الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86229
تحميل: 5880


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86229 / تحميل: 5880
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة الأعراف مكّيّة وهي مائتا وستّة آية)

( سورة الأعراف آية ١ - ٩)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص ( ١ ) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ٣ ) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ٤ ) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٥ ) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( ٦ ) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ  وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( ٧ ) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ  فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٨ ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( ٩ )

( بيان)

السورة تشتمل من الغرض على مجموع ما تشتمل عليه السور المصدّرة بالحروف المقطّعة( ألم ) والسورة المصدّرة بحرف( ص ) فليكن على ذكر منك حتّى نستوفي ما استيفاؤه من البحث في أوّل سورة حم عسق إن شاء الله تعالى عن الحروف المقطّعة القرآنيّة.

٢

والسورة كأنّها تجعل العهد الإلهيّ المأخوذ من الإنسان على أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً أصلاً يبحث عمّا آل إليه أمره بحسب مسير الإنسانيّة في الاُمم والأجيال فأكثرهم نقضوه ونسوه ثمّ إذا جاءتهم آيات مذكّرة لهم أو أنبياء يدعونهم إليه كذّبوا وظلموا بها ولم يتذكّر بها إلّا الأقلّون.

وذلك أنّ العهد الإلهيّ الّذي هو إجمال ما تتضمّنه الدعوة الدينيّة الإلهيّة إذا نزل بالإنسان - وطبائع الناس مختلفة في استعداد القبول والردّ - تحوّل لا محالة بحسب أماكن نزوله والأوضاع والأحوال والشرائط الحافّة بنفوس الناس فأنتج في بعض النفوس - وهي النفوس الطاهرة الباقية على أصل الفطرة - الإهتداء إلى الإيمان بالله وآياته، وفي آخرين وهم الأكثرون ذووا النفوس المخلدة إلى الأرض المستغرقة في شهوات الدنيا خلاف ذلك من الكفر والعتوّ.

واستتبع ذلك ألطافاً إلهيّة خاصّة بالمؤمنين من توفيق ونصر وفتح في الدنيا، ونجاة من النار وفوز بالجنّة وأنواع نعيمها الخالد في الآخرة، وغضباً ولعناً نازلاً على الكافرين وعذاباً واقعاً يهلك جمعهم، ويقطع نسلهم، ويخمد نارهم، ويجعلهم أحاديث ويمزّقهم كلّ ممزّق، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.

فهذه هي سنّة الله الّتي قد خلت في عباده وعلى ذلك ستجري، والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو على صراط مستقيم.

فتفاصيل هذه السنّة إذا وصفت لقوم ليدعوهم ذلك إلى الإيمان بالله وآياته كان ذلك إنذاراً لهم، وإذا وصفت لقوم مؤمنين ولهم علم بربّهم في الجملة ومعرفة بمقامه الربوبيّ كان ذلك تذكيراً لهم بآيات الله وتعليماً بما يلزمه من المعارف وهي معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وسنّته الجارية في الآخرة والاُولى وهذا هو الّذي يلوح من قوله تعالى في الآية الثانية من السورة:( لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) أنّ غرضها هو الإنذار والذكرى.

والسورة على أنّها مكّيّة - إلّا آيات اختلف فيها - وجه الكلام فيها بحسب الطبع إلى المشركين وطائفة قليلة آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يظهر من آيات أولّها وآخرها إنذار

٣

لعامّة الناس بما فيها من الحجّة والموعظة والعبرة، وقصّة آدمعليه‌السلام وإبليس وقصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسىعليهم‌السلام ، وهي ذكرى للمؤمنين تذكّرهم ما يشتمل عليه إجمال إيمانهم من المعارف المتعلّقة بالمبدأ والمعاد والحقّائق الّتي هي آيات إلهيّة.

والسورة تتضمّن طرفاً عالياً من المعارف الإلهيّة منها وصف إبليس وقبيله، ووصف الساعة والميزان والأعراف وعالم الذرّ والميثاق ووصف الذاكرين لله، وذكر العرش، وذكر التجلّي، وذكر الأسماء الحسنى، وذكر أنّ للقرآن تأويلاً إلى غير ذلك.

وهي تشتمل على ذكر إجماليّ من الواجبات والمحرّمات كقوله:( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) الآية ٢٩، وقوله:( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) الآية ٣٣، وقوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الآية ٣٢ فنزولها قبل نزول سورة الأنعام الّتي فيها قوله:( قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) الآية الأنعام: ١٤٥، فإنّ ظاهر الآية أنّ الحكم بإباحة غير ما استثنى من المحرّمات كان نازلاً قبل السورة فالإشارة بها إلى ما في هذه السورة.

على أنّ الأحكام والشرائع المذكورة في هذه السورة أوجز وأكثر إجمالاً ممّا ذكر في سورة الأنعام في قوله:( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الآيات، وذلك يؤيّد كون هذه السورة قبل الأنعام نزولاً على ما هو المعهود من طريقة تشريع الأحكام في الإسلام تدريجاً آخذاً من الاجمال إلى التفصيل.

قوله تعالى:( المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) تنكير الكتاب وتوصيفه بالأنزل إليه من غير ذكر فاعل الأنزل كلّ ذلك للدلالة على التعظيم ويتخصّص وصف الكتاب ووصف فاعله بعض التخصّص بما يشتمل عليه قوله:( فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) من التفريع كأنّه قيل: هذا كتاب مبارك يقص آيات الله أنزله إليك ربّك فلا يكن في صدرك حرج منه كما أنّه لو كان كتاباً غير الكتاب وألقاه إليك غير ربّك لكان من حقّه أن يتحرّج ويضيق منه صدرك لما في تبليغه ودعوة الناس إلى ما يشتمل عليه من الهدى من المشاقّ والمحن.

وقوله:( لِتُنذِرَ بِهِ ) غاية للأنزل متعلّقة به كقوله:( وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) و

٤

تخصيص الذكرى بالمؤمنين دليل على أنّ الإنذار يعمّهم وغيرهم، فالمعنى: أنزل إليك الكتاب لتنذر به الناس وهو ذكرى للمؤمنين خاصّة لأنّهم يتذكّرون بالآيات والمعارف الإلهيّة المذكورة فيها مقام ربّهم فيزيد بذلك إيمانهم وتقرّ بها أعينهم، وأمّا عامّة الناس فإنّ هذا الكتاب يؤثّر فيهم أثر الإنذار بما يشتمل عليه من ذكر سخط الله وعقابه للظالمين في الدار الآخرة، وفي الدنيا بعذاب الاستئصال كما تشرحه قصص الامم السالفة.

ومن هنا يظهر: أنّ قول بعضهم: إنّ قوله:( لِتُنذِرَ بِهِ ) متعلّق بالحرج والمعنى: لا يكن في صدرك حرج للإنذار به، ليس بمستقيم فإنّ تعقّبه بقوله:( وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) بما عرفت من معناه يدفع ذلك.

ويظهر أيضاً ما في ظاهر قول بعضهم: إنّ المراد بالمؤمنين كلّ من كان مؤمناً بالفعل عند النزول ومن كان في علم الله أنّه سيؤمن منهم ! فإنّ الذكرى المذكور في الآية لا يتحقّق إلّا فيمن كان مؤمناً بالفعل.

قوله تعالى:( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) لمّا ذكر لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كتاب أنزل إليه لغرض الإنذار شرع في الإنذار ورجع من خطابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خطابهم فإنّ الإنذار من شأنه أن يكون بمخاطبة المنذرين - اسم مفعول - وقد حصل الغرض من خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وخاطبهم بالأمر باتّباع ما أنزل إليهم من ربّهم، وهو القرأن الآمر لهم بحقّ الاعتقاد وحقّ العمل أعني الإيمان بالله وآياته والعمل الصالح الّذين يأمر بهما الله سبحانه في كتابه وينهى عن خلافهما، والجملة أعني قوله:( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ) موضوعة وضع الكناية كنّى بها عن الدخول تحت ولاية الله سبحانه والدليل عليه قوله :( وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) حيث لم يقل في مقام المقابلة: ولا تتّبعوا غير ما أنزل إليكم.

والمعنى: ولا تتّبعوا غيره تعالى - وهم كثيرون - فيكونوا لكم أولياء من دون الله قليلاً ما تذكّرون، ولو تذكّرتم لدريتم أنّ الله تعالى هو ربّكم لا ربّ لكم سواه فليس لكم من دونه أولياء.

٥

قوله تعالى:( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) تذكير لهم بسنّة الله الجارية في المشركين من الامم الماضية إذ اتّخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلاً أو نهاراً فاعترفوا بظلمهم.

و( البَيَاتً ) التبييت وهو قصد العدّو ليلاً، و( القَائِلُونَ ) من القيلولة وهو النوم نصف النهار، وقوله:( بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) ولم يقل : ليلاً أو نهاراً كأنّه للاشارة إلى أخذ العذاب إيّاهم وهم آخذون في النوم آمنون ممّا كمن لهم من البأس الإلهيّ الشديد غافلون مغفّلون.

قوله تعالى:( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) تتميم للتذكير يبيّن أنّ الإنسان بوجدانه وسره يشاهد الظلم من نفسه إن اتّخذ من دون الله أولياء بالشرك، وأنّ السنّة الإلهيّة أن يأخذ منه الاعتراف بذلك ببأس العذاب إن لم يعترف به طوعاً ولم يخضع لمقام الربوبيّة فليعترف اختياراً وإلّا فسيعترف اضطراراً.

قوله تعالى:( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) دلّ البيان السابق على أنّهم مكلّفون بتوحيد الله سبحانه موظّفون برفض الأولياء من دونه غير مخلّين وما فعلوا، ولا متروكون وما شاؤا، فإذا كان كذلك فهم مسؤلون عمّا أمروا به من الإيمان والعمل الصالح، وما كلّفوا به من القول الحقّ، والفعل الحقّ وهذا الامر والتكليف قائم بطرفين: الرسول الّذي جاءهم به والقوم الّذين جاءهم، ولهذا فرّع على ما تقدّم من حديث إهلاك القرى وأخذ الاعتراف منهم بالظلم قوله:( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) .

وقد ظهر بذلك أنّ المراد بالّذين أرسل إليهم الناس وبالمرسلين الأنبياء والرسلعليهم‌السلام ، وما قيل: إنّ المراد بالّذين أرسل إليهم الأنبياء، وبالمرسلين الملائكة لا يلائم السياق إذ لا وجه لاخراج المشركين عن شمول السؤال والكلام فيهم.

على أنّ الآية التالية لا تلائم ذلك أيضاً. على أنّ الملائكة لم يدخلوا في البيان السابق بوجه لا بالذات ولا بالتبع.

٦

قوله تعالى:( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) دلّ البيان السابق على أنّهم مربوبون مدبّرون فسيسألون عن أعمالهم ليجزوا بما عملوا، وهذا إنّما يتمّ فيما إذا كان السائل على علم من أمر أعمالهم فإنّ المسؤل لا يؤمن أن يكذب لجلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر عن نفسه في مثل هذا الموقف الصعب الهائل الّذي يهدّده بالهلاك الخالد والخسران المؤبّد.

ولذلك فرّع عليه قوله:( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ) الخ، وقد نكّر العلم للاعتناء بشأنه وأنّه علم لا يخطئ ولا يغلط، ولذلك أكّده بعطف قوله:( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) عليه للدلالة على أنّه كان شاهداً غير غائب وإن وكّل عليهم من الملائكة من يحفظ عليهم أعمالهم بالكتابة فإنّه بكلّ شئ محيط.

قوله تعالى:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إلى آخر الآيتين) الآيتان تخبران عن الوزن وهو توزين الأعمال أو الناس العاملين من حيث عملهم، والدليل عليه قوله تعالى:( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ - إلى أن قال -وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) الأنبياء: ٤٧، حيث دلّ على أنّ هذا الوزن من شعب حساب الأعمال، وأوضح منه قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: ٨، حيث ذكر العمل وأضاف الثقل إليه خيراً وشرّا.

وبالجملة الوزن إنّما هو للعمل دون عامله فالآية تثبت للعمل وزناً سواء كان خيراً أو شرّا غير أنّ قوله تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) الكهف: ١٠٥، يدلّ على أنّ الأعمال في صور الحبط - وقد تقدّم الكلام فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب - لا وزن لها أصلاً، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله.

فما لم يحبط من الأعمال الحسنة والسيّئة له وزن يوزن به لكنّ الآيات في عين أنّها تعتبر للحسنات والسيّئات ثقلاً إنّما تعتبر فيها الثقل الإضافيّ وترتّب القضاء الفصل عليه بمعنى أنّ ظاهرها أنّ الحسنات توجب ثقل الميزان والسيّئات خفّة الميزان لا أن

٧

توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثمّ السيّئات ويؤخذ ما لها من الثقل ثمّ يقايس الثقلان فأيّهما كان أكثر كان القضاء له فإن كان الثقل للحسنة كان القضاء بالجنّة وإن كان للسيّئة كان القضاء بالنار، ولازم ذلك صحّة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفّتين والقّبان وغيرهما.

لا بل ظاهر الآيات أنّ الحسنة تظهر ثقلاً في الميزان والسيّئة خفّة فيه كما هو ظاهر قوله:( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) ونظيره قوله تعالى:( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) المؤمنون: ١٠٣، وقوله تعالى:( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ) القارعة: ١١، فالآيات - كما ترى - تثبت الثقل في جانب الحسنات دائماً والخفة في جانب السيّئات دائماً.

ومن هناك يتأيّد في النظر أنّ هناك أمراً آخر تقايس به الأعمال والثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه ووزن به وهو ثقل الميزان، وما كان منها سيئة لم ينطبق عليه ولم يوزن به وهو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياساً وهو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في أحدى الكفّتين ثمّ يوضع المتاع في الكفّة الاخرى فإن عادل المثقال وزناً بوجه على ما يدلّ عليه الميزان أخذ به وإلّا فهو الترك لا محالة، والمثقال في الحقيقة هو الميزان الّذي يوزن به وأمّا القبّان وذو الكفّتين ونظائرهما فهي مقدّمة لما يبيّنه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلاً وخفّة كما أنّ واحد الطول وهو الذراع أو المتر مثلاً ميزان يوزن به الأطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو وإلّا ترك.

ففي الأعمال واحد مقياس توزن به فللصلاه مثلاً ميزان توزن به وهي الصلاة التامّة الّتي هي حقّ الصلاة، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك، وللكلام والقول حقّ القول الّذي لا يشتمل على باطل، وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) آل عمران: ١٠٢.

فالأقرب بالنظر إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ )

٨

أنّ الوزن الّذي يوزن به الأعمال يومئذ إنّما هو الحقّ فبقدر اشتمال العمل على الحقّ يكون اعتباره وقيمته والحسنات مشتملة على الحقّ فلها ثقل كما أنّ السيّئات ليست إلّا باطلة فلا ثقل لها، فالله سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحقّ فما اشتمل عليه العمل من الحقّ فهو وزنه وثقله.

ولعلّه إليه الإشارة بالقضاء بالحقّ في قوله:( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الزمر: ٦٩

والكتاب الّذي ذكر الله أنّه يوضع يومئذ - وإنّما يوضع للحكم به - هو الّذي أشار إليه بقوله:( هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ) الجاثيه: ٢٩، فالكتاب يعيّن الحقّ وما اشتمل عليه العمل منه، والوزن يشخّص مقدار الثقل.

وعلى هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدريّ، وإنّما عبّر بالموازين - بصيغة الجمع - في قوله:،( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) الدالّ على أنّ لكلّ أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحقّ الّذي يوزن به باختلاف الأعمال فالحقّ في الصلاة وهو حقّ الصلاة غير الحقّ في الزكاة والصيام والحجّ وغيرها، وهو ظاهر، فهذا ما ينتجه البيان السابق.

والّذي ذكره جمهور المفسّرين في معنى قوله:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) أنّ الوزن مرفوع على الابتداء ويومئذ ظرف والحقّ صفة الوزن وهو خبره والتقدير: والوزن يومئذ الوزن الحقّ وهو العدل، ويؤيّده قوله تعالى في موضع آخر:( نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) الأنبياء: ٤٧.

وربّما قيل: إنّ الوزن مبتدأ وخبره يومئذ والحقّ صفة الوزن والتقدير : والوزن الحقّ إنّما هو في يوم القيامة وقال في الكشّاف: ورفعه يعني الوزن على الابتداء وخبره يومئذ، والحقّ صفته أي والوزن يوم يسأل الله الامم ورسلهم الوزن الحقّ أي العدل (انتهى) وهو غريب إلّا أن يوجّه بحمل قوله: الوزن الحقّ الخ على الاستئناف.

وقوله تعالى:( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) الموازين جمع ميزان على ما تقدّم من البيان ويؤيّده الآية المذكورة آنفاً:( نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) والأنسب بما ذكره

٩

القوم في معنى قوله:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) أن يكون جمع موزون وهو العمل وإن أمكن أن يجعل جمع ميزان ويوجّه تعدّد الموازين بتعدّد الأعمال الموزونة بها.

لكن يبقى الكلام على قول المفسّرين : أن الوزن الحقّ هو العدل في تصوير معنى ثقل الموازين بالحسنات وخفّتها بالسيّئات فإنّ فيما يوزن به الأعمال حسناتها وسيّئاتها خفاءً، والقسط وهو العدل صفة للتوزين وهو نعت لله سبحانه على ما يظهر من قوله:( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) الأنبياء: ٤٧، فإنّ ظاهر قوله:( فَلَا تُظْلَمُ ) ، الخ أنّ الله لا يظلمهم فالقسط قسطه وعدله فليس القسط هو الميزان يومئذ بل وضع الموازين هو وضع العدل يومئذ، فافهم ذلك.

وهذا هو الّذي بعثهم على أن فسّروا ثقل الموازين برجحانها بنوع من التجوّز فالمراد بثقل الموازين رجحان الأعمال بكونها حسنات وخفّتها مرجوحيّتها بكونها سيّئات ومعنى الآية: والوزن يومئذ العدل أي الترجيح بالعدل فمن رجّحت أعماله لغلبة الحسنات فاولئك هم المفلحون، ومن لم يترجّح أعماله لغلبة سيّئاته فاولئك الّذين خسروا أنفسهم أي ذهبت رأس مالهم الّذي هو أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون لتكذيبهم بها.

ويعود الكلام حينئذ إلى الملاك الّذي به تترجّح الحسنة على السيّئة وسيّما إذا اختلطت الأعمال واجتمعت حسنات وسيّئات، والحسنات والسيّئات مختلفة كبراً وصغراً فما هو الملاك الّذي يعلم به غلبة أحد القبيلين على الآخر؟ فإخباره تعالى بأنّ أمر الوزن جار على العدل يدلّ على جريانه بحيث تتمّ به الحجّة يومئذ على العباد فلا محالة هناك أمر تشتمل عليه الحسنة دون السيّئة وبه الترجيح وبه يعلم غلبة الثقيل على الخفيف والحسنة على السيّئة إذا اجتمعت من كلّ منهما عدد مع الاخرى وإلّا لزم القول بالجزاف البتّة.

وهذا كلّه ممّا يؤيّد ما قدّمناه من الاحتمال، وهو أن يكون توزين الأعمال بالحقّ، وهو التوزين العادل فمن ثقلت موازينه باشتمال أعماله على الحقّ فاولئك هم المفلحون، ومن خفّت موازينه لعدم اشتمال أعماله على الحقّ الواجب في العبوديّة فاولئك

١٠

الّذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون بتكذيبهم بها وعدم تزوّدهم بما يعيشون به هذا اليوم فقد أهلكوا أنفسهم بما أحلّوها دار البوار جهنّم يصلونها وبئس القرار.

فقد تبيّن بما قدّمناه أوّلاً: أنّ الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحقّ فيها، وبقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب وإن لم تشتمل فهو الهلاك، وهذا التوزين هو العدل والكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل.

وقيل: إنّ المراد بالوزن هو العدل، وثقل الميزان هو رجحان العمل فالكلام موضوع على نحو من الاستعارة، وقد تقدّم.

وقيل: إنّ الله ينصب يوم القيامة ميزاناً له لسان وكفّتان فتوزن به أعمال العباد من الحسنات والسيّئات، وقد اختلف هؤلاء في كيفيّة توزين الأعمال، وهي أعمال انعدمت بصدورها، ولا يجوز إعادة المعدوم من الأعراض عندهم، على أنّها لا وزن لها، فقيل: إنّما توزن صحائف الأعمال لا أنفسها، وقيل: تظهر للأعمال من حسنتها وسيّئاتها آثار وعلائم خاصّة بها فتوزن العلامات بمشهد من الناس، وقيل: تظهر الحسنات في صور حسنة والسيّئات في صور قبيحة منكرة فتوزن الصور، وقيل : توزن نفس المؤمن والكافر دون أعمالهما من حسنة أو سيّئة، وقيل: الوزن ظهور قدر الإنسان، وثقل الميزان كرامته وعظم قدره، وخفّة الميزان هوانه وذلّته.

وهذه الاقوال على تشتّتها لا تعتمد على حجّة من ألفاظ الآيات، وهي جميعاً لا تخلو عن بناء الوزن الموصوف على الجزاف لأنّ الحجّة لا تتمّ بذلك على العبد، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

وثانياً: أنّ هناك بالنسبة إلى كلّ إنسان موازين توزن بها أعماله والميزان في كلّ باب من العمل هو الحقّ الّذي يشتمل عليه ذلك العمل - كما تقدّم - فإنّ يوم القيامة هو اليوم الّذي لا سلطان فيه إلّا للحقّ ولا ولاية فيه إلّا لله الحقّ، قال تعالى:( ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ) النبأ: ٣٩، وقال تعالى:( هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) الكهف: ٤٤، وقال:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس: ٣٠.

١١

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن الضريس والنحّاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل من طرق عن ابن عبّاس قال: سوره الأعراف نزلت بمكّة.

أقول: ورواه أيضا عن ابن مردويه عن ابن الزبير.

وفيه أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنيّة، وهي : واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إلى آخر الآية، وسائرها مكّيّة.

أقول: وهو منه اجتهاد وسيأتي ما يتعلّق به من الكلام.

وفيه قوله تعالى: ولنسألنّ الّذينّ أرسل إليهم الآية أخرج أحمد عن معاوية بن حيده أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ ربّي داعي وإنّه سائلي: هل بلّغت عبادي؟ وإنّي قائل: ربّ إنّي قد بلّغتهم فليبلّغ الشاهد منكم الغائب ثمّ إنّكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام إنّ أوّل ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفّه.

وفيه: أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته فالإمام يسأل عن الناس، والرجل يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيّده.

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة، والروايات في السؤال يوم القيامة كثيرة واردة من طرق الفريقين سنورد جلّها في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.

وفيه: أخرج أبو الشيخ عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيّئات فمن رجّحت حسنته على سيّئاته دخل الجنّة ومن رجّحت سيّئاته على حسنته دخل النار.

وفيه: أخرج ابن أبي الدنيا في الاخلاص عن علي بن أبي طالب قال: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّف ميزانه يوم القيامة، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة.

١٢

أقول: الروايتان لا بأس بهما من حيث المضمون لكنّهما لا تصلحان لتفسير الآيتين ولم تردا له لأخذ الرجحان فيهما في جانبي الحسنة والسيّئة جميعاً.

وفيه: أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: خلق الله كفّتي الميزان مثل السماء والأرض فقالت الملائكة: يا ربّنا من تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت، وخلق الله الصراط كحدّ السيف فقالت الملائكة: يا ربّنا من تجيز على هذا؟ قال: أجيز عليه من شئت.

أقول: وروى الحاكم في الصحيح عن سلمان مثله، وظاهر الرواية أنّ الميزان يوم القيامة على صفة الميزان الموجود في الدنيا المعمول لتشخيص الاثقال وهناك روايات متفرّقة تشعر بذلك، وهي واردة لتقريب المعنى إلى الافهام الساذجة بدليل ما سيوافيك من الروايات.

وفي الاحتجاج في حديث هشام بن الحكم عن الصادقعليه‌السلام أنّه سأله الزنديق فقال أو ليس يوزن الأعمال؟ قال: لا إنّ الأعمال ليست بأجسام وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشئ من جهل عدد الاشياء، ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنّ الله لا يخفى عليه شئ، قال: فما معنى الميزان؟ قال: العدل.

قال: فما معناه في كتابه فمن ثقلت موازينه؟ قال: فمن رجّح عمله، الخبر.

أقول: وفي الرواية تأييد ما قدّمناه في تفسير الوزن، ومن ألطف ما فيها قولهعليه‌السلام ( وإنّما هي صفة ما عملوا) يشيرعليه‌السلام إلى أنّ ليس المراد بالأعمال في هذه الابواب هو الحركات الطبيعيّة الصادرة عن الإنسان لاشتراكها بين الطاعة والمعصية بل الصفات الطارئة عليها الّتي تعتبر لها بالنظر إلى السنن والقوأنّين الاجتماعيّة أو الدينيّة مثل الحركات الخاصّة الّتي تسمّى وقاعاً بالنظر إلى طبيعة نفسها ثمّ تسمّى نكاحاً إذا وافقت السنّة الاجتماعيّة أو الإذن الشرعيّ، وتسمّى زناً إذا لم توافق ذلك، وطبيعة الحركات الصادرة واحدة، وقد استدلّعليه‌السلام لما ذكره من طريقين: أحدهما: أنّ الأعمال صفات لا وزن لها والثاني: أنّ الله سبحانه لا يحتاج إلى توزين الأشياء لعدم اتّصافه بالجهل تعالى شأنه.

قال بعضهم: إنّه بناءً على ما هو الحقّ من تجسّم الأعمال في الآخرة، وإمكان

١٣

تأثير حسن العمل ثقلاً فيه، وكون الحكمة في الوزن تهويل العاصي وتفضيحه وتبشير المطيع وازدياد فرحه وإظهار غاية العدل، وفي الرواية وجوه من الإشكال فلا بدّ من تأويلها إن أمكن وإلّا فطرحها أو حملها على التقيّة، انتهى.

أقول: قد تقدّم البحث عن معنى تجسّم الأعمال وليس من الممتنع أن يتمثّل الأعمال عند الحساب، والعدل الإلهيّ القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الأعمال وسلعها لكنّ الرواية لا تنفي ذلك وإنّما تنفي كون الأعمال أجساماً دنيويّة محكومة بالجاذبة الأرضية الّتي تظهر فيها في صورة الثقل والخفّة، أوّلاً.

والإشكال مبني على كون كيفيّة الوزن بوضع الحسنات في كفّة من الميزان.

والسيّئات في كفة أخرى ثمّ الوزن والقياس، وقد عرفت: أنّ الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك أصلاً، ثانياً.

وفي التوحيد بإسناده عن أبي معمّر السعداني عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في حديث قال: وأمّا قوله:( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - الي قوله -وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) فإنّما يعني الحسنات توزن الحسنات والسسيّئات فالحسنات ثقل الميزان والسيّئات خفّة الميزان.

أقول: وتأييده ما تقدّم ظاهر فإنّه يأخذ المقياس هو الحسنة وهي لا محالة واحدة يمكن أن يقاس بها غيرها، وليست إلّا حقّ العمل.

وفي المعاني بإسناده عن المنقريّ عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) قال: هم الأنبياء والأوصياء.

أقول: ورواه في الكافي عن أحمد بن محمّد عن إبراهيم الهمدانيّ رفعه إليهعليه‌السلام ، ومعنى الحديث ظاهر بما قدّمناه فإنّ المقياس هو حقّ العمل والاعتقاد، وهو الّذي عندهمعليهم‌السلام .

وفي الكافي بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام فيما كان يعظ به قال: ثمّ رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال عزّوجلّ:( وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) فإن قلتم أيّها الناس

١٤

إنّ الله عزّوجلّ إنّما عني بها أهل الشرك فكيف ذلك؟ وهو يقول: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وأنّ كانت مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين فاعلموا عباد الله أنّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام، الخبر.

أقول: يشيرعليه‌السلام إلى قوله تعالى:( أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) الآية.

وفي تفسير القمّي: في قوله:( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) الآية قالعليه‌السلام : المجازاة بالأعمال إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً.

أقول: وهو تفسير بالنتيجة.

وفيه: في قوله تعالى:( بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) قالعليه‌السلام : بالائمّة يجحدون.

أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق وفي المعاني المتقدّمة روايات اُخر.

١٥

( سورة الأعراف آية ١٠ - ٢٥)

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ  قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( ١٠ ) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ( ١١ ) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ  قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( ١٢ ) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( ١٣ ) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ١٤ ) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ( ١٥ ) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( ١٦ ) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ  وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( ١٧ ) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا  لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ( ١٨ ) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٩ ) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( ٢٠ ) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢١ ) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ  فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ  وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ٢٢ ) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ  وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ( ٢٤ ) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( ٢٥ )

١٦

( بيان)

تصف الآيات بدء خلقة الإنسان وتصويره، وما جرى هناك من أمر الملائكة بالسجدة له، وسجودهم وإباء إبليس، وغروره آدم وزوجته، وخروجهما من الجنّة وما قضى الله في ذلك من القضاء.

قوله تعالى:( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ) التمكين في الأرض هو الاسكان والإيطان فيها أي جعلنا مكانكم الأرض، ويمكن أن يكون من التمكين بمعنى الإقدار والتسليط، ويؤيّد المعنى الثاني أنّ هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصّة آدم وإبليس وقد بدئت الآيات فيها بقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) البقرة: ٢٩، وهو التسليط والتسخير.

غير أنّ هذه الآيات الّتي نحن فيها لمّا كانت تنتهي إلى قوله:( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) كان المعنى الأوّل هو الأنسب وقوله:( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ) (الخ) كلإجمال لما تفصّله الآيات التالية إلى آخر قصّة الجنّة.

والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوهما، والآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الأرض أو التسلّط والاستيلاء عليها، وجعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به، ولذلك ختم الكلام بقوله:( قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ) .

قوله تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) صورة قصّة تبتدئ من هذه الآية إلى تمام خمس عشرة آية يفصّل فيها إجمال الآية السابقة وتبيّن فيها العلل والأسباب الّتي انتهت إلى تمكين الإنسان في الأرض المدلول عليه بقوله:( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) .

ولذلك بدئ الكلام في قوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ) (الخ) بلام القسم، ولذلك أيضاً سيقت القصّتان أعني قصّة الأمر بالسجدة، وقصّة الجنّة في صورة قصّة واحدة من غير أن تفصل القصّة الثانية بما يدلّ على كونها قصّة مستقلّة كلّ ذلك ليتخلّص إلى قوله:

١٧

( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ) إلى آخر الآيتين فينطبق التفصيل على إجمال قوله:( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ) الآية.

وقوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) الخطاب فيه لعامّة الآدميين وهو خطاب امتنانيّ كما مرّ نظيره في الآية السابقة لأنّ المضمون هو المضمون وإنّما يختلفان بالإجمال والتفصيل.

وعلى هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص أعني قوله:( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) بعد قوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) يفيد بيان حقّيقتين:

الاولى: أنّ السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الإنسانيّة وإن كان آدمعليه‌السلام هو القبلة المنصوبة للسجدة فهوعليه‌السلام في أمر السجدة كان مثالاً يمثّل به الإنسانيّة نائباً مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجوداً له من جهة شخصه كالكعبة المجعولة قبلة يتوجّه إليها في العبادات، وتمثل بها ناحية الربوبيّة.

ويستفاد هذا المعنى أوّلاً من قصّة الخلافة المذكورة في سورة البقرة آية ٣٠ - ٣٣ فإنّ المستفاد من الآيات هناك أنّ أمر الملائكة بالسجدة متفرّع على الخلافة، والخلافة المذكورة في الآيات - كما استفدناه هناك - غير مختصّة بآدم بل جارية في عامّة الآدميين فالسجدة أيضاً للجميع.

وثانياً: أنّ إبليس تعرّض لهم أي لبني آدم ابتداءً من غير توسيط آدم ولا تخصيصهعليه‌السلام بالتعرّض حين قال على ما حكاه الله سبحانه:( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) (الخ) من غير سبق ذكر لبني آدم، وقد ورد نظيره في سورة الحجر حيث قال:( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر- ٣٩، وفي سورة ص حيث قال:( فبعزّتك لاُغوينّهم أجمعين ) ص: ٨٢، ولو لا أنّ الجميع مسجودون بنوعيّتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداءً وهو ظاهر.

وثالثاً: أنّ الخطابات الّتي خاطب الله سبحانه بها آدمعليه‌السلام كما في سورة البقرة

١٨

وسورة طه عمّمها بعينها في هذه السورة لجميع بنيه، قال تعالى:( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ) الخ.

والحقيقة الثانية: أنّ خلق آدمعليه‌السلام كان خلقاّ للجميع كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ) السجدة: ٨ وقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ) المؤمن: ٦٧، على ما هو ظاهر الآيتين أنّ المراد بالخلق من تراب هو الّذي كان في آدمعليه‌السلام .

ويشعر بذلك أيضاً قول إبليس في ضمن القصّة على ما حكاه الله سبحانه في سورة أسرى:( لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) الآية، ولا يخلو عن إشعار به أيضاً قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) الآيات الأعراف: ١٧٢ على ما سيجئ من بيانه.

وللمفسّرين في الآية أقوال مختلفة قال في مجمع البيان: ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) قال الأخفش:( ثُمَّ ) ههنا في معنى الواو، وقال الزجّاج: وهذا خطأ لا يجوّزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه إنّما( ثمّ ) للشئ الّذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، وإنّما المعنى في هذا الخطاب ذكر إبتداء الخلق أوّلاً فالمراد أنّا بدأنا خلق آدم ثمّ صوّرناه فابتدأ خلق آدم من التراب ثمّ وقعت الصورة بعد ذلك فهذا معنى خلقناكم ثمّ صوّرناكم( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) بعد الفراغ من خلق آدم، وهذا مروي عن الحسن، ومن كلام العرب: فعلنا بكم كذا وكذا وهم يعنون أسلافهم، وفي التنزيل:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) أي ميثاق أسلافكم.

وقد قيل في ذلك أقوال أخر: منها : أنّ معناه خلقنا آدم ثمّ صوّرناكم في ظهره ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، عن ابن عبّاس ومجاهد والربيع وقتادة والسدّيّ.

ومنها: أنّ الترتيب واقع في الاخبار فكأنّه قال: خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ إنّا نخبركم أنّا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل: أنا راجل ثمّ أنا مسرع، وهذا قول جماعة من النحويين منهم علىّ بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافيّ وغيرهما، وعلى هذا

١٩

فقد قيل: إنّ المعنى: خلقناكم في أصلاب الرجال ثمّ صوّرناكم في أرحام النساء عن عكرمة وقيل خلقناكم في الرحم ثمّ صوّرناكم بشقّ السمع والبصر وسائر الأعضاء انتهى.

أمّا ما نقله عن الزجّاج من الوجه ففيه أوّلا أنّ نسبة شئ من صفات السابقين أو أعمالهم إلى أعقابهم إنّما تصحّ إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك كما فيما أورده من المثال لا بمجرّد علاقة النسب والسبق واللّحوق حتّى يصحّ بمجرّد الانتساب النسليّ أن تعدّ خلقة نفس آدم خلقاً لبنيه من غير أن يكون خلقه خلقاً لهم بوجه.

وثانياً: أنّ ما ذكره لو صحّ به أن يعدّ خلق آدم وتصويره خلقاً وتصويراً لبنيه صحّ أن يعدّ أمر الملائكة بالسجدة له أمراً لهم بالسجدة لبنيه كما جرى على ذلك في قوله:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) فما باله قال:( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ولم يقل:( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ؟

وأمّا ما نقله أخيراً من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية، ولعلّ القائلين بها لا يرضون أن يتأوّل في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام؟

قوله تعالى:( سَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ) أخبر تعالى عن سجود الملائكة جميعاً كما يصرّح به في قوله:( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) الحجر: ٣٠، واستثنى منهم إبليس وقد علل عدم ائتماره بالأمر في موضع آخر بقوله:( كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠، وقد وصف الملائكة بمثل قوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧، وهو بظاهره يدلّ على أنّه من غير نوع الملائكة.

ولهذا وقع الخلاف بينهم في توجيه هذا الاستثناء: أ هو استثناء متّصل بتغليب الملائكة لكونهم أكثر وأشرف أو أنّه استثناء منفصل وإنّما أمر بأمر على حدة غير الأمر المتوجّه إلى جمع الملائكة وإن كان ظاهر قوله:( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) أنّ الأمر لم يكن إلّا واحداً وهو الّذي وجّهه الله إلى الملائكة.

والّذي يستفاد من ظاهر كلامه تعالى أنّ إبليس كان مع الملائكة من غير تميّز له

٢٠