• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27384 / تحميل: 6343
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

الى هنا ينتهي نص الطبري للرواية الأولى.

وألاحظ ابتداء أن العبارة الأخيرة من النص ( مع سائر المعتزلة الذين كانوا معهم هنالك ) والتي تعلق بها الدكتور، ليس لها مكان في هذا النص، وأنها أقحمت فيه سهوا أو جهلا بعد ذاك، أو أن الطبري سمع شيئا فأثبته ولم يرد أن يتحمل تبعته، فأورده بصيغة التمريض ( ذكر ) دون أن يعزوه الى شخص أو أشخاص معروفين ممن ترد أسماؤهم في تأريخه ولو أراد غير ذلك، وكان متأكدا منه، لأسنده الى رواية أو رواته، كما هي عادته في تناوله للمسائل الأخرى.

وليس هذا تحكما في التأريخ ولا تعسفا في انتقاء ما أريد ورفض ما لا أريد مما ينقله الطبري، فالموضوع كما يقول الطبري نفسه، يتعلق باختيار أحد الهاشميين للخلافة ومبايعته، بعد ما اضطرب أمر بني أمية.

وأنا أفهم أن يشاور الهاشميون وأن يجتمعوا للنظر فيمن يولونه الخلافة بعد ما آذنت دولة الأمويين بالزوال فهم المعنيون الأساسيون بالأمر، والمرشح للخلافة سيكون من بينهم وواحدا منهم.

وهذا ما أشك فيه، وهو الأمر الطبيعي الذي يفعله الهاشميون وغير الهاشميون في مثل تلك الظروف لكن ما لا أشك فيه أيضا وما هو طبيعي أيضاً، أن هذا الاجتماع الذي يبايع فيه الهاشميون خليفة المستقبل، وهم ما يزالون تحت الحكم الأموي، لا بد أن يكون سريا جدا وخاصا جداً، يقتصر على عدد محدود من بين الهاشميين أنفسهم.

١٦١

فما الذي أقحم المعتزلة فيه جاء بهم من العراق لحضوره ؟ إذ لو حضوره، لوجب أن يحضره معهم أو قبلهم، عدد كبير من الهاشميين وأقاربهم وأنصارهم، بل لكان أولى أن يحضره هؤلاء الذين ثبتوا وقاتلوا فيما بعد مع محمد، حين لم يشارك ولم يقاتل معه واحد فقط من جميع المعتزلة.

لكن اجتماعاً يضم مثل هذا العدد من الهاشميين وغيرهم، وينعقد في مكة، أقدس وأهم مدينة لدى المسلمين، ويتناول خلع الخليفة القائم ومبايعته خليفة آخر، ويشارك فيه بين من يشارك، المعتزلة القادمون من بعيد، لا يؤمن أن تتسرب أخباره وتعرف، فلم تكن السلطة - رغم الضعف الذي انتابها - مغمضة العينين مستسلمة الى الحد الذي تجهل معه مثل هذا الاجتماع، وتجهل ما دار فيه، وليس هناك أخطر مما دار فيه.

ثم لماذا المخاطرة وقدوم المعتزلة من العراق، وفي آل محمد بن الحنفية الذين ( خرج الاعتزال من بينهم ) من يستطيع أن يحضر الاجتماع ممثلا المعتزلة وحضورهم - وهم العلويون الهاشميون - لن يثير انتباه أحد من رصد السلطة وعيونها، خلافاً للآخرين من المعتزلة القادمين من العراق.

على أن الطبري لم يخبرنا باسم واحد من هؤلاء المعتزلة الذين حضروا الاجتماع وبايعوا محمدا.

١٦٢

وأعود مرة أخرى للنص وأسأل، لماذا يصر محمد على أن يذكر المعتزلة ومبايعتهم، وهو يتحدث عن نقض المنصور لها ؟ أكان فيها ما يقوي دعواه ويجعلها أكثر قبولا لدى آله وأنصاره من أهل المدينة وقريش ومن قبائل العرب الأخرى ؟ وما نعرف فيهم من كان معتزلياً أو قريباً من المعتزلة أم كان فيها تزكية له ودعما لحجته أمام عدو المعتزلة وزعيم مدرسة الحديث مالك بن أنس ليفتي الناس بالتحلل من بيعتهم للمنصور والخروج مع محمد والالتحاق بثورته؟!

أظن ابن الأثير قد فطن لهذا أو لبعضه، فاستوقفه كما استوقفني وشك فيه كما شككت فيه، فأورد الرواية بصيغة مماثلة تقريبا لكن دون عبارة ( مع سائر المعتزلة . ) وأنا أنقلها لك كما وردت عنده أيضاً.

قال ابن الأثير ( وذكر ان محمدا بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد )(١) .

هذا هو نص ابن الأثير دون ذكر للمعتزلة وما ذاك إلا لأن ابن الأثير كما أتصور، قد استبعد أن يكون محمد ذكر المعتزلة أو أشار إليهم، فحذف العبارة الأخيرة من نص الطبري بعدما تبين له عدم صحتها.

وللاسباب نفسها كما أظن، أغفل المقريزي ذكر المعتزلة، مقتصرا على الهاشميين، وهو يتعرض لأمر البيعة في كتابه ( النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ) إذ يقول (.حتى أن أبا جعفر - يقصد المنصور طبعا - كان ممن بايع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن

____________________

(١) ابن الأثير ج٥ حوادث سنة ١٤٤ ص١٣٧.

١٦٣

علي ابن ابي طالب ليلة تشاور بنو هاشم فيمن يعقدون له الإمامة وذلك حين اضطربت أمور بني أمية.)(١) .

فهو لا يشير لغير بني هاشم ولا يتحدث إلا عنهم ولا يجعل الاجتماع إلا بينهم.

وقبل ابن الاثير وقبل المقريزي، هذا أبو الفرج وهو يعرض لنفس الموضوع نفسه ( مقاتل الطالبيين ) الذي خصصه، كما يظهر من اسمه لقتلاهم، واستقصى فيه أخبارهم، وقد أفاض في الحديث عن عبد الله بن الحسن وابنه محمد وثورته، ولم يترك شيئا يتصل بهما إلا ذكره وأتى عليه، وقد عرض للاجتماع المذكور في أربعة مواضع من كتابه، فهل أشار الى وجود المعتزلة في ذلك الاجتماع مع من حضره وشارك فيه ؟

لنستمع إليه في ص٢٠٥، ٢٠٦ بعد أن يذكر أسماء رواته ( أن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالابواء وفيهم إبراهيم - الإمام - بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأبو جعفر المنصور وصالح بن علي وعبد الله بن الحسن بن الحسن وابناه محمد وإبراهيم ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان.فبايعوا جميعا محمدا ومسحوا على يده.) ثم افترقوا ( ولم يجتمعوا بعدها ).

وفي ص٢٣٣ (.وبايعه - يعني محمد بن عبد الله - رجال من بني هاشم جميعا من آل أبي طالب وآل العباس وساير بني هاشم .

وفي ص٢٥٣ ( أن بني هاشم اجتمعوا فخطبهم عبد الله بن الحسن )

____________________

(١) النزاع والتخاصم فيما بين أمية وبني هاشم للمقريزي بتصحيح الشيخ محمود عرنوس ص٧٣.

١٦٤

وفي ص ٢٥٦ يكرر أبو الفرج ما سبق أن أورده في ٢٠٥ من حديث الاجتماع في الابواء والأشخاص الذين حضروه، بإضافة السفاح هنا ومبايعتهم جميعا لمحمد بن عبد الله، وأنهم لم يجتمعوا بعد هذا الاجتماع الى أيام مروان بن محمد(١) .

فهل رأيت أبا الفرج ذكر المعتزلة أو غير المعتزلة بكلمة، وهو يتناول في أكثر من موضع، الاجتماع الذي تمت فيه بيعة محمد بن عبد الله.

وهل تحدث في هذا الموضوع عن غير الهاشميين إجمالاً أو تفصيلاً، مضافا إليهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخو عبد الله بن الحسن لأمه.

ولكن ان شئت فسأخبرك بما ذكره أبو الفرج عن موقف المعتزلة، ممثلا بزعيمهم عمرو بن عبيد، من البيعة لمحمد ومن ثورته ( المعتزلية ) لا في هذا الاجتماع الذي لم يحضروه ولكن فيما بعد، حين دعا محمد عمرو بن عبيد للنهوض معه.

يقول أبو الفرج في ص٢٠٩ من مقاتل الطالبيين ( أن محمدا دعا عمرو بن عبيد فاعتل عليه.وكان أبو جعفر - المنصور - يشكر ذلك له وكان عمرو يقول لا أبايع رجلا حتى اختبر عدله ).

وهذا يثبت أن عمراً لم يحضر ذلك الاجتماع ولم يبايع محمد النفس الزكية فيه وأنه استمر على عدم مبايعته، حتى الوقت الذي بدأ فيه محمد يتهيأ للخروج ويدعو الناس للخروج معه.

____________________

(١) الابواء قرية قرب المدينة فيها قبر آمنة أم النبي محمد (ص) وبها كان اجتماع الهاشميين المشار إليه.

١٦٥

بل هو يثبت أن عمرا لم يكن يعرف محمداً، أو لم يكن يعرفه بما يسمح له أن يختبر عدالته، ويجيز مبايعته، ما لم نتهم عمرا بأنه كان كاذبا في ذلك، خوفا أو ملقا أو طمعا في المنصور، وحفاظاً على صلته به.

وعلى كل، فقد سارة علاقة عمرو قوية متينة بالسلطة العباسية وممثلها المنصور الذي بقي شاكراً له موقفه ذاك من محمد وعدم مبايعته له، طول حياته حتى روي أنه رثى عمرا بأبيات من الشعر عند وفاته.

فهل بعد هذا الوضوح من وضوح، وهل ترك عمرو نفسه مقالا لمن يريد أن يعتذر عنه أو يدعي بيعة له، أو موقفا الى جانب محمد وثورته ؟!

ولنترك ابن الاثير، ولنترك أبا الفرج، ولنعد الى نص الطبري ونفترض صحته، فهل زاد هذا النص على القول أن المعتزلة حضروا الاجتماع الذي تمت فيه بيعة محمد ولنقل أنهم بايعوه ولم يكتفوا بحضوره، فهل تعني البيعة بالضرورة - ومع التسليم بحصولها - الثبات عليها والثورة مع من تمت مبايعته عندما يعلن الثورة.

لقد سبقت الثورة محمد ثورات ما أكثرها، ولكن ما أكثر الذين نكثوا وغدروا ونقضوا بيعتهم فيها.

وفي ثورة محمد بالذات بايع المنصور نفسه أكثر من مرة فهل ألزمته بيعة بشيء ظ وهل حالت دون أن ينكثها بعدئذ، كما يذكر نص

١٦٦

فماذا يعني أن يبايع المعتزلة أو بعضهم محمدا ؟ إذ يبقى السؤال - حتى لو اضطررنا الى تصحيح النص، وقبلنا القول بمبايعتهم - هل وفى المعتزلة ببيعتهم تلك وثاروا مع محمد، حين ثار أم نكثوا وتخلفوا وغدروا ؟

أن المؤرخين لم يذكروا لنا اسم واحد من المعتزلة، ثار مع محمد أو قاتل الى جانبه والطبري نفسه صاحب النص، ورغم كل التفاصيل التي جاء بها عن الثورة، لم يورد أي دور للمعتزلة فيها، ولم يذكر شخصاً منهم قاتل في صفها أو كان له شأن في أحداثها، مع أن مشاركة واحد أو أثنين أو أكثر منهم، لا تعني أن الثورة قد تحولت الى ثورة للمعتزلة إذن لكان المحافظون من أصحاب مالك وأهل المدينة الذين خرجت الثورة من بين أظهرهم، أولى بالادعاء بها وأحرى أن تنسب إليهم.

ولن أعيد هنا ما سبق أن ذكرته عن آل محمد بن الحنفية، العلويين الهاشميين المعتزليين كما يقال، والذين لم يشترك أحد منهم في أي دور من أدوار ثورة محمد، ولم يرد لهم ذكر فيها، ابتداء من الاجتماع والبيعة، وانتهاء بإعلان الثورة، لا كعلويين ولا كهاشميين ولا كمعتزلة.

وإذا كان الطبري يتحدث عن حضور اجتماع أو بيعة فقط دون مشاركة وإذا كان ابن الأثير لا يتحدث عن اجتماع ولا بيعة ولا مشاركة وإذا كان أبو الفرج يتحدث عن رفض للبيعة ورفض للمشاركة.

إذا كان هؤلاء المؤرخون يغفلون الإشارة لأي دور للمعتزلة في ثورة محمد، ولا يتحدثون عن أي نشاط لهم فيها فهل لدى المؤرخين

١٦٧

الآخرين شيء ينافي أو يختلف عما ورد عند أولئك أوي ثبت أي دور أو نشاط للمعتزلة في هذه الثورة ؟

سأختار للإجابة على هذا التساؤل اثنين من مؤرخي المعتزلة المعروفين: المسعودي وابن أبي الحديد وكلاهما لم يتركا موقفا ينسب فيه للمعتزلة ما يستحق الذكر والإشادة، إلا أتيا عليه تفصيلاً فماذا لديهما عن مشاركة المعتزلة في ثورة محمد ؟

أن أيا منهما لم يتطرق للمعتزلة ولم يعرض لهم ولم يشر لأي دور لهم في ثورة محمد، مع أننا رأينا المسعودي يتحدث عن ( شائعة من المعتزلة )(١) ليثبت لهم دورا في ثورة يزيد بن الوليد التي سبق الحديث عنها، وسنراه يتحدث عن انضمام ( جماعة ممن يذهب الى القول البغداديين من المعتزلة ) بهذا التحديد الدقيق لهويتهم، وذلك عند الكلام عن ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد، والمقتول في باخمرى بعده(٢) .

فالمسعودي الذي لم يفته وهو يتابع نشاط المعتزلة، أن يذكر ( الشائعة ) منهم، وأن يحدد بكل دقة، هوية الذين يدعي مشاركتهم في ثورة إبراهيم فيصفهم بأنهم ( ممن يذهب الى قول البغداديين من المعتزلة ) وليس عموم المعتزلة.

هذا المسعودي، لا يمكن أن يسكت ويتغاضى عن أي دور مهما كان، لو كان لهم فعلا دور في ثورة محمد، ولكان أحرص من الطبري، في

____________________

(١) مروج الذهب ج٣ ص٢٢٦ وقد سبقت الإشارة إليها.

(٢) مروج الذهب ج٣ ص٢٩٦ وما أظن المسعودي كان مصيبا في قوله هذا فالمعروف أن الاعتزال لم ينشأ في بغداد ولم تؤسس مدرسة المعتزلة فيها إلا من قبل بشر ابن المعتمر الذي توفي عام ٢١٠ ه- بعد مقتل ابراهيم وفشل ثورته بخمسة

وستين عاما ولم تكن بعد قد نشأت مدرسة المعتزلة ولم يكن هناك بعد من ( يذهب الى قول البغداديين من المعتزلة ) كما يقول المسعودي.

١٦٨

إثباته وإظهاره بما هو أقوى من هذه العبارة، وبما يتناسب مع اتجاه المسعودي في إيراد كل ما من شأنه أن يبرز نشاط المعتزلة، إذا وجد لهم شيئاً من نشاط في أية ثورة يعرض لها ويكتب عنها.

وبعد فهل أمامي كما ترى أكثر من أحد خيارين: أن أصدق نص الطبري وأتهم المعتزلة بترك محمد ونقض بيعته والتخلي عن ثورته، لأن أحداً منهم - وهو ما أجمع عليه المؤرخون معتزلة وغير معتزلة - لم يشارك ولم يقاتل فيها، أو - وهذا هو الخيار الثاني - القول بأن ما تضمنه النص من مبايعة المعتزلة لمحمد قد دخل أو أدخل سهواً أو عمداً.

وأنتقل الى الرواية الثانية للطبري عن صالح صاحب المصلى وإليك ما يخص الموضوع من نصها ( قال فكان شدة هرب محمد من أبي جعفر أن أبا جعفر كان عقد له بمكة في أناس من المعتزلة )(١)

ولن أطيل الوقوف عند هذه الرواية ولا الحديث عنها، ولن أحتاج إليه، فما قلته عن الرواية السابقة يصدق هنا أيضاً، ويضاف إليه، أن رواية صاحب المصلى هذه تبدو متعارضة، حتى مع رواية الطبري السابقة والتي رفضنا الأخذ بها بعدما تبين ضعفها وتهافتها ذلك أن الرواية الجديدة تقتصر في حديثها، عن البيعة والمبايعة، كما يظهر من النص، على المنصور والمعتزلة وحدهما، مغفلة بشكل كامل ذكر الهاشميين المعنين طبعاً، أكثر من المعتزلة وغير المعتزلة، بأمر البيعة، والذين أعطتهم الرواية السابقة - على مآخذنا عليها - الصدارة في نصها.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج٧ ص٥٢٤.

١٦٩

وأجدني قد انتهيت مرة أخرى الى عمرو بن عبيد الذي كان قد توفى عام ١٤٤ أي قبل عام من ثورة محمد.

وسأترك الحديث عن دوره في الثورة نفسها لكي لا يقول قائل: وكيف يكون لعمرو دور فيها، وهو قد توفي قبلها بعام ؟ سأقتصر إذن في حديثي على الفترة التي تمتد من التأريخ الذي تمت فيه بيعة محمد وحتى موت عمرو ١٤٤، وهي قد بلغت أو قاربت العشرين عاما.

وسأفترض، كما أسلفت، أن عمرا كان من بين الذين حضروا اجتماع البيعة، ومن بين الذين بايعوا فيمن حضروا وبايعوا من المعتزلة، إذا صححت رواية الطبري وذهبت معه الى حضور المعتزلة الاجتماع المذكور ومبايعتهم محمدا فيه.

لكن هذا الافتراض سيلقي على شيخ المعتزلة مسؤولية أخرى قبل محمد وثورته، لا بوصفه ذاك، بل لسبق بيعته التي توجب عليه الالتزام والوفاء لصاحبها، والقيام معه حين يقوم والدعوة له قبل أن يقوم.

فماذا كان موقف عمرو من محمد ومن نشاطه طوال تلك الفترة، وهو يدعو ويحضر ويتهيأ للثورة ؟ أي دور كان لعمرو في دعم محمد وتأييده وحشد الناس حوله ؟

لا شيء على الإطلاق.

ذلك هو عمرو بن عبيد الذي لم يشارك في أي من الثورات التي تحدثنا عنها: لم يشارك في ثورة زيد ولا في ثورة ابنه يحيى، ولم يشارك

١٧٠

في ثورة عبد الله ولا في ثورة يزيد ولا في ثورة الحارث، مع أنه عاصرها كلها فموقفه من الثورات إذن ورفض تأييدها والمشاركة فيها، هو سلوك عام له، لا موقف منفرد يتعلق بثورة بعينها.

ولست في معرض الهزل فأزعم - كما يريد المعتذرون عنه من أنصار المعتزلة - أنه أمضى الشهور الطوال وهوي تهيأ للانضمام لهذه الثورة أو تلك فذلك ما لا سبيل الى ادعائه ولا يقول به إلا من كان عنده الدفاع عن عمرو، أولى من الدفاع عن العقل الذي آمن به المعتزلة أنفسهم وجعلوه إماما ورائدا لهم.

ولكن مالنا ولأنصار عمرو وللمعتذرين عنه، وعمرو نفسه يؤكد هذا السلوك في أكثر من مناسبة فيروي قاضي القضاة المعتزلي في ص٢٣٦ من كتابه ( فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ) أن عمراً رد على الزعفراني حين هاجمه هذا، متهما إياه بالجبن فقال ( ويحك هل الجند أشد من جندهم ورجالي من رجالهم أما رأيت صنيعهم بفلان وخذلانهم لفلان.).

وأحسبك تسأل معي وهل خلت ثورة من المخاطر التي يتكلم عنها عمرو ؟ وماذا تكون الثورة غير هذا ؟ أن بين الثورة وبين الفشل صلة ليس أقوى منها ما بين الثورة وبين النجاح فكلام عمرو هنا هو كلام تاجر لا يعطي إلا بضمان، لا كلام مجاهد ذي فكر وعقيدة ولو أخذ به الثائرون لما قامت ثورة على الإطلاق.

١٧١

وليس هذا ظلماً لعمرو ولا تجنبا عليه، ولا يمكن الاعتذار عنه بأنه كان يحاول أن يوفر للثورة التي يشارك فيها أسباب النجاح قبل إعلانها، حتى لا تكون مغامرة قد تضر أكثر مما تنفع.

كان من الممكن أن نعتذر لعمرو بهذا ونصحح موقفه لو اقتصر على ثورة بذاتها أو ثورتين لكن ما كان منه هو سلوك وموقف ثابت كما قلنا.

اسمع الى رأيه في الثورة وحمل السلاح عموما، وقد سأله المنصور كالمستثبت من موقفه، بعد ما بلغه أن محمدا كتب إليه ( أو لست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف الينا وإني لا أراه )(١) .

فهو ينكر السيف وينكر الثورة، لا محتجا بظرف ولا مشترطا شرطا ينكرهما ضد أي سلطة وفي أي ظرف وهو يذكر المنصور برأيه أو مذهبه هذا الذي لم يتغير، محاولاً أن يطمئنه وأن يدفع عن نفسه في ذات الوقت ما يعتبره تهمة يجب نفيها وتفنيدها، وهي الاتصال بمحمد أو تأييده.

وقد تركه المنصور بعد أن اطمأن الى ( صدقه ) فيما ذكر، والى بقائه على الولاء للسلطة وللمنصور.

بل اسمع رأي المنصور نفسه في عمرو بن عبيد وموقفه من الثورة والثوار، وهو يقول ( ما خرجت المعتزلة حتى مات عمرو بن عبيد )(٢) .

____________________

(١) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص٢٣٣ وأمالي المرتضى ج١ ص١٧٥ وتأريخ بغداد ج١٢ ص١٦٩.

(٢) مقالات البلخي ص١١٠ والحور العين ص٢١٠.

١٧٢

وكل هذا، ان كان يعزز رأينا في عمرو بن عبيد من الثورة، فهو يعزز رأينا كذلك في موقف المعتزلة عموما، وعدم اشتراكهم في أية ثورة من الثورات التي سبق الحديث عنها.

وذا كنت قد أطلت القول في عمرو، فما ذاك إلا لأنه كان يصور دائما على خلاف حقيقته وإلا لأنه كان يبدو في هذه الصورة، وبتزوير غريب، وكأنه لا يغمد سيفه بعد ثورة إلا ليجرده في ثورة أخرى.

فالذين يتحدثون عن نشاط المعتزلة السياسي، يربطونه بعمرو أكثر مما يربطونه بغيره من زعمائهم.

على أن من العدل ألا نتهم عمرا وحده بهذا الموقف السلبي من الثورات ومن مهادنة السلطة فما يقال عن عمرو يقال وبالدرجة نفسها من الصدق عن الزعيم الآخر للمعتزلة: واصل بن عطاء، الذي لم يكن موقفه لختلف في قليل أو كثير عن موقف صاحبه الذي عرفنا.

وبعد فتلك ست من أهم ثورات المسلمين التي عاصرها المعتزلة - دون التعرض للثورة العباسية - وتلك كانت مواقفهم منها، أو بالأحرى موقفهم منها إذ ليس للمعتزلة مواقف مختلفة من الثورات وإنما هو موقف واحد ثابت لم يتغير ولم يتبدل، بدأ مع واصل وعمرو واستمر بعد واصل ثم استمر بعد عمرو وهو موقف لم يبلغ في وصفه ووصف ( سلميته ) - إذا جاز التعبير - ما بلغه واحد من أكابر زعمائهم هو أبو

١٧٣

القاسم البلخي(١) حين يقول ( لم تخرج المعتزلة قبل إبراهيم - يعني أخا محمد الذي ثار بعده وقتل في باخمرى - ولا بعده )(٢) .

أي أنها لم تشارك من بين جميع الثورات التي حصلت، على كثرتها، إلا في ثورة إبراهيم، إذا قبلنا ما قاله البلخي عن مشاركة للمعتزلة فيها.

وما أظن من حق أحد أن يدعي الغيرة على المعتزلة والانتصاف لهم ممن ( ظلمهم ) وأنكر عليهم ( دورهم ) في ثورات عصرهم بعد هذه الشهادة تصدر من زعيم كبير من زعمائهم !!

وأصل أخيرا الى الثورة العباسية، أكبر الأحداث السياسية وأضخمها وأعظمها أثرا في ذلك العهد وسيكون حديثي عنها وعن أثر المعتزلة فيها في غاية الاختصار، ربما لن يتجاوز الأسطر على رغم ضخامة الحدث كما قلت.

لقد اضطررت الى شيء من الإسهاب عند الحديث عن الثورات السابقة، لأن هناك من يدعي أو يتوهم أنه كان للمعتزلة دور فيها، فاقتضاني تصحيح هذا الإدعاء، التعرض لبعض الحجج التي يدلي بها أصحاب ( الدور ) ونقضها والرد عليها.

وليس في الثورة العباسية - وأشخاصها وأحداثها معروفة - من يدعي للمعتزلة يدا فيها أو مشاركة في أحداثها، أو دوراً كبيراً أو صغيراً في قيامها.

____________________

(١) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي من كبار معتزلة بغداد ومن الطبقة الثامنة من طبقاتهم توفي ٣١٩ أخذ عن أبي الحسين الخياط ويقول عنه ابن المرتضى في ( طبقات المعتزلة ) ( رئيس نبيل غزير العلم بالكلام والفقه وعلم الأدب واسع المعرفة في مذاهب الناس . ).

(٢) مقالات البلخي ص١١٠.

١٧٤

فلماذا الحديث إذن عنها والأمر كما قلت لماذا الوقت والجهد في نفي دور لم ينسبه أحد للمعتزلة، ولم يضفه أحد إليهم في هذه الثورة.

الحق ان نفي دور المعتزلة في الثورة العباسية وعدم إسهامهم فيها، يشكل في نظري دليلاً قوياً على نفي ما أضيف إليهم في الثورات الأخرى فإذا كان المعتزلة كما يزعم البعض، قد ثاروا أو ساهموا أو دعموا تلك الثورات التي قامت، والسطة الأموية ما تزال قادرة على أن تعاقب وتبطش وتردع، ولها من القوة والأنصار والأعوان ما تستطيع أن تضرب به وتقمع أية حركة أو ثورة تقوم ضدها، ولم تبلغ بعد الانحلال والضعف الذي بلغته حين بدأت دعوة العباسيين تدخل مراحلها النهائية والحاسمة، وحين بدا واضحا عجز الأمويين عن دفعها والقضاء عليها أو الصمود أمامها ألا يفترض أن يكون المعتزلة أسرع الى المشاركة في الثورة العباسية ودعمها وتأييدها والانضمام إليها والمساهمة بدور واضح في أحداثها، وقد استغرق التحضير لهذه الثورة منذ كانت مجرد دعوة وحتى اندلاعها، السنين الأخيرة كلها من حياة الدولة الأموية ولم تتم بضربة مفاجئة يقوم بها واحد من ولاة الأقاليم أو قادة الجيش أين كان المعتزلة طيلة تلك الفترة، وأين دورهم فيها لو كان لهم دور أو نشاط سياسي، وكانوا فعلا ضد الحكم الأموي كما يدعي المدافعون عنهم ؟

١٧٥

أن أحدا منهم أو من غيرهم لم ينسب لهم دوراً أو نشاطا أو فعلا مهما كان في هذه الثورة فالذين قامت باسمهم معروفون، وقادتها وزعماؤها معروفون، ورجال دعوتها ونقباؤها معروفون، والمناطق التي انطلقت منها معروفة، والوقائع التي انتهت بقيامها وسقوط الدولة الأموية معروفة هي أيضاً.

وإذا لم يكن للمعتزلة أي دور وأي نشاط في الثورة العباسية، على ضخامتها ووضوح هويتها وكثرة المشاركين فيها، جماعات وأفراداً مع ما يقابل ذلك على الجانب الآخر من ضعف الحكم وتداعي السلطة وتواتر الدلائل على قرب انهيارها.

إذا لم يكن للمعتزلة دور في الثورة العباسية، وهذه ظروف قيامها أيمكن أن نتصور لهم دوراً في الثورات التي سبقتها، والظروف كلها مختلفة، والسلطة ما تزال بعد، تمتلك من وسائل الترغيب والترهيب ما تستطيع به أن تجهض أية ثورة، قبل قيامها، وتنتصر عليها بعد قيامها، بأدنى ثمن وأيسر وسيلة ؟ !

١٧٦

١٧٧

الجزء الثاني من الفصل الثالث

في أسباب الموقف المعتزلي

وهكذا نأتي على ثورات المسلمين، أو أهم ثوراتهم التي عاصرها المعتزلة وكان يمكن لهم دور فيها، كما كان لغيرهم وقد رأينا، لا متعصبين ولا متجنين، أنهم لم يشاركوا فيها بأية صورة من صور المشاركة: لم يسل لهم دم ولم يحاربوا سيفا ولم يطعنوا برمح.

وسأترك الثورات والمشاركة فيها والدم والسيف والرمح فإن ما يقابلها، لن يكون غير القتل في ساحة المعركة، أو القتل صبرا بعد المعركة وليس كل مهيأ لذاك ولكني سأقبل بما هو دون فهل سمعنا ان واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد، قد تعرض خلال حياته لسجن أو تعذيب أو اضطهاد أو تشريد أو أنه قاسى من جفوة السلطة أو عدم رضاها، وقد عاصر الأول منهما فترة طويلة من الحكم الأموي، فلم يمت إلا قبل سنة من سقوطه وطال عمر الثاني الى ما بعد قيام الحكم العباسي باثنتي عشرة سنة، معاصرا سلطتين متعاقبتين متعاديتين: الأموية والعباسية(١) .

وهل تعرض أحد من زعماء المعتزلة الآخرين لسجن أو تعذيب أو اضطهاد السلطة أو مارسوا السياسة، بما لا يرضيها ولا يتفق مع رغباتها.

____________________

(١) كانت وفاة واصل عام ١٣١ ووفاة عمرو سنة ١٤٤ وكان قيام الدولة العباسية سنة ١٣٢.

١٧٨

لقد قتل معبد الجهني، وقتل غيلان الدمشقي، وهما من أوائل القائلين بالقدر وبهذا ( القدر ) يلتقون مع المعتزلة، أو بالأحرى يلتقي المعتزلة معهم.

قتل معبد لأنه اشتراك في ثورة ابن الأشعث(١) وقتل غيلان لأنه تجرأ فرفع الصوت احتاجا على الأمويين واستنكارا لظلمهم.

وقتل جهم بن صفوان، وهو أشهر من قال بالجبر ونفي القدر، بعد أسرة في ثورة الحارث بن سريج ضد الحكم الأموي.

قتل القائل بحرية إرادة الإنسان واختياره لأفعاله وقتل القائل بانعدام حرية الإنسان واضطراره لأفعاله.

قتل الاثنان لأنهما وقفا في وجه السلطة ن وعارضاها وأنكرا عليها وثارا ضدها.

وما كان القول بالقدر، ولا القول بعكسه، وراء قتلهما ولو كان لأخطأ القتل أحدهما حتماً.

قتلا لأنهما ثارا ضد السلطة، وكان واصل وعمرو يعيشان في سلام وهدوء في ظل هذه السلطة، لم يقلقهما أحد ولم يضايقهما أحد ولم يسبب لهما القول بالقدر ما يكدر صفو حياتهما، أو يعرضهما لغضب الحكم والحاكمين.

وأراني بلغت الجزء الثاني من هذا الفصل الأخير وهو المتعلق بأسباب الموقف المعتزلي، ومحاولة تفسيره، بعد أن عرضت في جزئه

____________________

(١) عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ثار ضد عبد الملك بن مروان عام ٨١ ونشبت بينه وبين جيش الأمويين بأمرة الحجاج معارك طويلة منها موقعة دير الجماجم ثم موقعة مسكن التي انتهت بهزيمته عام ٨٣ ولجوئه الى رتبيل كبير الترك لكن هذا قتله وبعث برأسه الى الحجاج عام ٨٥.

١٧٩

الأول، صورة هذا الموقف عند الكلام على الأحداث السياسية أو أهمها التي عاصرها المعتزلة.

كيف نفسر ضعف الجانب السياسي أو انعدامه - إذا شئت الدقة - لدى المعتزلة ؟

يبدو لي على خلاف الخوارج الذين خرجوا من قلب المعركة، وسلاحهم بأيديهم.

وعلى خلاف الشيعة الذين خاضوا المعركة المعركة مع أئمتهم، أو ثأروا لأئمتهم بعد استشهادهم.

على خلاف أولئك وهؤلاء كانت نشأة المعتزلة هادئة مسالمة بعيدة عن السياسة، بعيدة عن الدم والسيف ولهيب المعركة.

لقد كانت نشأة المعتزلة وليدة تطور سلمي طويل، أشرنا إليه عند الحديث عن تسميتهم فهم لم ينشؤوا في الأصل كمذهب سياسي ولم يمارسوا السياسة بعد نشأتهم، ولم يقتربوا منها ولو فعلوا لخالفوا مذهبهم وخرجوا عليه.

نشؤوا كمدرسة كلامية، تخوض في مسائل الإيمان وتقصر نشاطها عليه.

هذه كانت نشأتهم بأي الآراء أخذت: برأي من قال أنهم لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا ( نشتغل بالعلم والعبادة ) أو برأي من جعلهم امتدادا للمعتزلين السابقين الذين كسروا سيوفهم واعتزلوا الصراع، أو من قال باعتزال مجلس الحسن البصري، أو اعتزال أقوال الأمة في مرتكب

١٨٠