الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86241
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86241 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العقاب.وهو وجه سخيف على سخفته لا يغني طائلا.

وقوله:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) تفريع على تحقّق الإعتراف من الطائفتين جميعاً على حقّيّة ما وعده الله سبحانه، والأذان هو قوله:( لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) وهو إعلام عامّ للفريقين - والدليل عليه ظاهر قوله:( بَيْنَهُمْ ) بقضاء اللّعنة وهي الإبعاد والطرد من الرحمة الإلهيّة على الظالمين وقد فسّر الظالمين الّذين ضربت عليهم باللّعنة بقوله:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) فهم الكافرون المنكرون للآخرة الّذين يصدّون عن سبيل الله محرفة منحرفة، ويصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحقّ المنكرون للمعاد.

وهذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحقّ الكافرين بالجزاء حتّى المنكرين للصانع الّذين لا يدينون بدين فإنّ الله سبحانه يذكر في كتابه أنّ دينه وسبيله الّذي يهدي إليه وبه هو سبيل الإنسانيّة الّذي تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة والخلقة خصّ بها الإنسان ليس وراءه إسلام ولا دين.

فالسبيل الّذي يسلكه الإنسان في حياته هو سبيل الله وصراطه وهو الدين الإلهىّ فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة وهو الّذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم والإسلام الّذي هو الدين عند الله وسبيل الله الّذي لا عوج فيه، وإن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان باُلوهيّة وعبادة لمعبود كالملل والأديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشئ وعبادة لمعبود كالمادّيّة المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجاً وهو الإسلام محرّفاً عن وجهه، ونعمة الله الّتي بدّلت كفراً، فافهم ذلك.

وقد أبهم الله هذا الّذي يخبر عنه بقوله:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) ولم يعرفه من هو؟ أمن الإنس أم من الجنّ أم من الملائكة؟ لكنّ الّذي يقتضيه التدبّر في كلامه تعالى أنّ يكون هذا المؤذّن من البشر لا من الجنّ لا من الملائكه: أمّا الجنّ فلم يذكر في شئ من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدّى الجنّ شيئاً من التوسّط في أمر الإنسان من لدن وروده في عالم الآخرة وهو حين نزول الموت إلى أنّ يستقرّ في جنّة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجنّ.

١٢١

وأمّا الملائكة فإنّهم وسائط لأمر الله وحملة لإرادته بأيديهم إنفاذ الأوامر الإلهيّة، وبوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، وقد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم وحكمهم في عالم الموت وفي جنّة الآخرة ونارها كقولهم للظالمين حين القبض:( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ) إلخ، الأنعام: ٩٣ وقولهم لاهل الجنّة:( سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) الخ، النحل: ٣٢ وقول مالك لأهل النار:( إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ) الخ، الزخرف: ٧٧، ونظائر ذلك.

وأمّا المحشر وهو حظيرة البعث والسؤال والشهاده وتطاير الكتب والوزن والحساب والظرف الّذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شئ من الحكم أو الأمر والنهي ولا لغيرهم صريحاً إلّا ما صرّح تعالى به في حقّ الإنسان.

كقوله تعالى في أصحاب الأعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) وقولهم لجمع من المؤمنين هناك:( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) و هذا حكم وأمر وتأمين بإذن الله، وقوله تعالى فيما يصف يوم القيامة:( قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) النحل: ٢٧ وقوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدّة لبثهم في الأرض:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الروم: ٥٦.

فهذه جهات من تصدّي الشؤون، والقيام بالأمر يوم القيامة حبا الله الإنسان به دون الملائكة مضافاً إلى أمثال الشهادة والشفاعة اللتين له.

فهذا كلّه يقرّب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذّن من الإنسان دون الملائكة ويأتي في البحث الروائي ما له تعلّق بالمقام.

قوله تعالى: ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ) الحجاب معروف وهو الستر المتخلّل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر.

والأعراف أعالي الحجاب، والتلال من الرمل والعرف للديك وللفرس وهو الشعر فوق رقبته وأعلا كلّ شئ ففيه معنى العلوّ على أيّ حال، وذكر الحجاب قبل الأعراف، وما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع وندائهم أهل الجنّة والنار جميعاً كلّ ذلك يؤيّد أن يكون المراد

١٢٢

بالأعراف أعالي الحجاب الّذي بين الجنّة والنار وهو المحلّ المشرف على الفريقين أهل الجنّة وأهل النار جميعاً.

والسيماء العلامة قال الراغب: السيماء والسيمياء العلامة، قال الشاعر:

له سيمياء لا تشقّ على البصر

وقال تعالى:( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم ) وقد سوّمته أي أعلمته، ومسوّمين أي معلّمين (انتهى).

والّذي يعطيه التدبّر في معنى هذه الآية وما يلحق بها من الآيات أنّ هذا الحجاب الّذي ذكره الله تعالى إنّما هو بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله:( وَبَيْنَهُمَا ) وقد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين والمؤمنين يوم القيامة بقوله:( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) الحديد: ١٣، وإنّما هو حجاب لكونه يفرّق بين الطائفتين ويحجب إحداهما عن الاُخرى لا أنّه ثوب منسوج محيط على هيأة خاصّة معلّق بين الجنّة والنار.

ثمّ أخبر الله سبحانه أنّ على أعراف الحجاب وأعاليه رجالاً مشرفين على الجنبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلّا من الطائفتين أصحاب الجنّة وأصحاب النار بسيماهم وعلامتهم الّتي تختصّ بهم.

ولا ريب في أنّ السياق يفيد أنّ هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متميّزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإنسان كالملائكة أو الجنّ مثلاً، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلّق بهم من السؤال والحساب وسائر الشؤون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنّة، وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف، كما قسّمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث: المؤمنين والكفّار والمستضعفين الّذين لم تتمّ عليهم الحجّة وقصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء والاطفال غير البالغين والشيخ الهرم الخرف والمجنون والسفيه وضربهم، أو لكونهم مرتفعين عن

١٢٣

موقف أهل الجمع بمكانتهم؟.

لا ريب أنّ إطلاق لفظ( رِجَالٌ ) لا يشمل الملائكة فإنّهم لا يتصّفون بالرجوليّة والاُنوثيّة كما يتصّف به جنس الحيوان وإن قيل: إنّهم ربّما يظهرون في شكل الرجال فإنّ ذلك لا يصحّح الاتّصاف والتسمية، على أنّه لا دليل يدلّ عليه.

ثمّ إنّ التعبير بمثل قوله:( رِجَالٌ يَعْرِفُونَ ) إلخ، وخاصّة بالتنكير يدلّ بحسب عرف اللّغة على اعتناء تامّ بشأن الأفراد المقصودين باللّفظ نظراً إلى دلالة الرجل بحسب العدّة على الإنسان القويّ في تعقّله وإرادته الشديد في قوامه.

وعلى ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى:( رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ) النور: ٣٧، وقوله:( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ) التوبه: ١٠٨، وقوله:( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) الاحزاب: ٢٣، وقوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم ) يوسف: ١٠٩ حتّى في مثل قوله:( مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ) ص: ٦٢، وقوله:( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ ) الجنّ: ٦.

فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، وإن فرض أنّ فيهم أفراداً من النساء كان من التغليب.

وأمّا المستضعفون فإنّهم ضعفاء أفراد الإنسان لا مزيّة في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، وفيهم النساء والاطفال حتّى الأجنّة، ولا فضل لبعضهم على بعض، ولرجالهم على غيرهم حتّى يعبّر به عنهم بالرجال تغليباً فلو كانوا هم المرادين بقوله( رِجَالٌ يَعْرِفُونَ ) الخ، لكان حقّ التعبير أنّ يقال: قوم يعرفون الخ، أو اُناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى:( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ) الأعراف: ١٦٤، وقوله:( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) الأعراف: ٨٢، وقوله:( فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ) الصفّ: ١٤.

على أنّ ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الاوصاف ويذكرهم به من الشؤون اُمور تأبى إلّا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة والمكانة، وأصحاب القرب والزلفى

١٢٤

فضلاً أن يكونوا من الناس المتوسّطين فضلاً أن يكونوا من المستضعفين.

فأوّل : ذلك أنّهم جعلوا على الأعراف ووصفوا بأنّهم مشرفون على أهل الجمع عامّة ومطلّعون على أصحاب الجنّة وأصحاب النار يعرفون كلّ إنسان منهم بسيماه الخاصّ به ويحيطون بخصوصيّات نفوسهم وتفاصيل أعمالهم، ولا ريب أنّ ذلك منزلة رفيعة يختصّون بها من بين الناس وليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة وخاصّة بعد دخول الجنّة والنار أمراً عامّاً موجوداً عند الجميع فإنّ الله يقول حكاية عن قول أهل النار:( مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ) ص: ٦٢، وقولهم:( رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) حم السجدة: ٢٩، وقال:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) عبس: ٣٧.

وليس معنى السيماء أنّ يعلّم المؤمنون والكفّار بعلامة عامّة يعرف صنفهم بها كلّ من شاهدهم كبياض الوجه وسواده مثلاً فإنّ قوله تعالى في الآية التالية:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) يفيد أنّهم ميّزوا خصوصيّات من أحوالهم وأعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع وقد أقسموا كذا وكذا، وهذه اُمور وراء الكفر والإيمان في الجملة.

وثانياً : أنّهم يحاورون الفريقين فيكلّمون أصحاب الجنّة ويحيونهم بتحيّة الجنّة، ويكلّمون أئمّة الكفر والضلال والطغاة من أهل النار فيقرّعون عليهم بأحوالهم وأقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، وليس التكلّم بمجاز يومئذ إلّا للأوحديّ من عباد الله الّذين لا ينطقون إلّا بحقّ قال تعالى:( لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) النبأ: ٣٨، وهذا وراء ما يناله المستضعفون.

وثالثا: أنّهم يؤمّنون أهل الجنّة بالتسليم عليهم ثمّ يأمرونهم بدخول الجنّة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية.

ورابعاً: أنّه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم وما يحاورون به أصحاب الجنّة والجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شئ من آثار الفزع والقلق عليهم ولا اضطراب في

١٢٥

أقوالهم، ولم يذكر أنّهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال الّتي تجعل الأفئدة هواءً والجبال سراباً، وقد قال تعالى:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات: ١٢٨، فجعل ذلك من خاصّة مخلصي عباده، ثمّ استثناهم من كلّ هول اُعدّ ليوم القيامة.

ثمّ إنّه تعالى ذكر دعاءهم في قوله:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ولم يعقّبه بالردّ فدلّ ذلك على أنّهم مجازون فيما يتكلّمون به مستجاب دعاؤهم، ولولا ذلك لعقّبه بالردّ كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع ومسائل أصحاب النار وأدعية اُخرى من غيرهم.

فهذه الخصوصيّات الّتي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبّر فيها وأخرى تتبعها لا تبقي ريباً للمتدبّر في أنّ هؤلاء الّذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله:( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ) جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاماً وأعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامّة الفريقين، لهم أن يتكلّموا بالحقّ يوم القيامة ولهم أن يشهدوا، ولهم أن يشفعوا، ولهم أن يأمروا ويقضوا.

وأمّا أنّهم من الإنس أو من الجنّ أو من القبيلين مختلطين ؟ فلا طريق من اللّفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئاً من كلامه تعالى لا يدلّ على تصدّى الجنّ شيئاً من شؤون يوم القيامة ولا توسّطاً في أمر يعود إلى الحكم الفصل الّذي يجري على الإنسان يومئذ كالشهادة والشفاعة ونحوهما.

ولا ينافي ما قدّمناه من أوصافهم ونعوتهم أمثال قوله تعالى:( يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ) الأنّفطار: ١٩، فإنّ الآية مفسّرة بآيات اُخرى تدلّ على أنّ المراد بها إنّما هو ظهور ملكه تعالى لكلّ شئ وإحاطته بكلّ أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنّه مالك على الإطلاق دائماً لا وقتاً دون وقت، ولا يملك نفس لنفس شيئاً دائماً لا في الآخرة فحسب لنفسه والملائكة على وساطتهم يومئذ والشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، والشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ وقد نصّ على ذلك كلامه تعالى قال:( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) الأنبياء: ١٠٣، وقال:( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١،

١٢٦

وقال:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

فللّه سبحانه الملك يومئذ وله الحكم يومئذ، ولغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أنّ الّذي يختصّ به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، وحضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطا أو بطلان.

وقد اشتدّ الخلاف بينهم في معنى الآية حتّى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف:

١ - فمن قائل: إنّه شئ مشرف على الفريقين.

٢ - وقيل: سور له عرف كعرف الديك.

٣ - وقيل: تلّ بين الجنّة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.

٤ - وقيل: السور الّذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين والمنافقين إذ قال:( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ) .

٥ - وقيل: معنى الأعراف التعرّف أي على تعرّف حال الناس رجال.

٦ - وقيل: هو الصراط.

ثمّ اختلفوا في الرجال الّذين على الأعراف على أقوال اُنهيت إلى اثنى عشر قولاً:

١ - أنّهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله.

٢ - أنّهم قوم استوت حسنتهم وسيّئاتهم فلم يترجّح حسنتهم حتّى يدخلوا الجنّة ولا غلبت سيّئاتهم حتّى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسّطة بين الجنّة والنار ثمّ يدخلهم الجنّة برحمته.

٣ - أنّهم أهل الفترة.

٤ - أنّهم مؤمنوا الجنّ.

٥ - أنّهم أولاد الكفّار الّذين لم يبلّغوا في الدنيا أو أنّ البلوغ.

٦ - أنّهم أولاد الزنا.

١٢٧

٧ - أنّهم أهل العجب بأنفسهم.

٨ - أنّهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلّا بسيماهم، وإذا اُورد عليهم أنّ الملائكة لا تتّصف بالرجوليّة والاُنوثيّة قالوا: إنّهم يتشكلّون بأشكال الرجال.

٩ - أنّهم الأنبياءعليهم‌السلام يقامون عليها تمييزاً لهم على سائر الناس ولأنّهم شهداء عليهم.

١٠ - أنّهم عدول الامم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم.

١١ - أنّهم قوم صالحون فقهاء علماء.

١٢ - أنّهم العبّاس وحمزة وعلي وجعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسيّ في روح المعاني أنّ هذا القول رواه الضحّاك عن ابن عبّاس.

قال في المنار: ولم نره في شئ من كتب التفسير المأثور، والظاهر أنّه نقله عن تفاسير الشيعة وفيه أنّ أصحاب الأعراف يعرفون كُلًّا من أهل الجنّة وأهل النار بسيماهم فيميّزون بينهم أو يشهدون عليهم فأيّ فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويّين ومن يبغضون عليّاً خاصّه من المنافقين والنواصب؟ وأين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدّاً (انتهى).

أقول: أمّا الرواية فلا توجد في شئ من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحّاك، وقد نقله في مجمع البيان عن الثعلبيّ في تفسيره بإسناده عن الضحّاك عن ابن عبّاس، وسيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائيّ الّتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا طرحه الرواية فهو في محلّه غير أنّ الّذي استند إليه في طرحها ليس في محلّه فإنّه يكشف عن نحو السلوك الّذي يسلكه في الابحاث المتعلّقة بالمعاد فإنّه يقيس نظام الوقائع الّتي يقصّها القرآن والحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيويّة، ويعدّه من نوعه فيوجّه منها ما لاح سبب وقوعه، ويبقى ما لا ينطبق على النظام الدنيويّ على الجمود وهو الجزاف في الارادة فافهم ذلك.

ولو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته

١٢٨

فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لاغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، وأغنى عن المسألة والحساب، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وحضور الأعمال، وإقامة الشهود إنطاق الاعضاء، ولأغنى بعض هذه عن بعض، ووراء ذلك كلّه إحاطة ربّ العالمين فعلمه يغني عن الجميع، وهو لا يسأل عمّا يفعل.

وكأنّه فرض أنّ نسبة الأعراف وهي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور والحائط الّذي عندنا إلى الصراط الممدود الّذي يسلكه الطرّاق السالكون لا يجتمع هيهنا الصراط والسور ولا يتّحدان فلا يسع لأحد أن يكون سالك صراط أو واقفاً عليه وواقفاً على السور معاً في زمان واحد، ولذلك قال: وأين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما هيهنا، وقد عرفت فساده.

ثمّ الوارد في ظواهر الحديث أنّ الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنّة فينجّي الله الّذين آمنوا ويسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروباً عليه والأعراف في الحجاب؟.

على أنّه فات منه أنّ أحد الأقوال في معنى الأعراف أنّه الصراط كما رواه الطبريّ في تفسيره عن ابن مسعود ورواه في الدّر المنثور عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنّه الصراط.

وأمّا قوله:( هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدّاً) فأوضح فساداً فسياق هذه الأنباء الغيبيّة والنظم المأخوذ فيها يذكّر لنا اُموراً بنعوت عامّة وبيانات مطلقة معانيها معلومة، وحقائقها مبهمة مجهولة إلّا المقدار الّذي تهدي إليه بياناته تعالى، ويوضع بعض أجزائه بعضاً، ولا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معيّنون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الاوصاف المذكورة فيها، ولا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدّد البيان لفظاً كالعدل والميزان مثلاً.

فهذه اثنا عشر قولاً ويمكن أنّ يضاف إلى عدّتها قولان آخران:

أحدهما: أنّهم المستضعفون ممّن لم تتمّ عليهم الحجّة ولم يتعلّق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال والنساء والاطفال غير البالغين، ويمكن أن يدرج في القول الثاني

١٢٩

المتقدّم بأنّ يقال: إنّهم الّذين لا تترجّح أعمالهم من الحسنات أو السيّئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجّة فيهم وتعلّق التكليف بهم حتّى يحاسبوا عليه كالأطفال والمجانين وأهل الفترة ونحوهم أو لأجل استواء حسنتهم وسيّئاتهم في القدر والوزن فحكم القسمين واحد.

الثاني: أنّهم الّذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم ومن أهل الجنّة لشهادتهم وعليه رواية، ويمكن إدراجه في القول الثاني.

والأقوال المذكورة غير متقابلة جميعاً في الحقيقة فإنّ القول بكونهم أهل الفترة والقول بكونهم أولاد الكفّار إنّما ملاكهما عدم ترجّح شئ من الحسنات والسيّئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني، وكذا القول بكونهم أولاد الزنا نظراً إلى أنّهم لا مؤمنون ولا كفّار، وكذا رجوع القول التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى القول الأوّل بوجه.

فاُصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة: أحدها: أنّهم رجال من أهل المنزلة والكرامة على اختلاف بينهم في أنّهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، وقيل: الشهداء على الأعمال، وقيل: العلماء الفقهاء، وقيل: غير ذلك كما مر.

والثاني: أنّهم الّذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيّئة وبالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.

والثالث: أنّهم من الملائكة، وقد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، وعمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

وقد عرفت أنّ الّذي يعطيه سياق الآيات هو الأوّل من الأقوال حتّى أنّ بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدّاً من بعض الإعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني.

قوله تعالى: ( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ )

١٣٠

المنادون هم الرجال الّذين على الأعراف - على ما يعطيه السياق - وقوله:( أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) يفسّر ما نادوا به، وقوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) جملتان حاليتان فجملة( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) من أصحاب الجنّة، وجملة( وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) حال آخر من أصحاب الجنّة والمعنى: أنّ أصحاب الجنّة نودوا وهم في حال لم يدخلوا الجنّة بعد وهم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) وهو العامل فيه، والمعنى أنّ أصحاب الجنّة نودوا بذلك وهم في الجنّة لكنّهم لم يدخلوا الجنّة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف ودقّة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنّة لكن قوله بعد:( أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ) إلى آخر الآية يؤيّد أوّل الاحتمالين وأنّهم إنّما سلّموا عليهم قبل دخولهم الجنّة.

وأمّا احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في( َنَادَوْا ) فيوجب سقوط الجملة عن الافادة كما هو ظاهر، وذلك لرجوع المعنى إلى أنّ هؤلاء الرجال الّذين هم على أعراف الحجاب بين الجنّة والنار نادوا وهم لم يدخلوا.

وعلى من يميل إلى أن يجعل قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) بياناً لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) استئنافاً يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال والتقدير: وعلى الأعراف رجال لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا الخ كما نقل عن الزمخشريّ في الكشّاف.

لكن يبعّد الاستئناف أنّ اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) دون إضماره لمكان اللّبس كما فعل ذلك في قوله:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا ) الخ، ويبعّد الوصفيّة الفصل بين الموصوف والصفة بقوله:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) من غير ضرورة موجبة.

وهذا التقدير الّذي تقدّم أعني رجوع معنى قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) إلى آخر الآية، إلى قولنا: وعلى الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنّة ويتعوّذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الّذي مهّد لهم الطريق وسوّاه للقول بأنّ أصحاب الأعراف رجال استوت حسنتهم وسيّئاتهم فلم يترجّح لهم أن يدخلوا الجنّة أو

١٣١

النار فاُوقفوا على الأعراف .

لكنّك عرفت أنّ قوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) الخ، حال أصحاب الجنّة لا وصف أصحاب الأعراف، وأمّا قوله:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) الخ، فسيأتي ما في كونه بياناً لحال أصحاب الأعراف من الكلام.

قوله تعالى: ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) التلقاء كالتبيان مصدر لقي يلقى ثمّ استعمل بمعنى جهة اللّقاء، وضمير الجمع في قوله:( أَبْصَارُهُمْ ) وقوله:( قَالُوا ) عائد إلى( رِجَالٌ ) والتعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأنّ الوجه فيه أنّ الإنسان لا يحبّ إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه وخاصّة في مثل المورد الّذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال وأمرّ العذاب وأشقّه الّذي لا يطاق النظر إليه غير أنّ اضطراب النفس وقلق القلب ربّما يفتح العين نحوه للنظر إليه كأنّ غيره هو الّذي صرف نظره إليه وإن كان الإنسان لو خلّي وطبعه لم يرغب في النظر ولو بوجه نحوه، ولذا قيل:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) الخ ولم يقل : وإذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.

ومعنى الآية: وإذا نظر أصحاب الأعراف أحياناً إلى أصحاب النار تعوّذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، وقالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

وليس دعاؤهم هذا الدعاء دالّاً على سقوط منزلتهم، وخوفهم من دخول النار كما يدلّ على رجائهم دخول الجنّة قوله( وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) وذلك أنّ ذلك ممّا دعا به اُولوالعزم من الرسل والأنبياء المكرمون والعباد الصالحون وكذا الملائكه المقرّبون فلا دلالة فيه ولو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حالة وحيره من أمره.

هذا ما فسّروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى( رِجَالٌ ) .

لكنّك خبير بأنّ ذلك لا يلائم الاظهار الّذي في مفتتح الآية التالية في قوله:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ ) إذ الكلام في هذه الآيات الاربع جارٍ في أوصاف أصحاب الأعراف وأخبارهم كقوله:( يَعْرِفُونَ كُلًّا ) الخ، وقوله:( وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) الخ

١٣٢

وقوله:( لَمْ يَدْخُلُوهَا ) الخ، على احتمال، وقوله:( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ) الخ، فكان من اللازم أن يقال:( وَنَادَوْا - وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم ) الخ، وليس في الكلام أيُّ لبس ولا نكتة ظاهرة توجب العدول من الاضمار الّذي هو الأصل في المقام إلى الاظهار بمثل قوله:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ ) .

فالظاهر أنّ ضميري الجمع أعني ما في قوله( أَبْصَارُهُمْ ) وقوله( قَالُوا ) راجعان إلى أصحاب الجنّة، والجملة أخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أنّ الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنّة، وكلّ ذلك قبل دخولهم الجنّة.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ ) إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله:( يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ ) دلالة على أنّ سيماءهم كما يدلّهم على أصل كونهم من أصحاب الجنّة يدلّهم على اُمور اُخر من خصوصيّات أحوالهم، وقد مرّت الإشارة إليه.

وقوله:( قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) تقريع لهم وشماتة، وكشف عن تقطّع الأسباب الدنيويّة عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحقّ ويستذلّونه ويغترّون بجمعهم.

قوله تعالى: ( أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) إلى آخر الآية.

الإشارة إلى أصحاب الجنّة، والاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الّذين كنتم تجزمون قولاً أنّهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبوديّة خير، وإصابة الخير هي نيله تعالى إيّاهم برحمة ووقوع النكرة - برحمة - في حيّز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كلّ خير.

وقوله:( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنّة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، وهذا هو الّذي يفيده السياق.

وقول بعضهم في الآية: إنّها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمان: أدخلوا الجنّة لا خوف عليكم ممّا يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون من شئ ينغّص

١٣٣

عليكم حاضركم، وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخلّص (انتهى).

مدفوع بعدم مسعادة السياق ودلالة القرائن عليه بوجه كما تقدّم بيانه، وليس إذا جاز تقدير القول في محلّ لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أيّ مقام اُريد، وأيّ سياق أم أيّة قرينة تدلّ على ذلك في المقام؟.

( كلام في معنى الأعراف في القرآن)

لم يذكر الأعراف في القرآن إلّا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف (٤٦ - ٤٩) وقد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنّه من المقامات الكريمة الإنسانيّة الّتي تظهر يوم القيامة وقد مثله الله سبحانه بأنّ بين الدارين دار الثواب ودار العقاب حجاباً يحجز إحداهما من الاُخرى - والحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنّه مرتبط بهما جميعاً - وللحجاب أعراف وعلى الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأوّلين والآخرين يشاهدون كلّ ذي نفس منهم في مقامه الخاصّ به على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم من أعلى علّيّين إلى أسفل سافلين، ويعرفون كلًّا منهم بما له من الحال الّذي يخصّه والعمل الّذي عمله، لهم أن يكلّموا من شاؤا منهم، ويؤمنوا من شاؤا، ويأمروا بدخول الجنّة بإذن الله.

ويستفادوا من ذلك أنّ لهم موقفاً خارجاً من موقفي السعادة الّتي هي النجاة بصالح العمل، والشقاوة الّتي هي الهلاك بطالح العمل، ومقاماً أرفع من المقامين معاً ولذلك كان مصدراً للحكم والسلطة عليهما جميعاً.

ولك أن تعتبر في تفهّم ذلك بما تجده عند الملوك ومصادر الحكم فهناك جماعة منعّمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرّون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، وآخرون محبوسون في سجونهم معذّبون بأليم عذابهم قد احاط بهم هوان الشقاوة من كلّ جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة وظرف الشقاوة، والظرفان متمائزان لا يختلطان بظرف آخر

١٣٤

ثالث يحكم فيهما ويصلح شأن كلّ منهما وينظّم أمره وفي هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجنبين وإهداء النعم إلى أهل السعادة، وإيصال النقم إلى أهل الشقاوة، وهم مع ذلك من السعداء، وقوم آخر وراء الخدمة والعمّال هم المدبّرون لامر الجميع وهم قرب الوسائط من العرش، وهم أيضاً من السعداء فللسعادة مراتب من حيث الاطلاق والتقييد.

وليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخصّ قوماً برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنّة ويبسط عليهم بركاته بما أنّه الغفور ذو الفضل العظيم، ويدخل آخرين في ناره ودار هوانه بما عملوه من سيّئاتهم وهو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، ويأذن لطائفة ثالثة أن يتوسّطوا بينه وبين الفريقين بإجراء أو امره وأحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم وإشقاء من شقي فإنّه الواحد القهّار الّذي يقهر بوحدته كلّ شئ كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، وقد قال تعالى:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) فافهم.

قوله تعالى: ( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا ) الخ، الافاضة من الفيض وهو سيلان الماء منصّبا، قال تعالى:( تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) أي يسيل دمعها منصّباً، وعطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدلّ على أنّ المراد بالافاضة صبّ مطلق النعم أعمّ من المائع وغيره على نحو عموم المجاز، وربّما قيل: إنّ الافاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء وغيره حقيقة حينئذ.

وكيف كان ففي الآية إشعار بعلوّ مكان أهل الجنّة بالنسبة إلى مكان أهل النار.

وإنّما أفرز الماء وهو من جملة ما رزقهم الله ثمّ قدّم في الذكر على سائر ما رزقهم الله لأنّ الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعاً بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالإنسان، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ) إلى آخر الآية. اللهو ما يشغلك عمّا يهمّك، واللعب الفعل المأتيّ به لغاية خياليّة غير حقيقيّة، والغرور إظهار النصح واستبطان الغشّ، والنسيان يقابل الذكر، وربّما يستعار لترك الشئ وعدم الاعتناء بشأنه

١٣٥

كالشئ المنسيّ، وعلى ذلك يجري في الآية، والجحد النفي والإنكار، والآية مسوقة لتفسير الكافرين، ويستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أوّلها: أنّه اتّخاذ الإنسان دينه لهواً ولعباً وغرور الحياة الدنيا له، والثاني: نسيان يوم اللقاء، والثالث: الجحد بآيات الله، ولكلّ من التفاسير وجه.

وفي قوله تعالى:( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ) دلالة على أنّ الإنسان لا غنى له عن الدين على أيّ حال حتّى من اشتغل باللهو واللعب ومحض حياته فيها محضاً فإنّ الدين كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الآية - هو طريق الحياة الّذي يسلكه الإنسان في الدنيا، ولا محيص له عن سلوكه، وقد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدى إليه الفطرة الإنسانيّة ودعت إليه، وهو دين الإنسان الّذي يخصّه وينسب إليه، وهو الّذي يهمّ الإنسان ويسوقه إلى غاية حقيقيّة هي سعادة حياته.

فحيث جرى عليه الإنسان وسلكه كان على دينه الّذي هو دين الله الفطريّ، وحيث اشتغل عنه إلى غيره الّذي يلهو عنه ولا يهديه إلّا إلى غايات خياليّة وهي اللذائذ المادّيّة الّتي لا بقاء لها ولا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتّخذ دينه لهواً ولعباً وغرّته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.

وقوله تعالى:( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) أي اليوم نتركهم ولا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له وبما كانوا بآياتنا يجحدون ونظير الآية في جعل تكذيب الآيات سبباً لنسيان الله له يوم القيامة قوله:( قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ) طه: ١٢٦، وقد بدّل هناك الجحد نسياناً.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ) الآية عود على بدء الكلام أعني قوله في أوّل الآيات:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي من أعظم من هؤلاء ظلماً ولقد أتممنا عليهم الحجّة وأقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصّلناه وأنزلناه إليهم على علم منّا بنزوله؟

١٣٦

فقوله:( عَلَىٰ عِلْمٍ ) متعلّق بقوله:( لَقَدْ جِئْنَاهُم ) والكلمة تتضمّن احتجاجاً على حقيّة الكتاب والتقدير: ولقد جئناهم بكتاب حقّ: وكيف لا يكون حقّاً؟ وقد نزل على علم منّا بما يشتمل عليه من المطالب.

وقوله:( هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي هدى وإراءة طريق للجميع ورحمة للمؤمنين به خاصّة، أو هدى وإيصالاً بالمطلوب للمؤمنين ورحمة لهم، والأوّل أنسب بالمقام وهو مقام الاحتجاج.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) إلى آخر الآية.

الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) الآية: آل عمران: ٧ أنّ التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة الّتي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أيّ أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن والمثل على الممثّل.

فقوله:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) معناه هل ينتظر هؤلاء الّذين يفترون على الله كذباً أو يكذّبون بآياته وقد تمّت عليهم الحجّة بالقرآن النازل عليهم، إلّا حقيقة الأمر الّتي كانت هي الباعثة على سوق بياناته وتشريع أحكامه والإنذار والتبشير الّذين فيه ؟ فلو لم ينتظروه لم يتركوا الأخذ بما فيه.

ثمّ يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه الخ، إي إذا انكشفت حقيقة الأمر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقيّة ما جاءت به الرسل من الشرائع الّتي أوجبوا العمل بها، وأخبروا أنّ الله سيبعثهم ويجازيهم عليها.

وإذ شاهدوا عند ذلك أنّهم صفر الايدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم إمّا شفعاء ينجونهم من الهلاك الّذي أطلّ عليهم أو أنفسهم، بأن يردّوا إلى الدنيا فيعملوا صالحاً غير الّذي كانوا يعملونه من السيّئات وذلك قوله حكاية عنهم:( فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) ؟

وقوله تعالى:( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) فصل في معنى

١٣٧

التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إمّا الشفعاء وإمّا الردّ إلى الدنيا كأنّه قيل: لماذا يسألون هذا الّذي يسألون؟ فقيل:( قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ) فيما بدّلوا دينهم لهواً ولعباً، واختاروا الجحود على التسليم وقد زال عنهم الافتراءات المضلّة الّتي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنّهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إمّا أنفسهم أو غيرهم ممّن يشفع لهم.

وقد تقدّم في مبحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ في قوله:( فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) دلالة على أنّ هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: من شفعاء، ولم يقل: من شفيع فيشفع لنا.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال في قوله تعالى:( وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عزّوجلّ فيهم إذ جمعهم إلى النار:( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ) وقوله: كلّما دخلت أمّة لعنت اُختها حتّى إذا ادّاركوا فيها يتبرّءُ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا يريد أنّ بعضهم يحجّ بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة.

أقول: وقولهعليه‌السلام : قوله كلّما دخلت أمّة الخ نقل للآية بالمعنى.

وفي الدّر المنثور في قوله تعالى:( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ ) بالياء.

وفيه أخرج الطيالسيّ وابن شيبة وأحمد وهنّاد بن السري وعبد بن حميد وأبو داود في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقيّ في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جنازة رجل من الأنصار فأنتهينا إلى القبر ولمّا يلحد فجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلسنا حوله وكأنّ على رؤسنا

١٣٨

الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرّتين أو ثلاثا.

ثمّ قال: إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنّة وحنوط من حنوط الجنّة حتّى يجلسوا منه مدّ البصر ثمّ يجئ ملك الموت حتّى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيّبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء وإن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتّى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون على ملاء من الملائكة إلّا قالوا: ما هذا الروح الطيّب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه الّتي كانوا يسمّونه بها في الدنيا حتّى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتّحون له فتفتّح لهم فيشيّعه من كلّ سماء مقرّبوها إلى السماء الّتي تليها حتّى ينتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين، واُعيدوه إلى الأرض فإنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة اُخرى فيعاد روحه في جسده.

فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنّة وألبسوه من الجنّة وافتحوا له باباً إلى الجنّة فيأتيه من روحها وطيّبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الريح فيقول: أبشر بالّذي يسرّك، هذا يومك الّذي كنت توعد ! فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير.

فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: ربّ أقم الساعة أقم الساعة حتّى أرجع إلى أهلي ومالي.

قال: وإنّ العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مدّ البصر ثمّ يجئ ملك الموت

١٣٩

حتّى يجلس عند رأسه فيقول: أيّتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فيفرّق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها.

فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتّى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملاء من الملائكة إلّا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه الّتي كان يسمّى بها في الدنيا حتّى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتّح فلا تفتّح له.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تفتّح لهم أبواب السماء.

فيقول الله عزّوجلّ: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و من يشرك بالله فكأنّما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري ! فيقولان له: ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري ! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيّق عليه قبره حتّى تختلف فيه أضلاعه.

ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالّذي يسوؤك هذا يومك الّذي كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشرّ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تقم الساعة.

أقول: والرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، وفي معناها روايات من طرق الشيعه عن أئمّة اهل البيتعليهم‌السلام أودعنا بعضها في البحث الروائيّ الموضوع في ذيل قوله تعالى:( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ) الخ، البقره: ١٥٤، في الجزء الأوّل من الكتاب.

وفي تفسير العيّاشيّ عن سعيد بن جناح قال حدّثني عوف بن عبدالله الازديّ عن جابر بن يزيد الجعفيّ عن أبى جعفرعليه‌السلام في حديث قبض روح الكافر : فإذا أوتي

١٤٠