الذّنبُ أسبابه وعلاجه

الذّنبُ أسبابه وعلاجه21%

الذّنبُ أسبابه وعلاجه مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 277

  • البداية
  • السابق
  • 277 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35317 / تحميل: 8567
الحجم الحجم الحجم
الذّنبُ أسبابه وعلاجه

الذّنبُ أسبابه وعلاجه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

به ».(١)

وعلى هذا الاساس نجد ان تربية الابناء وفق الاسس الصحيحة عامل مهم في ايجاد الارضية للقيم، وعلى العكس فعدم التربية يوجد ويهيىء الارضية للانحراف والذنوب.

الاهانة عامل لتهيئة الارضية للذنب:

من الطرق المهمة للهداية والتربية اعطاء الشخصية للأفراد. وبالأخص للأطفال. وعلى هذا الاساس فأحد الامور التي يوجب الانتباه اليها في تربية الابناء مسألة الاهانة. فيجب على المعلمين والابوين ان يكنوا الاحترام للأطفال. والعمل على رفع عقدة الحقارة والشعور بالنقص عندهم. وفي الكبار كذلك يجب احترامهم حتى لا يشعروا بالنقص والحقارة، لان الشعور بالاهانة والحقارة سبب في نشوء الانحراف والذنب.

قال الامام الهادي (عليه السلام):

« من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره ».

وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« من كرمت عليه نفسه لم يهنها بالمعصية ».(٢)

قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

____________________

(١) فروع الكافي ج ٦ ص ٥٠.

(٢) غرر الحكم ج ٢.

٨١

« لا يكذب الكاذب الا من مهانة نفسه ».(١)

ونتيجة لذلك يجب ان لا يحقر الانسان لأن ذلك منشأ لعقدة الحقارة وهذه العقدة تهيئ الأرضية لاقتراف الذنب.

لذا نرى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الاطهار (عليهم السلام) في تربية الاطفال يكنّون احتراماً بالغاً وخاصاً لهم.

قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم ».(٢)

أكد الاسلام على العدالة بين الأبناء وعدم التفرقة بينهم ومخاطبتهم بالكلام اللطيف واختيار الألقاب والأسماء الحسنة لهم وأن لا يخاطبوا بالألفاظ البذيئة.

حادثة تعكس مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطفل:

عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس الظهر فخفف في الركعتين الاخيرتين فلما أتم الصلاة قال له الناس: هل حدث في الصلاة حدث؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: خفّفت في الركعتين الأخيرتين، فقال: أما سمعتم صراخ الصبي؟(٣)

وهنا فتخفيف النبي من صلاته انما ليسخّر الوقت في تهدئة الطفل والعطف عليه، ونستفيد من هذا التصرّف النبويّ العظيم كيف

____________________

(١) بحار الانوار: ج ٧٢.

(٢) مكارم الاخلاق: ص ٢٢٢.

(٣) فروع الكافي: ج ٦، ص ٤٨.

٨٢

يجب علينا ان نراعي أبناءنا.

الالتفات الى حفظ العفاف بين الابناء:

من الواجبات المهمة الملقاة على عاتقي الام والاب هي حفظ عفة وطهارة الاطفال. وفي هذا الخصوص قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« اياكم وأن يجامع الرجل أمراته والصبيّ في المهد ينظر اليهما ».(١)

وجاء في الآية ٥٨ من سورة النور ان الاولاد غير البالغين يجب عليهم الاستئذان في ثلاث اوقات عند الدخول في غرفة الاب والام فنقرأ:

(.... والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مراتٍ من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظّهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عوراتٍ لكم).

وجاء في الآية ٥٩ من سورة النور أيضاً:

(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم).

ان هذه الاوامر والاحكام يجب الالتفات اليها من قبل اولياء الاطفال وتعليمهم بالاستئذان لغير البالغين منهم في ثلاثة اوقاتٍ وفي

____________________

(١) بحار الانوار ج ١٠٣ ص ٢٩٥.

٨٣

كل الاوقات للبالغين عند دخولهم الغرفة الخاصة بالأم والاب، ولا فرق بين الذكر والانثى في الاولاد.

فجملة (كما استأذن الّذين من قبلهم) اشارة الى وجوب الاستئذان للكبار في كل حال.

نعم: ان تطبيق هذه الاوامر لا هوان فيها لأن مجرد رؤية عضو من الاعضاء التي يجب ان لا يراها الابناء تشكل مطلقاً للانحراف الخلقي والامراض النفسية والتلوث الجنسي.

٤ - الطعام الحلال والحرام:

يؤثر الطعام تأثيراً بالغاً في جسم الانسان من وجهة نظر العلم والدين حيث ينتج عنه حفظ الجسم وكذلك له تاثير مباشر على روح الانسان.

لذا نرى أن الطعام المسموم يؤدي الى تسميم الجسم وكذلك الطعام الحرام فهو يؤدي الى تلوث الروح.

جاء في الآية ٣ من سورة المائدة قوله تعالى:

(حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به....).

فكل طعام حرّمه الاسلام لا يخلو من علة وحكمة، فمثلاً حرم لحم الخنزير، ولحم الخنزير من الاطعمة التي يأكله كثير من الناس غير المسلمين.

٨٤

ان بعض الناس المتأثرين بالغرب يقولون: لماذا حرّم الاسلام لحم الخنزير؟ وهذا اللحم لا ضرر فيه. واذا كان لحم الخنزير يولد انواع الدود وبالاخص (الدودة الوحيدة) في البطن فان تقدم العلم طبياً جعل مضاداً لهذا الدود وقضى عليه، فلماذا اذن بقي أكل لحم الخنزير حراماً؟!

والجواب على هذا السؤال واضح جداً، فالذين يسألون هذا السؤال لا ينظرون لاسباب التحريم الاّ من باب واحد فلو فرضنا ان الحم الخنزير يخلو من الأضرار المتلفة للجسم ولكن تبقى الاضرار الروحية التي لا يمكن انكارها. فالخنزير حيوان قذر منبوذ الى ابعد مدى، وان حيواناً صفاته هكذا فكيف يكون لحمه؟ اذن، ما كان عالقاً في ظاهره ينقله بلحمه المأكول الى الانسان. وهذا مما لا شك فيه وقد جاء في القرآن في (الآية ٤٢ من سورة المائدة) أنّه تعالى ينعت اليهود بـ (آكّالون للسحت)(١) وهذا صريح وانذار جدّي للذين يأكلون الطعام الحرام. وهؤلاء اليهود عبدة البطون هم دائماً حجر عثرة في طريق الدين والقانون.

ان اضرار اكل الحرام الجسمية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية واضحة لكل ذي عين بصيرة وهي أحد اكبر الاخطار التي

____________________

(١) السحت (على وزن الجفت) ومعناه سلخ الجلد. وكل مال غير مشروع يقال له سحت لان هذه الاموال تبعد الانسان عن الصفات العالية والنشاط والبركة الاجتماعية.

٨٥

تسحق الانسان وتؤدي به الى الدمار والانحطاط والسقوط في مجتمعٍ يعيش فيه.

وجاء في الآية ١٨٨ من سورة البقرة:

(ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالأثم وأنتم تعلمون).

فهذه الآية لا تنهى عن اكل مال الحرام فحسب، بل تنهى على الأخص من أكل الرشوة التي هي احدى طرق اكل الحرام.

قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« لعن الله الراشي والمرتشي والساعي بينهما ».(١)

وقال الامام الصادق (عليه السلام):

« السحت انواع كثيرة ».

فمال المرأة من الزنا ومال الخمر تعد من السحت.

وقال الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً:

« فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم ».(٢)

وجاء في الآية ١٠ من سورة النساء:

(انّ الّذين يأكلون اموال اليتامى ظلما انّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً).

____________________

(١) الوسائل ج ١٢ باب ٥ (ابواب ما تكسب به).

(٢) فروع الكافي ج ٥ ص ١٢٧.

٨٦

الروايات والطعام الحرام:

نأتي هنا بنماذج متعددة من الروايات حول الطعام الحرام:

١ - قال الامام الباقر (عليه السلام):

« ما من عبادة أفضل من عفة البطن والفرج ».(١)

٢ - وقال الامام السجاد (عليه السلام):

« حق بطنك أن لا تجعله وعاء للحرام ».(٢)

٣ - وكذلك قال الامام السجاد (عليه السلام):

« ما من شيء أحب الى الله بعد معرفته من عفّة البطن والفرج ».(٣)

٤ - وقال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): « أخاف على امتي من ثلاث:

الضلالة بعد المعرفة ومضلاّت الفتن وشهوة البطن والفرج ».(٤)

٥ - وقال الامام الباقر (عليه السلام):

« الذنوب كلها شديدة وأشدها ما نبت عليه اللحم والدم ».(٥)

وقال الامام الباقر (عليه السلام) ايضاً:

« انّ الرجل اذا أصاب مالاً من حرامٍ لم يقبل منه حج ولا عمرة ولا صلة رحمٍ » (سفينة البحار).

____________________

(١) المجالس السنية ج ٢ ص ٤٤٨.

(٢) مكارم الاخلاق ص ٤١٩.

(٣) المجالس السنية ج ٢ ص ٤٢٩.

(٤) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٩.

(٥) بحار الانوار: ج ٧٣، ص ٣١٧.

٨٧

٦ - جاء في الروايات أن موسى بن عمران (عليه السلام) رأى شخصاً يتضرع تضرعاً عظيما ويدعو رافعاً يديه ويبتهل فاوحى الله تعالى الى موسى (عليه السلام) لو فعل كذا وكذا لما استجيب دعاؤه لان في بطنه حراماً وفي بيته حراماً.(١)

وجاء شخص الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: احب ان يستجاب دعائي.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): « طهر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام ».

ثم قال: « من أحب أن يستجاب دعاوه فليطب مطعمه ومكسبه ».(٢)

وكذلك روي بان... من ترك لقمة حرام احب الى الله تعالى من صلاة الفي ركعة تطوعاً وردّ دانق حرام يعدل عند الله تعالى سبعين حجة مبرورة.(٣)

الحليب، الغذاء الاول للانسان.

قلنا سابقاً ان الام لها الاثر الفعال في مصير وتربية الابناء، لان ارتباطها بالطفل اكثر وأقرب بكثير من ارتباط الاب.

يقول العلمامء: إن تفكير الام له الاثر الشديد على الطفل منذ

____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٤٤٨.

(٢) نفس المصدر ج ١ ص ٤٤٨.

(٣) سفينة البحار ج ١ ص ٤٤٨.

٨٨

وجوده في رحمها وحتى رضاعته.

فاذا اهتمت المرأة بالقوانين الاسلامية وبالخصوص في الطعام الحلال منذ حملها الى رضاعتها للطفل فمن المسلّم أن تلد طفلاً سالماً وصالحاً للمجتمع.

لذلك نقرأ في الروايات: « ان السعيد سعيد في بطن امه والشقي شقي في بطن امه ».

وعلى هذا الاساس فان الأم تلعب دوراً مهماً في تكوين الطفل. ولاجل ان نوضح اكثر نأتي بالروايات التالية.

١ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه و آله وسلم):

« لا تسترضعوا الحمقاء فأن اللبن يعدي، وانّ الغلام ينزع الى اللبن ».

٢ - وقال الامام الباقر (عليه السلام) نقلاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

« فان اللبن يغلب الطباع ».

وفي رواية اخرى. « فان الولد يشب عليه ».

٣ - سئل الامام الكاظم (عليه السلام): عن امرأة ولدت طفلاً من الزنا هل ترضعه من لبنها؟

فأجاب (عليه السلام): « لا يصلح ولالبن ابنتها التي ولدت من

____________________

(١) فروع الكافي ج ٦ ص ٤٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

٨٩

الزنا ».(١)

٤ - قال محمد بن مروان: حدثني الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال:

« استرضع لولدك الحسان(٢) وإياك والقباح فانّ اللبن قد يعدي ».(٣)

وقد نهت بعض الروايات ارضاع المرأة شاربة الخمر لطفلها وأكدت على أن تكون المرأة في طهر عند الرضاعة.

٥ - قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« تخيّروا للرضاع كما تتخيّرون للنكاح فان الرضاع يغير الطباع ».(٤)

إن قضية الرضاع موجودة حتى عند الأنبياء (عليه السلام)، فالرسول محمد (صلى الله عليه وآله سلم) كانت مرضعته المرأة الطاهرة والحسنة السيرة حليمة السعدية. ونبي الله موسى (عليه السلام) قد رضع من امّه وهذا دليل يبين لنا أن المرضعة يجب ان تكون من ذوات المنبت الحسن والطاهر.

وجاء في آية ١٢ من سورة القصص في مورد رضاعة موسى (عليه السلام):

____________________

(١) فروع الكافي ج ٦ ص ٤٤.

(٢) من المحتمل ان رأي الامام من الحسان والقباح هو النساء الحسنات السيرة والسيئات السيرة.

(٣) فروع الكافي ج ٦ ص ٤٤.

(٤) سفينة البحار ج ١ ص ٥٢٣.

٩٠

(وحرّمنا عليه المراضع من قبل).

يذكر بعض المفسرين حول هذه الآية الشريفة ان موسى (عليه السلام) لم يرضع من كل النساء اللاتي عرضن عليه الاّ من أمه، وان هذا التحريم الذي ورد يؤكد لنا أن لبن جميع المرضعات انذاك كان ملوثاً وغير طاهرٍ، فالواجب ان يرضع النبي لبن امه الطاهر حتى يستطيع الوقوف امام التلوث والطغيان.

٩١

٣ - الأرضية الاقتصادية للذنب

ان بعض الامور الاقتصادية تهيىء الارضية لاقتراف الذنب وهي على نوعين.

١ - الغنى والثروة المالية.

٢ - الفقر والفاقة.

ان الفقر والفاقة عاملان لطغيان وكفر الانسان احياناً وكذلك الثروة وكثرة الاموال فهي سبب آخر للطغيان.

وكثير من الروايات والآيات القرآنية تؤكد ذلك وسوف نذكر بعض النماذج لاثبات المقصود. ولكن في البداية يجب الانتباه الى ان كلامنا يدور حول الغنى والثروة اللذين يهيئان الارضية للذنب احياناً.

وليس الغنى دليل الفساد والذنب كما تقول الشيوعية، لانّ هناك فرق كبير بين الارضية والدليل، وبعبارة واضحة: ان الغنى ليس سبباً للذنب. بل يميل بالانسان الى الذنب في بعض الاحيان، وسوف نشرح ذلك في الآية ٦ و ٧ من سورة العلق حيث تقول الآية:

٩٢

(انّ الأنسان ليطغى أن رآه استغنى).

إن هذه الآية لم تقل ان الثروة وعدم الفاقة سبب وعامل للفساد، بل تقول: ان الانسان اذا رأى نفسه غنياً اصابه الطغيان أما اذا لم تكن هذه النظرة عنده فالثروة والغنى ليست سبباً للفساد.

ولتوضيح ذلك نطرح هذا السؤال وهو: هل الثروة سبب للفساد؟

والجواب على هذا سؤال على نحوين أن الثروة عامل فساد:

١ - اذا كانت رؤية الانسان بان الاموال قد جمعها بقوته وذكائه.

٢ - اذا اعتقد الانسان بأنه حرّ في جمع المال وانفاقه بالطريقة التي يريدها.

ولكن الآيات القرآنية والروايات تؤكد أن الثروة والمال ليست ملكاً للانسان بل هي مال الله سبحانه الذي يرزق به عباده.

حيث ورد في القرآن الكريم ذكر كلمة (رزقناكم) ٧ مرات كلمة (رزقناهم) ١٣ مرة (يرزقكم) ٥ مرات. وجعل حدوداً لجمع وانفاق الاموال، فمثلاً اذا حصل الانسان المال عن طريق الربا او الكذب او الرشوة او الظلم فذلك حرام بالطبع، فالمال بمثابة السكين في يد الكافر، حيث يذبح ويقتل ويكون سبباً للفساد، ولكن اذا كانت في يد المؤمن فهي وسيلة حسنة.

أو كمثل الزجاجة حيث نستطيع ان نستفيد منهابان

٩٣

نضع فيها ماء الليمون ويمكننا ان نضع فيها الخمر والنبيذ أيضاً. اذن فالزجاجة وسيلة ولكن لاي غرض تستخدم؟

مثال آخر:

ان البرد يسبب الرشح عند من يصيبه ولكنه ليس علة لأنّ الانسان يستطيع ان يحفظ نفسه من البرد في فصل الشتاء؛ كذلك يصاب الانسان بالرشح في الصيف اذا أهمل نفسه ولم يهتم بها.

وعلى هذا الاساس فالبرد يهيىء الارضية للمرض وليس علة للمرض.

الثروة في يدي فرعون وقارون سبب للفساد. ولكن في يدي حضرة سليمان (عليه السلام) سببّ للعمار وسد النواقص الاقتصادية والاجتماعية.

وهناك نموذجان من الاثرياء في القرآن الكريم:

١ - النبي سليمان (عليه السلام).

٢ - قارون.

إنّ هذين الثريين أوتيا من المال ما لم يؤت لاحدٍ مثلهما، وكلاهما تصرف باستخدام المال بطريقته الخاصة، فالاول جعل الثروة والملك وسيلة للوصول الى مرضاة الله سبحانه وان ما يملك هو كله من عند الله سبحانه وتعالى. فيقول:

٩٤

(هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر) (سورة النمل الآية ٤٠).

أما الآخر فتصور أنّ المال الذي امتلكه، كان نتيجة لقدرته وذكائه وعلمه وجعله وسيلة للفساد وزينة للدنيا.

ولكن نرى سليمان (عليه السلام) انه فقير الى الله سبحانه وكل ما يملك مرده الى الله جل وعلا.

أما قارون ذلك الثري الذي يرى ثراءه وملكه من عنده فعندما طالبه موسى (عليه السلام) بزكاة امواله حسب الاوامر الالهية اعترض وقال:

(إنّما اوتيته على علم عندي) (القصص الآية ٧٨).

فغضب الله عليه بقوله جل وعلا في سورة القصص الآية ٨١:

(فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئةٍ ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين). (القصص الآية ٨١)

الترف والمترفون في القرآن الكريم:

جاءت عبارة « الترف والمترف » باشكالٍ مختلفة ولثمان مرات في القرآن الكريم.

« المترف » من أصل الترف والترفه « على وزن لقمة » ومعناها الزيادة وكثرة النعم التي تجعل صاحبها غافلاً ومغروراً الى حد الطغيان. وبهذا الصدد نقرأ ما جاء في الآية ٣٤ من سورة سبأ:

(وما ارسلنا في قريةٍ من نذيرٍ إلاّ قال مترفوها انّا بما

٩٥

أرسلتم به كافرون).

ويذكر القرآن الكريم أن الثروة التي يطغي بها صاحبها ويغتر هي تلك التي تهيىء الارضية للذنب. ومثل أولئك نراهم تحت الانذار الالهي الشديد. ومصداق ذلك جاء في الآية ٥٨ من سورة القصص.

(وكم أهلكنا من قريةٍ بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الاّ قليلاً).

وجاء في الآية الاولى من سورة التكاثر: (الهاكم التكاثر).

قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« التكاثر في الأموال جمعها من غير حقها ومنعها من حقها، في الأوعيةٍ ».(١)

علاقة الفقر والفاقة بالذنب:

كما ذكرنا سابقاً بان الفقر في بعض الاحيان يهيىء الارضية للذنب، ولكن نرى ان بعض الروايات تمدح الفقر وبعضها تذمّه، أمّا الذي ذمته الروايات فهو الفقر الاقتصادي الذي يحصل بسبب الستغلال المستعمرين وجشع أصحاب رؤوس الأموال والاوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تتولّد عنها الفوضى والبطالة.

وهذا الفقر والفاقة هما اللذان يسببان الانحراف واقتراف الذنب. مثل: الادمان، السرقة، والجرائم الاخرى. كما في المثل

____________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٢.

٩٦

القائل:

« الانسان الجائع لا ايمان له ».

وعلى هذا الاساس فانّ أحد الاسباب التي تساعد على ايجاد الارضية الاقتصادية للذنب هو الفقر.

ولصيانة المجتمع بشكل جيد من الانحراف يجب محاربة الفقر والفاقة.

١ - قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« الفقر الموت الاكبر ».

٢ - وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية:

«... فانّ الفقر منقصة للدّين، مدهشة للعقل داعية للمقت ».(٢)

٣ - وقال (عليه السلام) كذلك:

« القبر خير من الفقر ».(٣)

معالم في الاقتصاد الاسلامي:

يرتكر الاقتصاد الاسلامي على أساسين مهمين في المجتمع:

أولهما ان لا يكون اسراف وتفريط، وثانيهما القضاء على الفقر

____________________

(١) نهج البلاغة حكمة ١٦٣.

(٢) نهج البلاغة حكمة ٣١٩.

(٣) فهرس الغرر باب (الفقر).

٩٧

والفاقة. وبالانتباه الى هذين الاساسين وتطبيقهما تحلّ الكثير من المشاكل الاقتصادية. نعم: ان هناك مميزات وخطوطاً عريضة في الاقتصاد الاسلامي اذا طبقت حسب المجرى الصحيح فلا يبقى في المجتمع أثر للمشكلات الاقتصادية، والخطوط العريضة عبارة عن:

١ - يعتبر المال والثروة في نظر الاسلام « أمانة ».

٢ - الناس متساوون في الاستفادة من الموارد الطبيعية كـ (الماء، والهواء، والغابات، والجبال والسهول). وحسب الموازين والقوانين، المتقدم سابق، حق التقدم معه.

٣ - حق العمل للناس ولا يقتصر على الاعمال العضلية بل يتعدى الى الاعمال الفكرية والكتابية و....

٤ - يعتبر العمل مقدساً وعبادة في الاسلام.

٥ - تعتبر الملكية في الاسلام ملكية فردية وجماعية خلاف الافكار والنظريات الاخرى.

٦ - الهدف من العمل في الاسلام هو هدف مقدس ومكسب للمال حسب الحدود الشرعية.

٧ - يعتبر الاسلام ان كسب المال عزة. كما ورد في الحديث عن الائمة الاطهار « اذهب نحو عزتك ».(١)

فتعني اذهب نحو العمل والكسب والعزة، فالفقر يكون عاملاً لنفوذ الاجانب في المجتمع الاسلامي، والثروة المشروعة تكون

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٢ ص ٥.

٩٨

حائلاً دون نفوذهم.

٨ - بخس حق العامل من اكبر الذنوب.

٩ - الدنيا والمادة وسيلة وليست الهدف.

١٠ - يجب الاهتمام بالدنيا والاخرة على حد سواء.

١١ - العمل مطلوب للرجل والمرأة مع الالتفات الى اختيار ما يناسبهما.

قال أحد الائمة المعصومين (عليهم السلام):

« طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمةٍ ».(١)

١٢ - التسكع ممنوع في الاسلام كما قال الامام (عليه السلام) لأحد الاشخاص:

« احمل على رأسك واستغن عن الناس ».(٢)

١٣ - العمل الكاذب والمصطنع ممنوع في الاسلام « مثل الدلالة والواسطة التي لا حاجة فيها ».

١٤ - جميع اولياء الله سبحانه كانوا يعملون لكسب رزقهم فمثلاً كان نوح (عليه السلام) نجاراً، وهود (عليه السلام) كان تاجراً، وادريس (عليه السلام) خياطاً، واكثرهم كانوا يربون الحيوانات ويزرعون الارض ورعاة للأغنام، وهنا ملاحظة لطيفة في حكاية شعيب وموسى (عليهم السلام) وذلك عندما اراد شعيب (عليه السلام) ان يزوج احدى ابنتيه الى موسى (عليه السلام) حيث شرط عليه

____________________

(١) بحار الانوار: ج ١٠٣، ص ٩.

(٢) فروع الكافي ج ٥ ص ٧٧.

٩٩

ان يرعى أغنامه مدّة ثمان سنوات ثم قال:

(وما أريد ان اشقّ عليك ستجدني ان شاء الله من الصّالحين) (القصص آية ٢٧).

١٥ - يهتم الاسلام اهتماماً بالغاً في المسائل والاعمال المنتجة مثل: الزراعة وتربية الحيوانات، ويعتني بها عناية خاصة.

كما ورد عن احد الائمة الاطهار (عليهم السلام) انه قال:

« فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ».

١٦ - الكسل والاهمال وعدم السعي الى كسب الحلال والقاء كل الانسان على الناس يعتبر كلّها من الذنوب الكبيرة.

وفي رواية معروفة عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

« ملعون من ألقى كلّه على الناس ».(١)

ومن دعاء الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« اللهمّ بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه، فلولا الخبز ما صلّينا ولا صمنا ولا ادّينا فرائض ربّنا ».(٢)

قال علي بن ابي حمزة: ان ابي قال: رأيت الامام الكاظم (عليه السلام) يعمر ارضاً وقد غطى العرق قدميه، فقلت له:

فداك ابي وامي يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اين مواليك؟ - حتى لا يدعوك تتعب من العمل - فقال (عليه السلام):

____________________

(١) فروع الكافي ج ٥ ص ٧٢.

(٢) نفس المصدر السابق ص ٧٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277