الذّنبُ أسبابه وعلاجه

الذّنبُ أسبابه وعلاجه21%

الذّنبُ أسبابه وعلاجه مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 277

  • البداية
  • السابق
  • 277 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35396 / تحميل: 8619
الحجم الحجم الحجم
الذّنبُ أسبابه وعلاجه

الذّنبُ أسبابه وعلاجه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ايضاً بأن سبب الوصايا الاسلامية في ان تكون امورهم شورى بينهم والنهي عن التسميات السيئة واعابة احدهم الآخر دليل واضح على دفع نشوء عقدة الحقارة عندهم.

وفي التأريخ نماذج حية لاشخاص دفعهم النبذ الاجتماعي الى التطبع بنوع من التعقيد والوقوع في خاتمة المطاف في طريق ارتكاب الذنوب المهلكة نتيجة ذلك الانزواء.

قال الامام الباقر (عليه السلام) لأحد اصحابه ويدعى جابر الجعفي:

« واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا انك رجل صالح لم يسرك ذلك ولكن اعرض نفسك على ما في كتاب الله فان كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه فاثبت وابشر فانه لا يضرك ما قيل فيك ».(١)

نستنتج من خلال ما قاله الامام الباقر (عليه السلام) أنه قد اعطانا درساً مثمراً وعميق المحتوى.

____________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٩١.

١٤١

٥ - الارضية النفسية للذنب

إنّ احدى الاسباب التي تهيىء الارضية للذنب، هي الارضية النفسية التي توجد عند الانسان على اثر الضغط والهموم الكاذبة، او على اثر العقائد الخاطئة، او الحالات الروحية السيئة، وكل هذه العوامل النفسية سبب في اقتراف انواع مختلفة من الذنوب. والتعصب في غير محله، والضغوط غير الصحيحة، والخضوع والذلة او الاستخفاف بالاشخاص وتحقيرهم وامور اخرى كلها تنشيء العقدة النفسية عند الانسان وحينئذ يكون مستعداً لاقتراف الذنوب الكبيرة والخطيرة.

ولاجل ان نوضح اكثر يجب الانتباه الى الامور التالية:

أ - الشخصية وعزة النفس.

ب - احتقار وتحطيم شخصية الانسان.

ج - الضغوط الاقتصادية وتحطيم الغرائز.

د - الآمال والامنيات الكاذبة والتافهة.

١٤٢

أ - الشخصية وعزة النفس:

خلق الله سبحانه وتعالى الانسان وجعله سيد مخلوقاته وجعل فيه خصائص وكفاءات تميزه عن جميع ما خلق، فمن ناحية الجسم اودع فيه الباري جل وعلا محاسن كثيرة، ومن ناحية الروح وهبه استعدادات وقدرة لا حد لها.

قال الله سبحانه وتعالى في سورة الاسراء (٧٠).

(ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البّر والبحر ورزقناهم من الطّيّبات وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خلقنا تفضيلاً).

ويمتلك الانسان نوعين من الكرامة:

١ - الكرامة الذاتية:

والتي ذكرت في الآية السابقة، حيث ان الانسان له درجة التفضيل على كل ما خلق الله سبحانه وتعالى لما وهبه من الاستعدادات الروحية التي لا توجد عند موجود آخر.

٢ - الكرامة الاكتسابية:

وهذه الكرامة لها علاقة بالاعمال الصالحة ومقدار التقوى عند الانسان حيث يقول الله تعالى.

(إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم). (سورة الحجرات الآية ١٣).

١٤٣

ان قادسة الانسان وصلت الى درجة أن الله سبحانه وتعالى أمر الملائكة ان يسجدوا لآدم، وهذا السجود في الحقيقة سجود شكرٍ لله جل وعلا لخلقه هذا الموجود العالي(١) .

ومن هنا يظهر لنا أن التربية والهداية واعطاء الشخصية للانسان هي عامل مهم في الهداية، وتصغير الانسان وتحقيره من عوامل انحرافه.

نماذج من الروايات حول التربية والهداية:

١ - قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« إنه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة فلا تبيعوها الاّ بها ».(٢)

وقال (عليه السلام) في كلامٍ آخر:

وتحسب انك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الاكبر

٢ - وقال (عليه السلام) أيضاً:

« هلك امرؤّ لم يعرف قدره ».(٣)

٣ - كما قال (عليه السلام):

« العالم من عرف قدره، وكفى بالمرء جهلاً ألاّ يعرف

____________________

(١) ورد الامر بالسجود في سورة البقرة / ٣٤) و (الاسراء / ٦١) و (طه / ١١٦).

(٢) نهج البلاغة حكمة ٤٥٦.

(٣) نهج البلاغة حكمة ١٤٩.

١٤٤

قدره ».(١)

٤ - وقال (عليه السلام) ايضاً:

« نعم العبد أن يعرف قدره ولا يتجاوز حدّه ».(٢)

ب - احتقار وتحطيم شخصية الانسان (الاحساس بالحقارة والذلة):

لقد ذكرنا سابقاً عند تحليل الارضية العائلية ان احد العوامل في تهيئة الارضية للذنب هو تحقير وتحطيم شخصية الانسان، وهنا نكتفي بالقدر القليل لتوضيح المطلب.

أذا عرف الانسان شخصيته وقدره فمن المستحيل ان يسلك الطرق المنحرفة. فمثلاً لو ملك الانسان قطعة من الذهب فمحال أن يبدلها بحفنة تراب.

قال الامام السجاد (عليه السلام):

« من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا ».(٣)

من هذه العبارة يظهر ان تدمير الشخصية اساس حب الدنيا والانحراف، ولكن حفظ الشخصية والاهتمام بها لاتجعل الانسان اسيراً للأمور الوضيعة، فالاحساس، بالحقارة والعقد النفسية الناتج من

____________________

(١) نهج البلاغة ١٠٣ - كما وردت الجملة الثانية في الخطبة ١٦ ايضاً.

(٢) غرر الحكم ج ٢ ص ٧٧٧.

(٣) تحف العقول ص ٣١٨.

١٤٥

الاحتقار وعدم العلم بشخصية الانسان، يدفع الانسان نحو الذنوب وكل الاعمال الوضيعة بطبيعة الحال.

قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« نفاق المرء من ذلٍ يجده في نفسه ».(١)

وقال الرسول الاكرم (صلىالله عليه وآله وسلم):

« لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه ».(٢)

وقال الامام الصادق (عليه السلام):

« ما من أحدٍ تكبّر أو تجبّر الا من ذلّةٍ وجدها في نفسه ».(٣)

وقال الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً:

« ان الله عز وجل فوّض الى المؤمن اموره كلها ولم يفوض اليه ان يذّل نفسه ألم ير قول الله عز وجل ههنا: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (المنافقون / ٨). ثم قال (عليه السلام): والمؤمن ينبغي ان يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً ».(٤)

ج - الضغوط الاقتصادية وتحطيم الغرائز:

احدى العوامل التي تنشىء ظاهرة التعقيد والشعور بالنقص لدى الانسان هي الضغوط الاقتصادية والهموم الكاذبة وتحطيم الغرائز

____________________

(١) غرر الحكم ج ٢ ص ٧٧٧.

(٢) بحار ج ٧٢ ص ٢٤٩.

(٣) اصول الكافي ج ٢ ص ٣١٢.

(٤) فروع الكافي ج ٥ ص ٦٤.

١٤٦

وعدم اشباعها على الوجه الصحيح والمحدد لها.

بلا شك يجب على الانسان ان يشبع غرائزه على الوجه المتعادل، لان الافراط والتفريط هنا يتسببان في طفح الكيل في الغرائز او خمولها فتكون عنده ارضية مناسبة لاقتراف الذنوب في كلتا الحالتين.

فمثلاً الضغط على شيء حلزوني الشكل - كالرفاس - يحدث رد فعل قوي. كالذي لم يأكل مدة من الزمن فعند رؤيته للأكل يأكل بشراهة.

قال الامام الخميني (قدس سره) ناصحاً لطلبته نقلاً عن آية الله المحمدي الگيلاني انه قال:

« ليكن عيشكم طبيعياً، ولا تحملوا انفسكم اكثر من طاقتها. لان التحمل للطلبة لايخلو من مخاطرٍ، ولربما تتوقعون من الناس اكثر من الممكن ».

وعلى اية حال، فلابد ان تسير الحياة بشكل طبيعي، وان لا تكبح جماح الغرائز الانسانية المشروعة.

فمثلاً: من وجهة نظر الاسلام أن القاضي بالشريعة يجب ان يعيش عيشة طبيعية يؤمنها من اموال بيت المال؛ لئلا يحس بالحاجة فيتبع الرشوة ويتلوث بأكل الحرام.

في الآية ٣٢ من سورة الاعراف نقرأ:

(قل من حرّم زينة الله الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من

١٤٧

الرزق).

« بعث امير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله بن العباس الى ابن الكواء وأصحابه وعليه قميص رقيق وحلّة فلمّا نظروا اليه قالوا: يا ابن عباس أنت خيرنا في انفسنا وانت تلبس هذا اللباس؟ فقال: وهذا أول ما اخاصمكم فيه قال تعالى: (قل من حرّم زينة الله الّتي أخرج لعباده والطّيبات من الّرزق)، وقال تعالى: (خذوا زينتكم عند كلّ مسجدٍ) » (الاعراف / ٣١).(١)

قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« إن الله جميل يحب الجمال ويحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده ».(٢)

قراءة في روايات اخرى:

١ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« ليس منا من وسّع عليه ثم فتّر على عياله ».(٣)

٢ - وقال الامام الرضا (عليه السلام):

« ينبغي للرجل أن يوسع على عيالة لئلا يتمنّوا موته ».(٤)

وقال الامام الصادق (عليه السلام):

____________________

(١) فروع الكافي ج ٦ ص ٤٤٢.

(٢) فروع الكافي ج ٦ ص ٤٣٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٥ ص ١٣٥.

(٤) نفس المصدر السابق ص ١٣٥.

١٤٨

« ينبغي ان يكون للعاقل أربع ساعات.... ساعة مناجاته مع ربه، وساعة يحاسب بها نفسه، وساعة التفكر في مخلوقات الله سبحانه، وساعة يصرفها في تهيئة المأكل والملبس له ولعياله ».(١)

٤ - وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« إن هذه القلوب تمل كما تمل الابدان فابتغوا لها طرائف الحكم ».(٢)

اجمالا يمكن القول بضرورة اشباع متطلبات الروح الانسانية بشكل مشروع، واعادة النظر في الكثير من التعقيدات المهيمنة على جوانب الحياة كالمأكل والملبس وتعديلها، وعدم سلوك سبيل الجهلة (سبيل الافراط والتفريط)، لان تعطيل الغرائز يتسب في فتورها ويالتالي تظهر العقد والانحراف النفسية.

د - الآمال والامنيات الكاذبة والتافهة:

الأمنيات الكاذبة والتافهة أحد الاسباب الاخرى التي تهيىء الارضية النفسية للذنب. حيث ان الانسان يطلب السعادة والرقي بدون حركة او عمل ما. ويظل سارحاً في الخيال مرتكباً الآثام والذنوب، ويقول بان الله جل وعلا: (أرحمّ الراحمين).

ان هذا الأمل ليس نقصاً في طريق التكامل فحسب بل ارض

____________________

(١) اخلاق شبر ص ٢٨٥.

(٢) غرر الحكم ج ١ ص ٢٣٤.

١٤٩

مهيئة لانبات بذور الذنب في نفسية الانسان.

القرآن والأمل:

جاء في الآية ٢١٨ من سورة البقرة قوله تعالى:

(إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم).

في جانب الامل في هذه الآية الكريمة هنالك الايمان والهجرة والجهاد، وفي المثل القائل في الأسواق: ان المفلس لا يعطى ديناً ولا قرضاً فيجب ان يكون عنده مقدار من المكانة والمال ليطمئن المقابل اليه.

قصة مروّعة:

« قال طاووس اليماني: رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب وهو يدعو ويبكي في دعائه فجئته حيث فرغ من الصلاة، فاذا هو علي بن الحسين (عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله رأيتك على حالة كذا، ولك ثلاثة ارجو أن تؤمنك من الخوف، احدها انك ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثانية شفاعة جدك والثالث رحمة الله.

فقال: يا طاووس أما اني ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يؤمنني، وقد سمعت الله تعالى يقول:

(فلا أنساب بينهم يؤمئذٍ ولا يتساءلون)

١٥٠

(المؤمنون / ١٠١).

وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني لأن الله تعالى يقول:

(ولا يشفعون الاّ لمن ارتضى) (الانبياء / ٢٨).

وأما رحمة الله فان الله يقول:

(إنّ رحمت الله قريب من المحسنين) (الاعراف / ٥٦) ولا أعلم أني محسن.(١)

فالنتيجة لابد ان يكون مع الامل الايمان والعمل الصالح والا فقولنا الحلويات لفظاً لا يجعلنا نتذوقها طعماً.

____________________

(١) بحار الانوار ج ٤٦ ص ٨٩ عوالم ج ١٨ ص ١٢٠.

١٥١

٦ - الأرضية السياسية للذنب

إنّ أحدى العوامل التي تهيىء الارضية لمختلف الذنوب وحتى الكبيرة احياناً هي الارضية السياسية. وتتعلق هذه الارضية على الخصوص بالحكام والمسؤولين.

الانذارات القرآنية:

١ - في الآية ٢٠٥ و ٢٠٦ من سورة البقرة نقرأ:

(واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل والله لا يحب الفساد * واذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالأثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد).(١)

هذه الآية تبين ان غير المؤمن الذي يكون اسير رغباته، لو اخذ

____________________

(١) وردت لفظة « تولي » بمعنى الاعراض عن الشيء وكذلك بمعنى الرئاسة والحاكمية (مجمع البيان ج ١).

١٥٢

بزمام الامور ومقاليد الحكم لانتهى به الامر الى افساد المجتمع ودماوه واهلاك الحرث والنسل.

٢ - في الآية ٣٤ من سورة النحل نقرأ ايضاً:

(انّ الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون).

ان هذا الكلام وان نقل عن لسان (بلقيس) ملكة سبأ، فهو كلام معقول وثبت بالتجربة أن حكومة الحكام الظالمين عامل في ايجاد ارضية الفساد والذنب.

٣ - ان نبي الله يوسف (عليه السلام) أحد الانبياء المعروفين، عاش الجفاء من اخوته حتى القوة في (غيابت الجب) ثم نجاه الله جل وعلا ودخل قصر عزيز مصر وصار حاكماً لمصر.

ان هذا الملك في دنيا فانية لايساوي شيئاً عند يوسف (عليه السلام)، فكان دعائه دائماً حتى بعد ان اصبح اميناً على خزائن مصر: (.... توفّني مسلماً) (يوسف ١٠١).

نعم: ان الملك والرئاسة أمر خطير للغاية. ولربما تزل حتى قدم يوسف (عليه السلام)، فيه لذلك استعان بالله جل وعلا ان يثبت قدمه على الحق. بالرغم من انه لايراوده الشك في ان موته في مشيئة الامر الالهي، ولكن وسوسة الرئاسة وزخرفها وبريقها أمر خطير فلذا يجب أن نطلب النجاة من الله تعالى للصمود في مقابل خطر الرئاسة

١٥٣

وأهوائها(١) .

٤ - في الآية ٨٣ من سورة القصص نقرأ:

(تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقّين).

العلو في الدنيا احد فروع طلب الرئاسة، وهذه الآية تحكي عن اولئك الذين يطلبون الرئاسة في الدنيا وانها هدفهم الاسمى فهؤلاء لا خلاق لهم في الآخرة ولا نصيب.

قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله اجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها ».(٢)

الرئاسة في الروايات:

الرئاسة على نوعين:

١ - الممدوحة.

المذمومة.

ارئاسة الممدوحة هي تلك التي تتخذ كوسيلة لاحقاق الحق وابطال الباطل، أما الرئاسة المذمومة فهي تلك التي تتخذ كهدف وجسرٍ لهوى النفس والانحراف.

____________________

(١) وقد تقدمت مباحث حول هذا الموضوع تحت عنوان « قادة الضلال ».

(٢) تفسير جوامع الجامع، تفسير الاية.

١٥٤

والذي تعرض للذم في الروايات هو « حب الرئاسة » اي الشغف بحب الرئاسة وطلبها لاجل مكانتها، ولمزيد من البيان تأمل في الروايات ادناه:

١ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« لكل شيء آفة تفسده وآفة الدين ولاة السوء ».(١)

٢ - كتب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لأحد ولاته على آذربايجان وهو (الاشعت بن قيس):

« وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة ».(٢)

٣ - وجاء في كلام المعصوم (عليه السلام) حول شخص يحب الرئاسة:

« ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر من دين المسلم من طلب الرئاسة ».(٣)

البهلول فقيه مجاهد وتابع للحق:

روي ان هارون الرشيد أراد ان يولّي احداً قضاء بغداد فشاور أصحابه فقالوا: لايصلح لذلك الا البهلول (وهب بن عمرو) فاستدعاه وقال: يا ايها الشيخ الفقيه اعنّا على عملنا هذا، قال: بأي شيء اعينك: بعمل القضاء، قال: أنا لا أصلح لذلك، قال: أطبق اهل

____________________

(١) نهج البلاغة الرسالة ٥.

(٢) نهج البلاغة الرسالة ٥.

(٣) سفينة البحار ج ١ ص ٤٩٢.

١٥٥

بغداد أنك صالح لهذا العمل، قال: يا سبحان الله إني اعرف بنفسي منهم، ثم اني في إخباري عن نفسي بأني لا أصلح للقضاء لا يخلو أمري من وجهين: إما ان اكون صادقاً فهو ما أقول، وان كنت كاذباً فالكاذب لايصلح لهذا العمل فألحّوا عليه وشددوا وقالوا: لاندعك أو تقبل هذا العمل، قال: إن كان ولابد فاملهوني الليلة حتى افكر في أمري، فامهلوه، فخرج من عندهم، فلمّا أصبح في اليوم الثاني تجانن وركب قصبة ودخل السوق وكان يقول: طرّقوا خلّلوا الطريق لايطأكم فرسي، فقال الناس: جنّ البهلول، فقيل ذلك لهارون فقال: ما جنّ ولكن فرّ بدينه منّا، وبقى على ذلك الى أن مات وكان عن عقلاء المجانين.(١)

____________________

(١) بهجة الآمال ج ٢ ص ٤٣٥ و ٤٣٦، روضات الجنات ج ٢ ص ١٤٦.

١٥٦

القسم الثالث

الاعذار المختلفة للذنب، معرفة حدود الذنب

والاشارة الى الاستثناءات والقيم

الاعذار لتبرير الذنب:

تبرير الذنب اكبر من الذنب. ونستطيع القول بأن ايجاد العذر للذنب نوع من الحيل الدينية.

نقرأ في الآيتين الشريفتين ١٤ و ١٥ من سورة القيامة:

(بل الأنسان على نفسه بصيرة - ولو ألقى معاذيره).

ومعناه ان محكمة الوجدان تحكم على ذلك الشخص بذي الوجهين والمكر.

ان تبرير الذنب يجعل الذنب بسيطاً ويشجع المجتمع على ارتكاب الذنوب ويكون عندها القبيح حسناً.

لاذنب أثقل من العذر للذنب. لان المذنب عندما يعترف بالذنب يفكر بالتوبة دائماً. ولكن اذا برر ذنوبه جعله غطاءاً على ما يقترفه من الذنوب. ولم يبتعد عن طريق التوبة فحسب بل تكون عنده الجرأة والعادة في اقتراف الذنوب.

١٥٧

إنّ أحد الامراض التي ابتلي بها المجتمع بصورة عامة هو تبرير الذنوب في صور مختلفة. حيث ينحرف بها الخاص والعام عن الطريق المستقيم. والأ خطر من ذلك هو غلق ابواب الصلاح امام المذنب واحياناً تغلق أبواب الحقيقة في نظره.

فمثلاً: يبرر خوفه (بالاحتياط) وضعف نفسه (بالحياء) وحرصه (بواجب توفير مستلزمات الحياة) وعجزه (بعدم وضوح الموضوع) وتقصيره بـ (القضاء والقدر).

فأي معصية والم اكبر مما يلاقيه الانسان نتيجة تحريفه لمفاهيم الاسلام السامية واغلاق باب النجاة امامه؟! إنّ تبرير الذنب هو اسدال الستار على الذنب حتى يشتغل بالذنوب بلا مانع ولا رادع، فمثلاً يكتم الحق ويعتبر (تقية)، او يعطي شخصاً ما رشوة ويسميها هدية من أجل الوصول الى هدفٍ سيء.

إنّ تبريره لذنبه يعتبر نوعاً من انواع الخداع لنفسه وللمسلمين كالذي ظاهره جميل وشرعي وباطنه قبيح وملوث. أو كبائع المواد الغذائية فلكي يجلب له الزبائن يجعل ظاهر المواد الغذائية جيداً للناظر في الوقت الذي يكون باطنها رديئاً.

قال الاما الباقر (عليه السلام):

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً في سوق المدينة فمر بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلاّ طيباً وسأله عن سعره، فاوحى الله عز وجل اليه أن يدس يده في الطعام فاخرج طعاماً رديّاً، فقال لصاحبه:

١٥٨

ما أراك إلاّ جمعت خيانةً وغشاً للمسلمين.(١)

الاعذار المختلفة:

ان الناس يبررون الذنوب بتبريرات مختلفة منها:

١ - التبريرات العقائدية.

٢ - التبريرات السياسية.

٣ - التبريرات الاجتماعية.

٤ - التبريرات النفسية.

٥ - التبريرات الثقافية.

٦ - التبريرات الاقتصادية.

٧ - التبريرات العسكرية.

وهناك تبريرات متفرقة أخرى.

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٢ ص ٢٠٩.

١٥٩

١ - التبريرات العقائدية

إنّ أحد التبريرات العقائدية هو مسألة (الجبر والقضاء والقدر) فعندما تقول للمذنب: لماذا أذنبت؟ ولماذا تلوثت بالمسكرات؟ يجبيب: هذا حظي من القضاء والقدر، وماذا افعل وان آبائي كانوا هكذا وانا أصبحت مثلهم.

لا يلد الذئب الاّ الذئب، ولم يقدّر لي ان اكون من المصلين، وكثير من هذا القبيل نسمعه على ألسنة الناس. وبهذا اللحن من الكلام يكون لهم باب الفرار من المسؤولية والواجب. في الآية ١٤٨ من سورة الانعام نرى المشركين ولاجل ان يبرئوا أنفسهم من مسؤولية انحرافهم يقولون:

(لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيءٍ).

وعلى هذا المنوال ينسبون ذنوبهم الى « الجبر ». وفي الآية ٣٥ من سورة النمل والآية ٢٠ من سورة الزخرف تأكيد على هذا المعنى:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

كَذِبَ المُنجِّمون ولو صدقوا

كان أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) قد جهَّز جيشاً لمُحاربة الخوارج، وعندما أراد (عليه السلام) الخروج بجيشه جاءه أحد أصحابه، وقال له: يا أمير المؤمنين، أخشى إنْ خرجت في هذه الساعة أنْ لا تبلغ مُرادك وأنْ تٌهزم أمام عدوِّك، وما خشيتي هذه إلاَّ نابعة مِن معرفتي بما سيحصل مِن خلال النجوم.

فقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

(أتَزْعَمُ أنَّكَ تَهْدي إلى السَّاعَةِ التي مَنْ سارَ فيها صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟!

وتُخَوِّفُ مِنَ السّاعَةِ التي مَنْ سارَ فيها حاقَ بهِ الضُّرُّ؟!

فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذا فَقَدْ كَذَّبَ القُرْآنَ واسْتَغْنى عَنِ الاسْتِعانَةِ بِاللهِ في نَيْلِ المَحْبُوبِ ودَفْعِ المَكْرُوهِ، ويَنْبَغي في قَوْلِكَ لِلعامِلِ بِأمْرِكَ أنْ يُولِيَكَ الحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ؛ لأنَّكَ بِزَعْمِكَ أنْتَ هَدَيْتَهُ إلى السَّاعَةِ التي نالَ فيها النَّفْعَ وأمِنَ الضُّرَّ).

ثُمَّ أقْبَلَ (عليه السلام) على الناس فقال: (سيرُوا على اسْمِ اللهِ).

لقد تصوَّر هذا الرجل أنَّ باستطاعته مِن خلال المُحاسبات النجوميَّة أنْ يَعلم الغيب، وأنْ يُحيط الأشخاص بما سيواجهونه في المُستقبل مِن أحداث؛ ومِن هذا المنطلق جاء ليُعرب لأمير المؤمنين (عليه السلام) عن خشيته مِن هزيمة تتربَّص بجيشه إنْ خرج في الساعة الفُلانيَّة.

ولو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كغيره مِمَّن يؤمنون بمِثل هذه الخرافات؛ لارتاب عند سماعه هذا الخبر وانصرف عن قراره بخروج الجيش في مِثل تلك الساعة، لكنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ترعرع في مدرسة الإسلام، ولم يُبالِ بما سمعه، ولم يدع الخوف والقلق يُسيطران عليه، فرفض بقاطعيَّة ما تفوَّه به الرجل، وخرج بجيشه في تلك الساعة مُتوكِّلا على الله، فتغلَّب على عدوِّه وعاد مُنتصراً ظافراً (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢١

إنْ كان كما يكفيك لا يُغنيك فكلُّ ما فيها لا يُغنيك

عن حمزة بن حمران قال:

شكا رجلٌ إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنَّه يطلب فيُصيب ولا يقنع، وتُنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه، وقال: علِّمني شيئاً أنتفع به.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

(إنْ كان ما يكفيك يُغنيك فأدنى ما فيها يُغنيك، وإنْ كان ما يكفيك لا يُغنيك فكلُّ ما فيها لا يُغنيك).

ونستشفُّ أنَّ تضادَّ عدد مِن الغرائز والرغبات الطبيعيَّة، هو مِن جُملة العوامل التي تَحدُّ مِن حُرِّيَّة الإنسان، وتمنعه مِن تحقيق بعض أمانيه (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٢

لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ

عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّ سُمرة بن جندب كان له عِذق في حائط لرجل مِن الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البُستان، فكان يمرُّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلَّمه الأنصاري أنْ يستأذن إذا جاء، فأبى سُمرة، فلمَّا أبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه وخبَّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخبَّره بقول الأنصاري وما شكا، وقال:

(إذا أردت الدخول فاستأذن)، فأبى، فلمَّا أبى ساومه حتَّى بلغ مِن الثمن ما شاء الله، فأبى أنْ يبيع، فقال (صلى الله عليه وآله):

(لك بها عِذق مُذلَّل في الجَنَّة)، فأبى أنْ يقبل،

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري:

(اذْهَبْ فَاقْلَعْها وارْمِ بِها إلَيْهِ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ).

يتَّضح لنا مِن خلال تحليل هذه القضيَّة والوقوف عند تفاصيلها، أنَّ القوانين الاجتماعيَّة في الإسلام لا تسمح للفرد بأنْ يتمادى بحُرِّيَّته الفرديَّة إلى ما يُسيء بحُرِّيَّة الآخرين (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٣

الإسلام دين الشباب

في السنوات الثلاث الأُولى مِن بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان النبي يدعو الناس سِرَّاً إلى الإسلام؛ وذلك لتجنُّب شَرَّ المُشركين وعَبدة الأصنام، وخلال هذه الفترة آمن بدعوته أربعون رجُلاً وامرأة، مُعظمهم مِن الصغار والمُراهقين والشباب، الذين تراوحت أعمارهم بين العاشرة والخامسة والعشرين عاماً.

وكان أصحاب الضمائر الحَيَّة والفِطرة الطاهرة، أكثر الناس لياقة لقَبول الدين الإسلامي؛ لأنَّ دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) جاءت مُتطابقة مع طبيعتهم الباحثة عن الحقيقة، والمَحبَّة للخير والفضيلة.

فقد آمن هؤلاء بدعوة النبي، وجذبتهم التعاليم الإسلاميَّة السامية، وترسَّخت الدعوة في أعماقهم حتَّى ارتضوا بالنبيِّ رسولاً وقائداً لهم، فتجمَّعوا حوله ليُشكِّلوا النواة المركزيَّة للإسلام.

ويُمكن القول: إنَّ دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان لها أثرها البالغ في صفوف الفتيان والشُبَّان، الذين كانون يحومون حوله كالفراشات، ويُنفِّذون تعاليمه بكلِّ حُبٍّ وإخلاص، ومِن هنا جاء تأييد النبي (صلى الله عليه وآله) للشابِّ.

وبعد فترة مِن الدعوة السِّرِّيَّة أمر الله سبحانه وتعالى نبيَّه (صلى الله عليه وآله) بأنْ يَجهر دعوته بين الناس، وينشر تعاليم هذا الدين السماويِّ أمام المَلأ، فكان الشباب أيضاً يُشكِّلون غالبيَّة مَن اعتنقوا الدين الإسلامي وآمنوا بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله).

وقد أثار استقبال الشباب المُتزايد لدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) واعتناقهم

٢٢٤

الدين الإسلامي سَخط وغَضب الشيوخ الطاعنين في السِّن، الذين كانوا يغرقون في شِركهم وضلالهم نتيجة تعصبُّهم ولجاجتهم، حتَّى وصل بهم الأمر إلى اتِّهام المسلمين بالفساد والضلالة، وركَّزوا على هذا الاتِّهام في شكواهم مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأعربوا بكلِّ صراحة عن قلقهم إزاء ما يجري.

قال عتبة - وهو مِن مُشركي مَكَّة - لأسعد بن زرارة: خَرَجَ فينا رَجُلٌ يَدَّعي أنَّهُ رَسُولُ اللهِ، سَفَّهَ أحْلامَنا وسَبَّ آلِهتَنَا، وأفْسَدَ شُبّانَنا وفَرَّقَ جَماعَتَنا.

ولمَّا اجتمع رجال قريش وشيوخ المُشركين في دار الندوة، لوضع مُخطَّط لمواجهة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والوقوف بوجه الانتشار السريع للإسلام، ومُحاربة أتباع الرسول (صلى الله عليه وآله)، توالت الخُطب العنيفة، ومِن جُملتها خُطبة ألقاها أبو جهل ركَّز فيها على عبارة: (أفسد شُبَّاننا) وأعرب عن قلقه العميق إزاء التأثير البالغ، الذي تتركه دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في نفوس شباب مَكَّة وفتيانها.

لقد بات اعتناق الشباب الدين الإسلامي حديث الساعة، ومَحطَّ اهتمام الناس في صدر الإسلام، فكان الآباء والأُمَّهات وعامَّة كِبار السِّنِّ في مَكَّة، غاضبين جِدَّاً مِن استجابة فتيانهم وشُبَّانهم لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله) وتعاونهم معه بكلِّ حُبٍّ وإخلاصٍ. حتَّى إنَّهم لجأوا إلى استخدام شتَّى وسائل التعذيب والضغط بحقِّ أبنائهم لصَدِّهم عن اتِّباع الرسول، وثنيهم عن مسيرتهم وإجبارهم على العودة لعبادة الأصنام آلهة آبائهم وأجدادهم، إلاَّ أنَّ أساليب الضغط والتعذيب، التي استخدمها مُشركو مَكَّة لم يكن لها أدنى تأثير في نفوس الشباب المؤمن، ولم تستطع إرباك إيمانهم وصَدِّهم عن مسيرتهم في اتِّباع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)؛ لأنَّ ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) هو أقرب إلى عقولهم وفطرتهم، وكان بمثابة الضالَّة التي تبحث عنها ضمائر الشباب الحيَّة والطاهرة، وقد جاء الرسول (صلى الله عليه

٢٢٥

وآله) ليُخاطبهم بلسان القلب للقلب، ويَنفذ بالإسلام إلى أعماقهم، وكيف يستطيع التعذيب والتحقير والإهانة تغيير العقيدة التي ترسَّخت جُذورها في الأعماق، وتجريد النفس الطاهرة مِن فطرتها؟ (1)

____________________

(1) الشاب، ج2.

٢٢٦

الحسَنُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍِ حَسَنٌ،

ومِن الموالين أَحْسنُ

كان رجل يُدعى الشقراني يُبرز حُبَّه للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وكان يَعدُّ نفسه مِن مُحبِّي أهل البيت (عليهم السلام)، وكان الشقراني مُدمناً على الخمرة، فطلب مِن الإمام (عليه السلام) يوماً أنْ يشفع له عند المنصور الدوانيقي، فلبَّى الإمام طلبه، وأراد (عليه السلام) أنْ ينهاه عن الخمرة، فتحدَّث إليه بكلِّ أدبٍ ولينٍ، وبعيداً عن التوبيخ والتقريع وأنظار الناس، فقال (عليه السلام) له: (إنَّ الحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وإنَّهُ مِنكَ أَحْسنُ لِمَكانِكَ مِنّا، وإنَّ القَبيحَ مِنْ كُلِّ أحدٍ قبيحٌ وإنَّهُ مِنْكَ أَقْبَحُ).

ونُخلص إلى أنَّ أُسلوب التوبيخ والتقريع في المدرسة التربويَّة الإسلاميَّة أُسلوب مذموم ومرفوض، وعلى المسلمين أنْ يتجنَّبوا هذه الطبيعة السيِّئة. أمَّا إذا كان الهدف مِن هذا الأُسلوب صيانة مصلحة الأُمَّة، كتطهيرها مِن شُرور العناصر الضَّالَّة، أو إنقاذها مِن دنس المُعتدِّين الجائرين، فإنَّه يُصبح جائراً شرعاً مَثله مَثل بعض أنواع الكذب والغيبة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٧

ما أخْسَرَ المشَقَّةَ وَراءها العِقابُ!!

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - وقَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسيرِهِ إلى الشّامِ دَهاقينُ الأنْبارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ ـ: (ما هذا الَّذي صَنَعْتُمُوهُ؟!).

فَقالوا: خُلْقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِه أمراءَنا.

فَقالَ: (واللهِ، ما يَنْتَفِعُ بِهذا أمَراؤكُمْ، وإنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلى أنْفُسِكُمْ في دُنْياكُمْ وتَشْقَوْنَ بهِ في آخِرَتِكُمْ، وما أخْسَرَ المَشَقَّةَ وَراءها العِقابُ وأرْبَحَ الدِّعَةَ مَعَها الأمانُ مِنَ النّار) (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٢٨

إنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرحيمُ

حينما أراد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إعداد الجيش لخوض معركة تبوك أعلن النفير العامَّ، وتهيَّأ المسلمون للقتال، فخرجوا في اليوم المُحدَّد مُتوجِّهين نحو جَبهة القتال، إلاَّ أنَّ ثلاثة مِن الأنصار هُم: كعب بن مالك، وهلال بن أُميَّة، وابن ربيع مكثوا في المدينة مُتخلِّفين عن المسلمين وما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون مُبرِّر.

ولمَّا عاد الرسول بجيشه إلى المدينة، دخل عليه هؤلاء الثلاثة طالبين منه الصَّفح عَمَّا بدا منهم، إلاَّ أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يُحدِّثهم، ودعا المسلمين إلى مُقاطعتهم، حتَّى هجرهم جميع المسلمين بصغارهم وكبارهم حتَّى أُسرهم هجرتهم، وكانت تُقدِّم إليهم الطعام في مواقيته دون أنْ تتحدَّث معهم.

واستمرَّت المُقاطعة حوالي خمسين يوماً حتَّى ضاقت عليهم الأرض، فكانوا يُغادرون المدينة أحياناً لشدَّة ما حَلَّ بهم، ويلتجئون إلى التِّلال والمُرتفعات المُحيطة بالمدينة، فيستغفرون الله تعالى نادمين على فعلتهم طالبين منه العفو والصَّفح بأعيُن دامعة، حتَّى تقبَّل توبتهم وعفا عن خطاياهم.

قال تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

وذات يوم وعقب صلاة الصُّبح أعلن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن قَبول الله سبحانه وتعالى توبة هؤلاء الثلاثة، وطلب إنهاء المُقاطعة ليعود هؤلاء إلى حياتهم الاجتماعيَّة، ويستعيدوا عِزَّتهم وكرامتهم، وقد أثار هذا النبأ موجة مِن البَهجة والسرور عمَّت أهالي المدينة.

٢٢٩

إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يُجازِ المُتخلِّفين الثلاثة بالسِّجن والتعذيب أو الإعدام، بلْ استغلَّ مسألة العِزَّة والكرامة الاجتماعيَّة، وعاقبهم بسوء السُّمعة والعار والفضيحة، وكان إعراض الناس عنهم ومُقاطعتهم لهم أصعب بالنسبة لهم مِن السِّجن وأشدَّ ألماً مِن أيِّ عِقاب، وبالرغم مِن أنَّهم كانوا أحراراً غير مُقيَّدين، إلاّ أنَّهم شعروا بأنَّ الأرض قد ضاقت عليهم نتيجة مُقاطعة الناس لهم (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٠

فبِما كسبت أيديكم

إنَّ رجلاً مِن أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لسَعَته حَيَّة، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (أتدري لِما أصابك ما أصابك؟).

قال: لا.

قال: (أما تذكر حيث أقبل قنبر خادمي، وأنت بحضرة فُلان العاتي، فقمت له إجلالاً لإجلالك لي؟

فقال لك: أتقوم لهذا بحضرتي؟!

فقلتَ له: وما بالي لا أقوم! وملائكة الله تضع له أجنحتها في طريقه فعليها يمشي. فلمَّا قلتَ هذا له قام إلى قنبر وضربه وشتمه وآذاه، وتهدَّدني وألزمني الإغضاء على قَذى... فإنْ أردت أنْ يُعافيك الله تعالى مِن هذا فاعقد أنْ لا تفعل بنا ولا بأحدٍ مِن موالينا بحضرة أعدائنا ما يُخاف علينا وعليهم).

فلو كان ذلك الرجل المُخطئ في تصرُّفه فرداً عاقلاً حكيماً، لما قام بذلك العمل ولما أدَّى إلى إهانة قنبر وأذيَّته.

ومِن هنا نقول: إنَّ الصديق الجاهل يؤذي صديقه ويُتعبه، فهو يُحاول أنْ ينفعه فيضرُّه لجهله (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣١

مُشاورة الرجال مُشاركتهم في عقولهم

كان للمُعتصم العباسي وزير يُسمَّى: الفضل بن مروان، قد فاق أقرانه وأضحى موضع اهتمام الخليفة لكفاءته وجَدارته، وذات يومٍ دعا الوزير الخليفة للنزول عليه ضيفاً؛ مِن أجل أنْ يكشف للعامَّة منزلته عند الخليفة، الذي لبَّى بدوره دعوة وزيره المُقرَّب.

وكان الوزير قد أعدَّ قصره وزيَّنه بأفخم الأشياء، وفرشه بأثمن الفرش، وجَلب أوانٍ مِن الذهب وأُخرى مِن الفِضَّة، وهيَّأ أفخر الطعام ورتَّب مجلساً مِن أبهى ما يكون.

ولمَّا دخل الخليفة المجلس بُهت لكلِّ هذه الثروة وهذا الجلال، وأخذته الغيرة والحَسد مِن وزيره، فجلس للحظات والحَسد يعتصره، ثمَّ قام وخرج مِن المجلس بحُجَّة يُعاني مِن آلامٍ في بطنه. فاستبدَّ بالوزير القَلق مِمَّا حصل، وقاده التفكير إلى أنَّ هذا المجلس المشؤوم لا يُمكن أنْ يرفع منزلته عند الخليفة وقد يُطيح به، فأخذ يُفكِّر بما عليه فعله، إلاّ أنَّ اضطرابه قد شُلَّ مِن قُدرته على التفكير.

عند ذاك قرَّر أنْ يُسر صاحبه إبراهيم الموصلي، الذي كان حاضراً المجلس بحقيقة الأمر ليستنير بعقله، فتقدَّم منه وتحدَّث إليه بما جرى. فكَّر إبراهيم قليلاً ثمَّ قال للوزير: أنْ اذهب مع الخليفة ولا تنفصل عنه، واتبعه إلى البلاط لتوديعه والاطمئنان على حاله، وامكث هناك حتَّى تأتيك رسالتي، فإذا وصلتك فافتحها واقرأها بحضور المُعتصم، وإذا سألك عَمَّا في الرسالة أجبه.

نَفَّذ الوزير أمر صاحبه العاقل، وبلغته الرسالة وكان قد كتب فيها إبراهيم يقول:

٢٣٢

إنَّ أصحاب الفرش والصُّحون الذهبيَّة والفضيَّة، قد جاؤوا يسألون عَمَّا كان مجلس ضيافة الخليفة، قد انتهى لكي يأخذوا حاجياتهم وأموالهم.

وحصل ما توقَّعه إبراهيم، فقد سأل المُعتصم عَمَّا تضمَّنته الرسالة، فقرأ عليه الوزير فحواها، فضحك الخليفة دون إرادة وزالت عُقدته الباطنيَّة، لمَّا عرف أنَّ كلَّ هذه الفخامة والأُبَّهة والثروة ليست مِلك الوزير، بلْ استقرضها مِن أصحابها، ثمَّ شكر الخليفة وزيره على حُسن الضيافة، وقد استطاع الصديق الذكيُّ اللبيب بتدبيره وحكمته إنقاذ صاحبه مِن خَطرٍ حقيقيٍّ.

إنَّ المدرسة التربويَّة الإسلاميَّة، تولي اهتماماً كبيراً لمسألة الصُّحبة، وضرورة أنْ يكون الصديق عاقلاً وحكيماً، بحيث إنَّها تُجيز مُصاحبة الإنسان العاقل والمُفكَّر، حتَّى وإنْ افتقد لبعض مكارم الأخلاق (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٣

الكادُّ على عياله كالمُجاهد في سبيل الله

عن أبي عَمْرو الشّيباني قال:

رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وبيده مسحاة، وعليه إزارٌ غليظ يعمل في حائطٍ له والعَرق يتصابُّ عن ظهره.

فقلت: جُعِلت فِداك! أعطني أكفِك.

فقال لي: (إنِّي أُحبُّ أنْ يتأذَّي الرَّجُل بحَرِّ الشِّمس في طَلب المَعيشة) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٤

العمل باليد عمل النبيِّين والمُرسلين والصالحين

عن علي بن أبي حمزة قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرضٍ له قد استنقعت قَدماه في العرق.

قلت: جُعِلت فِداك! أين الرِّجال؟

فقال: (يا عليُّ، عَمِلَ باليد مَن هو خيرٌ مِنِّي ومِن أبي في أرضه).

فقلت له: ومَن هو؟

فقال: (رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمير المؤمنين، وآبائي كلُّهم قد عملوا بأيديهم، وهو مِن عمل النَّبيِّين والمُرسلين والصَّالحين).

لقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يحترم العامل الكادح، ويُشجِّعه بشتَّى الطُّرق، ويحتقر العاطل عن العمل ويُبدي استياءه منه، وكلُّ ذلك كان بهدف حَثِّ المسلمين على العمل والمُثابرة وتحذيرهم مِن الكَسل والبطالة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٥

يد الكادِّ على عِياله لا تمسُّها النار

أنس بن مالكٍ روى:

أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمَّا أقبل مِن غزوة تبوك، استقبله سعد الأنصاريِّ فصافحه النبي (صلى الله عليه وآله) ثمَّ قال له:

(ما هذا الذي أكنب يديك؟!).

قال: يا رسول الله، أضرب بالمَرِّ والمِسحاة فأُنفقه على عِيالي.

فقبَّل يده رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقال: (هذه يَدٌ لا تمسُّها النَّار) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٦

احمل على رأسك واستغن عن النَّاس

زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام):

إنَّ رجُلاً أتاه فقال: إنَّني لا أُحسن أنْ أعمل عملاً بيدي ولا أُحسن أنْ أتَّجر وأنا مُحتاجٌ.

فقال (عليه السلام): (اعمل واحمل على رأسك واستغنِ عن النَّاس) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٧

مَن سعى على نفسه أو أبويه أو ذُرِّيَّته فهو في سبيل الله

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شابٍّ ذي جَلدٍ وقوَّة وقد بكَّر يسعى.

فقالوا: ويحَ هذا! لو كان شبابه وجَلده في سبيل الله.

فقال (صلى الله عليه وآله): (لا تقولوا هذا، فإنَّه إنْ كان يسعى على نفسه ليكفَّها عن المسألة ويُغنيها عن النّاس فهو في سبيل الله، وإنْ كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذُرِّيَّةٍ ضعافاً ليُغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٨

ليس هذا طلب الدُّنيا

هذا طلب الآخرة!!

قال رجل لأبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام):

والله، إنّا لنطلب الدُّنيا ونُحبُّ أنْ نؤتاها.

فقال (عليه السلام): (تُحبُّ أنْ تصنع بها ماذا؟).

قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدَّق بها، وأحِجَّ وأعتمر، فقال (عليه السلام): (ليس هذا طلب الدُّنيا، هذا طلب الآخرة) (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٣٩

مَهلاً يا أُمَّاه فإنَّ مَعي مَن يَحفظني

في قِصَّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مع مُرضعته حليمة السعديَّة، تقول حليمة لمَّا بلغ محمد (صلى الله عليه وآله) الثالثة مِن عُمره قال لي:

ـ (أُمَّاه، أين يذهب إخوتي نهار كلِّ يوم؟).

ـ يخرجون إلى الصحراء لرَعي الأغنام.

ـ (لماذا لا يَصحبونني معهم؟).

ـ هل ترغب في الذهاب معهم؟

ـ (أجل).

فلمَّا أصبح دهَّنته وكحَّلته وعلَّقت في عُنقه خيطاً فيه جزع يمانيَّة فنزعها، ثمَّ قال لي: (مَهْلاً يا أُمَّاه، فإنَّ معي مَن يَحفظني).

الإيمان بالله هو الذي يجعل الطفل في الثالثة حُرَّاً وقويَّ الإرادة بهذه الصورة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277