الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89555 / تحميل: 6768
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

العقاب.وهو وجه سخيف على سخفته لا يغني طائلا.

وقوله:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) تفريع على تحقّق الإعتراف من الطائفتين جميعاً على حقّيّة ما وعده الله سبحانه، والأذان هو قوله:( لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) وهو إعلام عامّ للفريقين - والدليل عليه ظاهر قوله:( بَيْنَهُمْ ) بقضاء اللّعنة وهي الإبعاد والطرد من الرحمة الإلهيّة على الظالمين وقد فسّر الظالمين الّذين ضربت عليهم باللّعنة بقوله:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) فهم الكافرون المنكرون للآخرة الّذين يصدّون عن سبيل الله محرفة منحرفة، ويصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحقّ المنكرون للمعاد.

وهذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحقّ الكافرين بالجزاء حتّى المنكرين للصانع الّذين لا يدينون بدين فإنّ الله سبحانه يذكر في كتابه أنّ دينه وسبيله الّذي يهدي إليه وبه هو سبيل الإنسانيّة الّذي تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة والخلقة خصّ بها الإنسان ليس وراءه إسلام ولا دين.

فالسبيل الّذي يسلكه الإنسان في حياته هو سبيل الله وصراطه وهو الدين الإلهىّ فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة وهو الّذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم والإسلام الّذي هو الدين عند الله وسبيل الله الّذي لا عوج فيه، وإن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان باُلوهيّة وعبادة لمعبود كالملل والأديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشئ وعبادة لمعبود كالمادّيّة المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجاً وهو الإسلام محرّفاً عن وجهه، ونعمة الله الّتي بدّلت كفراً، فافهم ذلك.

وقد أبهم الله هذا الّذي يخبر عنه بقوله:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) ولم يعرفه من هو؟ أمن الإنس أم من الجنّ أم من الملائكة؟ لكنّ الّذي يقتضيه التدبّر في كلامه تعالى أنّ يكون هذا المؤذّن من البشر لا من الجنّ لا من الملائكه: أمّا الجنّ فلم يذكر في شئ من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدّى الجنّ شيئاً من التوسّط في أمر الإنسان من لدن وروده في عالم الآخرة وهو حين نزول الموت إلى أنّ يستقرّ في جنّة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجنّ.

١٢١

وأمّا الملائكة فإنّهم وسائط لأمر الله وحملة لإرادته بأيديهم إنفاذ الأوامر الإلهيّة، وبوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، وقد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم وحكمهم في عالم الموت وفي جنّة الآخرة ونارها كقولهم للظالمين حين القبض:( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ) إلخ، الأنعام: ٩٣ وقولهم لاهل الجنّة:( سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) الخ، النحل: ٣٢ وقول مالك لأهل النار:( إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ) الخ، الزخرف: ٧٧، ونظائر ذلك.

وأمّا المحشر وهو حظيرة البعث والسؤال والشهاده وتطاير الكتب والوزن والحساب والظرف الّذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شئ من الحكم أو الأمر والنهي ولا لغيرهم صريحاً إلّا ما صرّح تعالى به في حقّ الإنسان.

كقوله تعالى في أصحاب الأعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) وقولهم لجمع من المؤمنين هناك:( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) و هذا حكم وأمر وتأمين بإذن الله، وقوله تعالى فيما يصف يوم القيامة:( قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) النحل: ٢٧ وقوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدّة لبثهم في الأرض:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الروم: ٥٦.

فهذه جهات من تصدّي الشؤون، والقيام بالأمر يوم القيامة حبا الله الإنسان به دون الملائكة مضافاً إلى أمثال الشهادة والشفاعة اللتين له.

فهذا كلّه يقرّب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذّن من الإنسان دون الملائكة ويأتي في البحث الروائي ما له تعلّق بالمقام.

قوله تعالى: ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ) الحجاب معروف وهو الستر المتخلّل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر.

والأعراف أعالي الحجاب، والتلال من الرمل والعرف للديك وللفرس وهو الشعر فوق رقبته وأعلا كلّ شئ ففيه معنى العلوّ على أيّ حال، وذكر الحجاب قبل الأعراف، وما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع وندائهم أهل الجنّة والنار جميعاً كلّ ذلك يؤيّد أن يكون المراد

١٢٢

بالأعراف أعالي الحجاب الّذي بين الجنّة والنار وهو المحلّ المشرف على الفريقين أهل الجنّة وأهل النار جميعاً.

والسيماء العلامة قال الراغب: السيماء والسيمياء العلامة، قال الشاعر:

له سيمياء لا تشقّ على البصر

وقال تعالى:( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم ) وقد سوّمته أي أعلمته، ومسوّمين أي معلّمين (انتهى).

والّذي يعطيه التدبّر في معنى هذه الآية وما يلحق بها من الآيات أنّ هذا الحجاب الّذي ذكره الله تعالى إنّما هو بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله:( وَبَيْنَهُمَا ) وقد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين والمؤمنين يوم القيامة بقوله:( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) الحديد: ١٣، وإنّما هو حجاب لكونه يفرّق بين الطائفتين ويحجب إحداهما عن الاُخرى لا أنّه ثوب منسوج محيط على هيأة خاصّة معلّق بين الجنّة والنار.

ثمّ أخبر الله سبحانه أنّ على أعراف الحجاب وأعاليه رجالاً مشرفين على الجنبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلّا من الطائفتين أصحاب الجنّة وأصحاب النار بسيماهم وعلامتهم الّتي تختصّ بهم.

ولا ريب في أنّ السياق يفيد أنّ هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متميّزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإنسان كالملائكة أو الجنّ مثلاً، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلّق بهم من السؤال والحساب وسائر الشؤون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنّة، وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف، كما قسّمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث: المؤمنين والكفّار والمستضعفين الّذين لم تتمّ عليهم الحجّة وقصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء والاطفال غير البالغين والشيخ الهرم الخرف والمجنون والسفيه وضربهم، أو لكونهم مرتفعين عن

١٢٣

موقف أهل الجمع بمكانتهم؟.

لا ريب أنّ إطلاق لفظ( رِجَالٌ ) لا يشمل الملائكة فإنّهم لا يتصّفون بالرجوليّة والاُنوثيّة كما يتصّف به جنس الحيوان وإن قيل: إنّهم ربّما يظهرون في شكل الرجال فإنّ ذلك لا يصحّح الاتّصاف والتسمية، على أنّه لا دليل يدلّ عليه.

ثمّ إنّ التعبير بمثل قوله:( رِجَالٌ يَعْرِفُونَ ) إلخ، وخاصّة بالتنكير يدلّ بحسب عرف اللّغة على اعتناء تامّ بشأن الأفراد المقصودين باللّفظ نظراً إلى دلالة الرجل بحسب العدّة على الإنسان القويّ في تعقّله وإرادته الشديد في قوامه.

وعلى ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى:( رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ) النور: ٣٧، وقوله:( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ) التوبه: ١٠٨، وقوله:( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) الاحزاب: ٢٣، وقوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم ) يوسف: ١٠٩ حتّى في مثل قوله:( مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ) ص: ٦٢، وقوله:( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ ) الجنّ: ٦.

فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، وإن فرض أنّ فيهم أفراداً من النساء كان من التغليب.

وأمّا المستضعفون فإنّهم ضعفاء أفراد الإنسان لا مزيّة في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، وفيهم النساء والاطفال حتّى الأجنّة، ولا فضل لبعضهم على بعض، ولرجالهم على غيرهم حتّى يعبّر به عنهم بالرجال تغليباً فلو كانوا هم المرادين بقوله( رِجَالٌ يَعْرِفُونَ ) الخ، لكان حقّ التعبير أنّ يقال: قوم يعرفون الخ، أو اُناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى:( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ) الأعراف: ١٦٤، وقوله:( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) الأعراف: ٨٢، وقوله:( فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ) الصفّ: ١٤.

على أنّ ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الاوصاف ويذكرهم به من الشؤون اُمور تأبى إلّا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة والمكانة، وأصحاب القرب والزلفى

١٢٤

فضلاً أن يكونوا من الناس المتوسّطين فضلاً أن يكونوا من المستضعفين.

فأوّل : ذلك أنّهم جعلوا على الأعراف ووصفوا بأنّهم مشرفون على أهل الجمع عامّة ومطلّعون على أصحاب الجنّة وأصحاب النار يعرفون كلّ إنسان منهم بسيماه الخاصّ به ويحيطون بخصوصيّات نفوسهم وتفاصيل أعمالهم، ولا ريب أنّ ذلك منزلة رفيعة يختصّون بها من بين الناس وليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة وخاصّة بعد دخول الجنّة والنار أمراً عامّاً موجوداً عند الجميع فإنّ الله يقول حكاية عن قول أهل النار:( مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ) ص: ٦٢، وقولهم:( رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) حم السجدة: ٢٩، وقال:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) عبس: ٣٧.

وليس معنى السيماء أنّ يعلّم المؤمنون والكفّار بعلامة عامّة يعرف صنفهم بها كلّ من شاهدهم كبياض الوجه وسواده مثلاً فإنّ قوله تعالى في الآية التالية:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) يفيد أنّهم ميّزوا خصوصيّات من أحوالهم وأعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع وقد أقسموا كذا وكذا، وهذه اُمور وراء الكفر والإيمان في الجملة.

وثانياً : أنّهم يحاورون الفريقين فيكلّمون أصحاب الجنّة ويحيونهم بتحيّة الجنّة، ويكلّمون أئمّة الكفر والضلال والطغاة من أهل النار فيقرّعون عليهم بأحوالهم وأقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، وليس التكلّم بمجاز يومئذ إلّا للأوحديّ من عباد الله الّذين لا ينطقون إلّا بحقّ قال تعالى:( لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) النبأ: ٣٨، وهذا وراء ما يناله المستضعفون.

وثالثا: أنّهم يؤمّنون أهل الجنّة بالتسليم عليهم ثمّ يأمرونهم بدخول الجنّة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية.

ورابعاً: أنّه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم وما يحاورون به أصحاب الجنّة والجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شئ من آثار الفزع والقلق عليهم ولا اضطراب في

١٢٥

أقوالهم، ولم يذكر أنّهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال الّتي تجعل الأفئدة هواءً والجبال سراباً، وقد قال تعالى:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات: ١٢٨، فجعل ذلك من خاصّة مخلصي عباده، ثمّ استثناهم من كلّ هول اُعدّ ليوم القيامة.

ثمّ إنّه تعالى ذكر دعاءهم في قوله:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ولم يعقّبه بالردّ فدلّ ذلك على أنّهم مجازون فيما يتكلّمون به مستجاب دعاؤهم، ولولا ذلك لعقّبه بالردّ كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع ومسائل أصحاب النار وأدعية اُخرى من غيرهم.

فهذه الخصوصيّات الّتي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبّر فيها وأخرى تتبعها لا تبقي ريباً للمتدبّر في أنّ هؤلاء الّذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله:( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ) جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاماً وأعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامّة الفريقين، لهم أن يتكلّموا بالحقّ يوم القيامة ولهم أن يشهدوا، ولهم أن يشفعوا، ولهم أن يأمروا ويقضوا.

وأمّا أنّهم من الإنس أو من الجنّ أو من القبيلين مختلطين ؟ فلا طريق من اللّفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئاً من كلامه تعالى لا يدلّ على تصدّى الجنّ شيئاً من شؤون يوم القيامة ولا توسّطاً في أمر يعود إلى الحكم الفصل الّذي يجري على الإنسان يومئذ كالشهادة والشفاعة ونحوهما.

ولا ينافي ما قدّمناه من أوصافهم ونعوتهم أمثال قوله تعالى:( يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ) الأنّفطار: ١٩، فإنّ الآية مفسّرة بآيات اُخرى تدلّ على أنّ المراد بها إنّما هو ظهور ملكه تعالى لكلّ شئ وإحاطته بكلّ أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنّه مالك على الإطلاق دائماً لا وقتاً دون وقت، ولا يملك نفس لنفس شيئاً دائماً لا في الآخرة فحسب لنفسه والملائكة على وساطتهم يومئذ والشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، والشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ وقد نصّ على ذلك كلامه تعالى قال:( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) الأنبياء: ١٠٣، وقال:( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١،

١٢٦

وقال:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

فللّه سبحانه الملك يومئذ وله الحكم يومئذ، ولغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أنّ الّذي يختصّ به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، وحضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطا أو بطلان.

وقد اشتدّ الخلاف بينهم في معنى الآية حتّى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف:

١ - فمن قائل: إنّه شئ مشرف على الفريقين.

٢ - وقيل: سور له عرف كعرف الديك.

٣ - وقيل: تلّ بين الجنّة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.

٤ - وقيل: السور الّذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين والمنافقين إذ قال:( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ) .

٥ - وقيل: معنى الأعراف التعرّف أي على تعرّف حال الناس رجال.

٦ - وقيل: هو الصراط.

ثمّ اختلفوا في الرجال الّذين على الأعراف على أقوال اُنهيت إلى اثنى عشر قولاً:

١ - أنّهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله.

٢ - أنّهم قوم استوت حسنتهم وسيّئاتهم فلم يترجّح حسنتهم حتّى يدخلوا الجنّة ولا غلبت سيّئاتهم حتّى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسّطة بين الجنّة والنار ثمّ يدخلهم الجنّة برحمته.

٣ - أنّهم أهل الفترة.

٤ - أنّهم مؤمنوا الجنّ.

٥ - أنّهم أولاد الكفّار الّذين لم يبلّغوا في الدنيا أو أنّ البلوغ.

٦ - أنّهم أولاد الزنا.

١٢٧

٧ - أنّهم أهل العجب بأنفسهم.

٨ - أنّهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلّا بسيماهم، وإذا اُورد عليهم أنّ الملائكة لا تتّصف بالرجوليّة والاُنوثيّة قالوا: إنّهم يتشكلّون بأشكال الرجال.

٩ - أنّهم الأنبياءعليهم‌السلام يقامون عليها تمييزاً لهم على سائر الناس ولأنّهم شهداء عليهم.

١٠ - أنّهم عدول الامم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم.

١١ - أنّهم قوم صالحون فقهاء علماء.

١٢ - أنّهم العبّاس وحمزة وعلي وجعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسيّ في روح المعاني أنّ هذا القول رواه الضحّاك عن ابن عبّاس.

قال في المنار: ولم نره في شئ من كتب التفسير المأثور، والظاهر أنّه نقله عن تفاسير الشيعة وفيه أنّ أصحاب الأعراف يعرفون كُلًّا من أهل الجنّة وأهل النار بسيماهم فيميّزون بينهم أو يشهدون عليهم فأيّ فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويّين ومن يبغضون عليّاً خاصّه من المنافقين والنواصب؟ وأين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدّاً (انتهى).

أقول: أمّا الرواية فلا توجد في شئ من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحّاك، وقد نقله في مجمع البيان عن الثعلبيّ في تفسيره بإسناده عن الضحّاك عن ابن عبّاس، وسيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائيّ الّتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا طرحه الرواية فهو في محلّه غير أنّ الّذي استند إليه في طرحها ليس في محلّه فإنّه يكشف عن نحو السلوك الّذي يسلكه في الابحاث المتعلّقة بالمعاد فإنّه يقيس نظام الوقائع الّتي يقصّها القرآن والحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيويّة، ويعدّه من نوعه فيوجّه منها ما لاح سبب وقوعه، ويبقى ما لا ينطبق على النظام الدنيويّ على الجمود وهو الجزاف في الارادة فافهم ذلك.

ولو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته

١٢٨

فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لاغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، وأغنى عن المسألة والحساب، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وحضور الأعمال، وإقامة الشهود إنطاق الاعضاء، ولأغنى بعض هذه عن بعض، ووراء ذلك كلّه إحاطة ربّ العالمين فعلمه يغني عن الجميع، وهو لا يسأل عمّا يفعل.

وكأنّه فرض أنّ نسبة الأعراف وهي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور والحائط الّذي عندنا إلى الصراط الممدود الّذي يسلكه الطرّاق السالكون لا يجتمع هيهنا الصراط والسور ولا يتّحدان فلا يسع لأحد أن يكون سالك صراط أو واقفاً عليه وواقفاً على السور معاً في زمان واحد، ولذلك قال: وأين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما هيهنا، وقد عرفت فساده.

ثمّ الوارد في ظواهر الحديث أنّ الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنّة فينجّي الله الّذين آمنوا ويسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروباً عليه والأعراف في الحجاب؟.

على أنّه فات منه أنّ أحد الأقوال في معنى الأعراف أنّه الصراط كما رواه الطبريّ في تفسيره عن ابن مسعود ورواه في الدّر المنثور عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنّه الصراط.

وأمّا قوله:( هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدّاً) فأوضح فساداً فسياق هذه الأنباء الغيبيّة والنظم المأخوذ فيها يذكّر لنا اُموراً بنعوت عامّة وبيانات مطلقة معانيها معلومة، وحقائقها مبهمة مجهولة إلّا المقدار الّذي تهدي إليه بياناته تعالى، ويوضع بعض أجزائه بعضاً، ولا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معيّنون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الاوصاف المذكورة فيها، ولا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدّد البيان لفظاً كالعدل والميزان مثلاً.

فهذه اثنا عشر قولاً ويمكن أنّ يضاف إلى عدّتها قولان آخران:

أحدهما: أنّهم المستضعفون ممّن لم تتمّ عليهم الحجّة ولم يتعلّق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال والنساء والاطفال غير البالغين، ويمكن أن يدرج في القول الثاني

١٢٩

المتقدّم بأنّ يقال: إنّهم الّذين لا تترجّح أعمالهم من الحسنات أو السيّئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجّة فيهم وتعلّق التكليف بهم حتّى يحاسبوا عليه كالأطفال والمجانين وأهل الفترة ونحوهم أو لأجل استواء حسنتهم وسيّئاتهم في القدر والوزن فحكم القسمين واحد.

الثاني: أنّهم الّذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم ومن أهل الجنّة لشهادتهم وعليه رواية، ويمكن إدراجه في القول الثاني.

والأقوال المذكورة غير متقابلة جميعاً في الحقيقة فإنّ القول بكونهم أهل الفترة والقول بكونهم أولاد الكفّار إنّما ملاكهما عدم ترجّح شئ من الحسنات والسيّئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني، وكذا القول بكونهم أولاد الزنا نظراً إلى أنّهم لا مؤمنون ولا كفّار، وكذا رجوع القول التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى القول الأوّل بوجه.

فاُصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة: أحدها: أنّهم رجال من أهل المنزلة والكرامة على اختلاف بينهم في أنّهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، وقيل: الشهداء على الأعمال، وقيل: العلماء الفقهاء، وقيل: غير ذلك كما مر.

والثاني: أنّهم الّذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيّئة وبالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.

والثالث: أنّهم من الملائكة، وقد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، وعمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

وقد عرفت أنّ الّذي يعطيه سياق الآيات هو الأوّل من الأقوال حتّى أنّ بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدّاً من بعض الإعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني.

قوله تعالى: ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ )

١٣٠

المنادون هم الرجال الّذين على الأعراف - على ما يعطيه السياق - وقوله:( أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) يفسّر ما نادوا به، وقوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) جملتان حاليتان فجملة( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) من أصحاب الجنّة، وجملة( وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) حال آخر من أصحاب الجنّة والمعنى: أنّ أصحاب الجنّة نودوا وهم في حال لم يدخلوا الجنّة بعد وهم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) وهو العامل فيه، والمعنى أنّ أصحاب الجنّة نودوا بذلك وهم في الجنّة لكنّهم لم يدخلوا الجنّة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف ودقّة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنّة لكن قوله بعد:( أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ) إلى آخر الآية يؤيّد أوّل الاحتمالين وأنّهم إنّما سلّموا عليهم قبل دخولهم الجنّة.

وأمّا احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في( َنَادَوْا ) فيوجب سقوط الجملة عن الافادة كما هو ظاهر، وذلك لرجوع المعنى إلى أنّ هؤلاء الرجال الّذين هم على أعراف الحجاب بين الجنّة والنار نادوا وهم لم يدخلوا.

وعلى من يميل إلى أن يجعل قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) بياناً لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) استئنافاً يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال والتقدير: وعلى الأعراف رجال لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا الخ كما نقل عن الزمخشريّ في الكشّاف.

لكن يبعّد الاستئناف أنّ اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) دون إضماره لمكان اللّبس كما فعل ذلك في قوله:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا ) الخ، ويبعّد الوصفيّة الفصل بين الموصوف والصفة بقوله:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) من غير ضرورة موجبة.

وهذا التقدير الّذي تقدّم أعني رجوع معنى قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) إلى آخر الآية، إلى قولنا: وعلى الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنّة ويتعوّذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الّذي مهّد لهم الطريق وسوّاه للقول بأنّ أصحاب الأعراف رجال استوت حسنتهم وسيّئاتهم فلم يترجّح لهم أن يدخلوا الجنّة أو

١٣١

النار فاُوقفوا على الأعراف .

لكنّك عرفت أنّ قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) الخ، حال أصحاب الجنّة لا وصف أصحاب الأعراف، وأمّا قوله:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) الخ، فسيأتي ما في كونه بياناً لحال أصحاب الأعراف من الكلام.

قوله تعالى: ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) التلقاء كالتبيان مصدر لقي يلقى ثمّ استعمل بمعنى جهة اللّقاء، وضمير الجمع في قوله:( أَبْصَارُهُمْ ) وقوله:( قَالُوا ) عائد إلى( رِجَالٌ ) والتعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأنّ الوجه فيه أنّ الإنسان لا يحبّ إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه وخاصّة في مثل المورد الّذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال وأمرّ العذاب وأشقّه الّذي لا يطاق النظر إليه غير أنّ اضطراب النفس وقلق القلب ربّما يفتح العين نحوه للنظر إليه كأنّ غيره هو الّذي صرف نظره إليه وإن كان الإنسان لو خلّي وطبعه لم يرغب في النظر ولو بوجه نحوه، ولذا قيل:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) الخ ولم يقل : وإذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.

ومعنى الآية: وإذا نظر أصحاب الأعراف أحياناً إلى أصحاب النار تعوّذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، وقالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

وليس دعاؤهم هذا الدعاء دالّاً على سقوط منزلتهم، وخوفهم من دخول النار كما يدلّ على رجائهم دخول الجنّة قوله( وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) وذلك أنّ ذلك ممّا دعا به اُولوالعزم من الرسل والأنبياء المكرمون والعباد الصالحون وكذا الملائكه المقرّبون فلا دلالة فيه ولو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حالة وحيره من أمره.

هذا ما فسّروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى( رِجَالٌ ) .

لكنّك خبير بأنّ ذلك لا يلائم الاظهار الّذي في مفتتح الآية التالية في قوله:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ ) إذ الكلام في هذه الآيات الاربع جارٍ في أوصاف أصحاب الأعراف وأخبارهم كقوله:( يَعْرِفُونَ كُلًّا ) الخ، وقوله:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) الخ

١٣٢

وقوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) الخ، على احتمال، وقوله:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) الخ، فكان من اللازم أن يقال:( وَنَادَوْا - وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم ) الخ، وليس في الكلام أيُّ لبس ولا نكتة ظاهرة توجب العدول من الاضمار الّذي هو الأصل في المقام إلى الاظهار بمثل قوله:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ ) .

فالظاهر أنّ ضميري الجمع أعني ما في قوله( أَبْصَارُهُمْ ) وقوله( قَالُوا ) راجعان إلى أصحاب الجنّة، والجملة أخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أنّ الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنّة، وكلّ ذلك قبل دخولهم الجنّة.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ ) إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله:( يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ ) دلالة على أنّ سيماءهم كما يدلّهم على أصل كونهم من أصحاب الجنّة يدلّهم على اُمور اُخر من خصوصيّات أحوالهم، وقد مرّت الإشارة إليه.

وقوله:( قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) تقريع لهم وشماتة، وكشف عن تقطّع الأسباب الدنيويّة عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحقّ ويستذلّونه ويغترّون بجمعهم.

قوله تعالى: ( أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) إلى آخر الآية.

الإشارة إلى أصحاب الجنّة، والاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الّذين كنتم تجزمون قولاً أنّهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبوديّة خير، وإصابة الخير هي نيله تعالى إيّاهم برحمة ووقوع النكرة - برحمة - في حيّز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كلّ خير.

وقوله:( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنّة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، وهذا هو الّذي يفيده السياق.

وقول بعضهم في الآية: إنّها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمان: أدخلوا الجنّة لا خوف عليكم ممّا يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون من شئ ينغّص

١٣٣

عليكم حاضركم، وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخلّص (انتهى).

مدفوع بعدم مسعادة السياق ودلالة القرائن عليه بوجه كما تقدّم بيانه، وليس إذا جاز تقدير القول في محلّ لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أيّ مقام اُريد، وأيّ سياق أم أيّة قرينة تدلّ على ذلك في المقام؟.

( كلام في معنى الأعراف في القرآن)

لم يذكر الأعراف في القرآن إلّا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف (٤٦ - ٤٩) وقد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنّه من المقامات الكريمة الإنسانيّة الّتي تظهر يوم القيامة وقد مثله الله سبحانه بأنّ بين الدارين دار الثواب ودار العقاب حجاباً يحجز إحداهما من الاُخرى - والحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنّه مرتبط بهما جميعاً - وللحجاب أعراف وعلى الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأوّلين والآخرين يشاهدون كلّ ذي نفس منهم في مقامه الخاصّ به على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم من أعلى علّيّين إلى أسفل سافلين، ويعرفون كلًّا منهم بما له من الحال الّذي يخصّه والعمل الّذي عمله، لهم أن يكلّموا من شاؤا منهم، ويؤمنوا من شاؤا، ويأمروا بدخول الجنّة بإذن الله.

ويستفادوا من ذلك أنّ لهم موقفاً خارجاً من موقفي السعادة الّتي هي النجاة بصالح العمل، والشقاوة الّتي هي الهلاك بطالح العمل، ومقاماً أرفع من المقامين معاً ولذلك كان مصدراً للحكم والسلطة عليهما جميعاً.

ولك أن تعتبر في تفهّم ذلك بما تجده عند الملوك ومصادر الحكم فهناك جماعة منعّمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرّون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، وآخرون محبوسون في سجونهم معذّبون بأليم عذابهم قد احاط بهم هوان الشقاوة من كلّ جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة وظرف الشقاوة، والظرفان متمائزان لا يختلطان بظرف آخر

١٣٤

ثالث يحكم فيهما ويصلح شأن كلّ منهما وينظّم أمره وفي هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجنبين وإهداء النعم إلى أهل السعادة، وإيصال النقم إلى أهل الشقاوة، وهم مع ذلك من السعداء، وقوم آخر وراء الخدمة والعمّال هم المدبّرون لامر الجميع وهم قرب الوسائط من العرش، وهم أيضاً من السعداء فللسعادة مراتب من حيث الاطلاق والتقييد.

وليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخصّ قوماً برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنّة ويبسط عليهم بركاته بما أنّه الغفور ذو الفضل العظيم، ويدخل آخرين في ناره ودار هوانه بما عملوه من سيّئاتهم وهو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، ويأذن لطائفة ثالثة أن يتوسّطوا بينه وبين الفريقين بإجراء أو امره وأحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم وإشقاء من شقي فإنّه الواحد القهّار الّذي يقهر بوحدته كلّ شئ كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، وقد قال تعالى:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) فافهم.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا ) الخ، الافاضة من الفيض وهو سيلان الماء منصّبا، قال تعالى:( تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) أي يسيل دمعها منصّباً، وعطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدلّ على أنّ المراد بالافاضة صبّ مطلق النعم أعمّ من المائع وغيره على نحو عموم المجاز، وربّما قيل: إنّ الافاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء وغيره حقيقة حينئذ.

وكيف كان ففي الآية إشعار بعلوّ مكان أهل الجنّة بالنسبة إلى مكان أهل النار.

وإنّما أفرز الماء وهو من جملة ما رزقهم الله ثمّ قدّم في الذكر على سائر ما رزقهم الله لأنّ الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعاً بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالإنسان، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ) إلى آخر الآية. اللهو ما يشغلك عمّا يهمّك، واللعب الفعل المأتيّ به لغاية خياليّة غير حقيقيّة، والغرور إظهار النصح واستبطان الغشّ، والنسيان يقابل الذكر، وربّما يستعار لترك الشئ وعدم الاعتناء بشأنه

١٣٥

كالشئ المنسيّ، وعلى ذلك يجري في الآية، والجحد النفي والإنكار، والآية مسوقة لتفسير الكافرين، ويستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أوّلها: أنّه اتّخاذ الإنسان دينه لهواً ولعباً وغرور الحياة الدنيا له، والثاني: نسيان يوم اللقاء، والثالث: الجحد بآيات الله، ولكلّ من التفاسير وجه.

وفي قوله تعالى:( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ) دلالة على أنّ الإنسان لا غنى له عن الدين على أيّ حال حتّى من اشتغل باللهو واللعب ومحض حياته فيها محضاً فإنّ الدين كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الآية - هو طريق الحياة الّذي يسلكه الإنسان في الدنيا، ولا محيص له عن سلوكه، وقد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدى إليه الفطرة الإنسانيّة ودعت إليه، وهو دين الإنسان الّذي يخصّه وينسب إليه، وهو الّذي يهمّ الإنسان ويسوقه إلى غاية حقيقيّة هي سعادة حياته.

فحيث جرى عليه الإنسان وسلكه كان على دينه الّذي هو دين الله الفطريّ، وحيث اشتغل عنه إلى غيره الّذي يلهو عنه ولا يهديه إلّا إلى غايات خياليّة وهي اللذائذ المادّيّة الّتي لا بقاء لها ولا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتّخذ دينه لهواً ولعباً وغرّته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.

وقوله تعالى:( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) أي اليوم نتركهم ولا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له وبما كانوا بآياتنا يجحدون ونظير الآية في جعل تكذيب الآيات سبباً لنسيان الله له يوم القيامة قوله:( قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ) طه: ١٢٦، وقد بدّل هناك الجحد نسياناً.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ) الآية عود على بدء الكلام أعني قوله في أوّل الآيات:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي من أعظم من هؤلاء ظلماً ولقد أتممنا عليهم الحجّة وأقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصّلناه وأنزلناه إليهم على علم منّا بنزوله؟

١٣٦

فقوله:( عَلَىٰ عِلْمٍ ) متعلّق بقوله:( لَقَدْ جِئْنَاهُم ) والكلمة تتضمّن احتجاجاً على حقيّة الكتاب والتقدير: ولقد جئناهم بكتاب حقّ: وكيف لا يكون حقّاً؟ وقد نزل على علم منّا بما يشتمل عليه من المطالب.

وقوله:( هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي هدى وإراءة طريق للجميع ورحمة للمؤمنين به خاصّة، أو هدى وإيصالاً بالمطلوب للمؤمنين ورحمة لهم، والأوّل أنسب بالمقام وهو مقام الاحتجاج.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) إلى آخر الآية.

الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) الآية: آل عمران: ٧ أنّ التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة الّتي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أيّ أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن والمثل على الممثّل.

فقوله:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) معناه هل ينتظر هؤلاء الّذين يفترون على الله كذباً أو يكذّبون بآياته وقد تمّت عليهم الحجّة بالقرآن النازل عليهم، إلّا حقيقة الأمر الّتي كانت هي الباعثة على سوق بياناته وتشريع أحكامه والإنذار والتبشير الّذين فيه ؟ فلو لم ينتظروه لم يتركوا الأخذ بما فيه.

ثمّ يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه الخ، إي إذا انكشفت حقيقة الأمر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقيّة ما جاءت به الرسل من الشرائع الّتي أوجبوا العمل بها، وأخبروا أنّ الله سيبعثهم ويجازيهم عليها.

وإذ شاهدوا عند ذلك أنّهم صفر الايدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم إمّا شفعاء ينجونهم من الهلاك الّذي أطلّ عليهم أو أنفسهم، بأن يردّوا إلى الدنيا فيعملوا صالحاً غير الّذي كانوا يعملونه من السيّئات وذلك قوله حكاية عنهم:( فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) ؟

وقوله تعالى:( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) فصل في معنى

١٣٧

التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إمّا الشفعاء وإمّا الردّ إلى الدنيا كأنّه قيل: لماذا يسألون هذا الّذي يسألون؟ فقيل:( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ) فيما بدّلوا دينهم لهواً ولعباً، واختاروا الجحود على التسليم وقد زال عنهم الافتراءات المضلّة الّتي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنّهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إمّا أنفسهم أو غيرهم ممّن يشفع لهم.

وقد تقدّم في مبحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ في قوله:( فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) دلالة على أنّ هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: من شفعاء، ولم يقل: من شفيع فيشفع لنا.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال في قوله تعالى:( وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عزّوجلّ فيهم إذ جمعهم إلى النار:( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ) وقوله: كلّما دخلت أمّة لعنت اُختها حتّى إذا ادّاركوا فيها يتبرّءُ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا يريد أنّ بعضهم يحجّ بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة.

أقول: وقولهعليه‌السلام : قوله كلّما دخلت أمّة الخ نقل للآية بالمعنى.

وفي الدّر المنثور في قوله تعالى:( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ ) بالياء.

وفيه أخرج الطيالسيّ وابن شيبة وأحمد وهنّاد بن السري وعبد بن حميد وأبو داود في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقيّ في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جنازة رجل من الأنصار فأنتهينا إلى القبر ولمّا يلحد فجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلسنا حوله وكأنّ على رؤسنا

١٣٨

الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرّتين أو ثلاثا.

ثمّ قال: إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنّة وحنوط من حنوط الجنّة حتّى يجلسوا منه مدّ البصر ثمّ يجئ ملك الموت حتّى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيّبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء وإن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتّى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون على ملاء من الملائكة إلّا قالوا: ما هذا الروح الطيّب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه الّتي كانوا يسمّونه بها في الدنيا حتّى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتّحون له فتفتّح لهم فيشيّعه من كلّ سماء مقرّبوها إلى السماء الّتي تليها حتّى ينتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين، واُعيدوه إلى الأرض فإنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة اُخرى فيعاد روحه في جسده.

فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنّة وألبسوه من الجنّة وافتحوا له باباً إلى الجنّة فيأتيه من روحها وطيّبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر بالّذي يسرّك، هذا يومك الّذي كنت توعد ! فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير.

فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: ربّ أقم الساعة أقم الساعة حتّى أرجع إلى أهلي ومالي.

قال: وإنّ العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مدّ البصر ثمّ يجئ ملك الموت

١٣٩

حتّى يجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فيفرّق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها.

فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتّى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملاء من الملائكة إلّا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه الّتي كان يسمّى بها في الدنيا حتّى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتّح فلا تفتّح له.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تفتّح لهم أبواب السماء.

فيقول الله عزّوجلّ: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و من يشرك بالله فكأنّما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري ! فيقولان له: ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري ! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيّق عليه قبره حتّى تختلف فيه أضلاعه.

ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالّذي يسوؤك هذا يومك الّذي كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشرّ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تقم الساعة.

أقول: والرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، وفي معناها روايات من طرق الشيعه عن أئمّة اهل البيتعليهم‌السلام أودعنا بعضها في البحث الروائيّ الموضوع في ذيل قوله تعالى:( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ) الخ، البقره: ١٥٤، في الجزء الأوّل من الكتاب.

وفي تفسير العيّاشيّ عن سعيد بن جناح قال حدّثني عوف بن عبدالله الازديّ عن جابر بن يزيد الجعفيّ عن أبى جعفرعليه‌السلام في حديث قبض روح الكافر : فإذا أوتي

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408