• البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27322 / تحميل: 6337
الحجم الحجم الحجم
تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

تاريخ جديد للتأريخ المعتزلة بين الحقيقة والوهم

مؤلف:
العربية

فيه وأخذوا بالمجمع عليه في تسمية مرتكب الكبيرة، دون أي ذكر أو حديث عن فئتي الضلالة.

وابن منظور بعد، متأخر من حيث الزمان فقد عاش بين القرنين السابع والثامن الهجري، فهو لم يتصل بالأحداث من طريق مباشر ولا من طريق قريب كالذين سبقوه، في ما يخص المادة التاريخية التي تضمنها كتابه.

كما ألاحظ أيضا أن ابن منظور قد ساق عبارته بصيغة ضعيفة كأنه لا يريد أن يحمل عليه ما يقوله هؤلاء الذين ( يلقبون ) المعتزلة والذين زعموا.

يضاف إلى كل ذلك، أن ابن منظور يتحدث عن موقف سياسي بين أهل السنة وبين الخوارج ويربط تسمية المعتزلة به كما يبدو من عبارته.

( ففي الضلالة.والذي يستعرضون الناس قتلاً ) فاستشهاد نللينو به، بعد ما ربط الاعتزال بسبب ديني يخص الخلاف في قضية مرتكب الكبيرة الدينية، هو استشهاد غير موفق ولا مقبول.

ويستمر نللينو مضيفاً ( ثم ان قول المسعودي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني والسياسي الذي وقفه واصل بن عطاء بازاء من اشتركوا في الحروب الدينية في القرن الأول بين أنصار علي وأنصار عثمان.الخ ).

ونعود مضطرين إلى النقطة التي انتهينا منها ونسأل مرة أخرى، ما هو قول المسعودي، هذا الذي يؤيده ما يرويه الرواة حول الموقف الديني

٤١

والسياسي الذي وقفه واصل ؟ ان المسعودي كما رأينا لم يقل في فقرتيه شيئا يتصل بالموقف السياسي لواصل ولم يعرض له، وإنما تحدث عن الفاسق الذي هو في منزلة بين المنزلتين والذي سميت به المعتزلة، كما تحدث الكثيرون غيره قبله وبعده.

ويمضي نللينو قائلا ( ويؤيد هذا كله ما كان بين نشأة الاعتزال وبين الأحزاب السياسية في العصر الأموي من صلة وثيقة ).

فهل قامت فرقة أو مذهب من فراغ أو عدم ؟ وهل نشأ حزب، وهو مقطوع الصلة بأحداث وأفكار عصره تأييداً أو رفضاً، اتفاقاً أو اختلافاً ؟! هل حدثنا التاريخ عن حركة من هذا النوع، بل هل يمكن أن تقوم ؟ ولنأخذ الحركات والفرق والمذاهب الإسلامية فهل شذت حركة أو فرقة أو مذهب عن هذه القاعدة ؟ هل كان الشيعة سيوجدون لو لا علي وأفضليته عندهم وخلافه مع من خالفه ؟ وهل خرج الخوارج لولا القتال وصفين والتحكيم ؟! فأين اختصاص المعتزلة في أن تكون نشأتهم ذات صلة وثيقة بالأحزاب السياسية في العصر الأموي ؟!

أما إذا كان يقصد ب- ( الصلة الوثيقة ) قوة الرابطة وحسن العلاقة التي كانت تشد المعتزلة إلى الحركات والأحزاب السياسية في عصرهم فهذا هو الخطأ الكبير الذي أوقع نللينو نفسه فيه، فإذا كان المعتزلة على خلاف مع الشيعة، بسبب موقفهم من علي أو من إمامته وهو أمر معروف، وعلى خلاف مع أهل السنة والخوارج، كما هو قول نللينو نفسه، الذي مر بنا قبل

٤٢

قليل فماذا بقي من الحركات والأحزاب السياسية التي كان المعتزلة على ( صلة وثيقة ) بهم ؟!

لعلي أرهقتك بطول الحديث عن بحث نللينو، وأحسبك ضقت به كما ضقت به أنا قبلك، ولكن ماذا أعمل إذا كان نللينو لا يريد ان يتركني ويتركك أنظر إليه وهو يحاول إثبات أن المعتزلة الكلاميين يمثلون امتداداً للمعتزلة السياسيين السابقين، كيف يطوف على المؤلفين ابتداءً من الطبري وانتهاء بابي الفداء، مستعرضا بعض الذين اعتزلوا الصراع بين علي وبين خصومه ولا ينسى أن يمر بمحمد بن عبد الله النفس الزكية لينتهي إلى القول ( فعندما إذن الدليل الحاسم على لفظ ( معتزل ) بهذا المعنى السياسي طوال هذا الزمن الذي عاش فيه مؤسسا مذهب المعتزلة).

هل تستطيع وأنت تقرأ هذا دون أن تتساءل كما تساءلت، وماذا في أن يكون الاعتزال بمعناه السياسي قد عرف في زمان واصل وعمرو، وهو لا بد أن يكون معروفا في زمانهما، وقد جرت الأحداث التي دفعت إليه في فترة ليست بعيدة عنهما ؟! أية قرينة في ذاك، وأي دليل على صلة المعتزلة الكلاميين بالمعتزلة السياسيين ؟ وهل كان نللينو في حاجة إلى كل هذا، ليثبت ما لم ينكره أحد ولم يشك فيه أحد، وهو أن الاعتزال بمعناه السياسي كان موجودا في زمان واصل وعمرو بن عبيد وقبلهما.

ولنترك هذا فما علاقة محمد النفس الزكية بالمعتزلة السياسيين ؟

أن ألا النفس الزكية لم ين طبعا من المعتزلة السياسيين، وهو قد عاش وقتل في القرن الثاني للهجرة، فهل يظن نللينو أن النفس الزكية كان

٤٣

في فكره واتجاهه السياسي والمذهبي، امتداداً لهؤلاء المعتزلة الذين أقل ما يوصفون به أنهم لم يكونوا من الذين يفضلون عليا أو يميلون إلى جانبه و إلا لما اعتزلوه في صراعه مع خصومه، وهو لم يقم بثورته ولم يتبعه التابعون فيها إلا على أساس حق أهل البيت من أبناء علي في خلافة المسلمين ورفع الظلم عنهم(١) .

أن المعتزلة الذين يرد ذكرهم في نص الطبري الذي استشهد به نللينو(٢) هم المعتزلة الكلاميين من أصحاب واصل بن عطاء، لا المعتزلة السياسيون لقد شارك أولئك كما يذكر الطبري في الاجتماع الذي تمت فيه بيعة النفس الزكية أواخر الحكم الأموي، وكان من بين المشاركين فيه أبو جعفر المنصور الذي ثار عليه محمد عام ١٤٥.

أما الذين اعتزلوا الصراع أو المعتزلة للقتال كما يسميهم الشريف المرتضى(٣) فلم يبق منهم أحد على عهد محمد ليبايع أو لينكث، ويكون موضع استشهاد محمد، فالاعتزال المشار إليه في نص الطبري لا يتضمن المعنى السياسي الذي تصوره نللينو وهو يكتب تاريخا لا يعرفه التاريخ.

٦ - رأي احمد أمين:

وللأستاذ احمد أمين رأي أو ( فرض ) في تسمية المعتزلة قال أنه لفته إليه ( ما قرأناه في خطط المقريزي(٤) من أن بين الفرق اليهودية ( التي كانت منتشرة في ذلك العهد وقبله ) الطائفة يقال لها، الفروشيم وقال أن معناها المعتزلة ( ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) وقد أكدت هذا المعنى المعاجم اللغوية الحديثة فقد

____________________

(١) ستأتي مناقشتنا لهذا النص في الفصل الثالث من الكتاب عند الحديث عن ثورة النفس الزكية.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن للمرتضى ط النجف ١٣٥٥ ج٢ ص٢٧.

(٣) تقي الدين احمد بن علي المقريزي مؤرخ الديار المصرية ولد في القاهرة ٧٦٦ وتوفي ٨٤٥، له مؤلفات كثيرة خصوصا في التاريخ منها ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ) المعروف بخطط المقريزي وهو الذي ينقل عنه هنا احمد أمين.

(٤) وضعنا كلام المقريزي بين قوسين مفردين تمييزا له عن كلام احمد أمين الذي جعلناه بين قوسين مزدوجين.

٤٤

ذكرت أن معنى اللفظ الفروشيم PHARISEES و SEPARATED و وهو ينطبق على المعنى الذي تؤديه كلمة معتزلة ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنهاكانت تتكلم بالقدر ليس كل الأفعال خلقها الله ) فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه في القول بالقدر ونحو ذلك ).

هذا هو نص ما ورد في ص ٣٤٤، ٣٤٥ من فجر الإسلام بعضه للمقريزي وبعضه لأحمد أمين(١) .

وهذا الرأي أو الفرض فيه من التكلف والضعف بقدر ما فيه من البعد عن الروح العلمي الرصين فلماذا يلجأ احمد أمين في التفتيش عن أسم المعتزلة إلى ( قوم ممن أسلم من اليهود لما رأوه بين الفرقتين من الشبه ) والاعتزال موجود كاسم وموجود كموقف ورأي قبل واصل مع المعتزلة السياسيين ومع واصل وعمرو في مرتكب الكبيرة والمعتزلة الكلاميين.

ثم أن اليهود كانوا يعيشون مع العرب منذ أقدم العهود، قبل الإسلام وبعده، يتكلمون لغتهم ويحيون حياتهم، فليست بهم حاجة لانتظار من يسلم منهم ليطلق هذه التسمية على المعتزلة أكان هناك ما يمنع اليهودي قبل إسلامه من الإطلاع على مذاهب المسلمين ومنها المعتزلة وإطلاق التسمية التي يراها أنسب وأكثر ملاءمة لما يعتقدون.

أما أن الفروشيم كانت تتكلم في القدر كما تكلمت المعتزلة وهو ما دعا أحمد أمين إلى رأيه أو فرضه فليس فيه - حتى مع التسليم بصحته - دليل على ما أراده منه إذ يكفي أن احمد أمين نفسه، وهو يمهد للحديث

____________________

(١) أبو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني من أبناء الفرس الذي بعث بهم كسرى الى اليمن لطرد الحبشة منها مؤرخ صاحب أخبار وقصص ومعرفة بأساطير الأولين سيما الإسرائيليات ولد في صنعاء عام ٣٤ وتوفي فيها عام ١١٠ أو ١١٤ أو بعدها.

٤٥

عن المعتزلة في الفصل الرابع المخصص لهم من فجر الإسلام يقول ( يدلنا تأريخ الفكر البشري على أن من أولى المسائل التي تعرض للعقل عندما يبدأ التعمق في البحث مسألة الجبر والاختيار.).

فإذا كانت التسمية قد جاءت من الشبه في أن المعتزلى تكلموا في القدر كما تكلم الفروشيم فإن الناس قبل الفروشيم وبعد المعتزلة لم يكفوا يوما عن الحديث في القدر، مذاهب وأشخاصاً وسيبقون كذلك ما بقي للإنسان نشاط أو ما بقي الإنسان.

ثم أن القول بالقدر والكلام فيه كان أسبق في الوجود من المعتزلة حتى بين المسلمين لقد تكلم في القدر قبلهم عدد كبير كانوا يعرفون بالقدرية ولم يعرفوا بغيره على خلاف المعتزلة الذين كانت بدايتهم مع المنزلة بين المنزلتين ومنها جاءت تسميتهم، أما القدر فقد تكلموا فيه كما تكلموا في غيره ولكن ليس على وجه الاختصاص إذ شاركهم فيه من لم يكن معتزليا ومن سبق الاعتزال في الوجود.

ونصل إلى ابن منبه الذي يريد احمد أمين أن يجد في ذكر اسمه من قبل المقريزي ما يؤيد رأيه فحتى لو وافقناه على انه وهب بن منبه(١) الذي كان ممن أسلم من يهود صنعاء فليس في ما أورده المقريزي عنه ما يعزز الرأي الذي يذهب إليه احمد أمين، بل على العكس، ما يهد هذا الرأي ويهدمه من أساسه فلنستمع إلى المقريزي وهو يقول ( قال ابن منبة: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن - يعني الحسن البصري - فسمعوا المعتزلة ) فهل في هذا غير ما يقوله غالبية الرواة المسلمين في

____________________

(١) سبق ان عرضنا لمواقف المسلمين واختلافها من مرتكب الكبيرة.

٤٦

تسمية المعتزلة كما مر بنا ؟ هل فيه ما يشير ولو من بعيد إلى سبب آخر للتسمية، سبب يتصل بالفروشيم و ( يقول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم ) ؟!

ثم ماذا تفهم من عبارة احمد أمين ( المعاجم اللغوية الحديثة ) الواردة في بداية هذا البحث ؟ فهل تعني ان المعاجم اللغوية القديمة - المعاصرة أو القريبة من الفروشيم، لم تكن تطلق على هذه الطائفة اسم المعتزلة ولم تعرفها به، وان المعاجم الحديثة - البعيدة عن عصرهم - وحدها هي التي ألصقت هذا الاسم وأضافته إليهم.

ولماذا هذا ( البعض ) في ( وذكر بعضهم عن هذه الفرقة أنها كانت تتكلم بالقدر.) ألم يكن هذا الذي تقول به في القدر معروفا عنها بما يكفي للاستغناء عن ( بعضهم ) ؟ أكان هناك بعض آخر ينكر أن تكون هذه الفرقة قد تكلمت بالقدر، كما كانت هناك معاجم لغوية حديثة ومعاجم أخرى قديمة ؟

ولنفترض أن طائفة ما غير الفروشيم قد سبقت إلى الكلام في القدر، ولم يعلم بها الأستاذ احمد أمين إلا متأخراً، أكان سيبدل رأيه في هذه الحالة ليجعل من تلك الطائفة أصلاً للمعتزلة، أم ستكون كل الطوائف التي سبقت إلى القول بالقدر أصلاً مشتركا للمعتزلة ؟!

يضاف إلى كل ما سبق، أننا لم نجد بين كتبوا عن المعتزلة، على كثرتهم قبل المقريزي وربما بعده، من ذكر هذه الصلة أو أشار إليها، خصوصاً من أعداء المعتزلة وما أكثرهم، وهو أمر لن يثير أقل من الشك.

٤٧

وبعد، فإن استخلاص رأي في قضية ما - ولتكن تسمية المعتزلة - لمجرد وجود تشابه في الاسم أو في الفعل، هو أمر بعيد عن الروح العلمي الذي حاول الأستاذ احمد أمين أن يكون مدافعاً عنه، وهو يكتب عن فكر المعتزلة فما أحراه ان يكون كذلك وهو يناقش تسميتهم.

٧ - رأي الدكتور نادر:

وأقف الآن عند الدكتور البير نصري نادر، فهو أيضاً له رأي في تسمية المعتزلة.

ولأنني أخذت نفسي بألا أتجنى على أحد، ولا أحكم على رأي قبل عرضه ومناقشته، فسأحاول أن أعرض رأي الدكتور في تسمية المعتزلة تمهيداً لمناقشته بعد ذاك، وسترى انه كبير جداً أن يسمي ما طرحه الدكتور نادر رأياً، فضلاً عن انه رأي يستحق المناقشة.

تعرض الدكتور لتسمية المعتزلة في كتابين من كتبه الأول هو ( فلسفة المعتزلة ) المطبوع ١٩٥٠، والثاني ( أهم الفرق الإسلامية السياسية والكلامية )١٩٦٦.

ففي الأول يقول الدكتور بالنص: ( بينما كانت مختلف الفرق الإسلامية يكفر بعضها البعض نجد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد رأسي المعتزلة يأتيان بحل جديد فيه الكثير من التسامح فقالا: أن المؤمن الذي يأتي بكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الكفر والإيمان ولما كان هذا الحل جديداً ولم يقبله الحسن البصري وبعض أتباعه انعزل واصل وعمرو بن عبيد عنهم ).

٤٨

وبدءاً ألاحظ أن وصف الدكتور لفكرة المنزلة بين المنزلتين بأنها ( حل فيه الكثير من التسامح )، هو وصف غير صحيح ولا يمكن الأخذ به على إطلاقه، فإذا كانت هذه المنزلة تمثل حلاً متسامحاً بالنسبة بالغ التشدد بالنسبة للمسلمين الآخرين الذين يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمنا وان فسق بكبيرته(١) .

فالحل الذي عرضه واصل بالنسبة لمرتكب الكبيرة، يختلف إذن باختلاف الطائفة أو الفرقة التي تريد أن تقارن قوله بقولها، لا كما توهم الدكتور نادر.

هذه هي الملاحظة الأولى، وما أظن الدكتور سيخالفني فيها، إلا أن ينكر ما أجمع عليه المسلمون في هذه القضية ولن يستطيع.

أما الثانية فان الدكتور كما هو واضح هنا يعتمد في تسمية المعتزلة، الرواية المشهورة القائمة على اعتزال مجلس الحسن البصري لكنه لم يكن دقيقا - ولا أريد أن أقول غير ذلك - في نقلها، فالرواية لا تجمع ابتداءاً بين واصل وعمرو في القول بالمنزلة بين المنزلتين ولا يترك مجلس الحسن أو الطرد منه وإنما تفردهما كما ذكرنا فهي أما أن تعزو ترك المجلس أو الطرد منه إلى واصل بعد مقالته في المنزلة بين المنزلتين وخروجه برأي مخالف في ذلك، ومن ثم لحاق عمرو وانضمامه إليه وأما أن تجعل المعتزل الأول عمرو بن عبيد وتنسب إليه ترك المجلس لكنها لا تجمع بينهما كما يظهر من الصيغة التي استعملها الدكتور نادر وفي جميع

____________________

(١) لم نجد من جمع بينهما من المؤلفين غير الرازي في كتابه ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) كما أشرنا الى ذلك في موضعه والرازي متأخر توفي عام ٦٠٦ وكتابه في غاية الاختصار ثم انه حين يعرض لفرق المعتزلة يقول عن - الواصلية منهم - اتباع واصل بن عطاء الغزال وهو أول من قال أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر . الخ ) وحين يصل الى الفرقة الثالثة - العمرية - يقول ( اتباع عمرو بن عبيد ومن قولهم ان شهادة طلحة والزبير غير مقبولة بوجه عام ) دون أية إشارة أو ذكر للمنزلة بين المنزلتين فهو يثبت القول بها لواصل وحده متابعا في ذلك الذين سبقوه من المؤلفين والكتاب في الفرق والمقالات.

٤٩

الأحوال فإنها لا تنسب القول في المنزلة بين المنزلتين إلا إلى أحد الرجلين واصل بن عطاء الذي تبعه فيه بعد ذاك عمرو بن عبيد(١) .

وإذا كان الدكتور يحاول أن يتلافى في ( أهم الفرق الإسلامية ) المآخذ التي رأيناها في ( فلسفة المعتزلة ) فيأتي بالرواية على وجه قريب من وجهها وبتشويه أقل فانه ما إن يخرج من النص مجتهداً رأيا في أمر مرتكب الكبيرة حتى يزل ويبعد عن الصواب ألا ترى إليه وهو يتحدث عن المعتزلة في كتابه ذاك كيف يقرر ( إن المقصود بالكبيرة هنا الخروج على الإمام ) فمن أين علم الدكتور أن المقصود بالكبيرة ( هنا ) هو الخروج على الإمام ولم يقل بذلك أحد من الذين عالجوا هذا الموضوع أو تعرضوا له ؟ لو كانت الكبيرة هنا تعني الخروج على الإمام بحسب رأي الدكتور لكانت قد أثيرت قبل زمن طويل حين خرج من خرج على عثمان، وحين خرج من خرج على علي، ومن خرج على من جاء بعدهما.

ثم من أين أتى الدكتور بما أضافه إلى واصل في قوله ( ولا بكافر ( تجب علينا مقاتله ) فأنا لم أعثر على هذه الإضافة فيما بين يدي من مصادر، وأظنها كالإضافة التي سبقتها، وهو يتحدث عن عدم قبول الحسن ( وبعض اتباعه ) للحل الذي طرحه واصل في المنزلة بين المنزلتين.

ان الدكتور نادر يجتهد حيث لا يجب، لكنه يخطئ حيث يجتهد وحيث لا يجتهد: في الرأي أو في النص.

____________________

(١) أبو الحسين عبد الرحيم بن عثمان الخياط من مشايخ المعتزلة وأستاذ أبي القاسم البلخي توفي في حدود ٣٠٠ ه- كان كما يقول صاحب طبقات المعتزلة فقيها صاحب حديث واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين من أشهر كتبه ( الانتصار ) في الرد على ابن الروندي المطبعة الكاثوليكية بيروت ١٩٥٧.

٥٠

٨ - رأي المعتزلة في تسميتهم:

كنا قد تناولنا فيما مضى آراء الكتاب والمؤرخين من غير المعتزلة في أصل تسميتهم، والآن أفلا يجدر بنا أن نقف قليلا لنسأل المعتزلة أنفسهم - أصحاب الشأن - عن منشأ تسميتهم فعل عندهم من ذلك علماً ؟

فماذا عند المعتزلة من تسميتهم ؟

على خلاف الرأي الذي سبق، من ربط التسمية باعتزال ما اتفقت عليه الأمة حاول المعتزلة من جانبهم - وكأنهم يعكسون ذلك الرأي - الأخذ بالنقيض حين جعلوا الاعتزال، اعتزالا لما اختلفت فيه الأمة في قضية مرتكب الكبيرة فالخياط(١) يقول في ص١١٨ من كتابه ( الانتصار ) ( إن واصل بن عطاءرحمه‌الله لم يحدث قولا لم تكن الأمة تقول به فيكون قد خرج من الإجماع ولكنه ويجد الأمة مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم فأخذ بما أجعمعوا عليه وأمسك عما اختلفوا فيه ).

وإلى هذا الرأي أيضا يذهب قاضي القضاة في شرح الأصول الخمسة وفي المنية والأمل والشريف المرتضى في الأمالي وابن المرتضى في طبقات المعتزلة وان كان الثلاثة الأخيرون يوردون هذا الرأي ضمن الآراء الأخرى التي أشرنا إليها آنفا(٢) .

وإذا كانت قد رفضت سابقا الرأي الذي يرد التسمية إلى اعتزال ما أجمعت عليه الأمة فإني أرفض وبنفس القوة ما يتعلق به المعتزلة من أن تسميتهم جاءت من اعتزالهم ما اختلفت فيه الأمة وأخذهم بالمجمع عليه وهو اسم الفاسق.

____________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص٧١٦ و ٧١٧ والمنية والأمل ص٤٠ وأمالي المرتضى ص١٦٦ وطبقات المعتزلة ص٣٨.

(٢) ولهذا لم نجد في أدبيات الخوارج أو في خطبهم ذكرا للفاسق إلا على سبيل الذم الذي يلحق سلوك الإنسان وسيرته وليس كمرتكب لمعصية معينة اسمها الكبيرة.

٥١

ولنلاحظ أولا أن الحديث عما اتفقت أو اختلفت فيه الأمة لا يتعلق باسم مرتكب الكبيرة فقط وكيف يجب أن يسمى ليصح للمعتزلة أن يحتجوا بوجود الإجماع عليه، سواء وجد هذا الإجماع فعلا أم لم يوجد، وإنما الخلاف أساسا في حكم مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة هل سيكون مثواه الجنة أم النار، وما هو العذاب الذي سيتعرض له وما هي مدته.

ولهذا فان البغدادي وغير البغدادي حين يقولون أن واصلاً قد خرج برأي في صاحب الكبيرة خالف فيه الإجماع لم يكونوا يقصدون اسم ( الفاسق ) الذي يتفق واصل في جزء منه مع عدد من الفرق الإسلامية، ومنها الفرقة التي ينتمي إليها البغدادي نفسه، لكنهم كانوا يقصدون بالدرجة الأولى الحكم الذي يترتب على ارتكاب الكبيرة فهذا هو الموضوع المهم الذي خالف فيه واصل آراء الفرق الأخرى قبله.

ولنعد إلى الاسم نفسه، فهل حقا أن الإجماع واقع على تسمية مرتكب الكبيرة بالفاسق، كما يدعي الخياط وغيره من المعتزلة ؟

أن المصادر في الفرق والمذاهب لا تؤيد ذلك، فالخوارج يسمون صاحب الكبيرة كافراً، والحسن وأصحابه يسمونه منافقاً، وليس بين أولئك وهؤلاء من يضيف اسم الفاسق إلى الإسم الذي اختاره لمرتكب الكبيرة.

أما الخوارج، فلأن المسافة بين الإيمان والكفر عندهم من القصر بحيث لا تحتمل محطة أخرى اسمها ( الفسق )، ينزل عندها صاحب الكبيرة ( الفاسق )، فهم لا يعرفون إلا المؤمن والكافر، وليس هناك وسط بين الأثنين يحتاجون معه إلى اسم آخر يكون علما عليه(١) بل أن فرقاً مهمة منهم

____________________

(١) هذا هو مذهب الازارقة أكبر فرق الخوارج وأهمها.

٥٢

تتجاوز الكفر لتسمي المخالفين لهم، حتى مع عدم ارتكابهم لأية كبيرة مشركين ثم تجاوزا هذا فسموا القعدة من مذهبهم مشركين(١) .

وأما الحسن وأصحابه، فلأن النفاق يستغرق الفسق ويتعداه، فان محل لإضافة اسم الفاسق عندهم، وقد سموا مرتكب الكبيرة منافقاً، ورتبوا عليه حكم المنافق، فأية قيمة لتسمية لا حكم لها.

ولنسلم مع الخياط، أن الأمة ( مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور.)، فلماذا تمسك واصل باسم الفاسق وترك الفاجر، وقد أجمعت الأمة عليه إجماعها على الفاسق وقرنته به، كما يقول الخياط في نصه المشار إليه آنفا.

أن اختيار واصل أو غير واصل ل- ( الفاسق )، اسما لمرتكب الكبيرة، لن يلزمنا إذن بشيء لأنه سيكون ترجيحا بلا مرجح، فإذا اختار واصل اسم الفاسق فأنا أستطيع، ودون أي حرج، إن أختار اسم الفاجر لنفس الشخص، فليس أحدهما أولى من الآخر وليس لأحدهما امتياز ورجحان حتى لو أخذنا بقول الخياط الذي سبقت الإشارة إليه، إلا أن يكون الإجماع في نظر الخياط هو ما اختاره واصل.

هذا فيما يخص الاسم، أما ما يخص الحكم، أي جزاء مرتكب الكبيرة والعذاب الذي سيلقاه في الآخرة، فان آراء الفرق الإسلامية ليست متفقة بشأنه، فالخوارج وهم يعدون مرتكب الكبيرة كافرا، كما رأينا، يحكمون عليه بالخلود في النار، والشيعة الإمامية وأهل السنة، لا يخلدونه

____________________

(١) الفرق بين الفرق للبغدادي ص٢١٠ وأصول الدين له أيضا نشر مدرسة الالهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط أولى ١٩٢٨ ج١ ص٢٤٢ وما بعدها والفصول المختارة من كتاب العيون والمحاسن للشريف المرتضى ج٢ ص١٣٢ وشرح التجريد للعلامة الحلي ص٢٦١ والفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد عبد الحسين شرف الدين مطبعة العرفان صيدا ١٣٣٠ ه- ص٣٥ والإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين الجويني تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد نشر مكتبة الخانجي بمصر ١٩٥٠ ص٣٨١ وما بعدها والتبصير في الدين ص١٠٦ - ١٠٧ واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص٧١ والشيعة بين المعتزلة والاشاعرة لهاشم معروف الحسني ص٢٦٢ وما بعدها.

٥٣

بل هو ينال عندهم من العذاب بقدر معصبته(١) والمرجئة يصححون إيمانه، ويتركون الحكم عليه لله.

ليس هناك إذن من إجماع بين هذه الفرق في الموضوع، يمكن القول بان المعتزلة قد أخذوا به وتركوا المختلف فيه.

ومع ذاك فلا بأس أن نلم بالرأي الذي أتى به المعتزلة، لنرى إن كانوا قد أضافوا شيئا ذا قيمة في الموضوع بعد أن رأينا فشل دعواهم في الإجماع عليه.

يقول المعتزلة: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكنه في منزلة دون منزلة الكافر من حيث العذاب، وهذا رأي لا أصالة فيه، نصفه مسروق، ونصفه مقلوب.

أما النصف المسروق فهو رأي الخوارج كما ذكرنا، وأما النصف المقلوب، فهو رأي السنة والامامية من الشيعة، فقد قال هؤلاء: إن المؤمن لن يخلد في النار إذا مات من غير توبة عن كبيرة ارتكبها لكنا يعاقب بقدر كبيرته، وجاء المعتزلة فقالوا: انه يخلد في النار، مع تخفيف العقاب عليه إلى ما دون عقاب الكافر.

ركز السنة والامامية على العقاب، مع عدم التأبيد في النار، وركز المعتزلة على التأبيد مع تخفيف العقاب.

____________________

(١) بل ان فيما ذهب إليه المعتزلة إغراءاً بارتكاب المزيد من الكبائر المزيد من الكبائر ما دامت أية واحدة توجب الخلود لمرتكبيها في النار فما الذي يمنعه من ارتكاب المزيد والعقاب هو هو واحد لا يتغير بارتكاب واحدة أو ارتكاب أكثر.

٥٤

ورأي السنة والامامية أقرب إلى الحق والإنصاف، ذلك انه يجعل العقوبة متناسبة مع الجرم، فحين يستوفي مرتكب الكبيرة عقوبته فلن يكون ثمة سبب لإبقائه في النار مدة أخرى غير ما حدد لجرمه.

أما المعتزلة، فصاحب الكبيرة، مهما كانت، مخلد عندهم في النار، وهذا رأي فيه ظلم كبير من هذه الجهة، وفيه أظلم أكبر من جهة أخرى، لتسويته بين أصحاب الكبائر بتعريضهم لعقاب واحد دون تمييز بين كبيرة وكبيرة، مع ان العدل يقتضي عدم المساواة بين هؤلاء لأن الكبائر، رغم التسمية الواحدة، كثيرة جدا، ومختلفة جدا من حيث الخطورة، وليست في الدرجة نفسها لتوجب لأصحابها نفس العقاب، الذي هو الخلود في النار(١) .

ثم إن المعتزلة لم يوضحوا لنا فيما أضافوه، درجة العذاب الذي سيلقاه مرتكب الكبيرة، وإلى أي حد سيخفف عنه، وهل الفرق كبير بين عذابه وبين عذاب الكافر ؟

واختصارا أي درجات السعير سيحفظ لهذا السيئ الحظ الذي لا هو مؤمن ولا هو كافر ؟

وحتى لو تجاوزنا ذلك، واحسنا تقييم رأي المعتزلة، فأية أهمية في أن تأتي فرقة من المسلمين فتضيف إلى آراء الفرق الأخرى، وهي كثيرة في الموضوع، رأيا حديدا وهل يستحق هذا ان تنتزع اسمها منه، وتنسب إليه مع إن كل فرقة تعتبر معتزلة بالنسبة للفرق الأخرى في حكم مرتكب الكبيرة كما ذكرنا.

____________________

(١) المنية والأمل لقاضي القضاة ص٧ وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص٢.

٥٥

ولنقبل رأي المعتزلة في ان اسمهم جاء من اعتزالهم ما اختلف فيه المسلمون، وأخذهم بما اجمعوا عليه ألم يكن من الأنسب لو انهم هم الذين اختاروا الاسم، كما يقولون، ان يختاروا من الأسماء ما يبرز معنى الإجماع الذي يدعون الأخذ به، لا اسم المعتزلة الذي قد يوحي العكس، وهو ما تعلق به خصومهم ضدهم، ذلك ان النسبة للإيجابي ( المجمع عليه ) أولى من النسبة للسلبي ( اعتزال المختلف فيه )، فان تكون ( مع ) أوضح في الدلالة من أن تكون ( ضد ).

كان من الممكن مثلا ان يطلق المعتزلة على أنفسهم لو أخذنا بوجهة نظرهم اسم ( الإجماعيين ) أو ( الإتفاقيين ) أو أي اسم آخر، يدل على الإجماع و الاتفاق أو يشير إليهما، فذلك أفضل من اسم ( المعتزلة ) الذي لا يشير في أفضل الحالات إلى أكثر من موقف سلبي بحت يلجأ إليه من لم يعرف الصواب ولم يهتد إلى الحق.

ثم أن المعتزلة قد تجاوزوا هذا الحد، فلم يقفوا عند مجرد الرفض واعتزال المختلف فيه من الآراء في مرتكب الكبيرة، بل أسسوا فرقة جديدة، وجاؤوا بمذهب جديد وكان يفترض - وأظننا لا نتجاوز في هذا دائرة المجمع عليه أيضا - أن يتحدد اسمهم، مما يشكل السمات الأساسية لمذهبهم، فاعتزال آراء الآخرين قد يشكل موقفا في ظرف معين وإزاء قضية معينة، ولكنه لا يمكن أن يؤلف في ذاته مذهبا ثم يكون هو الاسم المختار لهذا المذهب.

٥٦

على أن اعتزال الآخرين، لا يختص به المعتزلة وحدهم، وإنما هو نقطة البداية في بناء أية فرقة أو مذهب، دينيا كان ذلك المذهب، أم سياسيا، أم.الخ، وإلا فلم هذا العناء في تأسيس مذهب ما إذا هو تبني آراء وأفكاره غيره من المذاهب التي سبقته، فلم ( يعتزلها ) ولم يختلف عنها.

ويظهر أن المعتزلة، قد شعروا بعد ذلك بقصور حجتهم عن تفسير الاسم بالاستناد إلى اعتزال المختلف فيه من الآراء في شأن صاحب الكبيرة، فليس أسهل من عكس الحجة عليهم والقول بان الاعتزال، كان اعتزالا لما أجمع عليه المسلمون، فترد دعواهم بما يماثلها، وهذا ما فعله معهم خصومهم ابتداء، وتمسكوا به، كما رأينا، وهم أكثر عددا وأشد قوة , وليس في اللغة ما يرجح ادعاء على ادعاء، ولم يكن تخريج المعتزلة في اعتزال المختلف فيه بأقوى من تخريج خصومهم في اعتزال المجمع عليه، ما دام الاعتزال قابلا للطرفين، من غير اختصاص بواحد منهما.

ولهذا لجأ المعتزلة إلى القرآن، للدفاع عن الاسم، وبيان فضله، يسدون به قصور حجتهم في تفسيره باعتزال المختلف فيه، فاحتجوا لذلك بقوله تعالى في سورة مريم ٤٨ ( واعتزلكم )، وبقوله في سورة المزمل ١٠ ( واهجرهم هجرا جميلا )، وكأنهم يريدون أن يجعلوا الاعتزال، أينما ورد في القرآن، اعتزالاً للشر ليحجوا خصومهم ويفحموهم بما لا يستطيعون نقضه والرد عليه(١) .

وهذا تعسف ظاهر من المعتزلة في تفسير ألفاظ اللغة وتضييق لها، غير مبرر ولا مقبول، فإذا كان القرآن قد استعمل اللفظ في هاتين الآيتين

____________________

(١) التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية هامش ص١٩٢.

٥٧

اعتزال الشر فانه استعمله في سورة الكهف ١٦ لاعتزال الخير إذ يقول ( وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . )(١) ، فليس في اللغة ما يمنع من استعمال اللفظ في الخير أيضا، فالفعل ( عزل ) يتسع لهما معا ولا يتجه لأحدهما دون الآخر، وليس وروده في هذه الآية أو تلك اعتزالا للشر يمانع من وروده في آية أو آيات أخرى اعتزالا للخير، فالحجة هنا ليست بأقوى من الحجة هناك.

وكما لجأ المعتزلة إلى القرآن، فقد لجؤوا إلى الحديث النبوي يستنجدونه في معركة التسمية، فاحتجوا بحديث رووه (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أبرها وأنقاها الفرقة المعتزلة ) أو ( ستفترق أمتي إلى فرق خيرها وأبرها المعتزلة) دون ذكر لعدد الفرق(٢) .

والمعتزلة في هذا ينهجون نهج الفرق الأخرى، في وضع الأحاديث تأييدا ودعما لها وحطا من شأن خصومها، وإضعافا لهم.

كما احتجوا للاعتزال بحديث آخر، رووه عن النبي يقول ( من اعتزل من الشر سقط في الخير )(٣) .

والغريب أن المعتزلة يرفضون الأخذ بالآيات القرآنية إذا رأوها تعارض مع العقل ويؤولنها بما يجعلها مسايرة له، موافقة لأحكامه، ثم يأتون هنا ليحتجوا بأحاديث، كمثل هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته في نظر أصحاب الجرح والتعديل، ولكن أحس إحساسا عميقا، بأنه لم يصدر عن إمام اللغة، وسيد بلغائها محمد بن عبد الله لسقوطه لغة ومضمونا، فإذا

____________________

(١) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

(٢) وحديث افتراق الأمة على بضع وسبعين فرقة من الأحاديث السيئة الصيت والتي يصعب تصديقها والوثوق بها وقد استغل ابشع استغلال في تصديع وحدة المسلمين وتكريس الفرقة بين طوائف الإسلام وتأليب بعضهم ضد بعض بل إن هذا الحديث ورد في كتاب ( الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة ) لعثمان بن عبد الله العراقي الحنفي تحقيق وتقديم الدكتور بشار قوتلواي أنقرة ١٩٦١ ص٣٠ لا عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفترض بل عن علي هذه المرة مع إضافة ما يناسبه طبعا من سب لمن ( ينتحلون حبنا أهل البيت . ) أو لمن ( يتشبع أو الشيعة ).

وللعلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري بحث قيم عن هذا الحديث في مقدمته لكتاب ( الفرق بين الفرق ) لعبد القاهر البغدادي و ( التبصير في الدين ) لأبي المظفر الاسفراييني.

وانظر كتابنا ( على هامش الفرق الإسلامية ) فقد فصلنا الحديث في هذا البحث.

ومعركة الأحاديث بين الفرق الإسلامية من أسوأ ما عرف تاريخ الإسلام من معارك.

(٣) المنية والأمل ص٧ و ٩ وطبقات المعتزلة ص٢.

٥٨

كان من اعتزال الشر وقع في الخير، فأين سيقع من فعل الخير ولم يكتف باعتزال الشر والكف عنه، ان من اعتزل الشر يكون وبكل بساطة قد اعتزل الشر فقط، وتلك المنزلة، أما عمل الخير فمنزلة أخرى غيرها، وما أظن المعتزلة يردون هذا أو يعترضون عليه، وهم - لا غيرهم - أصحاب تعدد المنازل.

ثم أن الحديث يتكلم عن اعتزال الشر، لا عن ( المعتزلة ) الفرقة المعروفة، ويبقى السؤال قائما لتحديد الجهة التي يتناولها الحديث في حال تصحيحه من هي هذه الجهة التي اعتزلت الشر ؟ من قال إنهم المعتزلة، ولماذا لا يكون غيرهم ؟ إن ما واجهنا في موضوع المجمع عليه، والمختلف فيه، من أقوال المسلمين والحجة وعكسها هناك، يمكن أن يواجهنا هنا في اعتزال الشر والسقوط في الخير، أو اعتزال الخير والسقوط في الشر، فليست فرقة أولى به من فرقة، فالحديث رغم ملاحظاتنا عليه عام يتعلق بمن اعتزل الشر عموماً، فهو لا يحدد جهة أو جماعة، ولا يختص بمذهب، وكل يستطيع التمسك به ودفع خصومه عنه.

بل أن المعتزلة قد تجاوزوا الحد وكأنهم في سباق مع الفرق الأخرى في رواية الأحاديث الموضوعية لتأييد مذهبهم، وهي الأحاديث التي حاربوها وحاربوا من وضعها ومن تسلح بها.

استمع إليهم وهم يروون عن النبي حديث ( يكون في أمتي رجل يقال له واصل بن عطاء يفصل بين الحق والباطل )، وأظن راوي الحديث

٥٩

نسي، فلم يذكر ( الغزال ) لقب واصل بعد ما ذكر اسمه واسم أبيه فلعل هناك واصل بن عطاء آخر يدعي انه المقصود بهذا الحديث !!

لقد كان المعتزلة في غنى عما يشوه صورتهم العقلية باللجوء إلى هذا ومثله مما حاربوا خصومهم عليه، ولو أنهم فعلوا لكانوا أحسنوا كثيرا لمذهبهم، ولاحتفظوا بتلك الصورة العقلية له، فلن يفعل حديث موضوع هنا وآخر مكذوب هناك، أكثر من تشويه هذه الصورة وهي خسارة على كل حال.

٩ - الرأي الذي نراه:

يبدو أنني انتهيت إلى رفض الآراء التي طرحت حتى الآن لتفسير اسم المعتزلة، سواء في ذلك ما تعلق به خصوم المعتزلة، أو ما تمسك به المعتزلة أنفسهم، فهل سنتوقف عند ذلك مكتفين بهذه النتيجة الهينة التي لا ترضي طموح العلم ولا تسد حاجة الباحثين أليس هناك من رأي نستطيع الأخذ به، مطمئنين إليه، واثقين بنسبة تتجاوز ما مر بنا على الأقل.

ولكن قبل ذاك، أود أن أعيد هنا ما سبق ان طرحته في بداية هذا الفصل، لماذا أثار اسم المعتزلة كل هذه الصعوبة، وكل هذا الاضطراب، خلافا للفرق الإسلامية الأخرى ؟ أهو وجه من وجوه الظلم الذي تعرضوا له في حياتهم ظل يلاحقهم، حتى بعد اختفائهم وزوال نشاطهم، في تسميتهم هذه المرة فلم يهتد لها باحث، بما يزيل الشك، ويبعث على الاطمئنان ؟!

٦٠