الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86249
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86249 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كذلك شقاء الإنسان في علمه بترك العقل والعكوف على الأوهام والخرافات الّتي تزيّنها له عواطف الشهوة والغضب، وفي عمله بالتمتّع من لذائذ المادّة، والاكتناه والاسترسال في الشهوات الحيوانيّة والاستكبار عن كلّ حقّ لا يوافق هواه.

فهذان القبيلان من الأسباب الماديّة يسوقان الإنسان إلى الحقّ والباطل والسعادة والشقاء والجنّة والنار غير أنّهما مقتضيان من غير علّيّة تامّة، ولله سبحانه المشيّة فيهما والبداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الأسباب، وقد تقدّم ما يدلّ عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران.وفي معناه أحاديث اُخر تثبت لله المشيّة وجواز المحو والاثبات في الاُمور.

ويمكن أن توجّه هذه الأخبار بوجه آخر أدقّ يحتاج تعقّله إلى صفاء في الذهن وقدم صدق في المعارف الحقيقيّة، وهو أنّ السعادة والشقاوة في الإنسان إنّما تتحقّقان بفعليّة الإدراك واستقراره، والإدراك لتجرّده عن المادّة ليس بمقيّد بقيودها ولا محكومة بأحكامها ومنها الزمان الّذي هو مقدار حركتها، ونحن وإن كنّا نقدّر بالنظر إلى كون المادّة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعليّة أنّ السعادة بعد زمان الحركة لكنّها بحسب حقيقة نفسها غير مقيّدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة وذلك نظير ما ننسب اُموراً حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيّد فعله بالزمان نقول: خلق الله زيداً في زمان كذا، وأهلك قوم نوح، ونجّى قوم يونس، وبعث محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) في عصر كذا فنقيّد فعله بالزمان وإنّما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة وكونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان والحركة الّتي انتهت إلى وجودها وأمّا لو اُخذت مع زمانها وسائر قيود ذاتها على ما عليه الأمر في نفسه فالفعل الإلهيّ غير متقيّد بالزمان لأنّه موجد مجموع الحادث وزمانه وسائر ما يتقيّد به، وإن كنّا - بالنظر إلى اتّحاد مّا لفعله الحادث المتقيّد بالزمان - نقيّد فعله بالزمان كما نقول: اليوم علمت أنّ كذا كذا، ورأيته الساعة فنقيّد العلم باليوم والساعة وليس بمقيّد بهما لمكان تجرّده، وإنّما المتقيّد هو العمل الدماغيّ أو العصبيّ المادّيّ الّذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعدّ له.

فالإنسان لمّا كان أنتهاؤه إلى تجرّد علميّ بالسعادة أو الشقاء - وإن كان مقارناً

١٠١

لجنّة جسمانيّة أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب والسنّة - فما له من المآل في نفسه لا زمان له وصحّ أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد، وأن يسمّى بدءً كما يسمّى عوداً فافهم ذلك.

ومنها: ما يدلّ على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات والملح الاُجاج كما في العلل عن الصادقعليه‌السلام قال: أنّ الله عزّوجلّ خلق ماءً عذباً فخلق منه أهل طاعته، وجعل ماءً مرّاً فخلق منه إهل معصيته ثمّ أمرهما فاختلطا فلولا ذلك ما ولد المؤمن إلّا مؤمناً ولا الكافر إلّا كافراً.

وفيه عن محمّد ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن أوّل ما خلق الله فقال: إنّ أوّل ما خلق الله عزّوجلّ ما خلق منه كلّ شئ.

قلت: جعلت فداك ما هو؟ قال: الماء.

قال: إنّ الله تبارك وتعالى خلق الماء بحرين أحدهما عذب، والآخر ملح، فلمّا خلقهما نظر إلى العذب فقال : يا بحر فقال: لبيك وسعديك.

قال: فيك بركتي ورحمتي ومنك أخلق أهل طاعتي وجنّتي، ثمّ نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب فأعاد ثلاث مرّات: يا بحر، فلم يجب فقال: عليك لعنتي ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري ثمّ أمرهما أنّ يمتزجا فامتزجا.

قال: فمن ثمّ يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنهعليه‌السلام قال: إنّ الله قال لماء: كن عذباً فراتاً أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي، وقال لماء: كن ملحاً اُجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي فأجرى الماءين على الطين، الحديث وهو طويل.

أقول: وفي معنى كلّ من هذه الاحاديث الثلاثة أحاديث كثيرة اُخرى مرويّة عن عليّ والباقر والصادق وغيرهمعليهم‌السلام ، وإنّما أوردنا ما أوردناه بعنوان الاُنموذج.

وهذه الروايات تنتهي إلى مثل قوله تعالى:( وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ

١٠٢

مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الفاطر: ١٢، وأنت ترى موقع الآية الثانية من الاُولى، وأنّها بمنزلة التمثيل لبيان مضمون الآية وشرح اختلاف الناس في أنفسهم في عين اتّحادهم في الإنسانيّة واشتراكهم في بعض المنافع والآثار.

وقد قال تعالى:( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) النبيّاء: ٣٠.

وقوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) الفرقان: ٥٤، وسيجئ بيان الآيات في محلّها.

وأمّا الروايات فإنّها - كما ترى - في معناها تعود قسمين:

احدهما: ما يذكر أنّ الماءين العذب الفرات والملح الاُجاج اُجريا على الطين الّذي خلق منه الإنسان فاختلف الطين باختلاف الماء، وهذا القسم يرجع إلى الصنف المتقدّم من الأخبار الدالّة على أنّ اختلاف الخلقة يعود إلى اختلاف الطينة المأخوذة لها فالكلام فيه كالكلام في أخبار الطينة وقد قدّمناه.

وثانيهما: ما دلّ على أنّ الخلقة أعمّ من خلقة الإنسان وغيره، حتّى الجنّة والنار تنتهى إلى الماء ثمّ اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في السعادة والشقاوة أمّا اختلاف الخلقة باختلاف العذوبة والملوحة فيعود أيضاً إلى القسم الأوّل ويجري فيه الكلام السابق فإنّ القسم الأوّل من هذه الأخبار يعود كالمفسّر لهذا القسم الثاني ثمّ هما معاً كالمفسّر لأخبار الطينة السابقة.

وأمّا انتهاء الخلقة إلى أصل أوّليّ هو الماء فسيجئ البحث فيه فيما يناسبه من المحلّ إن شاء الله العزيز.

ومنها: ما دلّ على أنّ الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من النور والظلمة كما في العلل عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى علّيّين، وخلق قلوب شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا، وخلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنّها خلقت ممّا خلقنا منه، ثمّ قرأ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) . وإنّ الله تبارك

١٠٣

وتعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجّين، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق قلوب شيعتهم ممّا خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثمّ قرأ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ) .

أقول: وفي معناه روايات أخر، وهو في الحقيقة راجع إلى ما تقدّم من الروايات الدالّة على انتهاء الخلقة إلى طينة علّيّين وطينة سجّين، وإنّما يصير بعد خلقه من هذه الطينة نوراً وظلمة، ولعلّ ذلك لكون طينة السعادة ممّا يظهر به الحقّ وتنجلي به المعرفة بخلاف طينة الشقاوة الملازمة للجعل الّذي هو ظلمة وعمى فطينة السعادة نور، وكثيراً مّا يسمّى القرآن العلم والهدى نوراّ كمّا يسمّى الإيمان حياة قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الأنعام: ١٢٢.

وقال:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِوَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة: ٢٥٧، وفي كون النور أصلاً لخلقة طائفة من الموجودات كالأنبياء والملائكة واللّوح والقلم والعرش والكرسيّ والجنّة أخبار كثيرة اُخرى سيأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله.

ومنها: ما دلّ على لحوق الأشقياء بالسعداء يوم القيامة وبالعكس كما في العلل بإسناده عن إبراهيم اللّيثي عن الباقرعليه‌السلام في حديث طويل: ثمّ قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان أهو بائن من القرص؟ قلت: في حال طلوعه بائن.

قال: أليس إذا غابت الشمس اتّصل ذلك الشعاع بالقرص حتّى يعود إليه؟ قلت: نعم.

قال: كذلك يعود كلّ شئ إلى سنخه وجوهره وأصله فإذا كان يوم القيامة نزع الله عزّوجلّ سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلّها بالناصب، وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسنته وأبواب برّه واجتهاده من الناصب فيلحقها كلّها بالمؤمن.

أفترى هينها ظلماً وعدواناً؟ قلت: لا يا ابن رسول الله.قال: هذا والله القضاء الفاصل والحكم القاطع، والعدل البيّن، لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون هذا يا إبراهيم الحقّ

١٠٤

من ربّك فلا تكن من الممترين، هذا من حكم الملكوت.

قلت: يا ابن رسول الله وما حكم الملكوت؟ قال: حكم الله وحكم أنبيائه وقصّة الخضر وموسى حين استصحبه فقال: إنّك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا افهم يا إبراهيم واعقل، أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله حتّى قال له الخضر: يا موسى ما فعلته عن أمري، وإنّما فعلته عن أمر الله عزّوجلّ الحديث.

أقول: الرواية تبني البيان على قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال: ٣٧،وآيات أخر ذكرهاعليه‌السلام في متن الرواية، والآية - كما ترى - تذكر أنّ الله سبحانه سيفصل يوم القيامة الطيّب من الخبيث ويميّز بينها تمييزا تاماً لا يبقى في قسم الطيّب من خلط الخباثة شئ، ولا في سنخ الخبيث من خلط الطيّب شئ ثمّ يجمع كلّ خبيث برّد بعضه إلى بعض وإلحاقّ بعضه ببعض، ويرجع الآثار والأعمال حينئذ إلى موضوعاتها، وتردّ الفروع إلى اُصولها لا محالة، ولازم ذلك اجتماع الحسنات جميعاً في جانب ورجوعها إلى سعادة الذات الّذي لا تمازجه شقاوة أصلا، واجتماع السيّئات جميعاً في جانب ورجوعها إلى منشإها الخالص في منشإيّته، وهو الّذي تبيّنه الرواية.

قولهعليه‌السلام : أخبرني يا إبراهيم عن الشمس الخ تمثيل بظاهر الحس على كون الأثر مظهراً لمؤثره مسانخاً له قائماً به ملازماً لوجوده، وقولهعليه‌السلام : هذا والله القضاء الفاصل الخ، هذا مع كونه بحسب بادئ النظر خلاف العدل مبنيّ على ما تحكم به الضرورة من وجوب المناسبة والسنخيّة بين الفاعل وفعله والمؤثّر وأثره، ولازمه الحكم بأنّ كلّ فعل من الأفعال إنّما يملكه من الفواعل ما يناسبه في ذاته لا ما لايناسبه، وإن كان قضاء النظر السطحيّ المعتمد على ظاهر الحسّ بخلافه.

فالفعل من حيث كونه حركات كذا وسكنات كذا فهو للموضوع الّذي يتحرّك ويسكن بها، وأمّا من حيث كونه معنى من المعاني حسنة أو سيّئة ومن آثار السعادة أو من آثار الشقاوة فإنّما هو لذات سعيدة أو شقيّة تناسبه في وصفه، ولو كان هناك موضوعان لهما حكمان مختلفان ثمّ وجد شئ من حكم كلّ في الآخر فإنّما هو الامتزاج وقع

١٠٥

بين الموضوعين واختلاط بمعنى أن وراء هذا الفعل موضوعه الأصلىّ القائم بأمره وإن ظهر في ظاهر النظر في غير موضوعه كالحرارة الظاهرة في الماء الّتي عاملها الاصليّ نار أو شمس مثلاً وإن كانت صفة بارزة في الماء ظاهرا فالحرارة للنار مثلا وإن ظهرت في الماء وهذا ممّا لا يرتاب فيه الخبير بالابحاث الحقيقيّة.

وعلى هذا تكون الحسنات للمحسنين ذاتاً والسعداء جوهراً وسنخاً، والسيّئات للمسيئين ذاتاً والاشقياء طينة وأصلا بحسب ظرف الحقيقة ووعاء الحقّ فهو الّذي يقتضيه العدل الحقيقيّ.

ولا يناقضه أمثال قوله تعالى:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: ٨، وقوله:( أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) النجم: ٣٨ وقوله:( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: ٢٨٦، إلى غير ذلك من الآيات الحاكمة بأنّ تبعة كلّ فعل إنّما هو لفاعله إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

وذلك أنّ الّذي تحكم به الآيات في محلّه ولا يتخطاه لكن لمّا كان فاعل الفعل بحسب النظر الاجتماعيّ الدنيويّ هو الّذي تقوم به الحركة والسكون المسمّى فعلا فإليه تعود تبعة الفعل من مدح أو ذمّ أو ثواب أو عقاب دنيويّين، وأمّا بحسب النظر الحقيقيّ ففاعل الفعل الأصل الّذي يسانخه الفعل ويناسبه وهو غير من قامت به الحركات والسكنات المسمّاة فعلا ورجوع هذا الفعل وما له من الآثار الحسنة أو السيّئة إلى هذا الأصل ليس من رجوع تبعة الفعل إلى غير فاعله حتّى تناقضه الآيات الكريمة فهذا الحكم الباطنيّ الّذي يسميهعليه‌السلام حكما ملكوتيّا في طول الحكم الظاهريّ الّذي نألفه في حياتنا الاجتماعيّة.

وإذا كان يوم القيامة هو اليوم الّذي تبلى فيه السرائر وتظهر فيه الحقائق ولا يحتجب الحقّ فيه بشئ - كما مرّت الإشارة إليه كراراً - كان هو مجلى هذا الحكم الملكوتي الّذي يلحقّ كلّ حكم بحقيقة موضوعه فيرجع به كلّ شئ إلى أصله قال تعالى:( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) الزمر: ٤٧، وقال:( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢، وقال:( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ) الطور: ٢١، وقال:( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) العنكبوت: ١٣.

١٠٦

ومن هنا يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الملكوتيّ بيوم القيامة مع أنّ البرزخ وهو ما بين الموت والبعث أيضاً من ظروف المجازاة ومن أيّام الله، وذلك لأنّ الظاهر من كلامه تعالى أنّ البرزخ من تتمّة المكث الأرضي محسوب من الدنيا كما يدلّ عليه قوله تعالى:( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) المؤمنون: ١١٤، وقوله:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ) الروم:٥٦.

فالحياة البرزخيّة كأنّها من بقايا الحياة الدنيويّة محكومة ببعض أحكامها، والناس فيها بعد في طريق التصفية والتخلّص إلى سعادتهم وشقاوتهم، والحكم الفصل الّذي يحتاج إلى السنخ الخالص والذات الممحوضة بعد هذه الحياة.

ومن هنا يظهر أيضاً سرّ ما يظهر في القرآن والحديث أنّ الله سبحانه يجازي الكفّار جزاء حسنتهم الّتي أتوا بها في الدنيا.

وأمّا في الآخرة فأعمالهم فيها حبط، ولا يقيم لهم يوم القيامة وزناً، وليس لهم فيها إلّا النار فافهم ذلك.

وقولهعليه‌السلام :( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) تعليل منه لما بيّنه من الحكم الملكوتي بالآية، وذلك أنّ السؤال عن شئ سواء كان فعلاً فعله فاعل أو قضاءً قضي به قاضٍ أو خبراً أخبر به مخبر إنّما هو طلب من الفاعل أو القاضي أو المخبر أنّ يبيّن مطابقه ما أتى به الواقع ويطبّقه على الحقّ فإنّ ما نأتي به من الأمر إنّما هو محاذاة منّا للواقع الحقّ ولا ينقطع السؤال إلّا إذا بين لنا وجه الحقّ فيه وكونه مطابقاً للواقع أمّا إذا كان الفعل الّذي أتى به أو الحكم الّذي حكم به أو الخبر الّذي أخبر به مثلاً نفس الواقع بلا واسطة فلا معنى للسؤال البتّة.

فإذا سألك سائل مثلاً: لم ضربت اليتيم؟ أو لم قضيت أنّ المال لزيد؟ أو من أين أخبرت أنّ زيداً قائم؟ لم ينقطع السؤال دون أن تقول مثلاً: ضربته للتأديب، وأن تقول إنّ زيداً ورثه عن أبيه مثلاً وأن تريه زيداً وهو قائم مثلاً، وهذا هو الحقّ الواقع المسؤول عنه، وأمّا كون الأربعة زوجاً، أو كون العشرة أكبر من الخمسة أو بطلان حياة

١٠٧

زيد لو جزّ رأسه من بدنه مثلاً فهذه الامور نفس الواقع الحقّ ولا معنى لأن يسأل عن الأربعة لم صرت زوجا؟ أو عن العشرة لم صارت أكبر من الخمسة؟ أو عن فعل من الأفعال أو أثر من الآثار وعنده فاعله وغايته لم كان كما كان؟ أو لم فعل سببه التامّ ما فعل؟ فانّ ذلك هذر.

والله سبحانه فعله نفس الواقع الحقّ، وقوله نفس العين الخارجيّة ولا ينتهي إلى غيره فلا معنى للسؤال عنه بلم وكيف.

وجميع القضايا الحقّة الّتي نطبّق عليها عقائدنا أو أفعالنا لتكون حقّة إنّما هي مأخوذة من الخارج الّذي هو فعله فلا تحكم في شئ من فعله، وإنّما تلازم بوجه فعله ملازمة التابع للمتبوع والمنتزع للمنتزع منه فافهم، وبتقرير آخر الفعل الإلهيّ إنّما يظهر بالأسباب الكونّية فهي بمنزلة الآلات والادوات لا يظهر له فعل إلّا بتوسّطها، والسائل إنّما يسأل عن فعل من أفعاله لجهله بالأسباب مثلاً إذا مات زيد بسقوط حائط عليه بغتة سأل سائل: لم أهلك الله زيدا ولم يرحم شبابه ولا أبويه المسكينين؟ فإذا أجيب بانهدام الحائط عليه نقل السؤال إلى أنّه لم هدم عليه الحائط؟ فإذا أجيب بأنّ السماء أمطرت فاسترخت أصله ومال به الثقل فسقط وكان تحته زيد فمات به، نقل السؤال إلى إمطار السّماء وهلمّ جرّا، ولا يقع السؤال إلّا على أثر مجهول العلّة، وأمّا الأثر المعلوم العلّة فلا يقع عنه سؤال وليس إلّا أنّ السائل بجهله يقدّر لزيد حياة مستندة إلى علل ليس بينها هذه الّتي فاجأته بسلسلتها فتوهّم أنّ الله سبحانه فعل به ما فعل جزافاً من غير سبب ولذلك بادر إلى السؤال ولو أحاط بعلل الحوادث لم يسأل قط، وقد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى:( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) الخ، في البحث عن اعتراضات إبليس في محاورته الملائكة.

و قولهعليه‌السلام : حكم الله وحكم أنبيائه الخ، أي قضاؤه تعالى وقضاء أنبيائه بإذنه فإنّه تعالى إنّما يقضي ويحكم الحكم الحقّ الّذي بحسب حقيقة الأمر وباطنه لا بحسب الظاهر كما نحكم عليه بالاعتماد على الشواهد والأمارات.

فقد تبيّن معنى لحوق الحسنات وآثارها للذوات الطيّبة وسنخ النور، ولحوق السيّئات وآثارها للسنخ الظلمة والفساد والذوات الخبيثة، ويتبيّن بما تبيّن من معنى قوله:

١٠٨

( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) ، الجواب عن شئ آخر ربّما يختلج بالبال في بادئ النظر وهو أنّه لم اختصّت الذوات الطيّبه وسنخ النور بالحسنات وآثارها، والذوات الخبيثة وسنخ الظلمة بخلافها؟ ولم استعقبت الحسنات النعمة الدائمة والجنّة الخالدة، واستعقبت السيّئات النقمة والنار.

والجواب: أنّها آثار واقعيّة عن روابط خارجيّة كما تقدّم بيّنه في البحث عن نتائج الأعمال لا أحكام وضعيّة اعتباريّة وأنّ بيّنت في لسان الشرع بنظائر ما تبيّن به تبعات أحكامنا الوضعيّة الاعتباريّة الواقعة في ظرف الاجتماع الإنساني تتميماً لنظام التشريع.

إذا عرفت ذلك علمت أنّ هذه الاختصاصات ترجع إلى روابط تكوينية بين ذوات الأشياء وآثارها الذاتيّة ولا سؤال في الذاتيّات غير أنّك ينبغي أنّ تتذكر ما تقدّم أنّ لزوم حكم لذات من الذوات ليس معناه استقلال ذاته باقتضاء ذلك الحكم والأثر، واستغناؤه عن الله سبحانه في إيجابه وضمّه لنفسه فهذا ممّا يدفعه البيان الإلهىّ في كتابه بل معناه لزومه لفعله الحقّ ولا سؤال عن ذلك كما اتّضح معناه.

وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، فإنّما هو مثل مضروب لاقتضاء الذوات، وإنّما قيّده بقوله:( بِإِذْنِ رَبِّهِ ) دفعاً لتوهّم اللزوم الذاتيّ بمعنى استقلال الذوات في التأثير مستغنية عنه تعالى، في هذا المعنى ما ورد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جفّ القلم بالسعادة لمن آمن واتّقى.

١٠٩

( سورة الأعراف آية ٣٧ - ٥٣)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ  أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ  حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ  قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ٣٧ ) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ  كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا  حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ  قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ ( ٣٨ ) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ( ٣٩ ) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( ٤٠ ) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( ٤١ ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٤٢ ) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ  وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ  لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ  وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا  قَالُوا نَعَمْ 

١١٠

فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( ٤٤ ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ( ٤٥ ) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ  وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ  وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( ٤٦ ) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( ٤٨ ) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ  ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ( ٤٩ ) وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ  قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٥٠ ) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ٥١ ) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ  يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ  قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٥٣ )

١١١

( بيان)

الآية الاُولى تفريع واستخراج من الخطاب العامّ الأخير المصدّر بقوله:( يَا بَنِي آدَمَ ) نظير التفريعات المذكورة لسائر الخطابات العامّة السابقة، وما يتلوها بيان لما يستتبعه الكذب على الله وتكذيب آياته من سوء العاقبة والإيمان بالله والعمل الصالح من السعادة الخالدة إلّا آيتين من آخرها فإنّ فيهما رجوعاً إلى أوّل الكلام وبياناً لتمام الحجّة عليهم بنزول الكتاب.

قوله تعالى: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) تفريع على ما تتضمّنه الآية السابقة من أعلام الشريعة العامّة المبلّغه بواسطة الرسل أي إذا كان الأمر على ذلك وقد أبلغ الله دينه العامّ جميع أولاد آدم وأخبر بما أعدّه من الجزاء للأخذ به وتركه فمن أظلم ممّن استنكف عن ذلك إمّا بافتراء الكذب على الله، ونسبة دين إليه، ووضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد، وقد أخبر الله أنّهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغهم دينه، وإمّا بالتكذيب لآياته الدالّة على وحدانيته وما يتبعه من الشرائع.

ومن يظهر أن افتراء الكذب على الله وإن كان يعمّ كلّ بدعة في الدين أصوله وفروعه غير أنّ المورد هو الشرك بالله باتّخاذ آلهة دون الله، ويدلّ عليه ما سيأتي من قوله:( قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) .

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا ) إلى آخر الآية.

المراد بالكتاب ما قضي وكتب أن يصيب الإنسان من مقدّرات الحياة من عمر ومعيشة وغنى وصحّة ومال وولد وغير ذلك، والدليل عليه تقييده بقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا ) الخ، والمراد به أجل الموت ومن المعلوم أنّه غاية للحياة الدّنيا بجميع شؤنها ومقارناتها.

والمراد بالنصيب من الكتاب السهم الّذى يختصّ كلّ واحد منهم من مطلق ما كتب له ولغيره، وفي جعل النصيب من الكتاب هو الّذي ينالهم، والأمر منعكس بحسب الظاهر

١١٢

دلالة على أنّ النصيب الّذي فرض للإنسان وقضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتّة وما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتّة.

والمعنى: أولئك الّذين كذّبوا على الله بالشرك أو كذّبوا بآياته بالردّ لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب، ونصيبهم ما قضي في حقّهم من الخير والشرّ في الحياة الدنيا حتّى إذا قضوا أجلهم وجاءتهم رسلنا من الملائكة وهم ملك الموت وأعوانة نزلوا عليهم وهم يتوفّونهم ويأخذون أرواحهم ونفوسهم من أبدانهم سألوهم وقالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله من الشركاء الّذين كنتم تدّعون أنّهم شركاء الله فيكم وشفعاؤكم عنده؟ قالوا ضلّوا عنّا وإنّما ضلّت أوصافهم ونعوتهم، وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين بمعاينة حقيقة الأمر أنّ غير الله سبحانه لا ينفع ولا يضرّ شيئاً، وقد أخطأوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم.

وفي مضمون الآية جهات من البحث تقدّمت في نظيرة الآية من سورة الأنعام وغيرها.

قوله تعالى: ( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة وإن كانوا في وسائط في التوفّي وغيره، والمخاطبون بحسب سياق اللّفظ هم بعض الكفّار وهم الّذين توفّيت قبلهم اُمم من الجنّ والإنس إلّا أنّ الخطاب في معنى: ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم ولا حقوكم وإنّما نظم الكلام هذا النظم ليتخلّص به إلى ذكر التخاصم الّذي يقع بين متقدّميهم ومتأخّريهم، وقد قال تعالى:( إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) ص: ٦٤.

وفي الآية دلالة على أنّ من الجنّ اُمماً يموتون بآجال خاصّة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم.

قوله تعالى: ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ) هذا من جملة خصامهم في النار وهو لعن كلّ داخل من تقدّم عليه في الدخول، واللّعن هو الإبعاد من الرحمة ومن كلّ خير والاُخت المثل.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ) إلى آخر الآيتين، ادّاركوا أي

١١٣

تداركوا أي أدرك بعضهم بعضاً اللّاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعاً.

والمراد بالاُولى والاُخرى اللّتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإنّ الاُولى منهم مقاماً وهم رؤساء الضلال، وأئمّة الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال، وكذا الاُولى منهم زماناً وهم الأسلاف المتقدّمون أعانوا متأخّريهم على ضلالتهم لأنّهم هم الّذين جرّؤوهم بفتح الباب لهم وتمهيد الطريق لسلوكهم.

والضعف بالكسر فالسكون ما يكرّر الشئ فضعف الواحد اثنان وضعف الإثنين أربعة غير أنّه ربّما أريد به ما يوجب تكرار شئ آخر فقط كالإثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان وضعفاًه أربعة، وربّما اُريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شئ كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لأنّهما يصيران بذلك إثنين فكلّ واحد من جزئي الإثنين ضعف وهما جميعاً ضعفاًن نظير الزوج فالاثنان زوج وهما زوجان وعلى كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى، قال تعالى كما في هذه الاية( فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ) وقال تعالى:( ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ) .

وقوله:( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا ) الخ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصّمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معلّلاً بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالإشارة إلى الملزوم وإفادة الملازمة، وفيه مع ذلك نوع من الإيجاز فإنّ فيه اكتفاءً بمحاورة واحدة عن محاورتين، والتقدير قالت اُخراهم لاُولاهم أنتم أشدّ ظلماً منّا لأنّكم ضالّون في أنفسكم وقد أضللتمونا فليعذّبكم الله عذاباً ضعفاً من النار، ثمّ رجعوا إلى ربّهم بالدعاء عليهم وقالوا ربّنا هؤلاء إضلّونا فآتهم عذاباً.الخ، فأجابهم الله وقال لكلّ ضعف ولكن لا تعلمون، ثمّ أجابتهم اُولاهم وقالوا: فما كان لكم علينا من فضل الخ.

فمعنى الآية:( حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا ) واجتمعوا بلحوق اُخراهم لاُولاهم( فِيهَا ) إي في النار تخاصموا( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ) وهم اللاحقون مرتبة أو زماناً من التابعين( لِأُولَاهُمْ ) وهم الملحوقون المتبوعون من رؤسائهم وأئمّتهم، ومن آبائهم والأجيال السابقة

١١٤

عليهم زماناً الممهّدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذّبوا بأشدّ من عذابنا فسألوا ربّهم ذلك وقالوا:( رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ) يكون ضعف عذابنا لأنّهم ضلّوا في أنفسهم وأضلّوا غيرهم بالاعانة( قَالَ ) الله سبحانه لكلّ من الاُولى والاخرى( ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ) أمّا اُولاكم فإنّهم ضلّوا و أعانوكم على الضلال، وأمّا أنتم فإنّكم ضللتم وأعنتموهم على الإضلال باتّباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم، وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم( وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ ) فإنّ العذاب إنّما يتحقّق أو يتمّ في مرحله الإدراك والعلم وأنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب وإحاطة النار فتتوهّمون أنّ عذابهم مثل عذابكم وليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه والشعور به كما أنّهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم وعندهم من العذاب ضعف ولكن إحاطه العذاب شغلكم عن العلم بذلك.

وهذا خطاب إلهىّ مبنيّ على القهر والإذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أولاهم واُخراهم جميعاً فتعود به أولاهم لاُخراهم بالتهكّم وتقول كما حكى الله:( وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ) بخفّة العذاب( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) في الدنيا من الذنوب والآثام.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ ) إلى آخر الآية.

السمّ هو الثقب وجمعه السموم، والخياط والمخيط الإبرة.

والّذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج أدعيتهم وصعود أعمالهم ودخول أرواحهم غير أنّ تعقيبه بقوله:( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) الخ، كالقرينة على أنّ المراد نفي أنّ يفتح بابها لدخولهم الجنّة فإنّ ظاهر كلامه سبحانه أنّ الجنّة في السماء كما هو في قوله:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) الذاريات: ٢٢.

وقوله:( حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) من التعليق بالمحال وإنّما يعلّق الأمر بالمحال كناية عن عدم تحقّقّه وإياساً من وجوده كما يقال: لا أفعل كذا حتّى يشيب الغرب ويبيض الفار، وقد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى:( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ

١١٥

مِنَ النَّارِ ) البقره: ١٦٧، والآية في معنى تعليل مضمون الآية السّابقة والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) الخ.

جهنّم اسم من أسماء نار الآخرة الّتي بها التعذيب، وقد قيل: إنّه مأخوذ من قولهم( بئر جهنام) أي بعيدة العقر وقيل: فارسيّ معرّب، و( الْمِهَادُ ) الوطاء الّذي يفترش، ومنه مهد الصبيّ والغواشي جمع غاشية وهي ما يغشى الشئ ويستره ومنه غاشية السرج.

وقد اُفيد بقوله:( لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) أنّهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) الخ.

الآية ما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفّار والمؤمنين، ولتكون كالتوطئة لقوله الآتي:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ) الخ.

وقوله:( لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) مسوق للتخفيف وتقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإنّ تقييد الإيمان بعمل الصالحات - والصالحات جمع محلّى باللّام وهو يفيد الاستغراق - يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتّى لا يشذّ عنها شاذّ، وما أقلّ من وفّق لذلك من طبقة أهل الإيمان ويسدّ ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أنّ التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه أن يعمله من غير أن يشقّ على نفسه ويتحمّل ما لا طاقة له به بعد الإيمان بالله فهو من أهل هذه الآية، ومن أصحاب الجنّة هم فيها خالدون.

قوله تعالى: ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ) الغلّ هو الحقد وضغن القلوب وعداوتها، وفي مادّتها معنى التوسّط باللّطف والحيلة ومنه الغلالة وهي الثوب المتوسّط بين الدثار والشعار، وغلّ الصدور من أعظم ما ينغّص عيش الإنسان، وما من إنسان يعاشر إنساناً ويأتلف به إلّا وائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه ويريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جاش صدره بالغلّ وراحت الألفة وتنغّصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغلّ الصدور لم يسؤ الإنسان ما يشاهده من أليفه على الإطلاق

١١٦

وهي اللّذّة الكبرى وفي قوله:( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ) إشارة إلى أنّهم ساكنون في قصورها العالية.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا - إلى قوله -بِالْحَقِّ ) في نسبة التحميد إليهم دلالة على أنّ الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل ولا عمل سيّء كما قال تعالى:( لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ) الواقعة ٢٦، فيصحّ منهم تحميد الله سبحانه ويقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه ويقع موقعه بذلك المبتذل حتّى يناله كلّ نائل، قال تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، وقد تقدّم القول في معنى الحمد وخصوصيّة حمده تعالى في تفسير سورة الحمد.

وفي قولهم:( هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شئ.

وفي قولهم:( لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) إعتراف بحقّيّة ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه، وهو الّذي يأخذون الإعتراف به من أصحاب النار على ما تقصّه الآية التالية، وفي هذا الإعتراف وسائر الإعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة والكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر وتمام الربوبيّة، ويكون ذلك من أهل الجنّة شكراً، ومن أهل النار تماماً للحجّة.

وإعتراف أهل الجنّة بحقّيّة ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنيّة وإن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطاً مبتذلاً، ولعلّنا نوفّق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات.

قوله تعالى: ( وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الإشارة بلفظ البعيد - تلكم - إشارة إلى رفعة قدر الجنّة وعلوّ مكانها فإنّ ظاهر السياق - كما قيل - أنّ النداء إنّما هو حين كونهم في الجنّة، وقد جعلت الجنّة إرثاً لهم في قبال عملهم وإنّما يتحقّق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه ممّا ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثمّ زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال: ورث فلان أباه أي مات وترك مالاً

١١٧

بقي له، والعلماء ورثة الأنبياء أي مختصّون بما تركوا لهم من العلم، ويرث الله الأرض أي إنّه كان خوّلهم ما بها من مال ونحوه وسوف يموتون فيبقى له ما خوّلهم.

وعلى هذا فكون الجنّة إرثاً لهم اُورثوها معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعاً غير أنّ الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله، ولولا عمله لم يرثها، قال تعالى:( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) المؤمنون: ١١.

وقال تعالى: حكاية عن أهل الجنّة:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) الزمر: ٧٤.

وهذا أوضح ممّا ذكره الراغب في المفردات إذ قال: الوراثة والإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمّي بذلك المنتقل عن الميّت فيقال للقنية الموروثه ميراث وارث وتراث فقلبت الواو ألفاً وتاءً قال: وتأكلون التراث، وقالعليه‌السلام : اثبتوا على مشاعركم فإنّكم على إرث أبيكم أي أصله وبقيّته.

قال الشاعر:

فنظر في صحف كالربا

ط فيهنّ إرث كتاب محي

قال: ويقال لكلّ من حصل له شئ من غير تعب: قد ورث كذا ويقال لكلّ من خول شيئاً مهنّأ: اُورث، قال تعالى: تلك الجنّة التى اُورثتموها، أولئك هم الوارثون الّذين يرثون.

وقوله: ويرث من آل يعقوب فإنّه يعني وراثة النبوّة والعلم والفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتّى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال ويملكونه ألا ترى أنّه قالعليه‌السلام :( أنا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة) نصب على الاختصاص فقد قيل: ما تركناه هو العلم وهو صدقة يشترك فيها الأمّة وما روي عنهعليه‌السلام من قوله( العلماء ورثة الأنبياء) فإشارة إلى ما ورثوه من العلم واستعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن ولا منّة، وقال لعلىّ رضى الله عنه: أنت أخي ووارثي.

قال: وما أرثك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي كتاب الله وسنّتي، ووصف الله تعالى نفسه بأنّه الوارث من حيث إنّ الأشياء كلّها صائره إلى الله تعالى (انتهى كلامه).

وإنّما كان ما قدّمناه أوضح ممّا ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى

١١٨

أصل واحد هو معنى المادّة.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ) إلى آخر الآية.

هذا في نفسه أخذ إعتراف من أصحاب النار بتوسّط أصحاب الجنّة وواقع موقع التهكّم والسخريّة يتهكّم ويسخر به أصحاب الجنّة من أصحاب النار.

والاستهزاء والسخريّة إنّما يكون من اللغو الباطل إذا لم يتعلّق به غرض حقّ كالاستهزاء بالحقّ وأهله أمّا إذا كان لغرض المقابلة والمجاراة أو لغرض آخر حقّ من غير محذور فليس من قبيل اللّغو الّذي لا يصدر عن أهل الجنّة قال تعالى حكاية عن نوحعليه‌السلام :( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) هود: ٣٨، وقال:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ - إلى أنّ قال -فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) المطفّفين: ٣٤.

وأمّا الفرق بين قولهم:( مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا ) وقولهم:( مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ ) حيث ذكر المفعول في الوعد الأوّل دون الثاني فلعلّ ذلك للدلالة على نوع من التشريف فإنّ الظاهر أنّ المراد بما وعد الله جميع ما وعده من الثواب والعقاب العامّة الناس.

وهناك وجه آخر وهو أنّ متعلّق إعتراف المؤمنين وإنكار الكفّار من أمر المعاد مختلف في الدنيا فإنّ المؤمنين يثبتون البعث بجميع خصوصيّاته الّتي بيّنها الله لهم ووعدها إيّاهم، وأمّا الكفّار المنكرون فإنّهم ينكرون أصل البعث الّذي اشترك في الوعد به المؤمنون والكفّار جميعاً، ولذلك احتجّ الله سبحانه ويتمّ الحجّة عليهم بأصله دون خصوصيّاته كقوله تعالى:( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ) الأنعام: ٣٠، وقوله:( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ) الحقّاف: ٣٤.

وعلى هذا فقولهم:( أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّاً ) إعتراف منهم بحقّيّة ما وعدهم الله وكانوا يذعنون به ويشهدون من جميع خصوصيّات البعث بما قصّهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه، وأمّا الكفّار فقد كانوا ينكرون أصل البعث والعذاب، وهو ممّا يشتركون فيه هم والمؤمنون فلذا قيل:( فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) ولم يقل ما وعدكم ربّكم لأنّ

١١٩

الوعد بأصل البعث والعذاب لم يكن مختصّاً بهم.

وبذلك يظهر الجواب عمّا قيل: إنّ الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد على ما ذكره المتكلّمون فما معنى أخذ الإعتراف بحقّيّة ما ذكره الله من عقاب الكفّار والمجرمين وأنذرهم به في الدنيا، وليس تحقّقّه بلازم.

وذلك أنّ الملاك فيما ذكروه من الفرق أنّ الثواب حقّ العامل على وليّ الثواب الّذي بيده الأمر، والعقاب حقّ الوليّ المثيب على العامل، ومن الجائز أنّ يصرف الشخص نظره عن أعمال حقّ نفسه لكن لا يجوز إبطال حقّ الغير فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، وهذا إنّما يتمّ في موارد الوعيد الخاصّة ومصاديقه في الجملة، وأمّا عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب وإبطال أساس المجازاة على التخلّف فليس كذلك إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله وإخلال النظام العامّ.

وربّما وجّه الفرق في قوليه:( وَعَدَنَا رَبُّنَا ) ( وَعَدَ رَبُّكُمْ ) بأنّ المراد بقوله:( وَعَدَنَا ) ما وعد الله المتّقين من خصوصيّات ما يعاملهم به يوم القيامة وبقوله:( وَعَدَ رَبُّكُمْ ) عموم ما وعد به المؤمنين والكفّار من الثواب والعقاب يوم القيامة كالّذي في قوله: يا بنى آدم إمّا( يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ) إلى آخر الآيتين.

ومن المعلوم أنّ هذا الوعد لا يختصّ بالكفّار حتّى يقال: وعدكم ربّكم بل التعبير الحقّ وعد ربّكم.

وفيه: أنّ أصل الفرق لا بأس به لكنّه لا يقطع السؤال فللسائل أن يعود فيقول ما هو السبب الفارق في أنّ أصحاب الجنّة لمّا أوردوا إعتراف نفسهم اقتصروا بذكر ما يخصّهم من أمور يوم القيامة، وأمّا إذا سألوا أصحاب النار سألوهم عن جميع ما وعد الله به المؤمنين والكفّار؟ وبعبارة اُخرى هناك ما يشترك فيه الطائفتان وما يختصّ به كلّ منهما فما بالهم إذا اعترفوا هم أنفسهم اعترفوا بما يختصّ بأنفسهم ويسألون أصحاب النار الإعتراف بما يشترك فيه الجميع؟

وربّما وجّه الفرق بأنّ المراد بقوله( مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ ) الّذي وعده أصحاب الجنّة من أنواع الثواب الجزيل فإن أصحاب النار يشاهدون ذلك كما يجدون ما بهم من أليم

١٢٠