوض الحرب ويقود صفوف اهل الشام في حربهم ضد المختار المتهم بأسطورة الملائكة.

اسمع الى عبد الله بن الزبير الشاعر الاسدي، لا عبد الله بن الزبير بن العوام، وهو يهدد المختار واصحابه(٢) :

ثمانون الفا دين عثمان دينهم كتائب فيها جبرئيل يقودها

____________________

١- بفتح الزاي من شعراء الدولة الأموية ومن مداح الأمويين والبيت من قصيدة طويلة تجدها في ترجمته في الأغاني طبعة دار الكتب ج١٤ ص٢١٧ وهذا البيت وبيتان

آخران قبله وبعده ينسبها نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين إلى أيمن بن خريم الأسدي أنظر وقعة صفين لنصر بن مزاحم تحقيق عبد السلام محمد هارون ط ثانية ص ٥٥٥.

٢- يبدو أن الملائكة خصوصا فرسان الخيول البلق منها كانت كاملة التدريب ومهيأة دائماً للتدخل عندما يطلب منها ذلك فكأنما قوات التدخل السريع الأمريكية هذه الأيام ويبدو أنها دخلت أكثر من حرب قبل حرب المختار وانتصرت فيها. فيروي لنا خليفة بن خياط وهو يتحدث عن غزو المسلمين للقيقان فيما وراء النهر عام ٥٠ه- أن المسلمين بعد انتصارهم على القيقان ساروا أربعة فراسخ فاتوا اقواما متحصنين في قلعة فقالوا ( والله ما انتم قتلتمونا ولا قتلنا ألا رجال ما نراهم معكم الآن على خيل بلق عليهم عمائم بيضاء... ) انظر تاريخ خليفة بن خياط ج١ ص١٩٨.

٤٠