• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27335 / تحميل: 6337
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

والى جانب هذه المبادئ العامة وبعدها، تأتي عادة المبادئ والأهداف الأخرى الخاصة بكل ثورة والتي تمنحها هويتها الحقيقية ولذا فأن هذه الأهداف تختلف من ثورة لأخرى تبعا لاختلاف الثائرين وانتماءاتهم وما يرمون الى تحقيقه من وراء ثورتهم فثورة شيعية لا بد أن تختلف في هذه الأهداف عن ثورة غير شيعية وثورة يقودها عبد بن الزبير ضد يزيد بن معاوية أو ضد عبد الملك بن مروان تختلف في أهدافها الخاصة عن ثورة يقودها يزيد بن المهلب ضد يزيد بن عبد الملك، مع أن الثورتين متفقتان في الأهداف العامة من دعوة الى العمل بكتاب الله وسنة نبيه.

ولبيان ذلك فيما يتعلق بثورة زيد ومحاولة الصاق الصفة الاعتزالية بها، فسأثبت صيغة بيعته كما أوردتا المصادر إذ كانت هذه الصيغة هي خير ما يوضح أهداف ثورة زيد، العامة منها التي تتفق فيها مع غيرها من الثورات، والخاصة التي تنفرد بها وتتميز.

يقول الطبري في ج٧ ص١٧٢ من تأريخه ( وكانت بيعته - يعني بيعة زيد - التي يبايع عليها الناس: إنا ندعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم واقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا ).

هذه إذن الأهداف التي قامت عليها ودعت إليها ثورة زيد كما وردت في صيغة بيعته فهل فيها أثر لأي فكر معتزلي مهما تسامحنا فمددنا من دائرة هذا الفكر ؟!

١٠١

وسأتجاوز ما يتصل بكتاب الله وسنة نبيه فما أظن أحدا يجرؤ على القول بان الدعوة الى العمل بكتاب الله وسنة نبيه هي دعوة معتزلية.

سأتجه الى الأهداف الخاصة كما قلت ولكني لن أتوقف عندها كلها، فليس في جهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، ولا في قسمة الفيء بالسواء ورد المظالم وإقفال المجمر ما يمكن اعتباره فكراً معتزلياً إنما هي شعارات وأفكار تعكس الحالة التي كانت تعيشها جماهير المسلمين عند قيام الثورة وما يأملونه منها ويرجونه عند انتصارها وتبرز القضايا الساخنة - كما يقال الآن - في بيئة الثورة وهي قضايا ما كان لثورة زيد أو غيرها أن تغفلها في الظروف التي قامت فيها.

سأتجه الى الشعار الخاص ب- ( نصرة أهل البيت على من نصب لهم وجهل حقهم ) وهو واحد من شعارات ثورة زيد وأعمدتها التي قامت عليها فماذا يعني هذا الشعار وما هو حق أهل البيت، وعلى ماذا ينصب ؟ انه يعني بكل وضوح حقهم في خلافة المسلمين التي دفعوا عنها لكن الشعار لا يكتفي بمجرد تقرير هذا الحق، بل يدعو وبنفس الوضوح الى الانتصار لهم والنهوض معهم لاسترجاع الحق ضد من اغتصبه منهم وأنكره عليهم.

فأين هذا من فكر المعتزلة عموماً، ومن فكر مؤسسي الاعتزال واصل وعمرو خصوصاً وثانيهما يفسق عليا كبير أهل البيت وسيدهم ويحكم عليه بالخلود في النار، وأولهما يساوي بين حظ علي وحظ معاوية من النار، حين يفسق أحدهما لا على التعيين.

١٠٢

وبعيداً عن واصل وعمرو، فأي أصل من أصول المعتزلة ينص على حق أهل البيت في الخلافة ؟!

أليس من الغريب بعد هذا، أن يقال أن ثورة زيد التي قامت على حق أهل البيت في خلافة المسلمين والانتصار لهم ومحاربة أعدائهم هي ثورة اعتزالية خالصة ؟!

لقد قتل زيد وقمعت الثورة واستؤصل الثوار وطورد من بقي حيا منهم، فماذا كان نصيب زعيمي المعتزلة واصل وعمرو، من كل ما تعرض له الثائرون مع زيد، والمتعاونون معه، لو كانت الثورة معتزلية ؟!

هل اعتقلا أو اعتقل أحدهما أو حبس أو تعرض لأي لون من ألوان الاضطهاد أو المضايقة، لو كان لهما دور في ثورة زيد، فضلا عن قيادة ثورة ضد السلطة الأموية القائمة آنذاك ؟!

أكانت هذه السلطة تخشى موليين من أعدائها من زعماء ثورة قامت ضدها، فلا تعرض لهما بسوء، وقد قتلت سادات العرب ورؤوس القبائل وذوي البيوت دون تردد أو خوف ؟!

ثم أن فشل ثورة زيد كان بسبب غدر الغالبية العظمى ممن بايعوا قائدها فهل كانت هذه الغالبية التي بايعت ونكثت وغدرت هي غالبية معتزلية، ما دمنا قد افترضنا ان الثورة هي ثورة اعتزالية واعتزالية خالصة ؟!

ماذا سيبقى من اعتزالية الثورة إذن، إذا كانت جماهيرها غير معتزلية، وأهدافها وشعاراتها غير معتزلية، ولم يكن بين قادتها ورؤوسها واحد من

١٠٣

المعتزلة، ولم تقم في بيئة عرفت الاعتزال في تأريخها، وحتى الأسباب المباشرة التي تجمع الروايات على أنها كانت وراء ثورة زيد، وهي تتعلق بموقف هشام منه، ليس فيها ما يتصل بالاعتزال والمعتزلة.

يبقى آخر الجهل، يبقى لإثبات اعتزالية ثورة زيد ما يتشبث به البعض من وجود علاقة بين زيد وبين مؤسس الاعتزال: واصل بن عطاء، وهي علاقة توصف أحيانا بأنها علاقة زمالة وتوصف أحيانا بأنها علاقة تلمذة وفي جميع الاحوال فان الذين يذكرونها يحاولون ان يجدوا فيها منفذا لتزوير ثورة زيد و ( تعزيلها ) إذا جاز التعبير.

ورغم ان هذه العلاقة، لم تتأكد بدليل قوي واحد، فلأفترض أنه كانت هناك علاقة بين الاثنين: زيد وواصل، ولأفترض أن هذه العلاقة قد تجاوزت الصداقة الى التلمذة(١) وان زيدا كان تلميذاً لواصل فأي شيء في ذلك ؟!

أي دليل أو حجة على اعتزالية ثورة زيد، أن يكون قائدها على علاقة، مهما بلغت قوتها، مع زعيم المعتزلة واصل؟!

ألم يكن واصل نفسه تلميذاً للحسن البصري وواحدا من رواد مجلسه، فلم يمنعه ذلك من الخلاف على الحسن واعتزال مجلسه وتأسيس مذهب جديد هو مذهب المعتزلة ؟!

والأشعري أبو الحسن مؤسس المذهب الأشعري والعدو الألد للمعتزلة، ماذا كان قبل أن يتجرد للرد على المعتزلة ونقض مذهبهم ؟ ألم يكن معتزلياً قبل ذاك ؟ ألم يقضِ شطرا كبيرا من حياته، وهو يرفع لواء الاعتزال ويدافع عنه ويحارب أعداءه ؟ فهل منعه ذلك من أن يستقل بمذهب جديد فيما بعد ،

____________________

(١) يلاحظ أن واصلا ترك المدينة حيث كان زيد وهو ابن الحادي وعشرين سنة ومن كان في هذه السن فهو الى التلمذة أقرب وفي جميع الأحوال فلا يمكن أن يقال أنه كان استاذا لزيد، خصوصا وان زيدا كان في مثل سنه أو أسن منه، ومثله - ان لم يكن أعلى منه - علما وفضلا، ناهيك عن المركز والمكانة، فما أظن واصلا ولا غير واصل يدانيه فيهما.

١٠٤

وينقلب على مذهبه القديم ويتحول الى عدو يؤلف الكتب في هدم أسسه ونقض بنائه ؟!

وهل كانت الإنسانية ستتقدم لو تمسك كل تلميذ بما تلقى عن أستاذه وسلك طريقه فلم يفكر ولم يناقش ولم يخالف ؟!

وبعد كل ما تقدم، فهل أنا في حاجة الى القول بأن ليس هناك مؤرخ واحد ممن كتبوا عن ثورة زيد أو مقتله - عدا الدكتور عمارة طبعا - قد تحدث عن اعتزالية هذه الثورة أو عما هو قريب من ذلك.

ثورة يحيى بن زيد

ولن أطيل الوقوف عند ثورة يحيى بن زيد، ولن أتكلف للرد على ( اعتزالها ) فقد وفر علي الدكتور عمارة جهدا ووقتا ما أحوج الإنسان إليهما في هذه الإيام.

فالدكتور لم يجد ما يثبت به ( اعتزال ) هذه الثورة، غير أنها امتداد لثورة أبيه.

وكان من الممكن أن نعتبر خطأ الدكتور هنا تابعا لخطئه هناك وان كان إلحاق ثورة بثورة، وسحب صفة إحداهما على الأخرى، لما بين قائديهما من صلة النسب، هو من أفدح الأخطاء.

كنا سنقبل ذاك ونعتذر عنه بان الخطأ في ثورة يحيى جاء من الخطأ في ثورة زيد عدها معتزلية.

ولكن يبدو أننا كنا نحسن الظن كثيرا، فقد أضاف الدكتور هنا خطأ جديدا يتجاوز ما سبق.

١٠٥

لنقرأ نص ما أورده بشأن ثورة يحيى في الصفحة ٧٠ من الجزء الثالث من موسوعته عن المعتزلة.

يقول (.ثم انسحب يحيى ببقايا الثوار الذين نجوا من القتل - وهو يقصد طبعا بقايا الثوار مع زيد - وعبد معارك عديدة دخلها مع أنصاره من ( المعتزلة ).قتل يحيى بن زيد ).

أرأيت كيف وضعت كلمة ( المعتزلة ) في ثنايا الحديث عن ثورة يحيى، وأضيفت للثائرين معه بشكل لا يثير الانتباه، وكأنهم - عند من يقرأ النص - كانوا فعلا من المعتزلة، وكأن صفتهم هذه مجمع عليها، وفوق الريب والشكوك.

لن أقول شيئا في الرد على الدكتور عمارة هنا غير أن أحيلك يا عزيزي القارئ على كتب التاريخ، لترى كيف تكون الأمانة العلمية وتتبين بعد ما أورده الدكتور في هذا الموضوع عما ورد هناك.

يقول الطبري في الجزء السابع من تأريخه ص١٨٩(١) بعد أن يسرد قصة اختفاء يحيى وحده عند عبد الملك بن بشر بن مروان ( فلما سكن الطلب خرج يحيى في نفر من الزيدية الى خراسان ).

والطبري يقصد ( بالزيدية ) هنا، الذين قاتلوا مع زيد وبقوا على ولائهم له ولثورته فلم تكن الزيدية قد تأسست بعد كفرقة فضلا عن أن تصبح فرقة من المعتزلة(٢) .

____________________

(١) نشر دار المعارف بالقاهرة طبعة رابعة تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم.

(٢) تجد اصطلاح الزيدية بالمعنى الذي نذهب اليه عند أبي الفرج أيضا في حديثه عن القتال بين أصحاب زيد وبين أهل الشام خلال الثورة حيث يقول ( وجعلت خيل أهل الشام لا تثبت لخيل زيد بن علي فبعث العباس بن سعد الى يوسف بن عمر يعلمه ما يلقي من ( الزيدية ) مقاتل الطالبيين.

١٠٦

ثم يتابع في ص٢٢٨ من نفس الجزء قصة يحيى وخروجه الى إقليم خراسان وقتله بالجوزجان مع سبعين نفر، هم كل أنصاره، دون أي ذكر لا للمعتزلة ولا لغيرهم.

وهذا أيضا ما أورده بنفس النصر تقريبا ابن الأثير ص٤٧١ - ٤٧٢ من الجزء الرابع من تأريخه(١) لم أجد حاجة لإثباته هنا.

والمسعودي المعتزلي أوالقريب من المعتزلة يقول حين يتعرض لثورة يحيى ومقتله في ص٢١٢ من ج٣ من مروج الذهب(٢) (.فولى أصحابه - يعني أصحاب يحيى - عنه يؤمئذ واحتز رأسه.وأظهر أهل خراسان النياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها.) دون أية إشارة لصفة الثائرين مع يحيى أو المولين عنه غير أنهم ( أصحابه ) ولو كانوا معتزلة لكان المسعودي اسعد بهم وأسرع الى تثبيت صفتهم هذه من الدكتور نفسه لكن كيف فات الدكتور ان يجعل أهل خراسان النائحين على يحيى سبعة أيام، هم أيضاً معتزلة ؟!

ولا يتجاوز أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص١٧٥(٣) ما عند الطبري وابن الأثير لكنه يختلف عن المسعودي فيما اتهم به أصحاب يحيى من الهرب والتخلي عنه حين قال ( فولى أصحابه ) بينما ينص أوب الفرج على أن أصحاب يحيى السبعين قتلوا كلهم، وهو ما يؤكده أيضا الطبري وابن الأثير فيما نقلناه عنهما، وابن اعثم في ص١٣٥ ج٨ من ( كتاب الفتوح ) وان كان الأخير يرفع عدد المقاتلين مع يحيى الى سبعمائة.

____________________

(١) نشر دار الكتب العلمية ببيروت ١٩٨٧ تحقيق الدكتور محمد يوسف الدقاق.

(٢) مروج الذهب نشر دار الأندلس ببيروت طبعة رابعة ١٩٨١.

(٣) شرح وتحقيق السيد أحمد صقر طبعة ثانية القاهرة ١٩٤٩.

١٠٧

أما اليعقوبي في تأريخه ج٣ ص٧٢(١) فيجعل الذين قاموا وقاتلوا مع يحيى قوما من الشيعة نحو مائة وعشرين شخصا وهو ما نجده أيضا عند الذهبي في تأريخ الإسلام وان كان لا يحدد عدداً، مقتصراً على قوله ( وانضم إليه خلق من الشيعة )(٢) .

فهل لدى الدكتور من مصادر العلم ما لا نعرفه ولا يعرفه الطبري ولا ابن الأثير ولا المسعودي ولا أبو الفرج ولا اليعقوبي ولا غيرهم ممن أرخ وكتب عن ثورة يحيى، وهل ورد للمعتزلة لدى واحد من ههؤلاء ؟!

ثورة عبد الله بن معاوية(٣)

والآن انتقل الى ثورة أخرى هي ثورة عبد بن معاوية(٤) التي لا يملك الدكتور عمارة لاسباغ صفة الاعتزال عليها غير وجود منصور بن جمهور الكلبي(٥) - وهو من أهل العدل والتوحيد كما يقول - بين الذين بايعوا ابن معاوية.

والدكتور عمارة يخلط خلطا غريبا في أمر هذه الثورة التي لا يدري كيف يجعل منها ثورة معتزلية فإن أحدا من المؤرخين لم يورد ذكرا للمعتزلة فيها، ولم يتحدث عن مشاركة لهم في أحداثها، كما هو شأن المعتزلة دائما من الثورات فكيف سيسلم الدكتور وقد قرر هو أن تكون ثورات المسلمين كلها اعتزالية ! كيف يرضيه أن تقوم ثورة في أي بلد من بلاد الشام، ثم لا يكون للمعتزلة دور فيها، حتى لو أجمع المؤرخون كلهم على ذلك، بل حتى لو اجمع المعتزلة أنفسهم عليه.

____________________

(١) نشر المكتبة المرتضوية في النجف مطبعة النجف ١٣٥٨ ه-.

(٢) تأريخ الإسلام ووفيات المشاهير والإعلام للحافظ شمس الدين الذهبي ت ٧٤٨ الطبقة الثالثة عشرة ترجمة يحيى بن زيد ص٢٩٩.

(٣) كان من المفروض أن نعالج هذه الثورة آخذا بالتسلسل الزمني بعد ثورة يزيد بن الوليد التي قامت عام ١٢٦ أي قبل ثورة عبد الله بن معاوية بعام، كما نبهت الى ذلك في بداية هذا الفصل ولكننا جرينا على ما جرى عليه الدكتور عمارة تسهيلا على القارئ في متابعة الأصل والرد.

(٤) عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ( الطيار ) بن أبي طالب كان كما يقول أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص١٦٢ ( جوادا فارسا شاعرا ولكنه كان سيئ السيرة رديء المذهب قتالا مستظهرا ببطانة السوء ومن يرمى بالزندقة ) ثار اواخر أيام الدولة الأموية عام ١٢٧ ودعا الى نفسه أو الى الرضا من آل محمد واستمر ثائرا حتى عام ١٢٩ حيث انهزم في آخر معركة خاضها ضد الأمويين متجها الى خراسان وكان قد ظهر فيها أبو مسلم صاحب دولة العباسيين فأخذ بأمره وقتل.

(٥) منصور بن جمهور الكلبي من زعماء بني كلب من اليمانية وممن كان لهم دور في الأحداث التي جرت في العصر الأخير من الحكم الأموي شارك في ثورة يزيد بن الوليد ضد ابن عمه الوليد بن يزيد كما شارك في ثورة عبد الله بن معاوية توفي في أوائل حكم العباسيين في مفازة بين السند وسجستان كان قد اتجه إليها بعد هزيمته في القتال الذي دار بينه وبين موسى بن كعب قائد جيش السفاح.

١٠٨

وها هو قد وجد الحل ألم يكن منصور بن جمهور، وقد افترضه من أهل العدل والتوحيد بين المبايعين لعبد الله ؟ أليس المعتزلة من أهل العدل والتوحيد ؟ ألا يكفي هذا إذن ليجعل من منصور معتزلياً، ثم من المعتزلة بسبب ذاك، أحد جناحين قامت عليهما ثورة عبد الله بن معاوية، تاركا الجناح الآخر لشركائهم في الثورة من الزيدية.

ولكن يبدو أن الدكتور سرعان ما ندم، ان جعل للمعتزلة شركاء في الثورة التي كان يتمنى ان تكون معتزلية خالصة، فعله مع ثورة زيد وثورة يحيى فها هو لم يسر إلا بمقدار بضعة أسطر حتى رجع مما تنازل عنه للزيدية، حين ألغى هويتهم وضمهم الى المعتزلة، ليتحدث بعد ذاك عن ثلاث ثورات قام بها المعتزلة في العراق وخراسان ضد الحكم الأموي(١) .

ولكن من هو منصور بن جمهور، هذا الذي استطاع وحده وبفضل مبايعته وحدها، أن يحول ثورة عبد الله الى ثورة معتزلية ؟! هل هو من قادة المعتزلة أو رجالهم المعروفين ؟ هل هو من أهل العدل والتوحيد حقا، كما يريد الدكتور أن يصنفه على سعة هذا المفهوم.

أن منصور بن جمهور كان غيلانيا كما تقول المصادر(٢) وهذا يعني في أحسن الفروض، أنه كان تابعا أو موافقا لغيلان(٣) في القول بالقدر وأحسب هذا ما أعجب الدكتور عمارة منه ودفعه لأن يجعل منه معتزلياً وليجعل من الثورة كلها بعد ذاك ثورة معتزلية، برغم ما بين القدرية وبين المعتزلية من اختلاف، لا يقلل من شأنه اتفاقهم في القول

____________________

(١) المعتزلة والثورة للدكتور محمد عمارة - نشر وتوزيع المكتبة العالمية ببغداد ط ثانية ١٩٨٤ ص٧١.

(٢) تأريخ الطبري ج٧ ص٢٧٠ والكامل لابن الأثير ج٤ ص٤٨٩.

(٣) ابن مسلم الدمشقي أبو مروان ثاني اثنين تكلما في القدر كان هو أو أبوه مولى لعثمان بن عفان عرضته مواقفه ضد الأمويين والكشف عن معايبهم الى غضب السلطة الأموية ثم انتهى الأمر بقتله بأمر هشام بن عبد الملك بعد سنة ١٠٥.

١٠٩

بالقدر، وهو أمر لا يختص به المعتزلة وحدهم ولا يقتصر عليهم، بل يشاركهم فيه عدد كبير من المسلمين، دون أن يكونوا لذلك معتزلة.

ومع ذاك فيبدو ان الدكتور قد اقتصر على هذا الوصف الذي وجد فيه طلبه كما تصور، فلم يقرأ ما قبله ولا ما بعده مما وصف به منصور، أو أنه قرأه ولم يجده كما أراد فتركه.

وسأكمل أنا ما أغفله الدكتور مما لا يسره من منصور فقد جاء في ص٢٧٠ من الجزء السابع من تأريخ الطبري ( كان منصور بن جمهور إعرابيا جافا غيلانيا، ولم يكن من أهل الدين وانما صار مع يزيد - يقصد الخليفة الأموي يزيد بن الوليد - لرأيه في الغيلانية، وحمية لقتل خالد - ابن عبد الله القسري - ).

وفي ص٤٨٩ من الجزء الرابع من الكامل لابن الأثير ( ولم يكن منصور من أهل الدين وانما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية وحمية لقتل يوسف - يعني ابن عمر الثقفي والي الكوفة - خالد القسري ) لأن منصورا وخالدا يمنيان كما هو معروف يجمعهما نسب واحد.

لكن هذا ليس كل شيء بالنسبة لمنصور فهذا الذي كان غيلانيا سابقا كما تقول المصادر، أو من أهل العدل والتوحيد - كما يريد الدكتور - قد ترك الغيلانية، وترك العدل والتوحيد، كما تقول نفس المصادر، ليتحول الى خارجي يقاتل في صفوف الخوارج تحت راية ( أمير المؤمنين ) الضحاك بن قيس الشيباني(١) أحد زعماء الخوارج ومن قواد ثوراتهم في ذلك العهد.

____________________

(١) ابن الحصين الشيباني من ذهل بن شيبان من زعماء الخوارج وشجعانهم تجاوز عدد جيشه مائة ألف مقاتل استولى على الكوفة وحاصر واسط واحتل الموصل فسار اليه مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين ودار بينهم قتال شديد انتهى بقتل الضحاك عام ١٢٨ أو سنة ١٢٩.

١١٠

وهو قد فعل ذلك دون أن يستأذن الدكتور عمارة، ودون أن يهتم بما سيعرض له من حرج وكان حريا به أن يفكر بهذا الذي عانى ما عانى ليجعل من ثورة عبد الله معتزلية بسبب وجوده فيها، ثم هو ينتقل فجأة الى معسكر الخوارج، فينسف كل ما بناه الدكتور وتعب فيه.

سيئة أخرى من سيئات منصور فماذا سيقول الدكتور عمارة الآن ؟! هل سيضيف الى خيمة العدل والتوحيد بضعة أمتار أخرى لتتسع للخوارج، بعد انتقال منصور الى صفوفهم ؟!

ثم أن قيام عبد الله بثورته قد حصل عام ١٢٧، وكانت المعتزلة قد تكاملت وبرزت كفرقة مستقلة قائمة بنفسها وكان ما هو معتزلي ينسب اليها ويسمى باسمها، دون حاجة لأي اسم آخر ويكفي أن الدكتور عمارة ذاته يسمي ثورة زيد، وهي قبل ثورة عبد الله بسنين، معتزلية لا غيلانية، ولا ثورة أهل العدل والتوحيد.

وهكذا ترك الدكتور كل قادة الثورة، وعلى رأسهم عبد الله نفسه، وكل أهدافها ومبادئها، وكل شعاراتها، فلم يعرهم ولم يعرها أية أهمية، ليتعلق بمنصور وحده، ويجعل من الثورة كلها، وكأنها من صنعه هو، ملغيا بجرأة لا يحسد عليها، أي دور لغيره من رجال الثورة والمشاركين فيها، ابتداء من عبد الله بن معاوية الذي تنعته المصادر بكل نعت إلا الاعتزال.

بل ما أظن المعتزلة يرضون بعبد الله أو يقبلونه بين صفوفهم مع اتهامه بأنه كان يدعي الألوهية والنبوة ويستحل الخمر والزنا واللواط وسائر المحرمات(١) وكان أهون ما اتهم به ما جاء على لسان أبي الفرج

____________________

(١) أنظر في ذلك مقالات الإسلاميين للأشعري ج١ ص٦٧ والفرق بين الفرق للبغدادي ص١٥٠ والملل والنحل للشهرستاني ج١ ص١٥١- ١٥٢ والفصل في الملل والأهواء والنحل لأبن حزم ج٥ ص٣٦ والحور العين لنشوان الحميري ص١٦٠ وخطط المقريزي ج٤ ص١٧٦ وقد فندنا هذه الاتهامات في كتابنا ( على هامش الفرق الإسلامية ) في بحث ( الجناحية ) فليراجع اليه من شاء.

١١١

من أنه (. لم يكن محمود المذهب في دينه وكان يرمى بالزندقة ويستولي عليه من يعرف ويشهر أمره فيها.)(١) وهم قد نفوا عنهم وتبرأوا ممن هو أخف جرما وأهون ذنبا منه في نظرهم، وما أحسبهم إلا غاضبين على الدكتور لمحاولته حشر اسمهم في ثورة عبد الله، ونسبتها اليهم.

ثم أن الذين ضمتهم ثورة عبد لله كانوا من مختلف القبائل والعصبيات والفرق والاتجاهات.

كان بينهم المضري والربعي واليمني كما كان بينهم الخارجي والزيدي والشامي والكوفي.

وكان بينهم الأموي كسليمان بن هشام بن عبد الملك وابان بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وعمرو بن سهل بن عبد العزيز بن مروان، والهاشمي كالسفاح والمنصور وعميهما عبد الله وعيسى ابني علي بن عبد الله بن عباس وقد أسر أولهما في آخر المعارك التي خاضها عبد الله.

ومن وجوه العرب وذوي البيوت كان هناك عدد غير قليل، منهم - الى جانب منصور بن جمهور الكلبي - عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب وعمر بن الغضبان بن القبعتري الشيباني واسماعيل ابن عبد الله القسري.

ولا يقل أي واحد من هؤلاء عن منصور نفوذا وتأثيرا، ان لم يفقه ويزد عليه فهل سنخلع على هذه الثورة اتجاهات ومذاهب كل هؤلاء فتكون خارجية معتزلية متزندقة زيدية أموية هاشمية، حسب اتجاهات ومذاهب المشاركين فيها، أم ان ذلك امتياز لمنصور وحده لا يسري على أحد ولا يشاركه فيه أحد.

____________________

(١) الأغاني ج١٢ ترجمة عبد الله بن معاوية ص٢٢٥.

١١٢

والآن أصبح واضحا كما أظن، كيف تحولت ثورة عبد الله الى ثورة معتزلية فمنصور بن جمهور الكلبي كان غيلانيا كما يقال، ولما كان غيلان يقول بالقدر، فمنصور إذن من القائلين بالقدر، ولأن المعتزلة يقولون بالقدر أيضا، فلا بد أن يكون منصور معتزليا، ولما كان منصور ممن بايع عبد الله بن معاوية، فلا بد أن يكون منصور معتزليا، ولما كان منصور ممن بايع عبد الله بن معاوية، فان الثورة التي قادها عبد الله قد تحولت الى ثورة للمعتزلة، فيها سلت سيوفهم وفي ساحاتها أريقت دماؤهم.

أرأيتم أقوى من هذا المنطق ومن هذه الحجة فيما يستند إليه مؤرخ، وهو يعالج قضايا التأريخ الإسلامي ويحكم فيها.

لقد تحصلت لدينا إذن ثلاث من ثورات المعتزلة في العراق وخراسان، لم يكن أحد يعرف عنها شيئا: الأولى لأن زيدا كان على علاقة بواصل، والثانية لأن قائدها هو ابن للأول، والثالثة لأن منصورا كان من بين الذين بايعوا عبد الله.

وهكذا فليكن التأريخ !!

ثورة زيد بن الوليد:

في حديثي عن ثورة زيد قلت: أنه لتحليل ثورة ما والكشف عن هويتها لا بد من الاستناد الى الحقائق الأساسية لها وإلا فأن الحديث عنها، مع تجاوز تلك الحقائق، سيكون من هذا اللغو الذي لا يراد به غير استعراض القدرة على الخداع والتضليل، وغير سرقة الوقت والجهد

وسأبدأ من بين تلك الحقائق بأول خطبة قالها يزيد بعد انتصار ثورته، وهي خطبة مهمة لأنها تمثل في رأيي ما يمكن أن نسميه بلغة العصر،

١١٣

بالقانون الأساسي للثورة أو دستورها الذي يحدد أهدافها ويكشف بالتالي عن هويتها.

فكيف كانت تلك الخطبة وما الذي تناولته من قضايا وأمور ؟

واليك نص الخطبة كما أوردها ابن قتيبة في عيون الأخبار ج٢ ص٢٤٨، والجاحظ في البيان والتبيين ج٢ ص١٤١ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ وخليفة بن خياط ط أولى - مطبعة الآداب - النجف ١٩٦٧ ج٢ ص٣٨٢ والطبري ج٧ أحداث سنة ١٢٦ ص٢٦٨ وابن الأثير بصورة موجزة في أحداث سنة ١٢٦ ص٤٨٧.

( أيها الناس، والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي اطراءُ نفسي، وأني لظَلُومٌ لها إن لم يرحمني الله، ولكن خرجت غضباً لله ودينه، داعياً الى الله والى سنّة نبيِّهِ، لمَا هُدمت معالم الهُدى، وأُطفئ نورُ أهلِ التقوى، وظهر الجبّار العنيد، المستحِلٌّ لكل حُرْمة، والراكبُ لكلِّ بِدْعة، الكافرُ بيوم الحساب، وإنه لابنُ عمِّي في النَّسَب وكفيئي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره وسألته ألا يكلني الى نفسي، ودعوت الى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهّر منه البلاد، بحَولِله وبقةتِه لا بحولي وقوّتي.

أيها الناس، إنَّ لكم عليّ ألا أضع حجراً على حجر، ولا لبنةً على لبنة، ولا أكْري نهراً، ولا أكنِزُ مالاً، ولا أُعطيه زوجاً ولا ولداً، ولا أنقُلُله من بلد الى بلد حتى أسُدَّ فقرَ ذلك البلد وخَصاصَة أهله، فإن فضَل فضلٌ نقلتُه الى البلد الذي يليه ولا أجمٍّركم في بعوثكم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا

١١٤

أُغلْقُ بابي دونكم فيأكل قويُّكم ضعيفكم، ولا أحمِلُ على أهل جِزيْتكم ما أُجليهم به عن بلادهم وأقطَعُ به نسلهم ولكن عليّ إدرارُ العطاء في كل سنة والرزق في كل شهر، حتى يستوي بكم الحال فيكون أفضلكم كأدناكم فإن أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكاتفة، وإن لم أفِ لكم [ فلكم ] أن تخلعوني * إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحداً [ يقوم مقامي ممن ] يُعرف بالصلاح يُعطيكم من نفسه مثل الذي أعطيتُكم فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من بايعه ودَخَل في طاعته.

أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم )

وقد آثرت أن أنقل الخطبة كاملة هنا دون الاكتفاء بإحالة القارئ عليها في مظانها من كتب التأريخ والأدب، لكي لا يساء النقل عنها وما يترتب على ذلك من تفسير أو استنتاج خاطئين.

فهل وجد القارئ في هذه الخطبة على طولها واختلاف القضايا التي تعرضت لها، ما يمكن أن يعد من مبادئ المعتزلة أو قريبا منها ؟

هل تحدث فيها يزيد عن العدل والتوحيد بمفهوم المعتزلة، أو عن مرتكب الكبيرة والمنزلة بين المنزلتين، أو الموقف من المتحاربين في الجمل وصفين ؟

ولنترك الخطبة ولنفتش في حقائق الثورة الأخرى عسى أن نجد فيها ما عجزت الخطبة أن تمدنا به مما يثبت اعتزالية الثورة.

١١٥

وسنأخذ الثوار قادة وغير قادة، ممن لهم دور في ثورة يزيد، فلعلنا نعثر عندهم أو عند بعضهم على ما يعزز رأي الدكتور عمارة، وينقض رأينا في هذه الثورة على الأقل.

وقبل أن أمضي في الحديث، أحب أن ألاحظ كما سبق أن لاحظت عند الحديث عن ثورة عبد الله بن معاوية، أن يزيد قام بثورته عام ١٢٦، وكانت المعتزلة قد ظهرت كفرقة، يعرف أفرادها باسمهم المعتزلي لا باسم آخر، إذ كان واصل قد أكمل بناء مذهبه قبل ذاك بزمن غير قصير(١) فهل كان بين الثوار أوبين قادتهم من قيل عنه أنه معتزلي ؟

إن جميع المصادر التي بين أيدينا لا تذكر واحدا فقط من هؤلاء، أطلق عليه اسم الاعتزال أو عرف به.

فمن أين تأتي للدكتور عمارة أن يسمي ثورة يزيد بأنها معتزلية ؟

ويبدو لي أن الدكتور، وقد قرر كما ذكرت، أن يجعل ثورات المسلمين كلها معتزلية، راح يلتمس كل الوسائل التي يظنها توصله الى هناك، وكانت تلك الوسائل بالنسبة لثورة يزيد ثلاث روايات وثلاثة أشخاص.

وسأبدأ بالروايات الثلاث، وهي لأبي بكر الخوارزمي وأبي القاسم البلخي وأبي الحسن المسعودي.

أما رواية الخوارزمي التي استشهد بها الدكتور لإثبات معتزلية الثورة فأقسم لو أنني مكانه، لما ذكرتها أبدا، ولتجنبت الإشارة إليها.

____________________

(١) توفي واصل عام ١٣١ أي بعد ثورة يزيد بخمس سنين وثورة عبد الله بأربع سنين وكان المعتزلة قد ظهروا كفرقة قبل ذاك بحوالي العشرين سنة إذا عرفنا أن وفات الحسن البصري كانت عام ١١٠ وان الخلاف بينه وبين واصل كان في حياته طبعا.

١١٦

فهي أن تضعف حجته فيما أراد إثباته، أقوى بكثير من أن تعزز حجته في ذلك.

وحتى لا أتهم باحتكار حرية الرأي، وحتى لا أصادر حرية القارئ في ابداء رأيه وأسلبه حقه في الحكم، فسأثبت نص الرواية التي تقول ( ليس من فرق الإسلام فرقة إلا وقد هبت لأهلها رويحة ودالت لهم دولة كما أتفق للمختار بن عبيد الله - يقصد ابن أبي عبيد - للكيسانية ويزيد بن الوليد للغيلانية وابراهيم بن عبد الله للزيدية والمأمون لسائر الشيعة والمعتصم والواثق للمعتزلة والمتوكل للنواصب والحشوية . )(١) .

فالخوارزمي يميز بما لا مزيد عليه من الوضوح، بين الغيلانية وبين المعتزلة، ويجعل كلا منهما فرقة مستقلة منفصلة، ولكل منهما خليفة يدعمها ويؤيدها: يزيد للغيلانية، والمعتصم والواثق للمعتزلة.

أهناك ما هو أبلغ وأوضح من قول الخوارزمي هذا، في نفي أية صلة ليزيد بالمعتزلة وللمعتزلة بيزيد، بل وفي نفي أية صلة للمعتزلة بالغيلانية وتأييد وجودهما كفرقتين مستقلتين وهو ما يؤكده بدوره أبو القاسم البلخي الذي استشهد به أيضا الدكتور عمارة ل- ( تعزيل ) ثورة يزيد.

يقول أبو القاسم بخصوص هذه الثورة ( وخرجت الغيلانية مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في سنة ست وعشرين ومائة . )(٢) .

فماذا كان يمنع البلخي من نسبة الخروج الى المعتزلة، لو كان المعتزلة هم الذين خرجوا فعلاً، أولو كان الغيلانية هم المعتزلة ؟

____________________

(١) المعتزلة والثورة ص٧٨.

(٢) المعتزلة والثورة ص٧٨ وهذا ما يؤكده أيضا نشوان بن سعيد الحميري في الحور العين حيث يقول في ص١٩٤ منه (.وهو الذي يقال له الناقص وخرجت معه الغيلانية ).

فصاحب الحور العين يغفل هو أيضا عند حديثه عن ثورة يزيد أي ذكر للمعتزلة ويقتصر على أصحاب غيلان ( الغيلانية ).

وما أظن الخوارزمي والبلخي والحميري كانوا يريدون وهم يتحدثون عن الغيلانية التي ثارت وناصرت يزيد بن الوليد، الغيلانية الإيمانية التي هي أقرب الى ما تبحثه كتب العقائد والمقالات، وإنما الغيلانية السياسية ورأسها غيلان الذي كان ينتقد علنا وبكل قوة جور الأمويين وظلمهم، داعيا الناس الى الثورة عليهم.

وقد انتهت حياته بصلبه بدمشق بأمر هشام بن عبد الملك.

١١٧

لقد كان البلخي وهو أ؛د كبار رجال المعتزلة أولى أن ينسب ذلك إليهم ويثبته، ولا يتركه لفرقة أخرى هي الغيلانية.

وتساءلت: أكان الدكتور باستشهاده بالخوارزمي والبلخي في الروايتين السابقتين، يريد أن ينفي علاقة المعتزلة بثورة يزيد أم يريد أن يثبت هذه العلاقة ؟!

بقي من الروايات الثلاث رواية المسعودي وهذا نصها ( وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع شائعة من المعتزلة وغيرهم من أهل داريا والمزة من غوطة دمشق على الوليد بن ييزد لما ظهر من فسقه وشمل الناس من جوره )(١) .

وأول ما نلاحظه أن المسعودي، وخلافا لغيره من المؤرخين، لم يعرض لثورة يزيد إلا في ثلاثة أسطر هي ما ذكرنا، وأنه من بين جميع المؤرخين أيضا الذي ذكر اسم المعتزلة في معرض كلامه عن تلك الثورة، فلا المؤرخون قبله ولا المؤرخون بعده، أوردوا اسم المعتزلة أو أشاروا إليهم فيها.

فهذا الطبري وقد تناول ثورة يزيد في كل تفاصيلها، لم يخصص للمعتزلة كلمة واحدة في حديثه الطويل عنها(٢) .

وهذا أبو الفرج، وقد بسط أخبار الثورة في أكثر من عشر صفحات كاملة من كتابه الأغاني، لم يذكر هو الآخر المعتزلة ولم يشر الى أية صلة لهم بها(٣) .

____________________

(١) مروج الذهب ج٣ ص٢٢٦.

(٢) الجزء السابع أحداث سنة ١٢٦ ص٢٣١ ومن هذه الصفحة تبدأ أخبار يزيد وثورته.

(٣) الأغاني طبعة دار الكتب ١٩٣٥ ج٧ ويبدأ حديث الثورة على الوليد بن يزيد من ص٧١ - ٨٣.

١١٨

ومثل الطبري وأبي الفرج فعل ابن الأثير واليعقوبي وخليفة بن خباط وابن أعثم الذين أغفلوا أي ذكر للمعتزلة في الثورة(١) .

فهل كان هؤلاء المؤرخون على اختلاف مذاهبهم وعصورهم، قد اتفقوا على انكار هذه الحقيقة التي لا تمس أصلا من أصول الدين، ولا قضية كبيرة من قضاياه، ليحمل سكوتهم عنها، محمل التعصب وتعمد الاغفال لها وللمشاركين فيها ؟!

ثم ما المقصود بعبارة المسعودي ( شائعة من المعتزلة ) فأنا لا أفهم ما تعنيه على وجه التحديد هذه العبارة أنا أفهم أن يقول ( مع المعتزلة ) أو ( مع المعتزلة وغيرهم ) أما ( شائعة من المعتزلة ) فقد تعذر علي معناها وأبهم فهل كان المسعودي يقصد أصلا الى الإبهام ويتعمده ؟!

ولكن ما لنا نتجنى على المسعودي ونستشهد المؤرخين فيما لم يرد إليه، فها هو في كتابه ( التنبيه والأشراف ) آخر كتبه كما أظن، ينفي بنفسه ما أورده عن المعتزلة، أو بالأحرى عن ( شائعتهم ) في مروج الذهب.

استمع إليه وهو يتحدث عن الوليد ين يزيد والثورة ضده فيطيل الحيدث ويعرض ويعرض لأسباب سقوطه قائلا (.وتتابعت من الوليد أفعال أنكرها الناس عليه فدب يزيد بن الوليد في الدعاء الى خلعه فأجابته اليمن بأسرها وعاضدوه ووثبوا معه على عامل الوليد بدمشق فأجابوه وبايعوا يزيد ثم ساروا الى الوليد وهو في الحصن المعروف بالبخراء مما يلي البر بين حمص ودمشق فقتلوه.)(٢) .

____________________

(١) الكامل لابن الأثير ج٤ حوادث سنة ١٢٦ ص٤٧٩ فما بعدها وتأريخ اليعقوبي مطبعة الغري في النجف ١٣٥٨ه- من ص٧١- ٧٥ ( أيام الوليد بن يزيد ) و ( أيام يزيد بن الوليد ) وتأريخ خليفة بن خياط ج٢ حوادث سنة ١٢٦ ص٣٨٠ وكتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي الطبعة الأولى دار الندوة الجديدة ببيروت ج٨ ص١٣٧ فما بعدها.

(٢) التنبيه والاشراف - دار الصاوي ١٩٣٨ أيام الوليد بن يزيد ص٢٨٠.

١١٩

فلو كان للمعتزلة دور في ثورة يزيد يعرفه المسعودي، أكان يزيد في الإشارة إليه حتى بعبارة كعبارته عن ( شائعة من المعتزلة ) التي استعملها في مروج الذهب.

لقد تحدث المسعودي عن اليمن التي أجابت يزيد بأسرها وعاضدته ووثبت معه في هذه الثورة وما كان ليغفل دور المعتزلة وهو القريب منهم فكرا وعقيدة، وقد أفاض في الحديث عن غيرهم، لو كان للمعتزلة دور أو بعض دور، ولما اكتفى بأن يشير إليه ب- ( شائعة ) في كتاب، ثم يهمل حتى هذه الشائعة في كتاب لاحق فلا يذكرها ولا يشير إليها.

وأخيرا فلا بد أن نلاحظ أن ( شائعة ) المسعودي - حتى مع التسليم باشتراكها في ثورة يزيد - لم تكن وحدها في تلك الثورة، كما يقرر المسعودي نفسه حين يقول (.مع شائعة من المعتزلة وغيرهم . .) وهذا يعني أن ليس للمعتزلة أو بالأحرى لشائعتهم دور متميز في ثورة يزيد يسمح للدكتور عمارة أن ينسب الثورة إليهم، ويجعلنا من صنعهم وحدهم.

وبعد حديث الروايات نأتي الى حديث الأشخاص الذين ذكرهم الدكتور وجعل منهم دليله الآخر على اعتزالية الثورة وهؤلاء هم ١- أبو وهب عبيد الله بن وهب الكلاعي ٢- هشام بن الغاز الجرشي ٣- منصور بن جمهور الكلبي(١) .

ثلاثة فقط ! وما أظن الدكتور إلا قد استفرغ الجهد في البحث والتفتيش، وما أظنه وجد غيرهم بعد البحث والتفتيش.

____________________

(٢) المعتزلة والثورة ص٧٨ أما بالنسبة لمنصور بن جمهور فيرد ذكره في ص٧٥ و ٧٩.

١٢٠