الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89549 / تحميل: 6768
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

من أوضح ما تستلزمه الاُلوهيّة من الصفات عند من يتّخذ شيئاً إلهاً إذ من الواجب أن يعبده بما يرتضيه ويسلك إليه من طريق يوصل إليه، ولا يعلم ذلك إلّا من قبل الاله بوجه فهو الّذي يجب أن يهديه إلى طريق عبادته بنوع من التكليم والتفهيم، وقد رأوا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا.

على أنّهم عهدوا من موسى أنّ الله سبحانه يكلّمه ويهديه، ويكلّمهم ويهديهم بواسطته، وقد قالوا حين أخرج السامريّ لهم العجل:( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ ) طه: ٨٨، فلو كان العجل هو الّذي أو مأ إليه السامريّ لكلّمهم وهداهم سبيلا.

وبالجملة فقد كان من الواضح البيّن عند عقولهم لو عقلوا أنّه ليس هو، ولذلك أردفه بقوله:( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ) كأنّه قيل: فلم اتّخذوه وأمرُه بذاك الوضوح؟ فقيل:( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: معنى( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده ممّا كان خفي عليه، ويقال: سقط في يده، واُسقط في يده وبغير ألف أفصح، وقيل معناه صار الّذي يضرّ به ملقى في يده (انتهى).

وقد ذكر في مطوّلات التفاسير وجوه كثيرة توجّه بها هذه الجملة، جلّها أو كلّها لا تخلو من تعسّف، وأقرب الوجوه ما نقلناه عن المجمع منقولاً عن بعضهم فإنّ ظاهر سياق الآية أنّ المراد بقوله:( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ) أنّهم لمّا التفتوا إلى ما فعلوه وأجالوا النظر فيه دقيقاً ثانياً ورأوا عند ذلك أنّهم قد ضلّوا قالوا: كذا وكذا فالجملة تفيد معنى التنبّه لما ذهلوا عنه والتبصّر بما أغفلوه كأنّهم عملوا شيئاً فقدّموه إلى ما عملوا له فردّه إليهم ورمى به نحوهم فتناولوه بأيديهم فسقط فيها فرأوا من قريب أنّهم ضلّوا فيما زعموا، وأهملوا فيه أمراً ما كان لهم أن يهملوه، وفات منهم ما فسد بفوته ما عملوه، وعلى أيّ حال تجري الجملة مجرى المثل السائر.

والآية أعني قوله( وَلَمَّا سُقِطَ ) بحسب المعنى مترتّب على الآيات التالية فإنّهم إنّما تبيّنوا ضلالهم بعد رجوع موسى إليهم كما تفصّل ذلك سورة طه لكنّه سبحانه

٢٦١

كأنّه قدّم الآية لأنّها مشتملة على حديث ندامتهم على ما صنعوا وتحسّرهم ممّا فات منهم، وقد أظهروا ذلك بقولهم:( لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) والأحرى بالندامة والحسرة أن يذكرا مع ما تعلّقنا به من غير فصل طويل، ولذا لمّا ذكر اتّخاذهم العجل في الآية الاُولى وصله بندامتهم وحسرتهم في الآية الثانية.

ولأنّ ذيل حديث رجوع موسى في الآية التالية مشغول بدعائه لنفسه وأخيه ففصّل بينه وبين هذا الّذي هو صورة دعاء.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) إلى آخر الآية الأسف بكسر السين صفة مشبّهة من الأسف وهو شدّة الغضب والحزن والخلافة القيام بالأمر بعد غيره، والعجلة طلب الشئ وتحريّه قبل أوأنّه على ما ذكره الراغب يقال: عجلت أمراً كذا أي طلبته قبل أوانه الّذي له بحسب الطبع فمعنى الآية: ولمّا رجع موسى إلى قومه وهو في حال غضب وأسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأنّ قومه ضلّوا بعبادة العجل بعده فوبّخهم وذمّهم بما صنعوا وقال: بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربّكم وطلبتموه قبل بلوغ أجله، وهو أمر من بيده خيركم وصلاحكم ولا يجري أمراً إلّا على ما يقتضيه حكمته البالغة، ولا يؤثّر فيه عجلة غيره ولا طلبة ولا رضاه إلّا بما شاء، والظاهر أنّ المراد بأمر ربّهم أمره الّذي لأجله واعد موسى لميقاته، وهو نزول التوراة.

وربّما قيل: إنّ معنى( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربّكم؟ وقيل: المعنى استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته فلمّا لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره؟ وقيل: المعنى أعجلتم عمّا أمركم به ربّكم وهو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أنّ الميقات قد بلغ آخره ولم يرجع إليكم فغيّرتم هذا، وما قدّمناه من الوجه أنسب بالسياق.

وبالجملة اشتدّ غضب موسىعليه‌السلام لمّا شاهد قومه ووبّخهم وذمّهم بقوله:( بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) وهو استفهام إنكاريّ -( وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ) وهي ألواح التوراة( وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ) قابضاً على شعره( يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) وقد قال له - فيما

٢٦٢

حكى الله في سورة طه:( يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (١) ؟.

( قال ) هارون يا( ابن اُمّ ) وإنّما خاطبه بذكر اُمهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق وتهييج الرحمة( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) لما خالفتهم في أمر العجل ومنعتهم عن عبادته( فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) بحسباني كأحدهم في مخالفتك، وكان ممّا قال له - على ما حكاه الله في سورة طه - إنّي خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي(٢) .

وظاهر سياق الآية وكذا ما في سورة طه من آيات القصّة أنّ موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنّه غضب عليه حسباناً منه أنّه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أنّ الصلاح في ذلك مع أنّه وصّاه عند المفارقة وصيّة مطلقة بقوله:( وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمشيّة بين نبيّين معصومين لا دليل على منعه، وإنّما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها.

وكذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجرّه إليه كأنّه مقدّمة لضربه حسباناً منه أنّه استقلّ بالرأي زاعماً المصلحة في ذلك وترك أمر موسى فما وقع منه إنّما هو تأديب في أمر إرشاديّ لا عقاب في أمر مولويّ وإن كان الحقّ في ذلك مع هارون، ولذلك لمّا قصّ عليه القصص عذّره في ذلك، ودعا لنفسه ولأخيه بقوله ربّ اغفرلي ولأخي الخ.

وقد وجّه قوله:( وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ) بوجوه اُخر:

الأوّل: أنّ موسى إنّما فعل ذلك مستعظماً لفعلهم مفكّراً فيما كان منهم كما يفعل الإنسان ذلك بنفسه عند الوجد وشدّة الغضب فيقبض على لحيته ويعضّ على شفته فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند الغضب والأسف.

الثاني: أنّه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا

____________________

(١) سورة طه: ٩٢.

(٢) طه: ٩٤.

٢٦٣

وإليه من الكفر والارتداد فصدر ذلك منه لإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال.

الثالث: أنّه إنّما جرّه إلى نفسه ليناجيه ويستفسر حال القوم منه، ولذلك لمّا ذكر هارون ما ذكر، قبله منه ودعا له.

الرابع: أنّه لمّا رأى أنّ بهارون مثل ما به من الغضب والأصف أخذ برأسه متوجّعاً له مسكّناً لما به من القلق فكره هارون أن يظنّ الجهال أنّه استخفاف وإهانة فأظهر براءة نفسه ودعا له أخوه وجلّ هذه الوجوه أو كلّها لا تلائم سياق الآيات.

وقوله في صدر الآية( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) يدلّ على أنّه كان عالماً بأمر ارتداد قومه من قبل، وهو كذلك فإنّ الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له وهو في الميقات: فإنّا قد فتّنا قومك من بعدك وأضلّهم السامريّ(١) .

وإنّما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتدّ عليهم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه كلّ ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربّه، وإخبار الله سبحانه أصدق من الحسّ لأنّ الحسّ يصدق ويكذب، والله سبحانه لا يقول إلّا الحقّ.

وذلك لأنّ للعلم حكماً وللمشاهدة حكماً آخر، والغضب هيجان القوّة الدافعة للدفع أو الانتقام، ولا يتحقّق مورد للدفع والانتقام بمجرّد تحقّق العلم لكنّ الحسّ والمشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتّى منه الدفع والانتقام بالقول والفعل، ولا يؤثّر العلم قبل المشاهدة إلّا حزناً وغمّاً ونظير ذلك بالمقابلة أنّك لو بشّرت بقدوم من تحبّه وتتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقّق البشرى حال وهو الفرح، وعند لقاء الحبيب حال آخر وحكم جديد، وكذا إذا شاهدت أمراً عجيبا وأنت وحدك كان حكمه التعجّب، وإذا شاهدته ومعك غيرك تعجّبت وضحكت، وله نظائر اُخر.

قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ) الآية دعاء منهعليه‌السلام وقد تقدّم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أنّ المغفرة أعمّ مورداً من المعصية.

____________________

(١) طه: ٨٥.

٢٦٤

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ ) الآية تنكير الغضب وكذا الذلّة للإشعار بعظمتهما وقد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه وذلّة الحياة فلم يبيّن ما هما فمن المحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود ونسفه في اليمّ نسفاً وطرد السامريّ وقتل جمع منهم، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلّة والمسكنة والقتل والإبادة والإسارة، ويمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة وذلّة الدّنيا.

وكيف كان فذيل الآية:( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) بظاهره يدلّ على أنّ ذلك أعني نيل غضب الرّب سبحانه وذلّة الحياة الدنيا سنّة جارية إلهيّة في المفترين على الله وهذا الّذي يدلّ عليه الآية يهدي إليه الأبحاث العقليّة أيضاً كما مرّ مراراً.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ضمير( مِن بَعْدِهَا ) الأوّل راجع إلى السيّئات، والثاني إلى التوبة، ومعنى الآية ظاهر.

والآية وإن كانت في نفسها عامّة لكنّها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الّذين اتّخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحقّقت بحقيقة معناها في أيّ سيّئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ) الآية :النساء: ١٧.

وهذه الآية والّتي قبلها معترضتان في القصّة، ووجه الخطاب فيهما إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدليل على ذلك قوله في الآية الاُولى:( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) وفي الآية الثانية:( إِنَّ رَبَّكَ ) الآية وظاهر السياق أنّ الكلام فيهما جارٍ على حكاية الحال الماضية بدليل قوله:( سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ ) .

قوله تعالى: ( وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ) الآية الرهبة هي خوف مع تحرّز: والباقي ظاهر .

٢٦٥

( بحث روائي)

في الدّر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر و ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفّار ذات أنواط، وكان الكفّار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) إنّكم تركبون سنن الّذين قبلكم.

أقول: ورواها أيضاً بطرق اُخرى عن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جدّه أنّ رجلاً قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك، وفيها: أنّها كانت شجرة سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسمّيت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله.

وفي تفسير البرهان: في قوله تعالى:( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ) الآية عن محمّد بن شهر آشوب: أنّ رأس الجالوت قال لعليعليه‌السلام : لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف ! فقال عليّعليه‌السلام : وأنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم:( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )

وفي تفسير العيّاشيّ عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ موسى لمّا خرج وافداً إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوماً فلمّا زاد الله على الثلاثين عشراً قال قومه: أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا.

وفي الدّر المنثور: أخرج البزّاز وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقيّ في الأسماء والصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا كلّم الله موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الّذي كلّمه يوم ناداه فقال له موسى: يا ربّ أهذا كلامك الّذي كلّمتني به؟ قال: يا موسى إنّما كلّمتك بقوّة عشرة آلاف لسان ولي قوّة الألسن كلّها وأقوى من ذلك.

٢٦٦

فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمان فقال: لا تستطيعونه ألم تروا إلى أصوات الصواعق الّذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه؟ فذاك قريب منه وليس به.

أقول: أمّا ذيل الرواية فهو تمثيل للتقريب وليس به بأس، وأمّا صدره ففيه خفاء ولعلّ المراد بقوّة عشرة آلاف لسان ما في العشرة آلاف من قوّة التفهيم لو تأيّد بعضها ببعض فإنّ ألسن الناس مختلفة في قوّة التفهيم فالمراد أنّ ذلك يعادل من حيث إعطاء التفهيم والكشف عن المراد عشرة آلاف لسان لو جمع بعضها مع بعض.

وعلى هذا يكون المراد بالمغايرة في قوله:( كلّمه بغير الكلام الّذي كلّمه يوم ناداه) التفاوت من حيث كيفيّة التفهيم.

وفي المعاني بإسناده عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر المرويّ: أنّ رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه؟ على أيّ صورة رآه؟ وفي الخبر الّذي رواه أنّ المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة؟ على أيّ صورة يرونه؟ فتبسّم ثمّ قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة وثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمة ثمّ لا يعرف الله حقّ معرفته. ثمّ قال: يا معاوية إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير الربّ تبارك وتعالى بمشاهده العيان، وإنّ الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كذب وكفر بالله وآياته لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من شبّه الله بخلقه فقد كفر.

ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن عليّعليه‌السلام قال: سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربّك؟ فقال: لم أعبد ربّاً لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان.

وإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإنّ كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولا بدّ للمخلوق من خالق فقد جعلته إذاً محدثاً مخلوقا، ومن شبّهه بخلقه فقد اتّخذ مع الله شريكاً.

٢٦٧

ويلهم ألم يسمعوا لقول الله تعالى:( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) وقوله لموسى:( لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) وإنّما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض، وصعقت الجبال، وخرّ موسى صعقاً أي ميّتاً( فَلَمَّا أَفَاقَ ) وردّ عليه روحه( قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) من قول من زعم أنّك ترى ورجعت إلى معرفتي بك: أنّ الأبصار لا تدركك( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) بأنّك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى (الحديث).

وفي التوحيد بإسناده عن عليّعليه‌السلام في حديث: وسأل موسى وجرى على لسانه من حمد الله عزّوجلّ:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً، وسأل أمراً جسيما فعوتب فقال الله عزّوجلّ( لَن تَرَانِي ) في الدنيا حتّى تموت وتراني في الآخرة، ولكن إن أردت أن تراني( انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) فأبدا الله بعض آياته وتجلّى ربّنا للجبل فتقطّع الجبل فصار رميما( وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) ثمّ أحياه الله وبعثه فقال:( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) يعني أوّل من آمن بك منهم بأنّه لا يراك.

أقول: الروايتان - كما ترى - تؤيّدان ما تقدّم في البيان السابق، ويتحصّل منهما:

* أوّلاً: أنّ السؤال إنّما كان عن رؤية القلب دون رؤية البصر المستحيل عليه تعالى بأيّ وجه تصوّر، وحاشا مقام الكلّيمعليه‌السلام أن يجهل من ساحة ربّه المنزّهه ما هو من البداهة على مكان وهو يسمّي القوم الّذين اختارهم للميقات سفهاء إذ سألوا الرؤية إذ يقول لربّه:( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) الأعراف: ١٥٥، فكيف يقدّم هو نفسه على ما سمّاه سفها؟.

وقد كان النزاع والمشاجرة في الصدر الأوّل وخاصّة في زمان الصادقين إلى زمان الرضاعليهم‌السلام في المسألة بالغاً أوج شدّته ينكرها المعتزلة مطلقا ويثبتها الأشاعرة في الآخرة وهناك طائفة اُخرى تثبتها في الدنيا والآخرة جميعاً، والفريقان جميعاً يستدلّان بالآية ولم

٢٦٨

تزل المنازعة قائمة على ساقها لم تنقطع ظاهراً إلّا بسيوف آل أيّوب الّتي أبادت المعتزلة وألحقت طالعهم بغاربهم.

و جملة احتجاج المعتزلة، أنّهم كانوا يستدلّون بقوله في الآية:( لَن تَرَانِي ) و بسائر ما ينفي الرؤية البصرية من طريق العقل والنقل، ويؤولون ما يدلّ على جوازها من الآيات والروايات، وجملة احتجاج الاشاعرة أنّهم كانوا يستدلّون بالتنظير الواقع في الآية بقوله:( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) الآية وبما في غيرها من الآيات وبعض الروايات من جوازها في الآخرة، ويؤولون ما عدا ذلك على ما هو شأن الابحاث الكلاميّة عندهم وربّما استدلّ لذلك بأنّه لا دليل على وجوب انحصار الرؤية البصريّة في الجسمانيّات فمن الجائز أن يتعلّق بغير الاُمور المادّيّة. وبأنّ الإبصار يتعلّق بالجوهر والعرض، ولا جامع بينهما إلّا الموجود المطلق فكلّ موجود يمكن أن يتعلّق به الإبصار وإن لم يكن جسماً أو جسمانيّا.

وقد اتّضح بطلان هاتين الحجّتين وما يسانخهما من الحجج والأقاويل في هذه الأزمنة اتّضاحاً كاد يلحقّ بالبديهيّات.

وعلى أيّ حال لا يهمّنا إيراد ما أوردوه من الجنبين من نقض وإبرام فمن أراد الوقوف عليها أمكنه أن يراجع الكتب الكلاميّة ومطوّلات تفاسير الفريقين.

والّذي تحصّل من سابق بحثنا - أوّلا - أنّ الرؤية البصريّة سواء كانت على هذه الصفة الّتي هي عليها اليوم أو تحوّلت إلى أيّ صفة اُخرى هي معها مادّيّة طبيعيّة متعلّقة بقدر وشكل ولون وضوء تعملها أداة مادّيّة طبيعيّة فإنّها مستحيلة التعلّق بالله سبحانه في الدنيا والآخرة، وعليه يدلّ البرهان وما ورد من الآيات والروايات في نفي الرؤية. نعم هناك علم ضروريّ خاصّ يتعلّق به تعالى غير العلم الضروريّ الحاصل بالاستدلال تسمّى رؤية، و إيّاه تعني الآيات والرّوايات الظاهرة في إثبات الرؤية لما فيها من القرائن الكثيرة الصريحة في ذلك، وموطن هذه المعرفة الآخرة.

و - ثانياً - أنّ قوله تعالى:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) الآية اجنبيّة أصلاً عن الرؤية البصريّة الحسّيّة إثباتاً ونفياً وسؤالاً وجواباً، وإنّما يدور الكلام فيها مدار الرؤية بالمعنى

٢٦٩

الآخر الّذي هو رؤية القلب بحسب ما اصطلح عليه في الروايات.

وقد روى الصدوق في العيون فيما سأله المأمون عن الرضاعليه‌السلام أنّه أجاب عن سؤال الرؤية في الآية، أنّ موسى إنّما سأل ذلك عن لسان قومه لا لنفسه فإنّهم لمّا قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثمّ أحياهم الله سألوا موسى أن يسأله لنفسه فردّ عليهم بالإستحالة فأصرّوا عليه فقال:( رَبِّ أَرِنِي ) أي على ما يقترحه عليّ قومي.

والرواية كما أشرنا إليه في أخبار جنّة آدم ضعيفة السند على أنّها لا توافق الاصول المسلّمة في أخبار أئمّة إهل البيتعليهم‌السلام فإنّ أخبارهم وخاصّة خطب عليّ والرضاعليهما‌السلام مملوءة من حديث التجلّي والرؤية القلبيّة فلا موجب لهعليه‌السلام أن يلتزم كون الرؤية المذكورة في الآية سؤالاً وجواباً هي الرؤية البصريّة ثمّ الجواب بطريق جدليّ لا ينطبق كثير انطباق على الآية لكونه خلاف ظاهرها البتّة، وخلاف ظاهر حال موسى فإنّهم لو اقترحوا عليه ذلك لرد عليهم كما ردّ عليهم بقوله:( إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) حين قالوا:( يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

* وثانياً: يتحصّل من الروايتين أنّ موسىعليه‌السلام ما أجيب إلى الرؤية بالمعنى المذكور في الدنيا، وإنّما اُجيب إليها في الآخرة، والظاهر أنّه يستفاد ذلك من قوله تعالى:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) فإنّ الاستدارك في قوله:( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) أنّ الّذي فرض في الجبل هو بعينه مثل ما فرض في موسى فهو لا يطيق الظهور والإرائة كما أنّ ذاك لا يطيقه، وقد وقع التجلّي للجبل فدكّ به وصعق ولو وقع لموسى أيضاً لدكّ به وصعق فالتجلّي في نفسه ممكن لكنّه بالنسبة إلى المتجلّي له يوجب أندكاكه وصعقته، وهذا يشعر أنّ التجلّي لا مانع منه في نفسه مع الصعقة والموت، وقد استفاضت الروايات من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الله سبحانه وتعالى يتجلّى لأهل الجنّة، وأنّ لهم في كلّ جمعة زورة كما وقع ذلك في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة: ٢٣.

* وثالثاً تحصّل من الروايتين: أنّ صعقة موسىعليه‌السلام كانت موتاً ثمّ ردّ الله إليه روحه لا غشية.

٢٧٠

* ورابعا: أنّ ما ذكرهعليه‌السلام أنّه تجلّى له من نوره مقدار ما يخرج من سمّ الخياط من النور من قبيل تمثيل المعنى بالاُمور المحسوسة فلا نوره تعالى نور حسّيّ، ولا أنّه يتقدّر بأمر حسّيّ كسمّ الخياط، ولذلك مثّل ذلك في غير هذه الرواية بوضع طرف الإبهام على أنملة الخنصر كما سيأتي، والغرض على أيّ تقدير بيان صغره وحقّارته.

وعلى أيّ حال فالتجلّي إنّما هو بما يكفي لدكّه وصعقته، وأمّا كمال نوره تعالى فهو غير متناه لا يحاذيه أيّ أمر متناه مفروض فلا نسبه بين المتناهي وغير المتناهي.

وفي الدّر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذيّ وصحّحه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عديّ في الكامل وأبوالشيخ والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقيّ في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) قال : هكذا وأشار بإصبعيه، ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر - وفي لفظ: على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل وخرّ موسى صعقا - وفي لفظ: فساخ الجبل في الأرض - فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة.

أقول: ووقع في أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الجبل دكّ فصار رميماً، وفي بعضها أنّه ساخ في البحر فهو يهوي حتّى الساعة، وفي بعضها: إلى هذه الساعة، والمحصّل من تفسير بعضها ببعض أنّه صار رميماً نزل البحر فلا يرى منه أثر أبداً وينبغي أن يكون هذا معنى قوله: فساخ الجبل في الأرض أو في البحر فهو يسيخ إلى يوم القيامة أو إلى الساعة.

وفيه أخرج أبوالشيخ وابن مردويه من طريق ثابت عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) قال: أظهر مقدار هذا ووضع الإبهام على خنصر الإصبع الصغرى. فقال حميد - راوي الحديث - يا أبا محمّد - الراوي عن أنس - ما تريد إلى هذا؟ فضرب في صدره وقال: من أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدّثني أنس ابن مالك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول أنت: ما تريد إلى هذا؟.

وفيه: أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن

٢٧١

عبّاس قال: تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) قال: قال الله عزّوجلّ يا موسى إنّه لا يراني حيّ إلّا مات، ولا يابس إلّا تدهده ولا رطب إلّا تفرّق، وإنّما يراني أهل الجنّة الّذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم.

أقول: والرواية نظيرة ما تقدّم من رواية التوحيد عن عليّعليه‌السلام وتقدّم توضيح معناها.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بصير، عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام قال: لمّا سأل موسى ربّه تبارك وتعالى، قال:( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) قال:( لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) قال: فلمّا صعد موسى على الجبل فتحت أبواب السماء، وأقبلت الملائكة أفواجاً في أيديهم العمد، وفي رأسها النور يمرّون به فوجاً بعد فوج، يقولون: يا ابن عمران اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى واقفاً حتّى تجلّى ربّنا جلّ جلاله فجعل الجبل دكّا وخرّ موسى صعقا فلمّا أن ردّ الله عليه روحه أفاق( قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وفيه أيضاً عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ موسى بن عمران لمّا سأل ربّه النظر إليه وعدّ الله أن يقعد في موضع ثمّ أمر الملائكة تمرّ عليه موكباً موكباً بالرعد والبرق والريح والصواعق فكلّما مرّ به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أيّكم ربّي؟ فيجاب هو آت وقد سألت عظيماً يا ابن عمران.

إقول: والرواية موضوعة، وما تشمل عليه لا يقبل الانطباق على شئ من مسلّمات الاصول المتّخذة من الكتاب والسنّة.

وفي البصائر بإسناده عن أبي محمّد عبدالله بن أبي عبدالله الفارسيّ وغيره فرفعوه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّ الكروبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل جعلهم الله خلف العرش لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم، ثمّ قال: إنّ موسىعليه‌السلام لمّا سأل ربّه ما سأل أمر واحداً من الكروبيّين تجلّى للجبل فجعله دكّا.

أقول: محصّل الرواية أنّ تجلّيه سبحانه يقبل الوسائط كما أنّ سائر الاُمور المنسوبة إليه تعالى كالتوفّي والاحياء والرزق والوحي وغيرها يقبل الوسائط فهو تعالى

٢٧٢

يتجلّى بالوسائط كما يتوفّى بملك الموت، ويحيي بصاحب الصور، ويرزق بميكائيل، ويوحي بجبرئيل الروح الامين، وسيوافيك شرح الرواية في موضع مناسب له إن شاء الله.

وللكروبيّين ذكر في التوراة.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن مردويه والحاكم وصحّحه عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرء( دَكًّا ) منونّة ولم يمدّه.

وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرء( فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) مثقّلة ممدودة.

وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا تجلّى ربّه للجبل طارت لعظمته ستّة أجبل فوقعن بالمدينة: أحد وورقان ورضوى. ووقع بمكّة ثور وثبير وحراء.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج الطبرانيّ في الاوسط عن ابن عبّاس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمّا تجلّى الله لموسى تطايرت سبعة أجبال ففي الحجاز منها خمسة، وفي اليمن اثنان: في الحجاز اُحد وثبير وحراء وثور وورقان، وفي اليمن حصور وصير.

أقول: وروي في تقطّع الجبل غير ذلك، وهذه الروايات على ما فيها من الاختلاف في عدد الجبال المتطايرة إن كان المراد بها تفسير دكّ الجبل لم ينطبق على الآية، وإن اُريد غير ذلك فهو وإن كان ممكن الوقوع غير أنّه لا يكفى لإثباته أمثال هذه الآحاد.

وكذا ما ورد من طرق الشيعة وأهل السنّة أنّ ألواح التوراة كانت من زبرجد، وفي بعضها من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الألواح الّتي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنّة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً، وفي بعضها: كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح، وفي بعض أخبارنا أنّ هذه الألواح مدفونة في جبل من جبال اليمن، أو التقمها حجر هناك فهي محفوظة في بطنه إلى غير ذلك من آحاد الأخبار غير المؤيّده بقرائن قطعيّة.على أنّ البحث التفسيريّ لا يتوقّف على الغور

٢٧٣

في البحث عنها.

وفي روح المعاني قال: وعن عليّ كرّم الله وجهه: أنّه قرأ( جَوَارِ ) بجيم مضمومة وهمزة. قال وهو الصوت الشديد.

وفي الدّر المنثور: في قوله تعالى:( وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ) الآية: أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزّاز وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبرانيّ وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربّه تبارك وتعالى أنّ قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلمّا رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسّر منها ما تكسّر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن أبي حمزة عمّن ذكره عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أخبر موسى أنّ قومه اتّخذوا عجلاً {جسداً ظ} له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلمّا رآهم اشتدّ غضبه فألقى الألواح من يده، قد قال أبوعبداللهعليه‌السلام : وللرؤية فضل على الخبر.

وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينه عن السدّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً أو قال: ما أجلّ عبد ذكر الله أربعين يوماً إلّا زهّده الله في الدنيا، وبصّره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق به لسانه.

ثمّ تلا:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلا، ومفترياً على الله عزّوجلّ وعلى رسوله وعلى أهل بيته إلّا ذليلا.

( بحث روائي آخر)

* نورد فيها بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في معنى رؤية القلب *

في التوحيد والأمالي بإسناده عن الرّضاعليه‌السلام في خطبة له قال: أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلٍّ لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة.

٢٧٤

أقول: وحديث تجلّيه تعالى الدائم لخلقه متكرّر في كلام عليّ والأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام ، وقد نقلنا شذرات من كلامهعليه‌السلام في مباحث التوحيد في ذيل قوله تعالى:( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) المائدة: ٧٣.

وفي التوحيد بإسناده عن الصادقعليه‌السلام في كلام له في التوحيد: واحد صمد أزليّ صمديّ، لا ظلّ له يمسكه، وهو يمسك الأشياء بأظلّتها، عارف بالمجهول، معروف عند كلّ جاهل، لا هو في خلقه ولا خلقه فيه.

أقول: قولهعليه‌السلام ( معروف عند كلّ جاهل ) ظاهر في أنّ له تعالى معرفة عند خلقه لا يطرأ عليها غفلة، ولا يغشاها جهل، ولو كانت هي المعرفة الحاصلة من طريق الاستدلال لزالت بزوال صورته عن الذهن هذا إذا كان المراد من قوله:( معروف عند كلّ جاهل) أنّ الإنسان يجهل كلّ شئ ولا يجهل ربّه، وأمّا لو كان المراد أنّ الله سبحانه معروف عند كلّ جاهل به فكون هذه المعرفة غير المعرفة الحاصلة بالاستدلال أظهر.

وقولهعليه‌السلام :( لا ظلّ له يمسكه وهو يمسك الأشياء بأظلّتها) الأظلّة والظلال اصطلاح منهمعليهم‌السلام والمراد بظلّ الشئ حدّه، ولذلك كان منفيّاً عن الله سبحانه ثابتاً في غيره، وقد فسّره أبوجعفرالباقرعليه‌السلام في بعض(١) أحاديث الذرّ والطينة حيث ذكر: أنّ الله خلق طائفة من خلقه من طينة الجنّة، وطائفة اُخرى من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال فقيل: وأيّ شئ الظلال؟ فقالعليه‌السلام : أ لم تر إلى ظلّك في الشمس شئ وليس بشئ؟ فالحدود الوجوديّة بالنظر إلى وجود الأشياء غيره وليست غيره، وبها تتعيّن الأشياء ولولاها لبطلت، ولعلّ الاصطلاح مأخوذ من آية الظلال.

وفي الإرشاد وغيره عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في كلام له: إنّ الله أجلّ من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ.

وعنهعليه‌السلام : ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله.

وعنه: لم أعبد ربّاً لم أره.

____________________

(١) رواها في الكافي باسناده عن عبدالله بن محمّد الحنفي وعقبة جميعاً عنه عليه‌السلام ، وسنوردها إن شاء الله في ذيل قوله تعالى: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) يونس: ٧٤.

٢٧٥

وفي النهج عنه لم تره العيون بمشاهدة الإبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن الله عزّوجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة. قلت: متى؟ قال: حين قال لهم:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. ألست تراه في وقتك هذا.

قلت: فاُحدّث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عمّا يصفه المشبهون والملحدون.

اقول: وظاهر من الرواية أنّ هذه الرؤية ليست هي الاعتقاد والإيمان القلبيّ المكتسب بالدليل كما أنّها غير الرؤية البصريّة الحسّيّة، وأنّ المانع من تكثير استعمال لفظ الرؤية في مورده تعالى وإذاعة هذا الاستعمال انصراف اللفظ عند الأفهام العامّيّة إلى الرؤية الحسّيّة المنفيّة عن ساحة قدسه، وإلّا فحقيقة الرؤية ثابتة وهي نيل الشئ بالمشاهدة العلميّة من غير طريق الاستدلال الفكريّ بل هناك عدّة من الأخبار تنكر أن يكون الله سبحانه معلوماً معروفاً من طريق الفكر وسيأتي بعضها.

وفي التوحيد بإسناده عن موسى بن جعفرعليه‌السلام في كلام له في التوحيد: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه فقد احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلّا هو الكبير المتعال.

اقول: وهذا المعنى مرويّ عن الرّضاعليه‌السلام أيضاً على ما في العلل وجوامع التوحيد.

والرواية الشريفة تفسّر معنى حصول المعرفة به تعالى معرفة لا تقبل الجهالة، ولا يطرأ عليها زوال ولا تغيير ولا خطأ البتّة فهي توضح أنّه سبحانه غير محتجب عن شئ إلّا بنفس ذلك الشئ فالالتفات إلى الأشياء هو العائق عن الالتفات إلى مشاهدته تعالى. ثمّ حكمعليه‌السلام أنّ هذا الحاجب الساتر غير مانع حقيقة فهو حجاب غير حاجب وستر غير ساتر.

٢٧٦

وينتج مجموع الكلامين أنّه سبحانه مشهود لخلقه معروف لهم غير غائب عنهم غير أنّ اشتغالهم بأنفسهم والتفاتهم إلى ذواتهم حجبهم عن التنبّه على أنّهم يشهدونه دائماً فالعلم موجود أبداً، والعلم بالعلم مفقود في بعض الاحيان، وقد بنى الصادقعليه‌السلام على هذا الاساس فيما أجاب به بعض من شكى إليه كثرة الشبهات فقالعليه‌السلام له: هل ركبت السفينة فانكسرت وغرقت وبقيت وحدك على لوحة خشبة منها تلعب بك الامواج فانقطعت عن كلّ سبب ينجيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلّق قلبك إذ ذاك بشئ؟ قال: نعم. قال: ذلك الشئ هو الله(١) .

وفي جوامع التوحيد عن الرّضاعليه‌السلام قال: خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم.

وفي العلل بإسناده عن الثماليّ قال: قلت لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : لأيّ علّة حجب الله عزّوجلّ الخلق عن نفسه؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى بناهم بنيه على الجهل.

أقول: يظهر من رواية التوحيد السابقة أنّ بناءهم على الجهل هو خلقهم بحيث يشتغلون بأنفسهم.

وفي المحاسن بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أنّ الله عزّوجلّ كان ولا شئ غيره نوراً لا ظلام فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جهل فيه، وحيّاً لا موت فيه وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً (الحديث).

وفي التوحيد بإسناده عن الرّضاعليه‌السلام في حديث: - كان يعني رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إذا نظر إلى ربّه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتّى يستبين له ما في الحجب.

وفيه أيضاً بإسناده عن محمّد بن الفضيل قال: سألت أباالحسنعليه‌السلام هل رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه عزّوجلّ؟ فقال: نعم بقلبه رآه أما سمعت الله عزّوجلّ يقول:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد.

وفيه بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادقعليه‌السلام في حديث: ومن زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره

____________________

(١) الحديث منقول بالمعنى.

٢٧٧

وإنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره؟ إنّما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنّما يعرف غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شئ، والله خالق الأشياء لا من شئ.

تسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه، والأسماء غيره، والموصوف غير الواصف، فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئاً إلّا بالله، ولا تدرك معرفة الله إلا بالله، والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه.

أقول : الرواية تثبت معرفة الله لكلّ مخلوق يدرك شيئاً مّا من الأشياء، وتثبت أنّ هذه المعرفة غير المعرفة الفكريّة الّتي تحصل من طريق الأدّلة والآيات وأنّ القصر على المعرفة الاستدلاليّة لا يخلو عن جهل بالله، وشرك خفيّ.

بيان ذلك بما تعطيه الرواية من المقدّمات أنّ المعرفة المتعلّقة بشئ إنّما هي إدراكه فما وقع في ظرف الإدراك فهو الّذي تتعلّق به المعرفة حقيقة لاغيره، فلو فرضنا أنّا عرفنا شيئاً من الأشياء بشئ آخر هو واسطة في معرفته فالّذي تعلّق به إدراكنا هو الوسط دون الظرف الّذي هو ذو وسط، فلو كانت المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط كان لازمة أن يكون ذلك الوسط بوجه هو ذا الوسط حتّى تكون المعرفة بأحدهما هي بعينها معرفة بالآخر فهو هو بوجه وليس هو بوجه فيكون واسطة رابطة بين الشيئين فزيد الخارجيّ الّذي نتصوّره في ذهننا هو زيد بعينه ولو كان غيره لم نكن تصوّرناه بل تصوّرنا غيره، وعاد عند ذلك علومنا جهالات.

وإذ كان لا واسطة بين الخالق والمخلوق ليكون رابطة بينهما فلا تمكن معرفته سبحانه بشئ آخر غير نفسه فلو عرف بشئ كان ذلك الشئ هو نفسه بعينه، وإن لم يعرف بنفسه لم يعرف بشئ آخر أبداً فدعوى أنّه تعالى معروف بشئ من الأشياء كتصوّر أو تصديق أو آية خارجيّة شرك خفي لأنّه إثبات واسطة بين الخالق والمخلوق يكون غيرهما جميعاً وما هذا وصفه غير محتاج الوجود إلى الخالق تعالى فهو مثله وشريكه فالله سبحانه لو عرف عرف بذاته، ولولم يعرف بذاته لم يعرف بشئ آخر البتّة لكنّه سبحانه معروف، فهو

٢٧٨

معروف بذاته أي أنّ ذاته المتعالية والمعروفيّة شئ واحد بعينه فمن المستحيل أن يكون مجهولاً لأنّ ثبوت ذاته عين ثبوت معروفيّته.

وأمّا بيان كونه تعالى معروفا فلان شيئاً من الأشياء المخلوقة لا يستقلّ عنه تعالى بذاته بوجه من الوجوه لا في خارج ولا في ذهن، فوجوده كالنسبة والرابط الّذي لا يمكنه الاستقلال عن طرفه بوجه من الوجوه، فإذا تعلّق علم مخلوق بشئ من الأشياء أي وقع المعلوم في ظرف علمه لم يتحقّق هناك إلّا ومعه خالقه متّكئاً بوجوده عليه وإلّا لاستقلّ دونه فلا يجد عالم معلومه إلّا وقد وجد الله سبحانه قبله، والعالم نفسه حيث كان مخلوقاً لم يستقلّ بالعلم إلّا بالله سبحانه الّذي قوّم وجود هذا العالم، ولو استقلّ به دونه كان مستقلاً دونه غير مخلوق له، فالله سبحانه يحتاج إليه العالم في كونه عالماً كما يفتقر إليه وجود المعلوم في كونه معلوماً أي أنّ العلم يتعلّق باستقلال ذات المعلوم أي أنّ الله سبحانه هو المعلوم أوّلاً ويعلم به المعلوم ثانياً كما أنّه تعالى هو العالم أوّلاً وبه يكون الشئ عالماً ثانياً فافهم ذلك وتدبّر في قوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة: ٢٥٥، وفي قولهعليه‌السلام :( ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله) .

فقد تبيّن أنّه تعالى معروف لأنّ ثبوت علم مّا بمعلوم مّا في الخارج لا يتمّ إلّا بكونه تعالى هو المعروف أوّلا، وثبوت ذلك ضروريّ.

فقولهعليه‌السلام :( من زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو صورة أو مثال فهو مشرك) كأنّ المراد بالحجاب هو الشئ الّذي يفرض فاصلاً بينه تعالى وبين العارف، وبالصورة الصورة الذهنيّة المقارنة للأوصاف المحسوسة من الأضواء والألوان والأقدار وبالمثال ما هو من المعاني العقليّة غير المحسوسة، أو المراد بالصورة الصورة المحسوسة، وبالمثال الصورة المتخيّلة، أو المراد بالصورة التصوّر وبالمثال التصديق، وكيف كان فالعلوم الفكريّة داخلة في ذلك، والأخبار في نفي كون العلم الفكريّ إحاطة علميّة بالله كثيرة جدّا.

وكون هذه المعرفة شركاً لإثباتها أمراً ليس بخالق ولا مخلوق كما عرفت آنفاً، ولزوم كونه مشاركاً معه بوجه مبائناً له بوجه، ولذلك عقّبعليه‌السلام الكلام بقوله:( وإنّما هو واحد موحّد) أي أنّه لا يشاركه في ذاته شئ بوجه من الوجوه حتّى يوجب ذلك

٢٧٩

تركّبه وانتفاء وحدته كما أنّ الصورة العلميّة تشارك المعلوم الخارجيّ في معناه وماهيّته وتفارقه في وجوده فيصير المعلوم بذلك مركّباً من ماهيّة ووجود.

( فكيف يوحّد من زعم أنّه يعرفه بغيره) مع إثباته شريكاً له في وجوده وتركّباً له في ذاته( إنّما عرف الله من عرفه بالله ) أي بنفس ذاته من غير واسطة( ومن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره) كلّ ذلك( لأنّه ليس بين الخالق والمخلوق شئ) أي أمر يربطهما هو غيرهما( والله خالق الأشياء لا من شئ) يكون رابطاً بينهما موصلاً للخالق إلى المخلوق وبالعكس كما أنّ الإنسان الصانع يرابطه إلى مصنوعه مثاله الّذي في ذهن الصانع، والمادّة الخارجيّة الّتي بيده.

وقولهعليه‌السلام :( تسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه ) في موضع دفع اعتراض مقدّر، وهو أن يقال: إنّا إنّما نعرفه سبحانه بأسمائه الحاكية لجماله وجلاله، فدفعه بأنّ نفس التسمّي بالأسماء يقضي بأنّ الأسماء غيره إذ لو لم تكن غيره لكان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشئ آخر ثمّ أكّده بأنّ الأسماء واصفة، والذات موصوفة( والموصوف غير الواصف) .

فإن رجع المعترض وقال: إنّا نؤمن بما نجهله، ولا يمكننا معرفته بنفسه إلّا بما تسمّى معرفة به بنوع من المجاز كالمعرفة بالآيات و( زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة) لا يدري ما ذا يقول فإنّه يدرك شيئاً لا محالة لا مجال له لإنكار ذلك( ولا يدرك مخلوق شيئاً إلّا بالله) فهو يعرف الله وإلّا لم يمكنه أن يعرف به، ولا تنال( ولا تدرك معرفة الله إلّا بالله) ولا رابطة مشتركة بين الخالق والمخلوق( والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) .

فقد تحصّل من الرواية أنّ معرفة الله سبحانه ضروريّ لكلّ مدرك ذي شعور من خلقه إلّا أنّ الكثير منهم ضالّ عن المعرفة مختلط عليه، والعارف بالله يعرفه به، ويعلم أنّه يعرفه ويعرف كلّ شئ به ، وفي بعض هذه المعاني روايات اُخر.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408