• البداية
  • السابق
  • 168 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43156 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
تأريخ جديد للتأريخ  على هامش الفرق الإسلامية

تأريخ جديد للتأريخ على هامش الفرق الإسلامية

مؤلف:
العربية

أفرأيت الى هولاء الملائكة يكونون مع اهل الشام او ضد المختار، فلا احد يذكرهم او يكذب حديثهم، ويكونون مع المختار فهذا هو الكذب الذي توشك القيامة ان تقوم بسببه(١) .

ومن هذه التهم ايضا ما ذكره البغدادي، والأسفراييني ومن على شاكلتهما، من ادعاء المختار النبوة ونزول الوحي(٢) .

واظن لو صح هذا او شيء منه، لكان اسعد واسرع من البغدادي والاسفراييني الى اتهام المختار به، اعداؤه الذين حاربهم وحاربوه وهم اكثر، واتصلت المعارك بينه وبينهم زمنا غير قصير. وكان من بينهم الدولة نفسها ومن يلهث لرضاها من شعراء وخطباء ورواة، وهم لم يعفوا عمن هو افضل من المختار وامس رحما بمحمد.

فهل سمعت احدا من هؤلاء كلهم قد اتهم المختار بشيء من هذا ؟

هل زعم احد منهم ان المختار قد ادعى النبوة ونزول الوحي، بل هل كان سيبقى معه واحد من اصحابه لو صح ما اورده البغدادي والاسفراييني؟!

ان اشد ما اتهم به المختار من قبل اعدائه، انهم كانوا يسمونه ( الكذاب ) وهي تهمة غير محددة ولا واضحة. وليس صعبا ان ترمي بها من شئت ممن تكره، ما دام اللفظ من السعة والشمول بحيث يحتمل الف سبب وسبب يمكنك التعلق بها لتبرير هذه التهمة. فكيف اذا كان هذا الذي تنعته ب- ( الكذاب ) قائدا لجيش ومخططا لعلميات ومعارك يعتبر التمويه والتضليل - ولنقل الكذب - من اهم اسباب نجاحها.

____________________

١- الفرق بين الفرق ص٣١، والتبصير في الدين ص٢٠، والحور العين ص١٨٢.

٢- رغبة الآمل من كتاب الكامل لسيد بن علي المرصفي ج٨ ص١٨ و١٩ وأبيات أخرى غير هذا البيت في تسمية المهلب بالكذاب.

٤١

وماذا تعني مقولة ( الحرب خدعة ) غير اجازة الكذب فيها ؟.

وما رأيك ان القائد الكبير المهلب بن ابي صفرة كان يدعى ( الكذاب ) وربما ( صنع الحديث ) ليشد به أمر المسلمين كما يقول المبرد. وكان قوم من قبيلته الأزد اذا رأوه رائحاً لهم قالوا راح المهلب ليكذب حتى قال أحدهم:

أنت الفتى نعم الفتى لو كنت تصدق ما تقول(١)

وهذا ما يؤكده ابن قتيبة حين يذكر ( وفيه - يعني المهلب - قيل راح يكذب )(٢) ثم يكرره مع بيتي شعر في ذم المهلب والإشارة الى كذبه(٣) .

أفكان كذب المهلب يختلف عن كذب المختار فيذم به هذا ويمدح ذاك، ولم يبلغ الكذب بالمختار حد وضع الاحاديث على الاقل، ولم يقل لنا الذين اتهموه فيم كان كذبه واين ؟

ثم مَن من القادة والرؤساء قد سلم من وصف مذموم اطلقه عليه اعداؤه، وقد سميت فرق اسلامية كاملة يهوداً ومجوساً و و..؟!

هذا عبد الله بن الزبير كانوا يسمونه الملحد.

وقد بلغ من شيوع هذه التسمية ان يقول عبد الملك بن مروان للشاعر ابي العباس الاعمى حين دخل عليه في مكة عند حجه ( اخبرني بخبر الملحد المحل )(٤) .

ويقول حميد الأرقط في أرجوزة له يعرض بابن الزبير ( ليس الامير بالشحيح الملحد )(٥) .

____________________

١- المعارف لابن قتيبة ص٣٩٩.

٢- عيون الأخبار له أيضاً طبع دار الكتب العلمية - بيروت تحقيق الدكتور يوسف الطويل ج٢ ص٣٢، وشرح نهج البلاغة ج٤ ص١٥٠، وابن الأثير ح ٤ ص١٨.

٣- الأغاني طبعة دار الكتب المصرية ١٩٦١ تحقيق مصطفى السقا ج٦ ص٣٠٤ ترجمة أبي العباس الأعمى وتتكرر تسمية عبد الملك لابن الزبير بالملحد عندما يلقي الشاعر أبا صخر الهذلي بعد مقتل ابن الزبير فهو يقول له ( لم يخف علي خبرك مع الملحد ) ( الأغاني ج٢٤ ترجمة عبد الله بن صخر ).

٤- بالتصغير ابن مالك بن ربعي التميمي أحد الشعراء الرجاز في العصر الأموي وسمي الأرقط لآثار كانت بوجهه، أنظر: رغبة الامل شرح الكامل ج٢ ص ١٣٢، وخزانة الأدب تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون ط ثانية ١٩٨٤ ج٥ ص٣٩٣ و٣٩٥ وأمالي القالي ط ثانية دار الجيل بيروت ١٩٨٧ ج٢ ص١٧.

٥- الفرق بين الفرق ص٣٤.

٤٢

وعامر بن وائله الكناني يحدو وهو يسير بين يدي محمد بن الحنفية (... لا ابن الزبير السامري الملحد )(١) .

بل ان التسمية امتدت لتشمل ايضا اصحاب عبد الله بن الزبير حتى قال جرير(٢) :

دعوت الملحدين ابا خبيب جماحاً هل شفيت من الجماح

وقال سعيد بن عبد الرحمن(٣) :

أتاني بان الملحدين توافقوا على قتلها لا جنبوا القتل والسلب

وقال عبد الله بن الزبير الاسدي من شعراء الامويين:

وقد فر عنه الملحدون وحلقت به وبمن آساه عنقاء مغرب

فهل كان ابن الزبير ملحداً حقاً، وهل كان انصاره والثائرون معه ملحدين حقاً، هم ايضا اذا قبلنا وصفه هو بذلك ؟

وكنية عبد الله بن الزبير الثانية ( ابو خبيب ) ماذا تعني غير الخب وهو الخداع والخبث والكذب ؟

وربما اضيف ان ابن الزبير نفسه كان يصف ما بينه وبين المختار فيقول ( الى متى اماكر كذاب ثقيف ويماكرني )(٤) فهو يعرف انه يماكر المختار أي يخادعه ويكذب عليه.

____________________

١- ديوان جرير وترجمته في الأغاني طبعة دار الكتب المصرية ١٩٣٥ ج٨ ص٦٧. وهذا البيت من قصيدة جرير المشهورة في مدح عبد الملك بن مروان حين وفد عليه والتي يقول فيها:

( ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح )

٢- ابن حسان بن ثابت من شعراء الدولة الأموية والبيت من قصيدة طويلة قالها عندما قتل مصعب بن الزبير أخو عبد الله بن الزبير عمرة بنت النعمان بن بشير بعد أن رفضت اتهام زوجها المختار بما أرادوا اتهامه به انظر: تاريخ الطبري ج٦ حوادث سنة ٦٧ ه- ص١١٣، وانظر ايضا في تسمية عبد الله بن الزبير بالملحد تاريخ الطبري ج٦ حوادث سنة ٦٦ ه- ص٧٥.

٣ - الكامل لابن الأثير ج٤ حوادث سنة ٦٦ ه- ص٥٠.

٤- تاريخ الطبري ج٦ ص١٥١.

٤٣

وربما اضيف ايضا ان ابن الزبير قد اعتاد الكذب، حتى انه كذب على السيدة عائشة، حين سمعت نباح كلاب الحوأب وهي في طريقها الى البصرة، فأرادت الرجوع وترك القتال بسبب تحذير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن تنبحها من نسائه كلاب الحوأب. فأتاها ابن الزبير وكذب عليها، نافياً ان يكون المكان الذي نبحتها فيه الكلاب هو الحوأب.

وهذا أخوه مصعب بن الزبير، كانوا يسمونه المنافق حتى قال عدي بن الرقاع شاعر أهل الشام في ذلك الحين:

اذا ما منافق أهل العرا ق عوتب ثمت لم يعتب(١)

ولنعد الى تهمة ( الكذاب ) التي الصقت بالمختار. فهل اخبرك ؟ بمن هو اكذب منه ؟

ماذا تقول فيمن عرض زوجتي المختار بعد قتله، على السيف سائلا رايهما فيه، فضعفت احداهما وقد رأت الموت فقالت ( ما نقول فيه الا ما تقولون فيه أنتم ) ناجية بنفسها بجواب لا يتضمن على أي حال اتهامها للمختار كما أرادوا.

وثبتت الثانية وفضلت القتل على الكذب واتهام زوجها بما هو بريء منه فقالت ( رحمة الله عليه انه كان عبدا من عباد الله الصالحين ).

فماذا صنع الفارس العربي !! قائد الجيش المنتصر، مع هذه المرأة المفجوعة التي لا تحمل سيفا ولا رمحا غير شجونها واحزانها بعد مقتل زوجها ؟ لقد اعادها

____________________

١- المصدر السابق نفسه ج٦ ص١١٢ ومروج الذهب ج٣ ص٩٩ - ١٠٠. ويقول ابن عبد ربه في العقد حول قتل عمرة ( أنكر الناس ذلك عليه - يعني مصعباً - وأعظموه لأنه أتى أن الأمير الفارس الزبيري لا يكتفي بقتل النساء فهو يضيف الى هذه المأثرة مأثرة أخرى هي قتل الأولاد صبراً في غير ساحة الحرب مشاركاً بسر بن أرطأة الذي سبقه إليها حين قتل ولدي عبيد الله بن العباس في اليمن فقد قام مصعب ابن الزبير بقتل ولدي حجر بن عدي صبرا وكان معاوية قد قتل من قبل أباهما حجراً الذي يقول فيه الحسن البصري ( أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن منهن الا

واحدة لكانت موبقة... وقتله حجرا ويل له من حجر ويل له من حجر واصحاب حجر ) انظر فيما يخص مقتل ولدي حجر المعارف لابن قتيبة ص٣٣٤.

٤٤

الى السجن وكتب الى اخيه ( انها تزعم انه - يعني المختار - نبي ) فكتب اليه اخوه بقتلها فاخرجت وقتلت صبرا بالسيف.

ما اظنك الا عرفته. انه مصعب بن الزبير الذي كذب على زوجة المختار فقال على لسانها ما لم تقل، ثم قتلها دون ان ترتكب جرما الا الصدق فيما نقلت عن زوجها.

اما الزوجة القتيلة فهي عمرة بنت النعمان بن بشير الانصاري والتي يقول في قتلها عمر بن ابي ربيعة(١) :

إن من اعجب العجائب عندي قتل بيضاء حرة عطبول

قتلت هكذا على غير جرم ان لله درهما من قتيل

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

هذا هو موقف مصعب من امرأة أسيرة لديه قد فقدت الزوج وعدمت الناصر. يطلب اليها ان تكذب على زوجها، فحين ترفض، يكذب هو عليها في كتابه الى اخيه عبد الله ثم يقتلها.

فهل تعرف ماذا فعل قائد جيش المختار في موقف كهذا ؟ وقد انتصر جيشه على جيش الأمويين وفضه، في معركة من أروع ما سجل تأريخ المعارك، هي معركة الخازر التي انعدم فيها التكافؤ عددا وسلاحا بين الطرفين وانكشفت عن مقتل غالبية قواد الجيش الاموي، وبينهم عبيد الله بن زياد راس المشاركين في استشهاد الحسين.

____________________

١- الأخبار الطوال ص٢٩٦.

٤٥

لقد جاءت زوجة عبيد الله الى ابرهيم بن الاشتر قائد الجيش المنتصر واخبرته بانتهاب ما كان معها، فقال لها كم ذهب لك ؟ قالت: قيمة خمسين الف درهم، فامر لها بمائة الف درهم ووجه معها مائة فارس حتى اتوا بها اباها في البصرة(١) .

وهل تعرف ماذا فعل المختار بعبد الله بن مطيع، والي الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير، بعد غلبة المختار على الكوفة واضطرار ابن مطيع الى مغادرتها ؟

سأترك الجواب لأبي حنيفة الدينوري الذي يروي ما حصل بقوله " فلما رأى ابن مطيع ضعفه عن القوم سأل الأمان على نفسه ومن معه من اصحابه فأجابه المختار الى ذلك فأمنه.

فخرج ابن مطيع واظهر المختار اكرامه وامر له من بيت المال بمئة الف درهم وحفظ فيه قرابته من عمر بن الخطاب وقال له: ارحل اذا شئت )(٢) .

ولم يكن ذلك من المختار موقفاً فريداً أملته ظروف خاصة وانما كان سلوكاً عاماً له ولثورته.

استمع اليه وهو يوصي ابراهيم بن الاشتر في الكوفة (... ولا تقاتل أحداً وأنت تستطيع الا تقاتل واحفظ ما أوصيتك به الا ان يبدأك أحد بقتال )(٣) .

ثم استمع اليه وهو يوصي ابن الاشتر هذا عند توديعه لقتال اهل الشام "... خف الله في سر أمرك وعلانيته... "(٤) .

فالمختار لا يكتفي من قادته وولاته برضا الناس عن اعمالهم، مع حاجته لذلك عاملاً مهماً من عوامل النصر وهو يخوض حرباً، وانما يريد ان تكون

____________________

١- المصدر السابق ص٢٩٢.

٢- تاريخ الطبري ج٦ ص٢١ وابن الأثير ج٤ ص٣٢.

٣- تاريخ الطبري ج٦ ص٨٢، وابن الأثير ج٤ ص٥٧.

٤- الطبري ج٦ ص٣٢.

٤٦

اعمالهم هذه صادرة عن نية صادقة وايمان عميق بالله وخوف منه وطلب رضاه في السر والعلن قبل رضا الناس. فهو لا يسمح ان يدفع ثمن النصر من دينه وخلقه.

واظن في صيغة البيعة التي بايع الناس المختار على اساسها ما ينفي كل ما سبق ان اتهم به فلقد جاءت البيعة بالصيغة التالية ( تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء اهل البيت وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم )(١) .

فهل كان في بيعة المختار هذه ما يمكن عده غلواً او مروقاً من دين او ادعاء لنبوة او ممارسة لمخاريق او قولاً برجعة.

وهل كان في سلوك صاحبها الذي راينا ما يمكن عده كذلك او ما يقرب ان يكون كذلك ؟!

اراني قد اطلت في الحديث عن المختار. وما كنت لأفعل لو لا شعوري ان هذا الرجل قد ظلمه التاريخ وتجنى عليه المؤرخون ورموه بما لم يفعل ونسبو اليه ما لم يقل.

افلا يستحق اذن ان نرفع عنه الظلم الذي لحقه كل هذه السنين فنعامله معاملة الثوار على الظلم ولا نجمع عليه ظلما جديدا كان هو حرباً عليه وعلى اصحابه ؟

____________________

١- اما الأيجي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد ت ٧٥٦ه- فيجعل الشيعة ثلاثة أصناف: الغلاة والزيدية ثم الإمامية الذين يجعلهم فرقة واحدة جامعة لكل الفرق من غير الغلاة وغير الزيدية مخالفا بذلك كل المؤلفين الآخرين في الفرق. شرح المواقف للجرجاني ط دار الطباعة ١٣١١ه- ج٣ ص٢٨٦.

٤٧

فرق الرافضة:

يضم اسم الرافضة عند غالبية المؤلفين في الفرق والمذاهب، كافة الفرق التي يعدها شيعية، من إمامية وكيسانية وزيدية وغلاة.

هذا ما جرى عليه الملطي والغدادي والرازي والمقريزي والأسفراييني، بالنسبة للإمامية والكيسانية والزيدية.

أما الأشعري فيجعل اسم الرافضة في مقابل الزيدية والغلاة، جامعا تحته كل الفرق التي يعدها شيعية خارج هذين الصنفين.

ولأننا أفردنا للزيدية وللغلاة فصلا خاصا بكل منهما، فسنحاول الآن ان نبحث فرق الرافضة من الإمامية والكيسانية، برغم ان اسم الرافضة يشمل غير الإمامية وغير الكيسانية كما قلنا(١) .

ولكن علي ان اقف قبل ذاك عند نقطتين اساسيتين، تتعلق اولاهما بهذا التناقض الواضح بين تسمية الرافضة - نسبة الى رفض زيد لمن يأخذ بالرواية التي سبق الحديث عنها في التسمية - وبين اعتبار فرق الكيسانية من الرافضة. ذلك ان فرق الكيسانية هذه، والكيسانية نفسها التي ارتبطت بالمختار المقتول عام ٦٧، قد سبقت ثورة زيد وولادة زيد. فكيف تسمى فرقة او فرقا باسم شخص لم يكن قد وجد بعد عند نشوئها وقيامها(٢) ؟!

هل تستطيع ان تسمي الذين خرجوا على علي وقاتلوه في الجمل قبل صفين والتحكيم خوارج لمجرد انهم شاركوا هؤلاء في حمل السلاح والقتال ضد

____________________

١- ويزيد ابن حجر في الإصابة قائلا ( ويقال انه - يعني المختار - كان في أول أمره خارجياً ثم صار رافضيا ).

فأبن حجر لا يريد ان يفلت المختار من غير تجريح او اتهام لكنه لا يملك ما يثبت ذلك فيلجأ الى ما يلجأ اليه امثاله دائما حين يعوزهم الدليل على ما يريدون اتهام الناس به وهو لفظ ( يقال ) او ( قيل ) او ( روي ) او ما شابه.

ولهذا تراه هنا يطوف بالمختار على الفرق مبتدئا بالخوارج ومنتهيا بالروافض ليذم المختار ويظهر تلونه وتقلبه بين أقصى طرفين بالنسبة لعلي: الخوارج والروافض وكل منهما مطعون فيه ولا ينسى طبعا أن يمر في الطريق على الزيدية محطة من محطات المختار.

كل ذلك وهو لا يملك من وسائل الإثبات إلا ( يقال ) صادقا فيها أو غير صادق وما أكثر ما أجرمت هذه اللفظة وما أكثر ما شوهت من تأريخنا.

ومع ذاك فكيف فات ابن حجر أن لا الزيدية ولا الروافض كانوا قد وجدوا في زمن المختار الذي قتل قبل وجودهم بأكثر من نصف قرن. وعلى كل فيبدو أن ابن حجر لم يكن الأول في هذا الخلط فقد سبقه إليه ابو العباس المبرد في كامله حيث تجد هناك الصيغة نفسها التي ترد عند ابن حجر. وهكذا فليكن التاريخ !! انظر الإصابة ط دار الكتب العلمية بيروت ج٦ ص١٩٩ ترجمة المختار رقم ٨٥٣٩، ورغبة الامل من كتاب الكامل لسيد بن علي المرصفي ج٧ ص٢٠٥.

٢- مقالات الإسلاميين ج١ ص٨٧.

٤٨

علي ؟ هذا اذا قبلنا ان الكيسانية يشاركون في آرائهم فعلا من يسميهم المؤلفون السابق ذكرهم بالرافضة.

هذه احدى النقطتين وهي كما ترى لا تحتمل اعتذاراً ولا تفسيراً.

اما الاخرى فان فرق الرافضة، وهي في الاصل فرق الشيعة كما يفترض، لا بد ان تنطلق بهذا الوصف من تفضيل علي والولاء له وتقديم اهل بيته والائتمام بهم. والا فانك لن تكون امام فرق من الشيعة بله الرافضة.

واظن هذا ما لا خلاف فيه، لكن الذي سنلاحظه ان بعض هذه الفرق ( الشيعية الرافضية ) لا تمت لعلي ولا لآل علي بأية صلة غير البغض والعداء.

وأصل بعد الى هذه الفرق لأتناولها على انفراد، دون ان يعني ذلك أنني سأتناولها كلها فهذا شأن الكتب المؤلفة اساسً في الفرق. وأنا لم أرد ذاك ولم أقصد اليه. وليس كتابي هذا من كتب الفرق، وانما هو ملاحظات على بعض ما ورد في كتب الفرق كما قلت.

وأبدأ بهذه الفرق كما وردت في مقالات الاسلاميين للأشعري، بوصفه من اقدم من ألف في المقالات والفرق، وهو نفسه مؤسس مذهب.

والرافضة عند الأشعري أربع وعشرون فرقة(١) .

وأجد أن الفرق من الرقم(٢) الى(٥) لا تصلح ان تؤلف فرقاً، اوعلى الأقل لا تصلح ان تبحث فرقاً متميزة. فبين الثانية والثالثة منها ينحصر كل الخلاف في من كان الموصي بالإمامة لابن الحنفية، هل هو أبوه علي أم أخوه الحسين، مع الاتفاق على إمامة محمد. وما أظن هذا وحده، ومهما كانت أهميته،

____________________

١- مقالات الإسلاميين ج١ ص٨٩، والفرق بين الفرق ص٢٦، والملل والنحل ج١ ص١٤٧، والتبصير في الدين ص١٨، وخطط المقريزي ج٤ ص١٧٤.

٤٩

بقادر على تأسيس فرقة مستقلة. فليس هناك أي حديث او ذكر لعقيدة هاتين الفرقتين سياسياً او دينياً، اصولاً او فروعاً. بحيث تستطيع ان تتبين بم صارت ههذه فرقة وتلك فرقة اخرى.

وهل كانت ستقوم فرقة ثالثة لو ادعى مدع ان الحسين، لا علي ولا الحسين، هو الذي أوصى لمحمد بالإمامة.

ثم ما هي العلاقة بين هاتين الفرقتين اللتين لا تختلفان الا في مصدر النص. مع ان المنصوص عليه عندهما واحد لم يتغير، وعقيدة الطرفين فيه واحدة.

وبعد هذا فما الذي يربط هاتين الفرقتين بالمختار وثورته التي يريد الكتاب ان يسموها كيسانية، لإضعاف طابعها السياسي، ويوزعوها فرقاً لا يعرفها المختار ولا يربطها بثورته الا تصاله واتصالها بمحمد بن الحنفية(١) .

ولو قدر لي ان اعيد تصنيف الفرق التي يسميها الكتاب كيسانية، بملاحظة علاقتها بثورة المختار التي اعطوها هذا الاسم، لما وصلت واحدة منها بالمختار وثورته، ولأسميتها باسم محمد بن الحنفية او اسم ابنه ابي هاشم. فلم تكن ثورة المختار ثورة فرق مذهبية. مع اني لا ارى اية فرق واية مذاهب غير اسماء قيل انها تمثل فرقاً ومذاهب.

اما الرابعة والخامسة منها فهما وان كانتا تتفقان في دعواهما ان محمد بن الحنفية حي مقيم بجبال رضوى، وان عنده عينين من عسل وماء ويقوم على حراسته اسد ونمر(٢) الا ان الخامسة تجرم امامها ابن الحنفية وتجعل وجوده هناك عقوبة له. فكيف يمكن ان تعد من الرافضة الكيسانية، القائلة بامامة محمد

____________________

١- مقالات الإسلاميين ج١ ص٩٠، ٩١ والفرق بين الفرق ص٢٧، والملل والنحل ص١٥٠، والتبصير في الدين ص١٨.

٢- أنظر تفصيل الأسباب التي حبس من أجلها ابن الحنفية في جبال رضوى ص٣٤ من الفرق بين الفرق كما يوردها البغدادي لكنه يضيف انه - ابن الحنفية - المهدي المنتظر ولا ادري كيف يكون مهديا ومنتظرا من تبلغ به معاصيه حد الحبس في الجبال وانظر كذلك التبصير في الدين ص٢٠.

٥٠

ابن الحنفية كما يزعمون، فرقة تجعل امامها عاصيا مجرما ووجوده في رضوى عقوبة له على ما اقترف من معصية وما ارتكب من جرم(١) ؟!

انك تستطيع ان تطلق على هذه الفرقة اية تسمية شئت الا الكيسانية. فهذا ما لا تستطيعه وما لا يجوز لك، الا اذا جاز ان تسمي الخوارج علوية مثلاً.

وما دام وجود ابن الحنفية في جبال رضوى كان لمعصية ارتكبها عند هذه الفرقة. فما أظن الأسد والنمر قد وضعا لحراسته خوفا عليه من الأعداء، وانما لحراسته خوفا من هربه قبل الحكم عليه.

وعلى كل فأنا ارثي لحال هذين الحارسين اللذين لم يرتكبا أيه معصية ليعاقبا، هما ايضا بالبقاء في جبال رضوى، وليكون طعامهما اليومي العسل فقط يشاركان فيه ابن الحنفية، فربما كانا يفضلان شيئاً. آخر لغذائهما غير العسل، خصوصا وانهما من الحيوانات المفترسة بل سادة هذه الحيوانات وقادتها.

ثم ان ما لاحظناه بالنسبة للفرقتين السابقتين (٢، ٣ ) نلاحظه هنا ايضا. فليس منم حديث او ذكرلعقيدة او رأي، ولا لموقف من الماضي واحداثه او من عصرهم واحداثه، غير وجود محمد بن الحنفية في جبال رضوى بسبب خفي لا يعلمه الا الله او عقوبة له على جرائم ارتكبها.

فهل هذا هو مفهوم الفرقة عند اصحاب المقالات والمؤلفين في الفرق ؟!

انني لم اجد حتى الان فرقا دينية ولا سياسية ولا اشخاصا معروفين من قادة هذه الفرق واتباعها، غير اسماء قليلة جدا نصادفها احيانا هنا او هناك،

____________________

١- هو عند النوبختي ابن كرب لا أبو كرب وينسب النوبختي إليه القول إن ابن الحنفية غائب في مكان لا يعلم أين هو دون ذكر للأسد والنمر أما القول في إقامة ابن الحنفية بجبال رضوى والأسد والنمر فينسبه النوبختي إلى فرقة أخرى غير أبي أو ابن كرب انظر فرق الشيعة ص٢٥ و ٢٦.

٥١

وبعضها لا نكاد نعرف عن اصحابها شيئا. فانا لم اعرف من اسماء هؤلاء اكثر من اثنين او ثلاثة او اقل، بينهم ابو كرب الضرير الذي لا اعلم عنه ولا عن اتباعه وانصاره، غير عيني العسل والماء، وغير الاسد والنمر شرطيي الحراسة لابن الحنفية خوفا عليه او خوفا منه(١) .

ولأفترض ان هؤلاء الاشخاص قد وجدوا حقا، وانهم اعتقدوا ما نقل عنهم الرواة حقا، فكيف اصبحوا فرقا اولا، وكيف جاز ان نبحثهم ونبحث معتقداتهم ضمن الكيسانية، وهي ثورة سياسية كما راينا. ان كان قد رافقها طابع ديني، فما ذاك الا لان هذا الطابع كان مرافقا لثورات ذلك العصر، فلم يتخلف عن أي منها ولم تتخلف عنه.

ان اقصى ما يمكن ان نسمي به هذه الظاهرة ( الفرق ) انها كانت مجرد نوبات مرض او جنون فردية، دفعت اليها ظروف ذات طبيعية فردية. ومن الخطأ ان نعممها ونجعل منها فرقا ومذاهب تتجاوز هذه الحدود الفردية.

ولذلك سرعان ما انتهت. لأنها لم تقم اصلا، او لأنها لم تملك الحد الادنى لما يجب ان تكون عليه الفرق. ولو ملكته لكان لها شأن آخر كباقي فرق المسلمين.

انتهت تلك ( الفرق ) وبقيت الاثنا عشرية والزيدية والمعتزلة والخوارج وبقيت فرق اخرى غير هؤلاء. والسبب ان هذه فرق ولم تكن تلك فرقا.

اما الفرقة التاسعة من الرافضة عند الأشعري، فيمكن تقسيمها قسمين(٢) :

____________________

١- يلاحظ أن الأشعري ينتقل من رقم (٦) الى رقم (٨) تاركا رقم (٧) فراغا دون أن يخصصه لفرقة ما.

٢- الغريب أن الأشعري يعالج هؤلاء كلهم مع ما بينهم من اختلافات كبيرة كفرقة واحدة ولكنه يعد الذين أعطاهم رقم ( ٢و٣) من فرق الرافضة، فرقتين مستقلتين برغم أن ليس هناك ما يميز بينهما إلا مصدر النص على إمامة محمد بن الحنفية هل جاء من علي مباشرة أو من ابنه الحسين وعلى كل فان الرزامية ينفون مقتل ابي مسلم عند الأيجي في المواقف خلافاً لما يذهب إليه الأشعري أنظر شرح المواقف للجرجاني ط١٣١١ ج٣ ص٢٨٨.

٥٢

١ - القائلين بان ابا هاشم بن محمد بن الحنفية قد اوصى بالامامة الى محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وان محمداً هذا قد اوصى بها الى ابنه ابراهيم ( الامام ) ومن ابراهيم انتقلت الامامة بالأسلوب نفسه الى السفاح فالمنصور، كل يوصي بها لمن يليه.

ولا يعطيهم الاشعري اسماً معيناً غير رقم(٩) في فرق الرافضة كما رأينا.

٢ - القائلين ان الوصية بالامامة للعباسيين جاءت اصلاً من النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي نص على العباس بن عبد المطلب ( جد العباسيين ) ونصبه اماماً، ثم تسلسلت الامامة في ابنائه بالاسلوب السابق نفسه حتى وصلت محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومن بعده.

وهؤلاء هم الذين يسميهم الأشعري بالراوندية الذين افترقوا في امر ابي مسلم كما يقول الى: أ - رازمية اصحاب رجل يقال له رازم وهم يثبتون موت ابي مسلم. ب - الأبي مسيلمة ويزعمون ان ابا مسلم حي لم يمت ( ويحكى عنهم - بتعبير الاشعري - استحلال لما لم يحلل لهم اسلافهم )(١) .

وهذا التقسيم الذي اخذ به الاشعري للقائلين بإمامة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولأبنائه من بعده يتفق فيه غالبية الذين كتبوا في الفرق.

فالرازي في ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) يأخذ به ايضا حين يتحدث عن ( الهاشمية ) نسبة الى ابي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، و ( الراوندية ) فلا يميز يينهما الا بأن الأولين ( يزعمون ان الامام بعد محمد -

____________________

١- ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) ص٦٣ ويدعوهم الرازي أتباع ( أبي هديدة ) بالدال المهملة بينما هم عند النوبختي ( الهريرية ) بالراء لا بالدال وقد يكون الاختلاف في ذلك من عمل النساخ وعلى كل فليس هناك من علاقة بين هؤلاء ( الراوندية ) وبين احمد بن إسحاق الريوندي الزنديق المشهور.

٥٣

يقصد ابن الحنفية - هو ابو هاشم بن عبد الله بن محمد وهم يقولون انه قد مات واوصى بالخلافة الى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.. " بينما يدعي الاخرون ( الراوندية ) ( ان الامامة كانت اولاً حقا للعباس ) وان كان الرازي لا يصرح هنا بأن حق العباس في الامامة جاء بنص من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفعل الاشعري(١) .

وتجد الاتجاه نفسه عند النوبختي في ( فرق الشيعة ) فهو كذلك يوزع القائلين بحق العباسيين في الامامة فريقين: أ - الذين يقولون ان ابا هاشم بن محمد ابن الحنفية اوصى بالامامة الى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، واوصى بها محمد الى ابنه ابراهيم، وهكذا بالتتابع. ب - والذين يقولون ان الامامة هي للعباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهؤلاء عنده فئة محدودة من الراوندية يسميها ( الهريرية ) وهم العباسية الخلص الذين غلوا في العباس وولده كما يعبر النوبختي عنهم.

لكن النوبختي يعود للموضوع فيما بعد ليقرر ان الغلاة من ( العباسية ) فرقتان: ( الهاشمية ) اصحاب ابي هاشم بن محمد بن الحنفية الذي اوصى بالامامة الى محمد بن علي، والذين يقولون ان الامام عالم بكل شيء، وهو بمنزلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع اموره، ومن لم يعرفه لم يعرف الله وليس بمؤمن، بل هو كافر مشرك.

والفرقة الثانية تقول ان الامام عالم بكل شيء، وهو الله ويحيي ويميت، وادعت ان ابا مسلم نبي مرسل يعلم الغيب، والذي ارسله ابو جعفر المنصور.

____________________

٢- فرق الشيعة ص٢٩، ٤١، ٤٢، ٤٦.

٥٤

وهذه الفرقة هم اصحاب عبد الله الراوندي، وشهدوا ان المنصور هو الله.

ولا ندري ان كانت هذه الفرقة عند النوبختي هي فرقة رابعة من الراوندية غير فرقها الثلاث التي سبق ان تحدث عنها في ص ٤١ والتي هي عنده هناك ثلاث: الأبو مسلمية الذين ادعوا امامة ابي مسلم وقالوا انه حي لم يت والهريرية الذين غلوا في العباس وولده، والرزامية اصحاب رزام كما يذكر.

ويبدو لي ان النوبختي لم يكن موفقا في عرض الموضوع، والا لما احتاج الى بحثه في اربعة اماكن، وكان يستطيع ان يكون اكثر وضوحا واحكاما واختصارا لو انه حصره في مكان واحد، ليكون الرجوع اليه والاحاطة به اسهل وايسر لمن اراد، مع تجنب هذا الاضطراب الذي وقع واوقعنا فيه(١) .

اما الشهرستاني فلا يذكر اسم الراوندية حين يعرض لاختلاف اصحاب ابي هاشم بعد موته، ولكنه - كما يبدو - يجمع بين الوصية بالامامة من ابي هاشم هذا وبين حق العباسيين فيها اصلا اذ يقول ( واوصى - يعني ابا هاشم - الى محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس وانجرت في اولاده الوصية حتى صارت الخلافة الى بني العباس قالوا ولهم في الخلافة حق لاتصال النسب وقد توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمه العباس اولى بالوراثة )(٢) .

ويخالف البغدادي في ( الفرق بين الفرق ) كلا من الاشعري والرازي والنوبختي عند معالجته لهذا الموضوع، فهو يطلق اسم الراوندية على الذين قالوا بنص ابي هاشم على امامة محمد بن علي بن عبد الله بن العباس لا على الذين قالوا بحق العباس فيها ابتداء(٣) .

____________________

١- الملل والنحل ج١ ص١٥١.

٢- الفرق بين الفرق ص١٥٥ مع ملاحظة ما سبق أن قلناه من أن، النوبختي ينسب الى الهريرية فحسب من الراوندية القول بحق العباس في الإمامة.

٣- مروج الذهب ج٣ ص٢٣٦.

٥٥

ومن ناحية ثانية، فليس بين الراوندية عند البغدادي، من يسميهم الاشعري والنوبختي ب- ( الأبي مسلمية والرزامية. فالبغدادي يتحدث عن هؤلاء عند تعرضه لأصناف الحلولية في الفصل العاشر من الفرق بين الفرق وبوصفهم غلاة في ابي مسلم قائلا ( واما الرزامية فقوم بمرو افرطوا في مولاة ابي مسلم صاحب دولة بني العباس وساقوا الامامة من ابي هاشم اليه ثم ساقوها من محمد ابن علي الى اخيه عبد الله بن علي السفاح ثم زعموا ان الامامة بعد السفاح صارت الى ابي مسلم واقروا مع ذلك بقتل ابي مسلم وموته الا فرقة منهم يقال لهم ابو مسلمية افرطوا في ابي مسلم غاية الافراط وزعموا انه صار لها بحلول روح الاله فيه وزعموا ان ابا مسلم خير من جبريل وميكائيل وسائر الملائكة وزعموا ايضا ان ابا مسلم حي لم يمت... ).

ونص البغدادي، كما ترى، مرتبك الصياغة، فانت لا تدري مثلا لمن يعود الضمير ( اليه ) الوارد في بداءة النص. هل هو لأبي مسلم الذي يبدأ النص بالحديث عنه ؟ لكن هذا لم يعاصر ابا هاشم ولم يره لأنه ولد بعد وفاته. ام لمحمد ابن علي الذي لم يسبق له ذكر في النص ليمكن ارجاع الضمير اليه وليستقيم قول البغدادي بعده ؟ ( ثم ساقوها - يعني الامة - من محمد بن علي.. ) فضلاً عن ان محمداً هذا متقدم على ابي مسلم الذي لم يكن في عهده الا شاباً لم يشتهر ولم يكن له اتباع، لا باسم الرزامية ولا باسم آخر. ويعود الغدادي لقول ( ان الامامة بعد السفاح صارت الى ابي مسلم.. ).

على ان ارتباك النص هنا ليس كل شيء. فالبغدادي يخطئ من جهة اخرى بجعله السفاح أخاً لمحمد حين يقول ( ثم ساقوها - الامامة طبعاً - من محمد

٥٦

ابن علي الى اخيه عبد الله بن السفاح ) ذلك ان السفاح هو ابن محمد بن علي لا اخوه كما ذكر البغدادي.

ملاحظين ان البغدادي قد سبق له ان تحدث عن القائلين بوصية ابي هاشم لمحمد بن علي فسماهم الراوندية لا الرزامية ولا الابا مسلمية.

فاذا انتقلنا من المؤلفين في الفرق الى المؤرخين نجد المسعودي، وهو يتحدث عن راي الراوندية في الخلافة يذكر انهم الذين يقولون ( ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وان احق الناس بالامامة بعده العباس بن عبد المطلب لأنه عمه وواثه وعصبته.. وتبرؤوا من ابي بكر وعمر - رضي ‌الله‌ عنهم ا - واجازوا بيعة علي بن ابي طالب باجازته لها.. )(١) .

فالمسعودي ايضا يرى ان الراوندية يجعلون الامامة حقا للعباسيين، ارثاً من جدهم الذي كان احق بها، لكنه لا يذكر صراحة - شأنه في ذلك شأن الرازي - ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على امامة العباس كما فعل الاشعري(٢) .

على ان المسعودي يعود في موضع آخر بعد ذلك، فيساوي بين الخرمية والمسلمية ( الأبي مسلمية ) معتبراً الاثنين فرقة واحدة، ليضيف الى ما واجهنا من صعوبات في هذا الموضوع صعوبة جديدة(٣) .

اما الطبري فيقول عن الراوندية عند تعرضه لحوادث سنة ١٤١ه- ( والراوندية قوم فيما ذكر علي بن محمد - كانوا من اهل خراسان على راي ابي مسلم صاحب دعوة بني هاشم يقولون - فيما زعم - بتناسخ الارواح ويزعمون ان روح ادم في عثمان بن نهيك وان ربهم الذي يطعمهم ويشبعهم هو ابو جعفر المنصور وان الهيثم بن معاوية هو جبريك )(٤) .

____________________

١- ولقد رأيت عند ابن النديم ما يمكن عده مفهوماً جديداً للراوندية، مفهوماً سياسيا لهم إذ يقول وهو يتحدث عن محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة (... وكان يجاوره في الدرب الروندي... وكان يجتمع إليه الروندية أبناء الدولة... ).

فهل كانت الدولة العباسية في زمن المنصور أو السفاح قبله قد جلبت بعض الشباب من أقاليمها في الشرق لتجندهم لخدمها كما فعل العثمانيون فيما بعد مع المماليك.

أن أحداً من المؤرخين لم يعرض لهذه النقطة بقدر علمي وعلى كل فلعل هذا وراء غلوهم في العباسيين والمنصور حتى بعد مقتل أبي مسلم ( الفهرست ص٢٨٧ الفن الثاني من المقالة السادسة ).

٢- مروج الذهب ج٣ ص٢٩٢.

٣- تأريخ الطبري ج٧ ص٥٠٥ وابن الأثير ج٥ ص١٢٩.

٤- ففي الطبري بعد النص المتقدم ( قال وأتوا - يعني الراوندية - قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون هذا قصر ربنا... الخ ) وهو ما يظهر أن الراوندية استمروا على غلوهم وولائهم للمنصور بعد قتله أبا مسلم فحادثة القصر التي يشير إليها الطبري كانت عام ١٤١ه- بينما قتل أبو مسلم عام ١٣٧ه-.

٥٧

وهكذا تجدك امام عدد من الاسئلة يزداد كلما ازددت قراءة ومراجعة. وذلك ان المؤلفين لا يتفقون على راي فيما يخص الموضوع. فهم يختلفون اولاً في من هم الراوندية. هل هم الابو مسلمية والرزامية كما يبد من الاشعري ؟ ام هم الابو مسلمية والرزامية والهريرية كما يقول النوبختي ؟ ام ان الراوندية غير هؤلاء جميعاً ؟ كما يظهر من البغدادي الذي يميز بين الراوندية القائلين بامامة محمد بن علي بوصية من ابي هاشم، وبين الرزامية والابي مسلمية المغالين في ابي مسلم.

وفيمن كان غلو الراوندية هؤلاء. في العباسيين ؟ ام في ابي مسلم ؟ ام في الاثنين معاً ؟

وبعد ما قتل المنصور العباسي ابا مسلم. لأي منهما تجه الغلو ؟ للمقتول، ام للقاتل كما يبدو من الطبري(١) ؟

وما الذي جاء بعثمان بن نهيك والهيثم بن معاوية، وما دورها في كل ذاك ؟

تلك بعض الاسئلة التي لم نجد حتى الان اجابة نطمئن اليها، ولعل البحث سيهدينا يوما الى ما هو افضل واكثر اقناعا. لكن ما هو اهم من هذه الاسئلة كلها. وما اظن القارئ الكريم قد سبقني محقا اليه، وهو يتابع حديث ( العباسية ) وآراءاهم من هاشمية وراوندية وابي مسلمية ورزامية وهريرية. هو علاقة هؤلاء كلهم بالرافضة والشيعة عموما. اليس الشيعة الذين يتحدث عنهم اولئك المؤلفون هم الشيعة الذين نعرف: الشيعة الذين يقول عنهم اولئك المؤلفون انفسهم انهم الذين يتولون عليا وابناءه ويقدمونهم ويفضلونهم.

____________________

١- ويضيف البعض الى اسمه لقبه فيقول الكندي أما الشهرستاني فيسميه عبد الله بن عمرو بن الكندي.

٥٨

فهل بين كل الفرق التي ذكرنا، من يتولى عليا وابناءه ويقدمهم ويفضلهم بل من لم يشارك في قتلهم وسفك دمهم واضطهادهم؟!

وسأترك ابا هاشم محمد بن الحنفية لأعود اليه فيما بعد واسأل الآن.

أكان الراوندية على اختلاف فصائلهم وتسمياتهم غلاة في علي وابنائه، ام في العباسيين وابي مسلم الخراساني صاحبهم وموطد دولتهم ؟ وهو ما رأيناه عند جميع المؤلفين السابقين.

فكيف جاز لهؤلاء ان يبحثوهم ضمن فرق الشيعة، مع بقائهم على التعريف السابق للشيعة ؟ !

لقد طرحت هذا السؤال على نفسي، كما طرحه القارئ الكريم، ولم اجد جوابا. وما احسبني سأجد الجواب الا بما يسوء اولئك المؤلفين. واظنني الآن اجبت.

الحربية والبيانية:

يقول الاشعري عن الحربية انهم ( اصحاب عبد الله بن عمروبن حرب(١) يزعمون أن ابا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية نصب عبد الله بن عمرو بن حرب اماما وتحولت روح ابي هاشم فيه.. )(٢) .

وهو ايضا ما يقوله الشهرستاني ( وفرقة قالت ان ابا هاشم اوصى الى عبد الله بن عمرو بن الكندي وان الامامة خرجت من ابي هاشم الى عبد الله وتحولت روح ابي هاشم اليه )(٣) .

____________________

١- مقالات الإسلاميين ج١ ص٩٤.

٢- الملل والنحل ج١ ص١٥١.

٣- الفرق بين الفرق ص٢٧ والتبصير في الدين ص١٩ والفصل في الملل والأهواء والنحل ص٥٠.

٥٩

اما البغدادي فيذكرهم بالقول ( ومنهم من زعم ان تلك الروح - يعني روح الله التي كانت في ابي هاشم - انتقلت من ابي هاشم الى عبد الله بن عمرو ابن حرب وادعت هذه الفرقة الوهية عبد الله بن عمرو بن حرب ).

ويتفق معه في ذلك الاسفراييني كما هي عادته، وابن حزم(١) .

فالحربية اذن هم القائلون بامامة عبد الله بن عمرو بن حرب او بألوهيته.

وقد عرضت لهذه الفرقة في الفصل المخصص لفرق الغلاة بعد هذا الفصل. ولهذا فسأكتفي هنا بملاحظتين، محيلاً فيما عداهما الى ما كتب هناك.

واولى الملاحظتين ان الاشعري يبحث هذه الفرقة ضمن فرق الغلاة الخارجة عن الاسلام طبعاً(٢) . فكيف استجاز بحثها هنا، ضمن الفرق الاسلامية ؟ ولا يمكن لفرقة واحدة ان تجمع في ذاتها صفتين تنفي احداهما الأخرى، كالأسلام والخروج عنه، وتبحث في مكانين خصص احدهما لفرق الاسلام، والآخر للفرق الخارجة عنه.

فأما ان تكون هذه الفرقة من فرق الاسلام فتبحث مع هذه الفرق فحسب. واما ان تكون من الفرق الخارجة عن الاسلام فتبحث مع هذه الفرق.

لكني ارفض ان تبحث الفرقة مرتين: مع المسلمين مرة ومع سواهم مرة اخرى، الا اذا كان الفاصل بين المسلمين وبين غيرهم من الرقة والضعف وعدم الوضوح، بحيث يصعب عليك ان تميز فرقة ما، ان كانت مسلمة او غير مسلمة. او بحيث يمكنك ان تتجاهل، آمناً هذا الفاصل، فتضع اية فرقة شئت في أي مكان شئت.

والملاحظة الثانية، وهي ليست بعيدة عن الاولى، تتعلق بصفة عبد الله بن

____________________

١- مقالات الإسلاميين ص٦٨ ويبحثها ضمن الفرق الخارجة عن الإسلام، البغدادي والأسفراييني وابن حزم.

٢- مقالات الإسلاميين ج١ ص٩٥، ٦٦.

٦٠