الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86261
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86261 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخيام، وامتلأت بيوت القبط ماءً، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، وأقام على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك أن يكشف عنّا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربّه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا وقال هامان لفرعون: لئن خليّت بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك وأنبت الله لهم في تلك السنة من الكلاء والزرع والثمّر ما أعشبت به بلادهم وأخصبت فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصباً.

فأنزل الله عليهم في السنة الثانية - عن عليّ بن إبراهيم - وفي الشهر الثاني - عن غيره من المفسّرين - الجراد فجرّدت زروعهم وأشجارهم حتّى كانت تجرّد شعورهم ولحاهم، وتأكل الأثواب والثياب والأمتعة، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل ولا يصيبهم من ذلك شئ فعجّوا وضجّوا وجزع فرعون من ذلك جزعاً شديداً، وقال: يا موسى ادع لنا ربّك أن يكشف عنّا الجراد حتّى اُخلّي عن بني إسرائيل فدعا موسى ربّه فكشف عنه الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت.

وقيل: إنّ موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت حتّى كأن لم تكن قطّ، ولم يدع هامان فرعون أن يخلّي عن بني إسرائيل.

فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة - في رواية عليّ بن إبراهيم - وفي الشهر الثالث - عن غيره من المفسّرين - القمّل وهو الجراد الصغار الّذي لاأجنحة له، وهو شرّ ما يكون وأخبثه فأتى على زروعهم كلّها واجتثّها من أصلها فذهبت زروعهم، ولحس الأرض كلّها.

وقيل: أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه فانثال عليهم قمّلاً فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضّه، وكان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قمّلاً قال سعيد بن جبير: القمّل السوس الّذي يخرج من الحبوب فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلم يردّ منها ثلاثة أقفزه فلم يصابوا ببلاء كان أشدّ عليهم من القمّل، وأخذت أشعارهم وإبصارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزمت جلودهم كأنّها الجدري عليهم، ومنعتهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا وقال فرعون

٢٤١

لموسى: ادع لنا ربّك لئن كشفت عنّا القمّل لأكفّنّ عن بني إسرائيل فدعا موسى حتّى ذهب القمّل بعد ما أقام عندهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت فنكثوا.

فأنزل الله عليهم في السنة الأربعة - وقيل: في الشهر الرابع - الضفادع فكانت تكون في طعامهم وشربهم، وامتلأت منها بيوتهم وأبنيتهم فلا يكشف أحد ثوباً - ولا إناءً ولا طعاماً ولا شراباً إلّا وجد فيه ضفادع. وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهمّ أن يتكلّم فيثب الضفدع في فيه، ويفتح فاه لاُكلته فيسبق الضفدع اُكلته إلى فيه فلقوا منها أذىً شديدا فلمّا رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى وقالوا: هذه المرّة نتوب ولانعود فادع الله أن يذهب عنّا الضفادع فإنّا نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثمّ دعا ربّه فكشف عنهم الضّفادع بعد ما أقام عليهم سبعاً من السّبت إلى السّبت ثمّ نقضوا العهد وعادوا لكفرهم.

فلمّا كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسأل ماء النيل عليهم دماً فكان القبطيّ يراه دماً، والاسرائيليّ يراه ماءً فإذا شربه الاسرائيليّ كان ماءً، وإذا شربه القبطيّ كان دماً، وكان القبطيّ يقول للاسرائيليّ: خذ الماء في فيك وصبّه في فيّ فكان إذا صبّه في فم القبطيّ يحوّل دما، وأنّ فرعون اعتراه العطش حتّى أنّه ليضطرّ إلى مضغ الاشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤه في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيّام لا يأكلون إلّا الدم، ولا يشربون إلّا الدم. قال زيد بن أسلم الدم الّذي سلّط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربّك يكشف عنّا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فلمّا دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا ولم يخلّوا عن بني إسرائيل.

في تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن قيس عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : لئن كشف عنّا الرجز لنؤمننّ لك، قال: الرجز هو الثلج ثمّ قال: بلاد خراسان بلاد رجز.

أقول: والرواية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق.

٢٤٢

( سورة الأعراف آية ١٣٨ - ١٥٤)

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ  قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ  قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( ١٣٨ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٣٩ ) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٤٠ ) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ  يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ  وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ( ١٤١ ) وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً  وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( ١٤٢ ) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ  قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي  فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا  فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٤٣ ) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ( ١٤٤ ) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا  سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( ١٤٥ ) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ

٢٤٣

كَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( ١٤٦ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ  هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤٧ ) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ  أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا  اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ( ١٤٨ ) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ١٤٩ ) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي  أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ  وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ  قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١٥٠ ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ  وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( ١٥١ ) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ( ١٥٢ ) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٥٣ ) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ  وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( ١٥٤ )

( بيان)

شروع في بعض قصص بني إسرائيل بعد تخلّصهم من إسارة آل فرعون ممّا يناسب غرض القصص المسرودة سابقا وهو أنّ الدعوة الدينيّة ما توجّهت إلى أمّه إلّا كان الكفر إليها أسبق، والناقضون لعهد الله فيهم أكثر فخصّ الله المؤمنين منهم بمزيد كرامته، وعذّب الكافرين بشديد عذابه.

٢٤٤

وقد ذكر في الآيات مجاوزة بني إسرائيل البحر ومسألتهم بعد المجاوزة موسىعليه‌السلام أن يجعل لهم صنماً يعبدونه، وفيها عبادتهم للعجل بعد ما ذهب موسى لميقات ربّه وفي ضمنها حديث نزول التوراة عليه.

قوله تعالى: ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ ) الآية، العكوف الاقبال على الشئ وملازمته على سبيل التعظيم. ذكره الراغب في المفردات، وقولهم:( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) أي كما لهم آلهة مجعولة.

كان بنو إسرائيل على شريعة جدّهم إبراهيمعليه‌السلام ، وقد خلا فيهم من الأنبياء إسحاق ويعقوب يوسف، وهم على دين التوحيد الّذي لا يعبد فيه إلّا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً يعرض له شكل أو قدر غير أنّ بني إسرائيل كما يستفاد من قصصهم كانوا قوماً ماديّين حسّيين يجرون في حياتهم على أصالة الحسّ ولا يعتنون بما وراء الحسّ إلّا اعتناءً تشريفيّاً من غير أصالة ولاحقيقة، وقد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، وهم يعبدون الاوثان فتأثّرت من ذلك أرواحهم وإن كانت العصبيّة القوميّة تحفظ لهم دين آبائهم بوجه.

ولذلك كان جلّهم لا يتصوّرون من الله سبحانه إلّا أنّه جسم من الأجسام بل جوهر اُلوهيّ يشاكل الإنسان كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم، وكلّما كان موسى يقرّب الحقّ من أذهانهم حوّلوه إلى أشكال وتماثيل يتوهّمونها له تعالى، لهذه العلّة لمّا شاهدوا في مسيرهم قوماً يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم فسألوا موسىعليه‌السلام أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهه يعكفون عليها.

فلم يجد موسىعليه‌السلام بدّاً من أن يتنزّل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها فلا مهم أوّلاً على جهلهم بمقام ربّهم مع وضوح أنّ طريق الوثنيّة طريق باطل هالك ثمّ عرّف لهم ربّهم بالصفة، وأنّه لا يقبل صنماً ولا يحدّ بمثال كما سيجئ.

قوله تعالى: ( إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) المتبرّ من التبار وهو الهلاك، والمراد بقوله:( مَّا هُمْ فِيهِ ) سبيلهم الّذي يسلكونه وهو عبادة الاصنام

٢٤٥

والمراد بقوله:( مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أعمالهم العباديّة، والمعنى أنّ هؤلاء الوثنيّة طريقتهم هالكة وأعمالهم باطلة فلا يحقّ أن يميل إليه إنسان عاقل لأنّ الغرض من عبادة الله سبحانه أن يهتدي به الإنسان إلى سعادة دائمة وخير باق.

قوله تعالى: ( قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( أَبْغِيكُمْ ) إي أطلب لكم وألتمس يعرّف ربّهم ويصفه لهم، وقوله:( أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ) فيه تأسيس أنّ كلّ إله أبغيه لكم بجعل أو صنع فإنّما هو غير الله سبحانه، والّذي يجب عليكم أن تعبدوا الله ربّكم بصفة الربوبيّة الّتي هي تفضيله إيّاكم على العالمين.

فكأنّهم قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهه فقال: كيف ألتمس لكم ربّاً مصنوعاً وهو غير الله ربّكم وإذا كان غيره فعبادته متبّرة باطلة؟ فقالوا: فكيف نعبده ولا نراه ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده؟ كما يقوله عبدة الاصنام. فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته فإنّه فضّلكم على سائر الاُمم بآياته الباهرة ودينه الحقّ وإنجائكم من فرعون وعمله، فالآية - كما ترى - ألطف بيان وأوجز برهان يجلّي عن الحقّ الصريح للأذهان الضعيفة التعقّل.

قوله تعالى: ( وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) إلى آخر الآية. سامه العذاب يسومه أي حمله ذلك على طريق الإذلال، والتقتيل الإكثار في القتل والاستحياء الاستبقاء للخدمة وقد تقدّم، والظاهر أنّ قوله:( وَفِي ذَٰلِكُم ) إشارة إلى ما ذكر من سوء تعذيب آل فرعون لهم.

والآية خطاب امتنانيّ للموجودين من أخلافهم حين النزول يمتنّ الله فيها عليهم بما منّ به على آبائهم في زمن فرعون كما قيل، والأنسب بالسياق أن يكون خطاباً لأصحاب موسى بعينهم مسوقاً سوق التعجّب إذا نسوا عظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم من تلك البليّة العظيمة، ونظيره في الغيبة قوله تعالى فيما سيأتي:( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ) .

قوله تعالى: ( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) إلى آخر الآية. الميقات قريب المعنى من الوقت، قال في المجمع: الفرق بين الميقات و

٢٤٦

الوقت أنّ الميقات ما قدّر ليعمل فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت الشئ وقدره، ولذلك قيل: مواقيت الحجّ وهي المواضع الّتي قدّرت للإحرام فيها (انتهى).

وقد ذكر الله سبحانه الموعدة وأخذ أصلها ثلاثين ليلة ثمّ أتمّها بعشر ليال اُخر ثمّ ذكر الفذلكة وهى أربعون، وأمّا الّذي ذكره في موضع آخر إذ قال:( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) البقره: ٥١ فهو المجموع المتحصّل من المواعدتين أعني أنّ آية البقرة تدلّ على أنّ مجموع الأربعين كان عن مواعدة، وآية الأعراف على أنّ ما في آية البقرة مجموع المواعدتين.

وبالجملة يعود المعنى إلى أنّه تعالى وعده ثلاثين ليلة للتقريب والتكليم ثمّ وعده عشراً آخر لإتمام ذلك فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة، ولعلّه ذكر الليالي دون الأيّام - مع أنّ موسى مكث في الطور الأربعين بأيّامها ولياليها، والمتعارف في ذكر المواقيت والأزمنة ذكر الأيّام دون اللّيالي - لأنّ الميقات كان للتقرّب إلى الله سبحانه ومناجاته وذكره، وذلك أخصّ بالليل وأنسب لما فيه من اجتماع الحواسّ عن التفرّق وزيادة تهيّؤ النفس للاُنس وقد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة.

وهذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا - إلى أن قال -إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ) المزمل: ٧، وقوله تعالى:( وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) إنّما قاله حين ما كان يفارقهم للميقات، والدليل على ذلك قوله:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) فإنّ الاستخلاف لا يكون إلّا في غيبة. وإنّما عبّر بلفظ( قَوْمِي ) دون بني إسرائيل لتجري القصّة على سياق سائر القصص المذكورة في هذه السورة فقد حكي فيها عن لفظ نوح وهود وصالح وغيرهم: يا قوم يا قوم، وعلى ذلك اُجريت هذه القصّة فعبّر فيها عن بني إسرائيل في بضعة مواضع بلفظ القوم، وقد عبّر عنهم في سورة طه ببني إسرائيل.

وأمّا قوله لأخيه ثانياً:( وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) فهو أمر له بالإصلاح وأن لا يتّبع سبيل أهل الفساد، وهارون (عليه اسلام ) نبيّ مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، ولا يتأتّى منه اتّباع أهل الفساد في دينهم، وموسىعليه‌السلام أعلم بحال أخيه فليس مراده

٢٤٧

نهيه عن الكفر والمعصية بل أن لا يتّبع في إدارة اُمور قومه ما يشير إليه ويستصوبه المفسدون من القوم أيّام خلافته مادام موسى غائبا.

ومن الدليل عليه قوله:( وَأَصْلِحْ ) فإنّه يدلّ على أنّ المراد بقوله:( وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) أن يصلح أمرهم ولا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الّذي يستحسنونه ويشيرون إليه بذلك.

ومن هنا يتأيّد أنّه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون ويقلّبون عليه الاُمور ويتربّصون به الدوائر فنهى موسى أخاه أن يتّبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر و يكيدوا ويمكروا به فيتفرّق جمع بني إسرائيل ويتشتّت شملهم بعد تلك المحن والأذايا الّتي كابدها في إحياء كلمة الاتّحاد بينهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) الآية، التجلّي مطاوعة التجلية من الجلاء بمعنى الظهور، والدكّ هو أشدّ الدقّ، وجعله دكّاً أي مدكوكا والخرور هو السقوط، والصعقة هي الموت أو الغشية بجمود الحواسّ وبطلان إدراكها، والإفاقة الرجوع إلى حال سلامة العقل والحواسّ يقال: أفاق من غشيته أي رجع إلى حال استقامة الشعور والإدراك.

ومعنى الآية على ما يستفاد من ظاهر نظمها أنّه( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ) الّذي وقّتناه له( وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) بكلامه( قَالَ ) أي موسى( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) أي أرني نفسك أنظر إليك أي مكّنّي من النظر إليك حتّى أنظر إليك وأراك فإنّ الرؤية فرع النظر، والنظر فرع التمكين من الرؤية والتمكّن منها،( قَالَ ) الله تعالى لموسى( لَن تَرَانِي ) أبدا( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ) وكان جبلاً بحياله مشهوداً له اُشير إليه بلام العهد الحضوريّ( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) أي لن تطيق رؤيتي فأنظر إلى الجبل فإنّي أظهر له فإن استقرّ مكانه وأطاق رؤيتي فاعلم أنّك تطيق النظر إليّ ورؤيتي( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ ) وظهر( رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ ) بتجلّيه( دَكًّا ) مدكوكاً متلاشياً في الجوّ أو سائحاً( وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) ميّتاً أو مغشيّاً عليه من هول ما رأى( فَلَمَّا أَفَاقَ

٢٤٨

قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) رجعت إليك ممّا اقترحته عليك( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) بأنّك لا ترى. هذا ظاهر ألفاظ الآية.

والّذي يعطيه التدبّر فيها أنّ حديث الرؤية والنظر الّذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامّيّ المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الإبصار، ولا نشكّ ولن نشكّ أنّ الرؤية والإبصار يحتاج إلى عمل طبيعيّ في جهاز الإبصار يهيّئ للباصر صوره مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه.

وبالجملة هذا الّذي نسمّيه الإبصار الطبيعيّ يحتاج إلى مادّة جسمّية في المبصر والباصر جميعاً ، وهذا لا شكّ فيه.

والتعليم القرآنيّ يعطي إعطاءً ضروريّاً أنّ الله تعالى لا يماثله شئ بوجه من الوجوه البتّة فليس بجسم ولا جسمانيّ، ولا يحيط به مكان ولا زمان، ولا تحويه جهة ولا توجد صورة مماثلة أو مشابهه له بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتّة.

وما هذا شأنه لا يتعلّق به الإبصار بالمعنى الّذي نجده من أنفسنا البتّة، ولا تنطبق عليه صورة ذهنيّة لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة، ولا أنّ موسى ذاك النبيّ العظيم أحد الخمسة أولي العزم وسادة الأنبياءعليهم‌السلام ممّن يليق بمقامه الرفيع وموقفه الخطير أن يجهل ذلك، ولا أن يمنّي نفسه بأنّ الله سبحانه أن يقوّي بصر الإنسان على أن يراه ويشاهده سبحانه منزّهاً عن وصمة الحركة والزمان، والجهة والمكان، وألواث المادّة الجسمّية وأعراضها فإنّه قول أشبه بغير الجدّ منه بالجدّ فما محصّل القول: إنّ من الجائز في قدرة الله أن يقوّي سبباً مادّيّاً أن يعلق عمله الطبيعيّ المادّيّ - مع حفظ حقيقة السبب وهويّة أثره - بأمر هو خارج عن المادّة وآثارها متعال عن القدر والنهاية؟ فهذا الإبصار الّذي عندنا وهو خاصّة مادّيّة من المستحيل أن يتعلّق بما لا أثر عنده من المادّة الجسمّية وخواصّها فإن كان موسى يسأل الرؤية فإنّما سأل غير هذه الرؤية البصريّة، وبالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنّما ينفي غير هذه الرؤية البصريّة فأمّا هي فبديهيّة الانتفاء لم يتعلّق بها سؤال ولا جواب.

وقد أطلق الله الرؤية وما يقرب منها معنى في موارد من كلامه وأثبتها كقوله تعالى

٢٤٩

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة: ٢٣، وقوله:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) النجم: ١١، وقوله:( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) العنكبوت - ٥، وقوله:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، وقوله:( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف: ١١٠، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية وما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية:( قَالَ لَن تَرَانِي ) وقوله:( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) الأنعام: ١٠٣، وغير ذلك.

فهل المراد بالرؤية حصول العلم الضروريّ سمّي بها لمبالغة في الظهور ونحوها كما قيل؟

لا ريب أنّ الآيات تثبت علماً مّا ضروريّاً لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروريّ فإنّا لا نسمّي كلّ علم ضروريّ رؤية وما في معناه من اللقاء ونحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل وإسكندر وكسرى فيما مضى ولم نرهم، ونعلم علماً ضروريّاً بوجود لندن وشيكاكو ومسكو ولم نرها، ولا نسمّيه رؤية وإن بالغنا فأنت تقول: أعلم بوجود إبراهيمعليه‌السلام وإسكندر وكسرى كأنّي رأيتهم، ولا تقول رأيتهم أو أراهم، وتقول: أعلم بوجود لندن وشيكاكو ومسكوا، ولا تقول رأيتها أو أراها.

وأوضح من ذلك علمنا الضروريّ بالبديهيّات الأوّليّة الّتي هي لكلّيّتها غير مادّيّة ولا محسوسة مثل قولنا:( الواحد نصف الاثنين) و( الأربعة زوج) و( الاضافة قائمة بطرفين) فإنّها علوم ضروريّة يصحّ إطلاق العلم عليها ولا يصحّ إطلاق الرؤية البتّة.

ونظير ذلك جميع التصديقات العقليّة الفكريّة، وكذا المعاني الوهميّة وبالجملة ما نسمّيها بالعلوم الحصوليّة لا نسمّيها رؤية وإن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها ولا نقول: رأيناها إلّا بمعنى القضاء والحكم لا بمعنى المشاهدة والوجدان.

لكن بين معلوماتنا ما لا نتوقّف في اطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه، نقول: أرى أنّي أنا وأراني اُريد كذا وأكره كذا، واُحبّ كذا وأبغض كذا وأرجو كذا وأتمنّى كذا أي أجد ذاتي وأشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، وأجد واُشاهد

٢٥٠

إرادتي الباطنة الّتي ليست بمحسوسة ولا فكريّة وأجد في باطن ذاتي كراهة وحبّاً وبغضاً ورجاءً وتمنيّاً وهكذا.

وهذا غير قول القائل: رأيتك تحبّ كذا وتبغض كذا وغير ذلك فإنّ معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أنّ فيك حبّاً وبغضاً ونحو ذلك وأمّا حكاية الإنسان عن نفسه أنّه يراه يريد ويكره ويحبّ ويبغض فإنّه يريد به أنّه يجد هذه الاُمور بنفسها وواقعيّتها لا أنّه يستدلّ عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها ولا توسّل بوسيلة تدلّ عليها البتّة.

و تسمية هذا القسم من العلم الّذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيّته الخارجيّة رؤية مطّردة، وهي علم الإنسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخليّة وليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسمانيّة اُخرى غيرها فافهم ذلك وأجد التدبّر فيه.

والله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيّات ويضمّ إليها ضمائم يدلّنا ذلك على أنّ المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الّذي نسمّيه فيما عندنا أيضاً رؤية كما في قوله:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) الآية حيث أثبت أوّلاً أنّه على كلّ شئ حاضر أو مشهود لا يختصّ بجهة دون جهة وبمكان دون مكان وبشئ دون شئ بل شهيد على كلّ شئ محيط بكلّ شئ فلو وجده شئ لوجده على ظاهر كلّ شئ وباطنه وعلى نفس وجدانه وعلى نفسه، وعلى هذه السمة لقاؤه لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسّيّ الّذي لا يتأتّى البتّة إلّا بمواجهة جسمانيّة وتعيّن جهة ومكان وزمان، وبهذا يشعر ما في قوله:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) من نسبة الرؤيه إلى الفؤاد الّذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانيّة الشاعرة دون اللحم الصنوبريّ المعلّق على يسار الصدر داخلا.

ونظير ذلك قوله تعالى:( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥، دلّ على أنّ الّذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب الّتي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربّهم فحجبهم عن تشريف

٢٥١

المشاهدة، ولو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم.

وقد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسماً آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) التكاثر: ٧، وقوله:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام - ٧٥، وقد تقدّم تفسير الآية في الجزء السابع من الكتاب، وبيّنّا هناك أنّ الملكوت هو باطن الأشياء لا ظاهرها الحسوس.

فبهذه الوجوه يظهر أنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصريّة الحسّيّة، وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشئ بنفسه من غير استعمال آله حسّيّة أو فكريّة، وأنّ للإنسان شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجرّه إلى الغفلة عنه إلّا اشتغاله بنفسه وبمعاصيه الّتي اكتسبها، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلّيّة ومن أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتّة بل عبّر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم.

فهذا ما يبيّنه كلامه سبحانه، ويؤيّده العقل بساطع براهينه، وكذا ما ورد من الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على ما سننقلها ونبحث عنها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

والّذي ينجلي من كلامه تعالى أنّ هذا العلم المسمّى بالرؤية واللقاء يتمّ للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدلّ عليه ظاهر قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة: ٢٣، فهناك موطن التشرّف بهذا التشريف، وأمّا في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعيّة، وهو سالك لطريق اللقاء والعلم الضروريّ بآيات ربّه، كادح إلى ربّه كدحاً ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتمّ له حقّ يلاقي ربّه، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق: ٦، وفي معناه آيات كثيرة اُخرى تدلّ على أنّه تعالى إليه المرجع والمصير والمنتهى، وإليه يرجعون وإليه يقلبون.

٢٥٢

فهذا هو العلم الضروريّ الخاصّ الّذي أثبته الله تعالى لنفسه وسمّاه رؤية ولقاءً، ولا يهمّنا البحث عن أنّها على نحو الحقيقة أو المجاز فإنّ القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فإن كانت حقيقة كانت قرائن معيّنة، وإن كانت مجازاً كانت صارفة، والقرآن الكريم أوّل كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماويّة السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإنّ العلم الحضوريّ عندهم كان منحصراً في علم الشئ بنفسه حتّى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهيّة.

ولنرجع إلى الآية المبحوث عنها:

فقوله:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) سؤال منهعليه‌السلام للرؤية بمعنى العلم الضروريّ على ما تقدّم من معناه فإنّ الله سبحانه لمّا خصّه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته ثمّ زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته وبتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع رجاعليه‌السلام أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية وهو كمال العلم الضروريّ بالله والله خير مرجّو و مأمول.

فهذا هو المسؤول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الّذي يجلّ موسىعليه‌السلام ذاك النبيّ الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى وتقدّس.

وقوله( قَالَ لَن تَرَانِي ) نفي مؤبّد للرؤية، وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروريّ في الآخرة كان تأبيد النفي راجعاً إلى تحقّق ذلك في الدنيا مادام للإنسان اشتغال بتدبير بدنه، وعلاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضروريّة، والانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتمّ إلّا بقطع الرّابطة عن كلّ شئ حتّى البدن وتوابعه وهو الموت.

فيؤل المعنى إلى أنّك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروريّ بي في الدنيا حتّى تلاقيني فتعلم بي علماً اضطراريّاً تريده، والتعبير في قوله:( لَن تَرَانِي ) ب( لَن ) الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروريّ في الآخرة فلانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضاً كما في قوله تعالى:( إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ) أسرى: ٣٧،

٢٥٣

وقوله:( إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) الكهف: ٦٧.

ولو سلّم أنّه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا والآخرة جميعاً فإنّه لا يأبى التقييد كقوله تعالى:( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) البقرة: ١٢٠، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) مقيّدة لهذه الآية مبيّنة لمعنى التأبيد المستفاد منها.

والّذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله:( لَن تَرَانِي ) إلى نفي الطاقة والاستطاعة يؤيّده قوله بعده:( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) فإنّ فيه تنظير إراءة نفسه لموسىعليه‌السلام بتجلّيه للجبل، والمراد أنّ ظهوري وتجلّييّ للجبل مثل ظهوري لك فإن استقرّ الجبل مكانه أي بقى على ما هو عليه وهو جبل عظيم في الخلقة قويّ في الطاقة فإنّك أيضاً يرجى أن تطيق تجلّي ربّك وظهوره.

فقوله:( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) ليس باستدلال على استحالة التجلّي كيف وقد تجلّى له؟ بل إشهاد وتعريف لعدم استطاعته وإطاقته للتجلّي وعدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلّي كما بطل الجبل بالدكّ.

وقد دلّ عليه قوله:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) وبصيرورة الجبل دكّاً أي مدكوكاً متحوّلاً إلى ذرّات ترابيّة صغار بطلت هويّته وذهبت جبليّته وقضى أجله.

وقوله:( وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) ظاهر السياق أنّ الّذي أصعقه هو هول ما رأى وشاهد غير أنّه يجب أن يتذكّر أنّه هو الّذي ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين تلقف الاُلوف من الثعابين والحيّات، وفلق البحر فأغرق الاُلوف ثمّ الاُلوف من آل فرعون في لحظة ورفع الجبل فوق رؤس بني إسرائيل كأنّه ظلّة، وأتى بآيات هائلة اُخرى وهي أهول من اندكاك جبل، وأعظم، ولم يصعقه شئ من ذلك ولم يدهشه.

واندكاك الجبل أهون من ذلك، وهو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإنّ الله إنّما دكّه ليشهده كيفيّة الأمر !.

فهذا كلّه يشهد أنّ الّذي أصعقه إنّما هو ما تمثّل له من معنى ما سأله وعظمة

٢٥٤

القهر الإلهيّ الّذي أشرف أن يشاهده ولم يشاهده هو وإنّما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الإندكاك العجيب الّذي لم يستقرّ معه مكانه ولا طرفة عين، ويشهد بذلك أيضاً توبتهعليه‌السلام بعد الافاقة كما سيأتي.

وقوله:( فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) توبة ورجوع منهعليه‌السلام بعد الإفاقة إذ تبيّن له أنّ الّذي سأله وقع في غير موقعه فأخذته لعناية الإلهيّة بتعريفه ذلك وتعليمه عياناً بإشهاده دكّ الجبل بالتجلّي أنّه غير ممكن.

فبدأ بتنزيهه تعالى وتقديسه عمّا كان يرى من إمكان ذلك ثمّ عقّبه بالتوبة عمّا أقدم عليه وهو يطمع في أن يتوب عليه، وليس من الواجب في التوبة أن تكون دائماً عن معصية وجرم بل هو الرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان كما تقدّم البحث فيه في الجزء الرابع من الكتاب.

ثمّ عقّبعليه‌السلام ذلك بالإقرار والشهادة بقوله:( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) أي أوّل المؤمنين من قومي بأنّك لا ترى. هذا ما يدلّ عليه المقام، وإن كان من المحتمل أن يكون المراد وأنا أوّل المؤمنين من بين قومي بما آتيتني وهديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور لكنّه معنى بعيد.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ) المراد بالاصطفاء الاختيار على وجه التصفية، ولذلك عدّى إلى الناس بعلى، والمراد بالرسالات هو ما حمّل من الأوامر والنواهي الإلهيّة من المعارف والحكم والشرائع ليبلّغه الناس سواء كان التحميل بواسطة ملك أو بتكليم بلا واسطة ملك فهي غير الكلام وإن حمّلت بكلام فإنّ الكلام أمر، والمعاني الّتي يتلّقاها السامع منه أمر آخر.

والمراد بالكلام هو ما شافهه به الله سبحانه من غير واسطة ملك وبعبارة اُخرى هو ما يكشف به عن مكنون الغيب، وأمّا أن يكون من نوع الكلام الدائر بيننا معاشر الإنسان فلا فإنّ الكلام عندنا هو أنّا نصطلح ونتعهّد فيما بيننا على تخصيص صوت مخصوص من الأصوات لمعنى من المعاني لينتقل ذهن السامع إلى ذلك المعنى ثمّ نتوسّل عند ارادة

٢٥٥

تفهيمه إلى إيجاد تموّج خاصّ في الهواء يبتدي منّا وينتهي إلى السامع لننقل به ما في ضميرنا إلى ضمير السامع المخاطب والتكلّم بهذا الوجه يستلزم التجسّم في المتكلّم والله سبحانه منزه عنه، ومجرّد إيجاد الصوت وتمويج الهواء بإيجاد أسباب الصوت في مكان لا يدلّ على كون المعاني الّتي ينتقل إليها الذهن مقصودة لله سبحانه ما لم تكشف الارادة بأمر آخر وراء نفس الصوت كما أنّ من أوجد منّا بدقّ أو ضرب أو نحوهما صوتاً يدلّ على معنى لم نحكم بإرادته ذلك ما لم يكشف من حاله أو مقاله قبلاً أنّه قاصد لمعنى ما يوجده من الاصوات.

وما كلّم به الله سبحانه موسىعليه‌السلام ممّا حكاه القرآن الشريف خال عن سؤال الدليل على كونه كلامه، وعلى كونه تعالى مريداً لمعناه فلم يسأل موسى ربّه حين سمع النداء من جانب الطور الأيمن من الشجرة: هل هذا منك يا ربّ؟ وهل أنت مريد معناه ؟ بل أيقن بذلك إيقانا، ونظير الكلام جارٍ في سائر أقسام الوحى غير الكلام.

وهذا يكشف كشفاً قطعيّاً عن ارتباط خاصّ من السامع بارادة مصدر الكلام والوحى يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود وإلّا فمجرّد صدور صوت له معنى مفهوم في اللغة منه تعالى لا يستلزم صحّة الانتساب إليه تعالى ولا كونه كلامه كيف؟ وجميع الالفاظ الصادرة من المتكلّمين بما أنّها أصوات تنتهي إليه تعالى وليست كلاماً له تعالى بل المتكلّم بها غيره، وكثيراً ما يحدث من تصادم الاجسام المختلفة أصوات ذوات معان في اللغة ولا نعدّه كلاماً له تعالى.

وبالجملة تكليمه تعالى هو إيجاده اتّصالاً وارتباطاً خاصّاً بين مخاطبه وبين الغيب ينتقل به بمشاهدة بعض مخلوقاته إلى معنى مراد، ولا نمنع مقارنة ذلك بأصوات يوجدها الله تعالى في خارج أو سمع أو غير ذلك، وقد تقدّم بعض الكلام في الكلام فيما تقدّم. وسيأتي منه تتمّة في تفسير سورة الشورى إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فقوله تعالى:( قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ ) الآية وارد في مورد الامتنان وموعظة لموسىعليه‌السلام أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته وكلامه ويشكره ولا يستزيد.

٢٥٦

قوله تعالى:( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) الآية اللوح صحيفة معدّة للكتابة فيه لأنّه يلوح ويظهر بما فيه من الخطّ وأصله من لاح البرق إذا لمع.

وقوله:( لِّكُلِّ شَيْءٍ ) من فيه للتبعيض كما يؤيّده السياق اللّاحق، وقوله:( مَّوْعِظَةً ) الظاهر أنّه بيان لكلّ شئ، ويعطف عليه قوله:( وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) وتنكير قوله:( َتَفْصِيلًا ) لإفادة الإبهام والتبعيض، ويؤول المعنى إلى مثل قولنا: وكتبنا لموسى في الألواح وهي التوراة النازلة مختارات من كلّ شئ ونعني بذلك أنّا كتبنا له موعظة وتفصيلاً مّا وتشريحاً مّا لكلّ شئ حسب ما يحتاج إليها قومه في الاعتقاد والعمل.

ففي الكلام دلالة على أنّ التوراة لم تستكمل جميع ما تمسّ به حاجة البشر من المعارف والشرائع، وهو كذلك كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة: ٤٨، وقد تقدّم تفسيره.

وقوله:( فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) عطف تفريع على قوله:( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ ) الآية لأنّه مشعر بمعنى القول، والتقدير: وقلنا إنّا كتبنا لك في الألواح من كلّ شئ فخذها بقوّة.

والأخذ بالقوّة كناية عن الأخذ بالجدّ والحزم فإنّ من يجدّ ويحزم في أمر يستعمل ما عنده من القوّة فيه حذراً أن يفوته فالأخذ بالقوّة لازم الأخذ بالجدّ والحزم كنّى به عنه.

وقوله:( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) الظاهر أنّ الضمير في( بِأَحْسَنِهَا ) راجع إلى الأشياء المدلول عليها بقوله قبلا:( من كلّ شئ ) من المواعظ وتفاصيل الآداب والشرائع والأخذ بالأحسن كناية عن ملازمة الحسن في الاُمور واتّباعه واختياره فإنّ من يهمّ بأمر الحسن في الاُمور إذا وجد سيّئاً وحسناً اختار الحسن الجميل، وإذا وجد حسناً وأحسن منه أضطرّه حبّ الجمال إلى اختيار الأحسن وتقديمه على الحسن فالأخذ بأحسن الاُمور

٢٥٧

لازم حبّ الجمال وملازمة الحسن فكنّي به عنه، والمعنى: وأمر قومك يجتنبوا السيّئات ويلازموا ما تهدي إليه التوراة من الحسنات، ونظير الآية في التكنية قوله تعالى:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر: ١٨.

وقوله:( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) ظاهر السياق أنّ المراد بهؤلاء الفاسقين هم الّذين يفسقون بعدم ائتمار قوله:( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) على ما تقدّم من معناه من ملازمة طريق الإحسان في الاُمور واتّباع الحقّ والرشد فإنّ من فسق عن الطريق صرفه الله عن الصراط المستقيم إلى تتّبع السيّئات والميل عن الرشد إلى الغيّ كما يفصّله في الآية التالية فكانت عاقبة أمره خسراناً وآل أمره إلى الهلاك.

وعلى هذا فما في الآية التالية:( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ) الآية تفسير أو كالتفسير لقوله:( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) وقيل المراد بدار الفاسقين جهنّم، وفي الكلام تهديد وتحذير، وقيل المراد بها منازل فرعون وقومه بمصر، وقيل: منازل عاد وثمود، وقيل المراد دار العمالقة وغيرهم بالشام وأنّ الله سيدخلهم فيها فيرونها، وقيل: المراد سيجيئكم قوم فسّاق تكون الدولة لهم عليكم.

قوله تعالى: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ) الآية تقييد التكبّر في الأرض بغير الحقّ مع أنّ التكبّر فيها لا يكون إلّا بغير الحقّ كتقييد البغي في الأرض بغير الحقّ للتوضيح لا للاحتراز ويراد به الدّلالة على وجه الذمّ في العمل وأنّ التكبّر كالبغي مذموم لكونه بغير الحقّ.

وأمّا ما قيل: إنّ القيد احترازيّ للدلالة على أنّ المراد هو التكبّر المذموم دون التكبّر الممدوح كالتكبّر على اعداء الله والتكبّر على المتكبّر، وهو تكبّر بالحقّ ففيه أنّ المذكور في الآية ليس مطلق التكبّر بل التكبّر في الأرض، وهو الاستعلاء على عباد الله واستذلالهم والتغلّب عليهم، وهذا لا يكون إلّا بغير الحقّ.

وقوله:( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ) عطف على قوله:( يَتَكَبَّرُونَ ) وبيان

٢٥٨

لأحد أوصافهم وهو الإصرار على الكفر والتكذيب.

وكذا قوله:( وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ) الآية وتكرار الجملتين المثبتة والمنفيّة بجميع خصوصيّاتهما للدلالة على اعتنائهم الشديد ومراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد واتّباع سبيل الغيّ بحيث لا يعذرون بخطاء ولا يحتمل في حقّهم جهل أو اشتباه.

وقوله:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) إلى آخر الآية تعليل لما تحقّق فيهم من رذائل الصفات أي إنّما جروا على ما جروا بسبب تكذيبهم لآياتنا وغفلتهم عنها، ومن المحتمل أن يكون تعليلاً لقوله تعالى:( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ) .

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) معنى الآية ظاهر ويتحصّل منها:

أوّلاً: أنّ الجزاء هو نفس العمل وقد تقدّم توضيحه كراراً في أبحاثنا السبقة.

وثانياً: أنّ الحبط من الجزاء فإنّ الجزاء بالعمل وإذا كان العمل حابطاً فإحباطه هو الجزاء، والحبط إنّما يتعلّق بالأعمال الّتي فيها جهة حسن فتكون نتيجة إحباط الحسنات ممّن له حسنات وسيّئات أنّ يجزى بسيّئاته جزاءً سيّئاً و يجزى بحسناته بإحباطها فيتمحّض له الجزاء السيئّ.

ويمكن أن تنزّل الآية لى معنى آخر وهو أن يكون المراد بالجزاء، الجزاء الحسن وقوله:( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) كناية عن أنّهم لايثابون بشئ إذ لا عمل من الأعمال الصالحة عندهم لمكان الحبط قال تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان: ٢٣، والدليل على كون المراد بالجزاء هو الثواب أنّ هذا اجزاء هو جزاء الأعمال المذكورة في الآية قبلا، والمراد بها بقرينة ذكر الحبط هي الأعمال الصالحة.

ومن هنا يظهر فساد ما استدلّ به بعضهم بالآية على أنّ تارك الواجب من غير أن يشتغل بضدّه لا عقاب له لأنّه لم يعمل عملاً حتّى يعاقب عليه وقد قال تعالى:( هَلْ يُجْزَوْنَ

٢٥٩

إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وجه الفساد أنّ المراد بالجزاء في الآية الثواب والمعنى أنّهم لا ثواب لهم في الآخرة لأنّهم لم يأتوا بحسنة ولم يعملوا عملاً يثابون عليها.

على أنّ ثبوت العقاب على مجرّد ترك الأوامر الإلهيّة مع الغضّ عمّا يشتغل به من الأعمال المضادّة كالضروريّ من كلامه تعالى قال الله عزّوجلّ:( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ) الجنّ: ٢٣، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ) إلى آخر الآية، الحليّ على فعول جمع حلي كالثديّ جمع ثدي، وهو ما يتحلى ويتزيّن به من ذهب أو فضّة أو نحوهما، والعجل ولد البقرة، والخوار صوت البقر خاصّة، وفي قوله تعالى:( جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ) - وهو بيان للعجل - دلالة على أنّه كان غير ذى حياة وإنّما وجدوا عنده خواراً كخوار البقر.

والآية وما بعده تذكر قصّة عبادة بني إسرائيل العجل بعد ما ذهب موسى إلى ميقات ربّه واستبطؤا رجوعه إليهم، فكادهم السامريّ وأخذ من حليّهم فصاغ لهم عجلاً من ذهب له خوار كخوار العجل وذكر لهم أنّه إلههم وإله موسى فسجدوا له واتّخذوه إلها، وقد فصّل الله سبحانه القصّة في سورة طه تفصيلا، والّذي ذكره في هذه الآيات من هذه السورة لا يستغني عمّا هناك، وهو يؤيّد نزول سورة طه قبل سورة الأعراف.

وكيف كان فقوله:( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا ) معناه اتّخذ قوم موسى من بعد ذهابه لميقات ربّه قبل أن يرجع - فإنّه سيذكر رجوعه إليهم غضبان - عجلاً فعبدوه، وكان هذا العجل الّذي اتّخذوه( جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ) ثمّ ذمّهم الله سبحانه بأنّهم لم يعبؤوا بما هو ظاهر جليّ بيّن عند العقل في أوّل نظرته أنّه لو كان هو الله سبحانه لكلّمهم ولهداهم السبيل فقال تعالى:( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ) .

وإنّما ذكر من صفاته المنافية للاُلوهيّة عدم تكليمه إيّاهم وعدم هدايته لهم وسكت عن سائر ما فيه كالجسميّة وكونه مصنوعاً ومحدوداً ذا مكان وزمان وشكل إلى غير ذلك مع أنّ الجميع ينافي الاُلوهيّة لأنّ هاتين الصفتين أعني التكليم والهداية

٢٦٠