الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86233
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86233 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) أخبرهم بأوصاف نفسه فبيّن أنّه يبلّغهم رسالات ربّه، وهذا شأن الرسالة ومقتضاها القريب الضروريّ، وفي جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة وأنّ له مقاصد أمره ربّه أنّ يبلّغها إيّاهم وراء التوحيد والمعاد فإنّه نبيّ رسول من أولي العزم صاحب كتاب وشريعة.

ثمّ ذكر أنّه ينصح لهم وهو عظاته بالإنذار والتبشير ليقرّبهم من طاعة ربّهم ويبعدّهم عن الاستكبار والاستنكاف عن عبوديّته كلّ ذلك بذكر ما عرّفه الله من بدء الخلقة وعودها وسننه تعالى الجارية فيها، ولذا ذكر ثالثاً أنّه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب والعقاب وغير ذلك، وما يستتبع الطاعة والمعصية من رضاه تعالى وسخطه ووجوه نعمه ونقمه.

ومن هنا يظهر أنّ الجمل الثلاث كلّ مسوق لغرض خاصّ أعني قوله:( أُبَلِّغُكُمْ ) الآية و( أَنصَحُ لَكُمْ ) و( َأَعْلَمُ ) الآية وهي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل: أنّ الاُوليان صفتان، والثالثة جملة حاليّة عن فاعل( وَأَنصَحُ لَكُمْ ) .

قوله تعالى: ( أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) إلى آخر الآية. استفهام إنكاريّ ينكر تعجّبهم من دعواه الرسالة ودعوته إيّاهم إلى الدين الحقّ والمراد بالذكر ما يذكر به الله وهو المعارف الحقّة الّتي أوحيت إليه، وقوله:( مِّن رَّبِّكُمْ ) متعلّق بمقدّر أي ذكر كائن من ربّكم.

وقوله:( لِيُنذِرَكُمْ ) و( لِتَتَّقُوا ) و( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) متعلّقات بقوله:( جَاءَكُمْ ) والمعنى لغرض أن ينذركم الرسول، ولتتّقوا أنتم، ويؤدّي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهيّة فإنّ التقوى وإن كان يؤدّي إلى النجاة لكنّها ليست بعلّة تأمّة، وقد اشتمل ما حكي من إجمال كلامهعليه‌السلام من معارف عالية إلهيّة.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) الفلك السفينة يستعمل واحداً وجمعاً على ما ذكره الراغب ويذكّر ويؤنّث كما في الصّحاح، وقوله:( قَوْمًا عَمِينَ ) موصوف وصفة. وعمين جمع عمي كخشن صفة مشبّهة من عمي يعمى، عمى كالأعمى إلّا أنّ العمى يختصّ بعمى البصيرة والأعمى بعمى البصر، كما قيل، ومعنى الآية ظاهر.

١٨١

( سورة الأعراف آية ٦٥ - ٧٢)

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٦٥ ) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٦٦ ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( ٦٧ ) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( ٦٨ ) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ  وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً  فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٦٩ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا  فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٧٠ ) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ  أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ  فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ( ٧١ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا  وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( ٧٢ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) إلى آخر الآيه. الأخ وأصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكويناً لمن ولده وغيره أب أو اُمّ أو هما معاً أو بحسب شرع إلهيّ كالأخ الرضاعيّ أو سنّة اجتماعيّه كالأخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله، ثمّ استعير لكلّ من ينتسب إلى قوم أو بلدة إو صنعة أو سجيّة ونحو

١٨٢

ذلك يقال: أخو بني تميم وأخو يثرب وأخو الحياكة وأخو الكرم، ومن هذا الباب قوله( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) .

والكلام في قوله:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) كالكلام في نظير الخطاب من القصّة السابقة. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله:( قَالَ يَا قَوْمِ ) ولم يقل: فقال كما في قصّة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال كأنّه لمّا قال:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) قيل: فما قال هود؟ فاُجيب وقيل: قال يا قوم اعبدوا الله الآية. كذا قاله الزمخشريّ في الكشّاف .

ولا يجري هذا الكلام في قصّة نوح لأنّه أول قصّة أوردت، وهذه القصّة قصّة بعد قصّة يهيّأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصّة وعلم أنّ قصّة الارسال تتضمّن دعوة وردّاً وقبولاً فكان بالحريّ إذا سمع المخاطب قوله( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) أن يسأل فيقول: ما قال هود لقومه؟ وجوابه قال لهم (الخ).

قوله تعالى: ( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ) إلى آخر الآية لمّا كان في هذا الملأ من يؤمن بالله ويستر إيمانه كما سيأتي في القصّة بخلاف الملأ من قوم نوح قال هيهنا في قصّة هود:( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ) وقال في قصّة نوح:( قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِه ) كذا ذكره الزمخشريّ.

وقوله تعالى حكاية عن قولهم:( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أكّدوا كلامهم مرّة بعد مرّة لأنّهم سمعوا منه مقالاً ما كانوا ليتوقّعوا صدوره من أحد، وقد أخذت آلهتم موضعها من قلوبهم، واستقرّت سنّة الوثنيّة بينهم استقراراً لا يجترئ معه أحد على أن يعترض عليها فتعجّبوا من مقاله فردّوه ردّاً عن تعجّب، فجبّهوه أوّلا بأنّ فيه سفاهة وهو خفّة العقل الّتي تؤدّي إلى الخطإ في الآراء، وثانياً بأنّهم يظنّون بظنّ قويّ جدّاً أنّه من الكاذبين، وكأنّهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لأنّ الوثنيّين ما كانوا ليذعنوا بالنبوّة وقد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره تعالى بقوله:( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ) هود: ٥٩.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ) الكلام في الآية نظير الكلام في

١٨٣

نظيره من قصّة نوح غير أنّ عاداً زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إنّ أولئك رموا نوحاً بالضلال في الرأي وهؤلاء رموا هوداً بالسفاهة لكن هوداً لم يترك ما به من وقار النبوّة، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهيّة فأجابهم بقوله:( يَا قَوْمِ ) فأظهر عطوفته عليهم وحرصه على إنجائهم( يْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) فجرى على تجريد الكلام من كلّ تأكيد واكتفى بمجرّد ردّ تهمتهم وإثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره.

قوله تعالى: ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) أي لا شأن لي بما أنّي رسول إلّا تبليغ رسالات ربّي خالصاً من شوب ما تظنّون بي من كوني كاذباً فلست بغاشّ لكم فيما اُريد أن أحملكم عليه، ولا خائن لما عندي من الحقّ بالتغيير ولا لما عندي من حقوقكم بالاضاعة، فما اُريده منكم من التديّن بدين التوحيد هو الّذي أراه حقّاً، وهو الّذي فيه نفعكم وخيركم فإنّما وصف نفسه بالامين محاذاة لقولهم:( وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) .

قوله تعالى: ( أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) إلى آخر الآية. البصطة هي البسطة قلبت السين صاداً لمجاورتها الطاء وهو من حروف الاطباق كالصراط والسراط والآلاء جمع ألى بفتح الهمزه وكسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى وإنى.

ثمّ أنكرعليه‌السلام تعجّبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدّم من نوحعليه‌السلام وذكّرهم نعم الله عليهم، وخصّ من بينها نعمتين ظاهرتين هما أنّ الله جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح، وأنّ الله خصّهم من بين الاقوام ببسطة الخلق وعظم الهيكل البدنيّ المستلزم لزيادة الشدّة والقوّة، ومن هنا يظهر أنّهم كانوا ذوي حضارة وتقدّم، وصيت في البأس والقوّة والقدرة. ثمّ أتبعهما بالإشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى:( فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

قوله تعالى: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) الآية. فيه تعلّق منهم بتقليد الآباء، وتعجيز هود مشوباً بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به من العذاب.

١٨٤

قوله تعالى: ( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) إلى آخر الآية. الرّجس والرّجز هو الأمر الّذي إذا وقع على الشئ أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه، ولذا يطلق على القاذورة لأنّ الإنسان يتنفّر ويبتعد عنه، وعلى العذاب لأنّ المعذّب - اسم مفعول - يبتعد عمّن يعذّبه أو من الناس الآمنين من العذاب.

أجابهم بأنّ إصرارهم على عبادة الاوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحقّ عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب، ثمّ فرّع عليه أن هدّدهم بما يستعجلون من العذاب، وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، وكنّى عن ذلك بأمرهم بالانتظار وأخبارهم بأنّه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال:( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) .

وأمّا قوله:( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) فهو ردّ لما استندوا إليه في اُلوهيّة آلهتهم وهو أنّهم وجدوا آباءهم على عبادتها - وهم أكمل منهم وممّن في طبقتهم كهود وأعقل - فيجب عليهم أن يقلّدوهم.

ومحصّله أنّكم وآباءكم سواء في أنّكم جميعاً أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادّعيتم من صفتها وهي الاُلوهيّة من سلطان وهو البرهان والحجّة القاطعة فلا يبقى لها من الاُلوهيّه إلّا الأسماء الّتي سمّيتموها بها إذ قلتم: إله الخصب وإله الحربّ وإله البحر وإله البرّ، وليس لهذه الأسماء مصاديق إلّا في أوهامكم، فهل تجادلونني في الأسماء، وللإنسان أن يسمّي كلّ ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقّق المعنى في الخارج.

وقد تكرّر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنيّة بهذا البيان:( أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) وهو من ألطف البيان وأرقّه، وأبلغ الحجّة وأقطعها إذ لو لم يأت الإنسان لما يدّعيه من دعوى بحجّة برهانيّة لم يبق لما يدّعيه من النعت إلّا التسمية والتعبير، ومن أبده الجهل أن يعتمد الإنسان على مثل هذا النعت الموهوم.

وهذا البيان يطّرد ويجري بالتحليل في جميع الموارد الّتي يثق فيها الإنسان على غير الله سبحانه من الأسباب، ويعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلّق قلبه بها وطاعته لها وتقرّبه منها فإنّ الله سبحانه عدّ في موارد من كلامه طاعة غيره والركون إلى من سواه عبادة

١٨٥

له قال:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

قوله تعالى: ( فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ) إلى آخر الآية، تنكير الرحمة للدّلالة على النوع أي بنوع من الرحمة وهي الرّحمة الّتي تختصّ بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١، وقال:( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧.

وقوله:( وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) الآية كناية عن إهلاكهم وقطع نسلهم فإنّ الدابر هو الّذي يلي الشئ من خلفه فربّما وصف به الأمر السابق على الشئ كأمس الدابر، وربّما وصف به اللّاحق كدابر القوم وهو الّذي في آخرهم فنسبة القطع إلى الدابر بعناية أنّ النسل اللآحق دابر متّصل بالإنسان في سبب ممتدّ، وإهلاك الإنسان كذلك كأنّه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه وبين نسله.

وسيأتي تفصيل البحث عن قصّة هودعليه‌السلام في تفسير سورة هود إن شاء الله

١٨٦

( سورة الأعراف آية ٧٣ - ٧٩)

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ  هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً  فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ  وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٣ ) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا  فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ٧٤ ) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ  قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٧٥ ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ ( ٧٦ ) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧٧ ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ٧٨ ) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( ٧٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) إلى آخر الآية. ثمود أمّة قديمة من العرب سكنوا أرض اليمن بالأحقاف بعث الله إليهم( َخَاهُمْ صَالِحًا ) وهو منهم( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) دعاهم إلى التوحيد وقد كانوا مشركين يعبدون الاصنام على النحو الّذي دعا نوح وهودعليهما‌السلام قومهما المشركين.

وقوله:( قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم ) أي شاهد قاطع في شهادته ويبيّنه قوله

١٨٧

بالإشارة إلى نفس البيّنة:( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَة ) وهي الناقة الّتي أخرجها الله لهم من الجبل آيه لنبوّته بدعائهعليه‌السلام ، وهي العناية في إضافة الناقة إلى الله سبحانه.

وقوله:( فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّه ) الآية. تفريع على كون الناقة آية لله، وحكم لا يخلو عن تشديد عليهم يستتبع كلمة العذاب الّتي تفصل بين كلّ رسول وأمّته قال تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧، وفي الآية تلويح إلى أنّ تخليتهم الناقة وشأنها في الكلّ والسير في الأرض كانت ممّا يشقّ عليهم فكانوا يتحرّجون من ذلك وفي قوله:( فِي أَرْضِ اللَّهِ ) إيماء إليه فوصّاهم وحذّرهم أن يمنعوها من إطلاقها ويمسّوها بسوء كالعقر والنحر فإنّ وبال ذلك عذابٌ أليم يأخذهم.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ ) إلى آخر الآية دعاهم إلى أن يذكروا نعم الله عليهم كما دعا هود عاداً إلى ذلك، وذكّرهم أنّ الله جعلهم خلفاء يخلفون اُمماً من قبلهم كعاد، وبوّأهم من الأرض أي مكّنهم في منازلهم منها، يتّخذون من سهولها - والسهل خلاف الجبل سمّي به لسهولة قطعه - قصوراً وهى الدور الّتي لها سور على ما قيل، وينحتون الجبال بيوتا يأوون إليها ويسكنونها.

ثمّ جمع الجميع ولخصّها في قوله:( فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ ) وأورده في صورة التفريع مع أنّه إجمال للتفصيل الّذي قبله بإيهام المغايرة كأنّه لما أمر بذكر النعم وعدّ من تفاصيل النعم أشياء كأنّهم لا يعلمون بها قيل ثانياً: فإذا كان لله فيكم آلاء ونعم عظيمه أمثال الّتي ذكرت فاذكروا آلاء الله.

وأمّا قوله:( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) فمعطوف على قوله:( فَاذْكُرُوا ) عطف اللازم على ملزومه، وفسّر العثيّ بالفساد وفسّر بالاضطراب والمبالغة. قال الراغب في المفردات: العيث والعثيّ يتقاربان نحو جذب وجبذ إلّا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الّذي يدرك حسّاً، والعثيّ فيما يدرك حكماً يقال: عثي يعثي عثيّا وعلى هذا:( وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) . انتهى.

قوله تعالى: ( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ )

١٨٨

إلى آخر الآيتين، دلّ سبحانه ببيان قوله:( لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) بقوله:( لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ) على أنّ المستضعفين هم المؤمنون وأنّ المؤمنين إنّما كانوا من المستضعفين ولم يكن ليؤمن به أحد من المستكبرين والباقي ظاهر.

قوله:( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) إلى آخر الآية عقر النخلة قطعها من أصلها، وعقر الناقة نحرها، وعقر الناقة أيضاً قطع قوائمها، والعتوّ هو التمرّد والامتناع وضمّن في الآية معنى الاستكبار بدليل تعديته بعن، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) إلى آخر الآيتين. الرجفة هي الاضطراب والاهتزاز الصديد كما في زلزلة الأرض وتلاطم البحر، والجثوم في الإنسان والطير كالبروك في البعير.

وقد ذكر الله هنا في سبب هلاكهم أنّه أخذتهم الرجفة، وقال في موضع آخر:( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) هود: ٦٧، وفي موضع آخر:( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ) حم السجدة: ١٧، والصواعق السماويّة لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها ولا ينفكّ ذلك غالباً عن رجفة الأرض هي نتيجة الاهتزاز الجوّيّ الشديد إلى الأرض وتوجف من جهة اُخرى القلوب وترتعد الأركان، فالظاهر أنّ عذابهم إنّما كان بصاعقة سماوية اقترنت صيحة هائلة ورجفة في الأرض أو في قلوبهم فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم.

والآية تدلّ على أنّ ذلك كان مرتبطاً بما كفروا وظلموا آية من آيات الله مقصوداً بها عذابهم عذاب الاستئصال، ولا نظر في الآية إلى كيفيّة حدوثها، والباقي ظاهر.

١٨٩

( سورة الأعراف آية ٨٠ - ٨٤)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ٨٠ ) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ  بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ( ٨١ ) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ  إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٨٢ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٨٣ ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( ٨٤ )

( بيان)

قوله تعالى : ( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) إلى آخر الآية. ظاهره أنّه من عطف القصّة على القصّة أي عطف قوله:( َلُوطًا ) على( نُوحًا ) في قوله في القصّة الاُولى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا ) فيكون التقدير ولقد أرسلنا لوطاً إذ قال لقومه (الخ)، لكن المعهود من نظائر هذا النظم في القرآن أن يكون بتقدير( اذْكُرُ ) بدلالة السياق، وعلى ذلك فالتقدير: واذكر لوطاً الّذي أرسلناه إذ قال لقومه (الخ) والظاهر أنّ تغيير السياق من جهة أنّ لوطاً من الأنبياء التابعين لشريعة إبراهيمعليهما‌السلام لا لشريعة نوحعليه‌السلام ، ولذلك غيّر السياق في بدء قصّته عن السياق السابق في قصص نوح وهود وصالح فغيّر السياق في بدء قصّته ثمّ رجع إلى السياق في قصّة شعيبعليه‌السلام .

وقد كان لوط - على ما سيأتي إن شاء الله من تفصيل قصّته في سورة هود - مرسلاً إلى أهل سدوم وغيره يدعوهم إلى دين التوحيد وكانوا مشركين عبدة أصنام.

وقوله:( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) يريد بالفاحشة اللواط بدليل قوله:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً ) وفي قوله:( مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) أي أحد من الاُمم و

١٩٠

الجماعات دلالة على أنّ تاريخ ظهور هذه الفاحشة الشنيعة تنتهي إلى قوم لوط، وسيأتي جلّ ما يتعلّق به من الكلام في تفصيل قصّته في سورة هود.

قوله تعالى: ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ) الآية إتيان الرجال كناية عن العمل بهم بذلك، وقوله:( شَهْوَةً ) قرينة عليه وقوله( مِّن دُونِ النِّسَاءِ ) قرينة اُخرى على ذلك، ويفيد مضافاً إلى ذلك أنّهم كانوا قد تركوا سبيل النساء واكتفوا بالرجال، ولتعدّيهم سبيل الفطرة والخلقة إلى غيره عدّهم متجاوزين مسرفين فقال:( بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) .

ولكون عملهم فاحشة مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين استفهم عن ذلك مقارناً ب( إِنَّ ) المفيدة للتحقيق فأفاد التعجّب والاستغراب، والتقدير:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ) الآية.

قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ) إلى آخر الآية. أي لم يكن عندهم جواب فهدّدوه بالاخراج من البلد فإنّ قولهم:( أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ) الآية. ليس جواباً عن قول لوط لهم:( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ ) الآية. فجواب الكلام في ظرف المناظرة إمّا إمضاؤه والإعتراف بحقّيته وإمّا بيان وجه فساده، وليس في قولهم:( أَخْرِجُوهُم ) إلى آخره شئ من ذلك فوضع ما ليس بجواب في موضع الجواب كناية عن عدم الجواب ودلالة على سفههم.

وقد استهانوا أمر لوط إذ قالوا:( أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ) الآية أي أنّ القرية أي البلدة لكم وهم نزلاء ليسوا منها وهم يتنزّهون عمّا تأتونه ويتطهّرون، ولا يهمّنّكم أمرهم فليسوا إلّا اُناساً لا عدّة لهم ولا شدّة.

قوله تعالى: ( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) فيه دلالة على أنّه لم يكن آمن به إلا أهله، موضع آخر:( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ) الذاريات: ٣٦.

وقوله:( كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) أي الماضين من القوم، وهو استعارة بالكناية عن الهلاك والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) ذكر الإمطار

١٩١

في مورد ترقّب ذكر العذاب يدلّ على أنّ العذاب كان به وقد نكّر المطر للدلالد على غرابة أمره وغزارة أثره، وقد فسّره الله تعالى في موضع آخر بقوله:( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) هود: ٨٣.

وقوله:( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) توجيه خطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتبر به هو واُمّته.

١٩٢

( سورة الأعراف آية ٨٥ - ٩٣)

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ  فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٨٥ ) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا  وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ  وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ٨٦ ) وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا  وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( ٨٧ ) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا  قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ( ٨٨ ) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا  وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا  وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا  عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا  رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( ٨٩ ) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ( ٩٠ ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ٩١ ) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا  الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ( ٩٢ ) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ  فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٩٣ )

١٩٣

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) الآية معطوف على القصّة الاُولى وهي قصّة نوح عليه السلام، وقد بنى عليه السلام دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدّمة.

وقوله:( قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) يدلّ على مجيئه بآية تدلّ على رسالته ولكنّ الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه وليست هذه الآية هي آية العذاب الّتي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإنّ عامّة قومه من الكفّار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم ولا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبيّنة للدعوة.

على أنّه يفرّع قوله:( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ) الآية على مجئ الآية ظاهراً وإنّما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب وتحقّق الهلاك.وهو ظاهر.

وقد دعاهم أوّلا بعد التوحيد الّذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل والميزان وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإفساد في المعاملات رائجاً فيهم شائعاً بينهم.

ثمّ دعاهم ثانياً بقوله:( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ) إلى الكفّ عن الإفساد في الأرض بعد ما أصلحها الله بحسب طبعها، والفطرة الإنسانيّة الداعيّة إلى إصلاحها كى ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، والإفساد في الأرض وإن كان بحسب اطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب ممّا يتعلّق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله وما بعده يخصّه - تقريبا - بالإفساد الّذي يسلب الأمن العامّ في الاموال والاعراض والنفوس كقطع الطرق ونهب الاموال وهتك الاعراض وقتل النفوس المحترمة.

ثمّ علل دعوته إلى الأمرين بقوله:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) أمّا كون إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم خيراً فلأنّ حياة الإنسان الاجتماعيّة في استقامتها مبنيّة على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كلّ منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله ممّا يتمّم به نقصه في ضروريّات الحياة وما يتبعها وهذا يحتاج إلى أمن عامّ

١٩٤

في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه فمن يجوّز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوّز ذلك لكلّ من هو مثله وهو شيوعه، وإذا شاع البخس والغشّ والغرر من غير أن يؤمن حلول السمّ محلّ الشفاء والرديّ مكان الجيّد، والخليط مكان الخالص، وبالاخرة كلّ شئ محل كلّ شئ بأنواع الحيل والعلاجات كان فيه هلاك الاموال والنفوس جميعا.

وأمّا كون الكفّ عن إفساد الأرض خيراً لهم فلأنّ سلب الأمن العامّ يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الإنسانيّة.

فالمعنى : إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكفّ عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريّته إن كنتم مصدّقين لقولي مؤمنين بي، أوالمعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنّه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحقّ.

وربّما قيل: إنّ المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإنّ غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه وخسرانه وضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيويّة بحسب الحقيقة لأنّ انتفاعه إنّما هو انتفاع في موطن خياليّ وهو الحياة الدنيا الّتي هي لعب، وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.

هذا كلّه على تقدير كون المشار إليه بقوله:( ذَٰلِكُمْ ) هو إيفاء الكيل وما بعده كما هو ظاهر السياق، وأمّا أخذ الإشارة إلى جميع ما تقدّم وجعل المراد بالإيمان هو الإيمان المصطلح دون الإيمان اللغويّ كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشئ بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا : إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإيمان به وإيفاء الكيل والميزان وعدم الفساد في الأرض خير لكم.

ويرد على الوجهين الأخيرين جميعاً أن ظاهر قوله:( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ثبوت اتّصافهم بالإيمان قبل حال الخطاب فإنّه مقتضى تعليق الحكم بقوله:( كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) المؤلف من ماضي الكون الناقص واسم الفاعل من الإيمان المقتضى لاستقرار الصفة فيهم زمانا، ولا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الّذين فيهم الكافر والمؤمن والمستكبر والمنقاد

١٩٥

ولو كان كما يقولون لكان من حقّ الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو إن تؤمنوا فالظاهر أنّه لا محيص من كون المراد بالإيمان غير الإيمان المصطلح.

قوله تعالى: ( وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الآية ظاهر السياق أنّ( تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ ) حالان من فاعل( لَا تَقْعُدُوا ) وقوله( وَتَبْغُونَهَا ) حال من فاعل( َتَصُدُّونَ ) .

ثمّ دعاهم ثالثاً إلى ترك التعرّض لصراط الله المستقيم الّذي هو الدين فإنّ في الكلام تلويحاً إلى أنّهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيبعليه‌السلام ويوعدونهم على إيمانهم به والحضور عنده والاستماع منه وإجراء العبادات الدينيّة معه، ويصرفونهم عن التديّن بدين الحقّ والسلوك في طريقة التوحيد وهم يسلكون طريق الشرك، ويطلبون سبيل الله الّذي هو دين الفطرة عوجا.

وبالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإيمان بكلّ ما يستطيعون من قوّة واحتيال فنهاهم عن ذلك، ووصّاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ويعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الاُمم الغابرة، وما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء.

فقوله:( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) كلام مسوق سوق العظة والتوصية وهو يقبل التعلّق بجميع ما تقدّم من الأوامر والنواهي فقوله:( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ) أمر بتذكّر تدرّجهم من القلّة إلى الكثرة بازدياد النسل فإنّ ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإنسانيّ لأنّ الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة والسعادة العالية الإنسانيّة الّتي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانيّة وغيرها اقتضت أن تهب لعناية الإلهيّة له أدوات وقوى مختلفة وتركيباً وجوديّاً خاصّاً لا يستطير أن يقوم بضروريّات حوائجها العجيبة المتفنّنة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح وغيرها تعاضداً في الفكر والارادة والعمل.

ومن المعلوم أنّه كلّما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوّة المركّبة الاجتماعيّة، واشتدّت في فكرتها وإرادتها وعملها فأحسّت وشعرت بدقائق الحوائج، وتنبّهت للطائف

١٩٦

من الحيل لتسخير القوى الطبيعيّة في رفع نواقصها.

فمن المنن الإلهيّة أن النسل الإنسانيّ آخذ دائماً في الزيادة متدرّج من القلّة إلى الكثرة، وذلك من الاركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الاُمم العظيمة كالشراذم القليلة الّتي تتخطّف من كلّ جانب، ولا الاقوام والعشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة الّتي لا تستقلّ في شأن من شؤونها السياسيّة والاقتصاديّة والحربيّة وغيرها ممّا يوزن بزنة العلم والارادة والعمل.

وأمّا عاقبة المفسدين فيكفي في التبصّر بها ما نقل عن عواقب أحوال الاُمم المستعلية المستكبرة الطاغية الّتي ملأت القلوب رعباً، والنفوس دهشة، وخرّبت الديار، ونهبت الأموال، وسفكت الدماء، وأفنت الجموع، واستعبدت العباد، وأذلّت الرقاب.

مهّلهم الله في عتوّهم واعتداءهم حتّى إذا بلغوا أوج قدرتهم، واستووا على أريكة شوكتهم غرّتهم الدنيا بزينتها واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقّل واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش واتّخذوا إلههم هواهم وأضلّهم الله على علم فسلبوا القدرة والارادة، وحرّموا النعمة فتفرّقوا أيادى سبا.

فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة والفراعنة والأكاسرة والفغافرة وغيرهم لم يبق منهم إلّا أسماء إن لم تنس، ولم تثبت من هيمنتهم إلّا أحاديث فمن السنّة الإلهيّة الجارية في الكون أن تبتني حياة الإنسان على التعقّل فإذا تعدّى ذلك وأخذ في الفساد والإفساد أبى طباع الكون ذلك، وضادّته الأسباب بقواها، وطحنته بجموعها، وضربت عليه بكلّ ذلّة ومسكنة.

قوله تعالى: ( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ) إلى آخر الآية. ثمّ دعاهم رابعاً إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان والكفر فإنّه كان يوصّيهم جميعاً قبل هذه الوصيّة بالاجتماع على الإيمان بالله والعمل الصالح، وكأنّه أحسّ منهم أنّ ذلك ممّا لا يكون البتّة، وأنّ الاختلاف كائن لامحالة وأنّ الملأ المستكبرين من قومه وهم الّذين كانوا يوعدون و يصدّون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض وايذاء المؤمنين ويوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، وتسلّط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعاً بالصبر

١٩٧

وانتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم وهو خير الحاكمين.

فإنّ في ذلك صلاح المجتمع، أمّا المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة والاضطراب والحيرة من جهة دينهم وأمّا الكفّار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤيّة ومفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فأصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، ولا يجور في حكم إذا ما حكم

فقوله:( فَاصْبِرُوا ) بالنسبة إلى الكفّار أمر ارشاديّ، وبالنسبة إلى المؤمنين أمر مولويّ أو ارشاديّ، وهو ارشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم.

قوله تعالى: ( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ ) الآية لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر وانتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده وتهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلّا أن يرجعوا إلى ملّتهم بالارتداد عن دين التّوحيد.

وفي تأكيدهم القول( لَنُخْرِجَنَّكَ ) ( أَوْ لَتَعُودُنَّ ) بالقسم ونون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، ولذا بادرعليه‌السلام بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.

قوله تعالى: ( قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم ) الآية أجابعليه‌السلام بكراهة العود في ملّتهم بدليل ما بعده من الجمل ولازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه.

وقد أجابعليه‌السلام عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه وذكر أنّه والمؤمنين به جميعاً كارهون للعود إلى ملّتهم فإنّ في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، وما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنيّة فقوله:( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) الآية بمنزلة التعليل لقوله:( أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) .

ومن أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله:( إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ) على أنّ شعيباًعليه‌السلام كان قبل نبوّته مشركاً وثنياً - حاشاه - وقد تقدّم آنفاً أنّه يتكلّم عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه وقد كانوا كفّاراً مشركين قبل الإيمان به فإنّجاهم الله من ملّة

١٩٨

الشرك وهداهم بشعيب إلى التوحيد فقول:( شعيب نجّانا الله) تكلّم عن المجموع بنسبة وصف الجلّ إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهريّة من الشرك الفعلي وأمّا لو أريد بها التنجية الحقيقيّة وهي الاخراج من كلّ ضلال محقّق موجود أو مقدّر مترّقب كان شعيب - وهو لم يشرك بالله طرفة عين - وقومه - وهم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب - جميعاً ممّن نجّاهم الله من الشرك إذ لايملك الإنسان لنفسه الهالكة ضرّاً ولا نفعاً وما إصابه من خير فهو من الله سبحانه.

وقوله:( وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ) كالإضرب والترقّي بالجواب القاطع كأنّه قال: نحن كارهون العود إلى ملّتكم لأنّ فيه افتراءً على الله بل إنّ ذلك ممّا لا يكون البتّة، وذلك أنّ كراهة شئ إنّما توجب تعسّر التلبّس به دون تعذّره فأجابعليه‌السلام ثانياً بتعذّر العود بعد جوابه أوّلاً بتعسّره، وهو ما ذكرناه من الإضراب والترقّي.

ولمّا كان قوله:( وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا ) في معنى أن يقال:( لن نعود إليها أبدا) والقطع في مثل هذه العزمات ممّا هو بعيد عن أدب النبوّة فإنّه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتّى لو شاء الله، وهو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشيّة الله سبحان فقال:( إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ) فإنّ الإنسان كيفما كان جائز الخطأ فمن الجائز أن يخطئ بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال.

وفي الجمع بين الاسمين في قوله:( اللَّهُ رَبُّنَا ) إشارة إلى أنّ الله الّذي يحكم ما يشاء هو الّذي يدبّر أمرنا وهو إله وربّ، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلّمه دين الوثنيّة فإنّه يسلّم الاُلوهيّه لله ثمّ يفرز الربوبيّة بمختلف شؤونها بين الاوثان ويسمّيها ربّ البحر وربّ البرّ وهكذا.

وقوله:( وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كأنّه قيل لما استثنيت بعد ما أطلقت الكلام وقطعت في العزم؟ فقال: لأنّه وسع ربّي كلّ شئ علماً ولا اُحيط من علمه إلّا بما شاء فمن الجائز أن يتعلّق مشيّته بشئ غائب عن علمي ساءني أو سرّنى كأن يتعلّق علمه بأنّا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملّتكم، وإن

١٩٩

كنّا اليوم كارهين له، ولعلّ هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله:( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) فإنّ من يتوكّل على الله كان حسبه وصانه من شرّ ما يخاف.

ولمّا بلغ الكلام هذا المبلغ وقد أخبروهم بعزمهم على أحد الأمرين: الإخراج أو العود، وأخبرهم شعيبعليه‌السلام بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملّتهم البتّة التجأعليه‌السلام إلى ربّه واستفتح بقوله عن نفسه وعن المؤمنين:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) يسأل ربّه أنّ يفتح بينهم أي بين شعيب والمؤمنين به، وبين المشركين من قومه، وهو الحكم الفصل فإنّ الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كلّ منهما عن صاحبه حتّى لا يماسّ هذا ذاك ولا ذاك هذا دعاعليه‌السلام بالفتح وكنّى به عن الحكم الفصل وهو الهلاك أو هو بمنزلته وأبهم الخاسر من الرابح والهالك من الناجي وهو يعلم أنّ الله سينصره وأنّ الخزي اليوم والسوء على الكافرين لكنّهعليه‌السلام أخذ بالنصفة للحقّ وتأدّب بإرجاع الأمر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق:( فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) .

وخير الحاكمين وخير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد تقدّم البحث عن معنى الحكم فيما مرّ، وعن معنى الفتح آنفاً وسيجئ الكلام المستوفى في الأسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) الآية ١٨٠ من السورة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى:( وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ) إلى آخر الآية : هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به ويكون من جملة الايعاد والصدّ للّذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله:( وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) ويكون إفراد هذا بالذكر ههنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة والتمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم:( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ) .

ويحتمل أن يكون الاتّباع بمعناه الظاهر العرفيّ وهو اقتفاء أثر الماشي على الطريق والسالك السبيل بأن يكون الملأ المستكبرون لمّا اضطرّوه ومن معه إلى أحد الأمرين: الخروج من أرضهم أو العود في ملّتهم ثمّ سمعوه يردّ عليهم العود إلى ملّتهم ردّاً قاطعاً ثمّ

٢٠٠