الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86247
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86247 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

واعلم أنّ الروايات من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

واعلم أنّا لم نورد بحثاً فلسفيّاً في مسألة الرؤية لأنّ الّذي تتضمّنه غالب ما أوردناه من الرّوايات من البيان بيان فلسفيّ فلم تمسّ الحاجة إلى عقد بحث على حدة.

٢٨١

( سورة الأعراف آية ١٥٥ - ١٦٠)

وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا  فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ  أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا  إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ  أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا  وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ( ١٥٥ ) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ  قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ  وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ  فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( ١٥٦ ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ  فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ  أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ١٥٧ ) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ  فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٥٨ ) وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٥٩ ) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا  وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ  فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا  قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ  وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ  كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ  وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ١٦٠ )

٢٨٢

( بيان)

فصول اُخرى من قصص بني إسرائيل يذكر فيها آيات كثيرة أنزلها الله إليهم وحباهم بها يهديهم بها إلى سبيل الحقّ ويدلّهم على منهج التقوى فكفروا بها وظلموا أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ) أي اختار من قومه فالقوم منصوب بنزع الخافض.

والآية تدلّ على أنّ الله سبحانه عيّن لهم ميقاتاً فحضره منهم سبعون رجلا اختارهم موسى من القوم، ولا يكون ذلك إلّا لأمر مّا عظيم لكنّ الله سبحانه لم يبيّن ههنا ما هو الغاية المقصودة من حضورهم غير أنّه ذكر أنّهم أخذتهم الرجفة ولم تأخذهم إلّا لظلم عظيم ارتكبوه حتّى أدّى بهم إلى الهلاك بدليل قول موسىعليه‌السلام :( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) فيظهر من هنا أنّ الرجفة أهلكتهم.

ويتأيّد بذلك أنّ هذه القصّة هي الّتي يشير سبحانه إليها بقوله:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) البقرة: ٥٦، وبقوله:( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ) النساء: ١٥٣.

ومن ذلك يظهر أنّ المراد بالرجفة الّتي أخذتهم في الميقات رجفة الصاعقة لا رجفة في أبدانهم كما احتمله بعض المفسّرين ولا ضير في ذلك فقد تقدّم نظير التعبير في قصّة قوم صالح حيث قال تعالى:( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) الأعراف: ٧٨، وقال فيهم:( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ) حم السجدة: ١٧.

٢٨٣

وفي آية النساء المنقولة آنفاً إشعار بأنّ سؤالهم الرؤية كان مربوطاً بنزول الكتاب وأنّ اتّخاذ العجل كان بعد ذلك فكأنّهم حضروا الميقات لنزول التوراة، وأنّهم إنّما سألوا الرؤية ليكونوا على يقين من كونها كتاباً سماويّاً نازلاً من عند الله، ويؤيّد ذلك أنّ الظاهر أنّ هؤلاء المختارين كانوا مؤمنين بأصل دعوة موسى، وإنّما أردوا بقولهم:( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) تعليق إيمانهم به من جهة نزول التوراة عليه على الرؤية.

وبهذا كلّه يتأيّد أنّ هذه القصّة جزء من قصّة الميقات ونزول التوراة، وأنّ موسىعليه‌السلام لمّا أراد الحضور لميقات ربّه ونزول التوراة اختار هؤلاء السبعين فذهبوا معه إلى الطور ولم يقنعوا بتكليم الله كليمه، وسألوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثمّ أحياهم الله بدعوة موسى، ثمّ كلّم الله موسى وسأل الرؤية وكان ما كان، وممّا كان اتّخاذ بني إسرائيل العجل بعد غيبتهم وذهابهم لميقات الله، وقد وقع هذا المعنى في بعض الأخبار المأثورة عن أئمّه أهل البيتعليهم‌السلام كما سيجئ إن شاء الله.

وعلى أيّ حال العناية في هذه القصّة ببيان ظلمهم ونزول العذاب عليهم ودعاء موسى لهم لا بيان كون هذه القصه جزءً من القصّة السابقة لو كان جزءً، ولا مغايرتها لها لو كانت مغايرة فلا دلالة في اللّفظ تنبّه على شئ من ذلك.

وما قيل: إنّ ظاهر الحال أن تكون هذه القصّة مغايرة للمتقدّمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصّة ثمّ النقل إلى اُخرى ثمّ الرجوع إلى الاُولى فإنّه اضطراب يصان عند كلامه. على أنّه لو كانت الرجفة بسبب سؤال الرؤية لقيل: أتهلكنا بما قال السفهاء منّا لا بما فعل، ولم يذكر ههنا أنّهم قالوا شيئاً، وليس من المعلوم أن يكون قولهم( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) صدر منهم ههنا بل الحقّ أنّها قصص ثلاث: قصّة سؤالهم الرؤية ونزول الصاعقة، وقصّة ميقات موسى وصعقته، وقصّة ميقات السبعين وأخذ الرجفة، وسنوردها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

ولذلك ذكر بعضهم أنّ هذا الميقات غير الميقات الأوّل، وذلك أنّهم لمّا عبدوا العجل أمر الله موسى أن يأتي في اُناس منهم إلى الطور فيعتذروا من عبادة العجل فاختار

٢٨٤

منهم سبعين فأتوا الطور فقالوا ما قالوا فأخذتهم رجفة في أبدانهم كادت تهلكهم ثمّ انكشفت عنهم بدعاء موسى.

وذكر بعض آخر أنّ هارون لمّا مات اتّهم بنو إسرائيل موسى في أمره، وقالوا له: أنت حسدته فينا فقتلته، وأصرّوا على ذلك فاختار منهم سبعين وفيهم ابن هارون فأتوا قبره فكلّمه موسى فبرّأه هارون من قتله فقالوا: ما نقضي يا موسى ادع لنا ربّك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا.

وذكر آخرون أنّ بني إسرائيل سألوا موسى الرؤية فاختار منهم السبعين فجاؤوا إلى الطور فقالوا ما قالوا وأخذتهم الرجفة فهلكوا ثمّ أحياهم الله بدعاء موسى إلّا أنّها قصّة مستقلّة ليست بجزء من قصّة موسى.

وأنت خبير بأنّ شيئاً من هذه الأقوال وبالخصوص القولان الأوّلان لا دليل عليه من لفظ القرآن، ولا يؤيّده أثر معتبر وتقطيع القصّة الواحدة إلى قصص متعدّدة، والانتقال من حديث إلى آخر لتعلّق عناية بذلك غير عزيز في القرآن الكريم، وليس القرآن كتاب قصّة حتّى يعاب بالانتقال عن قصّة قبل تمامها، وإنّما هو كتاب هداية ودلالة وحكمة يأخذ من القصص ما يهمّه.

وأمّا قوله:( بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ ) وقد كان الصادر منهم قولاً لا فعلاً فالوجه في ذلك أنّ المؤاخذة إنّما هو على المعصية، والمعصية تعدّ عملاً وفعلاً وإن كانت من قبيل الأقوال كما قال تعالى:( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧، فإنّه شامل لقول كلمة الكفر والكذب والافتراء ونحو ذلك بلا ريب، والظاهر أنّهم عذّبوا بما كان يستلزمه قولهم من سوء الأدب والعناد والاستهانة بمقام ربّهم.

على أنّ ظاهر تلك الأقوال جميعاً أنّهم إنّما عذّبوا بالرجفة قبال ما قالوه دون ما فعلوه فالإشكال على تقدير وروده مشترك بين جميع الأقوال فالأقرب كون القصّة جزءً من سابقتها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ - إلى قوله -مَن تَشَاءُ ) يريدعليه‌السلام بذلك أن يسأل ربّه أن يحييهم خوفاً من أن يتّهمه بنو إسرائيل فيخرجوا

٢٨٥

به عن الدين، ويبطل بذلك دعوته من أصلها فهذا هو الّذي يبتغيه غير أنّ المقام والحال يمنعانه من ذلك فها هوعليه‌السلام واقع أمام معصية موبقة من قومه صرعتهم وغضب إلهيّ شديد أحاط بهم حتّى أهلكهم.

ولذلك أخذ يمهّد الكلام رويداً ويسترحم ربّه بجمل من الثناء حتّى يهيّج الرحمة على الغضب، ويثير الحنان والرأفة الإلهيّة ثمّ يتخلّص إلى مسألته وذكر حاجته في جوّ خال من موانع الإجابة.

( قَالَ ) مبتدئاً باسم الربوبيّة المهيّجة للرحمة( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ ) فالأمر إلى مشيّتك، ولو أهلكتهم من قبل( وَإِيَّايَ ) لم يتّجه من قومي إليّ تهمة في هلاكهم، ثمّ ذكر أنّه ليس من شأن رحمته وسنّة ربوبيّته أن يؤاخذ قوماً بفعل سفهائهم فقال في صورة الاستفهام تأدّباً:( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) ؟ ثمّ أكدّ القول بقوله:( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) وامتحانك( تُضِلُّ بِهَا ) أي بالفتنة( مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ) أي أنّ هذا المورد أحد موارد امتحانك وابتلائك العامّ الّذي تبتلي به عبادك وتجريه عليهم ليضلّ من ضلّ ويهتدي من اهتدى، وليس من سنّتك أن تهلك كلّ من افتتن بفتنتك فانحرف عن سوىّ صراطك.

وبالجملة أنت الّذي سبقت رحمتك غضبك ليس من دأبك أن تستعجل المسيئين من عبادك بالعقوبة أو تعاقبهم بما فعل سفهاؤهم، وأنت الّذي أرسلتني إلى قومي ووعدتني أن تنصرني في نجاح دعوتي، وهلاك هؤلاء المصعوقين يجلب عليّ التهمة من قومي.

قوله تعالى: ( أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) شروع منهعليه‌السلام في الدعاء بعد ما قدّمه من الثناء، وبدأه بقوله:( أَنتَ وَلِيُّنَا ) وختمه بقوله:( وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ليقع ما يسأله بين صفتي ولاية الله الخاصّة به ومغفرته الّتي هي خير مغفرة ثمّ سأل حاجته بقوله:( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) لأنّه خير حاجة يرتضي الله من عباده أن يسألوها عنه، ولم يصرّح بخصوص حاجته الّتي بعثته إلى الدعاء، وهي إحياء السبعين الّذين أهلكهم الله تذلّلاً واستحياءً.

وحاجته هذه مندرجة في قوله:( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) لا محالة فإنّ الله سبحانه

٢٨٦

يذكر في آية سورة البقرة أنّه بعثهم بعد موتهم، ولم يكن ليحييهم بعد ما أهلكهم إلّا بشفاعة موسىعليه‌السلام ولم يذكر من دعائه المرتبط بحالهم إلّا هذا الدعاء فهو إنّما سأله ذلك تلويحاً بقوله( فَاغْفِرْ لَنَا ) الخ كما تقدّم لا تصريحا.

قوله تعالى: ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي رجعنا إليك من هاد يهود إذا رجع، وهو أعني قوله:( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) تعليل لهذا الفصل من الدعاء سأل فيه أن يكتب الله أي يقضي لهم بحسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة والمراد بالحسنة لا محالة الحياة والعيشة الحسنة فإنّ الرجوع إلى الله أي سلوك طريقته والتزام سبيل فطرته يهدي الإنسان إلى حياة طيّبة وعيشة حسنة في الدنيا والآخرة جميعاً، و هذا هو الوجه فيما ذكرنا أنّ قوله:( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) تعليل لهذا الفصل من دعائه فإنّ الحياة الطيّبة من آثار الرجوع إلى الله، وهي شئ من شأنه أنّ يرزقوه - لو رزقوا - في مستقبل أمرهم، وهو المناسب للكتابة والقضاء، وأمّا الفصل الأوّل من الدعاء أعني قوله:( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) الخ، فتكفي في تعليله الجمل السابقة عليه، وما احتفّ به من قوله:( أَنتَ وَلِيُّنَا ) وقوله:( وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ولا يتعلّق بقوله:( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) هذا جواب منه سبحانه لموسى، وفيه محاذاة لما قدّمه موسى قبل مسألته من قوله:( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ) ، وقد قيّد الله سبحانه إصابة عذابه بقوله:( مَنْ أَشَاءُ ) دون سعة رحمته لأنّ العذاب إنّما ينشأ من اقتضاء من قبل المعذّبين لا من قبله سبحانه، قال تعالى:( مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ) النساء: ١٤٧ وقال:( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧ فلا يعذّب الله سبحانه باقتضاء من ربوبيّته ولو كان كذلك لعذّب كلّ أحد بل إنّما يعذّب بعض من تعلّقت به مشيّته فلا تتعلّق مشيّته إلّا بعذاب من كفروا بأنعمه فالعذاب إنّما هو باقتضاء من قبل المعذّبين لكفرهم لا من قبله.

على أنّ كلامه سبحانه يعطي أنّ العذاب إنّما حقيقته فقدان الرحمة، والنقمة

٢٨٧

عدم بذل النعمة، ولا يتحقّق ذلك إلّا لعدم استعداد المعذّب بواسطة الكفران والذنب لإفاضة النعمة عليه وشمول الرحمة له، فسبب العذاب في الحقيقة عدم وجود سبب الرحمة.

وأمّا سعة الرحمة وإفاضة النعمة فمن المعلوم أنّه من مقتضيات الاُلوهيّة ولوازم صفة الربوبيّة فما من موجود مخلوق إلّا ووجوده نعمةٌ لنفسه ولكثير ممّن دونه لارتباط أجزاء الخلقة، وكلّ ما عنده من خير أو شرّ نعمة إمّا لنفسه ولغيره كالقوّة والثروة وغيرهما الّتي يستفيد منها الإنسان وغيره، وإمّا لغيره إذا كان نقمة بالنسبة إليه كالعاهات والآفات والبلايا يستضرّ بها شئ وينتفع أشياء وعلى هذا فالرحمة الإلهيّة واسعة كلّ شئ فعلاً لا شأنا، ولا يختصّ بمؤمن ولا كافر ولا ذي شعور ولا غيره ولا دنيا ولا آخرة، والمشيّة لازمة لها.

نعم تحقّق العذاب والنقمة في بعض الموارد - وهو معنى قياسيّ - يوجب أن يتحقّق هناك رحمة تقابلها وتقاس إليها فإنّ حرمان البعض من النعمة الّتي أنعم الله بها على بعض آخر إذا كان عذاباً كان ما يجده البعض الآخر رحمة تقابل هذا العذاب، وكذا نزول ما يتألّم به ويؤذي على بعض كالعقوبات الدنيويّة والاُخرويّة إذا كان عذاباً كان الأمن والسلامة الّتي يجدها البعض الآخر رحمة بالنسبة إليه وتقابله، وإن كانت الرحمة المطلقة بالمعنى الّذي تقدّم بينه يشملهما جميعاً.

فهناك رحمة إلهيّة عامّة يتنعّم بها المؤمن والكافر والبرّ والفاجر وذو الشعور وغير ذي الشعور فيوجدون بها ويرزقون بها في أوّل وجودهم ثمّ في مسيرة الوجود ماداموا سالكين سبيل البقاء، ورحمة إلهيّة خاصّة وهي العطيّة الهنيئة الّتي يجود بها الله سبحانه في مقابل الإيمان والعبوديّة، وتختصّ لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيّبة نورانيّة في الدنيا، وجنّة ورضوان في الآخرة ولا نصيب فيها للكافرين والمجرمين، ويقابل الرحمة الخاصّة عذاب وهو اللّاملائم الّذي يصيب الكافرين والمجرمين من جهة كفرهم وجرمهم في الدنيا كعذاب الاستئصال والمعيشة الضنك وفي الآخرة من النار وآلامها، ولا يقابل الرحمة العامّة شئ من العذاب إذ كلّ ما يصدق عليه اسم شئ فهو من مصاديق الرحمة العامّة لنفسه أو لغيره، وكونه رحمة هي المقصودة في الخلقة، وليس وراء الشئ شئ.

٢٨٨

إذا تحقّق هذا تبيّن أنّ قوله تعالى( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) بيان لخصوص العذاب وعموم الرحمة، وإنّما قابل بين العذاب والرحمة العامّة مع عدم تقابلهما لأنّ ذكر الرحمة العامّة توطئة وتمهيد لما سيذكره من صيرورتها رحمة خاصّة في حقّ المتّقين من المؤمنين.

وقد اتّضح بما تقدّم أنّ سعة الرحمة ليست سعة شأنيّة وأنّ قوله:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ليس مقيّداً بالمشيّة المقدّرة بل من لوازم سعة الرحمة الفعليّة كما تقدّم، وذلك لأنّ الظاهر من الآية أنّ المراد بالرحمة الرحمة العامّة وهي تسع كلّ شئ بالفعل وقد شاء الله ذلك فلزمتها فلا محلّ لتقدير( إن شئت ) خلافاً لظاهر كلام جمع من المفسّرين.

قوله تعالى: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) تفريع على قوله:( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي ) الآية أي لازم وجوب إصابة العذاب بعض الناس وسعة الرحمة لكلّ شئ أن اُوجب الرحمة على البعض الباقي، وهم الّذين يتّقون ويؤتون الزكاة الآية.

وقد ذكر سبحانه الّذين تنالهم الرحمة بأوصاف عامّة وهي التقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بآيات الله من غير أن يقيّدهم بما يخصّ قومه كقولنا : للّذين يتّقون منكم ونحو ذلك لأنّ ذلك مقتضى عموم البيان في قوله:( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ) الآية والبيان العامّ ينتج نتيجة عامّة.

وإذا قوبلت مسألة موسى بالآية كانت الآية بمنزلة المقيّدة لها فإنّهعليه‌السلام سأل الحسنة والرحمة لقومه ثمّ علّلها بقوله:( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) فكان معنى ذلك مسألة الرحمة لكلّ من هاد ورجع منهم بأن يكتب الله حسنة الدنيا والآخرة لمجرّد هودهم وعودهم إليه فكان فيما أجابه الله به أنّه سيكتب رحمته للّذين آمنوا واتّقوا فكأنّه قال: اكتب رحمتك لمن هاد إليك منّا، فأجابه الله أن سأكتب رحمتي لمن هاد واتّقى وآمن بآياتي فكان في ذلك تقييد لمسألته.

ولا ضير في ذلك فإنّه سبحانه هو الهادي لأنبيائه ورسله المعلّم لهم يعلّم كليمه أن يقيّد مسألته بالتقوى وهو الورع عن محارمه وبالإيمان بآياته وهو التسليم لأنبيائه و

٢٨٩

للأحكام النازلة إليهم، ولا يطلق الهود وهو الرجوع إلى الله بالإيمان به، فهذا تصرّف في دعاء موسى بتقييده كما تصرّف تعالى في دعاء إبراهيم بالتقييد في قوله:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة: ١٢٤، وبالتعميم والإطلاق في قوله فيما يحكي من دعائه لأهل مكّة:( وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) البقرة: ١٢٦، فقد تبيّن أوّلاً أنّ الآية تتضمّن استجابته تعالى لدعاء موسى:( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) بتقييد مّا له فمن العجيب ما ذكره بعضهم: أنّ الآية بسياقها تدلّ على أنّ الله سبحانه ردّ دعوة موسى ولم يستجبها، وكذا قول بعضهم: إنّ موسىعليه‌السلام دعا لقومه فاستجابه الله في حقّ أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بناءً على بيانيّة قوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ) الآية لقوله:( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية وسيجئ.

وثانياً: أنه تعالى استجاب ما اشتمل عليه الفصل الأوّل من دعائه فإنّه تعالى لم يردّه، وحاشا أن يحكى الله في كلامه دعاءً لاغياً غير مستجاب، وقوله:( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ ) الآية فإنه يحاذي ما سألهعليه‌السلام من الحسنة المستمرّة الباقية في الدنيا والآخرة لقومه، وأمّا طلب المغفرة لذنب دفعيّ صدر عنهم بقولهم:( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) فلا يحاذيه قوله:( فَسَأَكْتُبُهَا ) الآية بوجه، فسكوته تعالى عن ردّ دعوته دليل إجابتها كما في سائر الموارد الّتي تشابهه في القرآن.

ويلوّح إلى استجابة دعوته لهم بالمغفرة قوله في القصّة في موضع آخر:( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) البقرة: ٥٦، فمن البعيد المستبعد أن يحييهم الله بعد إهلاكهم ولم يغفر لهم ذنبهم الّذي أهلكوا به.

وعلى أيّ حال معنى الآية:( فَسَأَكْتُبُهَا ) أي سأكتب رحمتي وأقضيها واُوجبها استعيرت الكتابة للإيجاب لأنّ الكتابة أثبت وأحكم( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) ويجتنبون المعاصي وترك الواجبات( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) وهي الحقّ الماليّ أو مطلق الإنفاق في سبيل الله الّذي ينمو به المال، ويصلح به مفاسد الاجتماع، ويتمّ به نواقصه، وربّما قيل: إنّ المراد بها زكاة النفس وطهارتها، وإيتاء الزكاة إصلاح أخلاق النفس. وليس بشئ.

٢٩٠

( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) أي يسلّمون لما جاءتهم من عند الله من الآيات والعلامات سواء كانت آيات معجزة كمعجزات موسى وعيسى ومحمّد (صلى الله عليه وآله و عليهم )، أو أحكاماً سماويّة كشرائع موسى وأوامره وشرائع غيره من الأنبياء، أو الأنبياء أنفسهم أو علامات صدق الأنبياء كعلائم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي ذكرها الله تعالى لهم في كتاب موسى وعيسىعليهما‌السلام فكلّ ذلك آيات له تعالى يجب عليهم وعلى غيرهم أن يؤمنوا بها ويسلّموا لها ولا يكذّبوا بها.

وفي الآية التفات من سياق التكلّم مع الغير إلى الغيبة فإنّه قال أوّلاً:( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ) . ثمّ قال:( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ ) الآية وكأنّ النكتة فيه إظهار ما له سبحانه من العناية الخاصّة باستجابة دعاء الداعين من عباده فيقبل عليهم هو تعالى من غير أن يشاركه فيه غيره ولو بالتوسّط فإنّ التكلّم بلفظ المتكلّم مع الغير لإظهار العظمة لمكان أنّ العظماء يتكلّمون عنهم وعن أتباعهم فإذا اُريد إظهار عناية خاصّة بالمخاطب أو بالخطاب تكلّم بلفظ المتكلّم وحده.

وعلى هذا جرى كلامه تعالى فاختار سياق المتكلّم وحده المناسب لمعنى المناجاة والمسارّة فيما حكى من أدعية أنبيائه وأوليائه واستجابته لهم في كلامه كأدعية نوح وإبراهيم ودعاء موسى ليلة الطور، وأدعية سائر الصالحين واستجابته لهم، ولم يعدل عن سياق المتكلّم وحده إلّا لنكتة زائدة.

وأمّا قوله:( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) وما فيه من العدول من التكلّم وحده - السياق السابق - إلى التكلّم مع الغير فالظاهر أنّ النكتة فيه إيجاد الاتّصال بين هذه الآية والآية التالية الّتي هي نوع من البيان لهذه الجملة أعني قوله:( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) فإنّ الآية التالية - كما سيجئ - بمنزلة المعترضة من النتيجة المأخوذة في ضمن الكلام الجاري، وسياقها سياق خارج عن سياق هذه القطعة المتعرّضة للمشافهة والمناجاة بين موسى وبينه تعالى راجع إلى السياق الأصليّ السابق الّذي هو سياق المتكلّم مع الغير.

فبتبديل( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) إلى قوله:( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ )

٢٩١

يتّصل الآية التالية بسابقتها في السياق بنحو لطيف فافهم ذلك وتدبّر فيه فإنّه من عجب السياقات القرآنيّة.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ - إلى قوله -كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) . قال الراغب في المفردات: الإصر عقد الشئ وحبسه بقهره يقال: أصرته فهو مأصور، والمأصر والمأصر - بفتح الصاد وكسرها - محبس السفينة، قال تعالى: ويضع عنهم إصرهم أي الاُمور الّتي تثبّطهم وتقيّدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات وعلى ذلك: ولا تحمل علينا إصراً، وقيل : ثقلاً وتحقيقه ما ذكرت. (انتهى) والأغلال جمع غلّ وهو ما يقيّد به.

وقوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ) الآية بحسب ظاهر السياق بيان لقوله:( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) ويؤيّده ما هو ظاهر الآية أنّ كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً نبيّاً اُمّيّاً ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم كلّ ذلك من أمارات النبوّة الخاتميّة وآياتها المذكورة لهم في التوراة والإنجيل فمن الإيمان بآيات الله الّذي شرطه الله تعالى لهم في كلامه: أن يؤمنوا بالآيات المذكورة لهم أمارات لنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

غير أنّ من المسلّم الّذي لا مرية فيه أنّ الرحمة الّتي وعد الله كتابته لليهود بشرط التقوى والإيمان بآيات الله ليست بحيث تختصّ بالّذين آمنوا منهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحرم عنها صالحوا بني إسرائيل من لدن أجاب الله دعوة موسىعليه‌السلام إلى أن بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فآمن به شرذمة قليلة من اليهود فإنّ ذلك ممّا لا ينبغي توهّمه أصلا. فبين موسى وعيسىعليهما‌السلام ، وكذا بعد عيسىعليه‌السلام ممّن آمن به من بني إسرائيل جمّ غفير من المؤمنين الّذين آمنوا بالدعوة الإلهيّة فقبل الله منهم إيمانهم ووعدهم بالخير، والكلام الإلهيّ بذلك ناطق فكيف يمكن أن تقصر الرحمة الإلهيّة المبسوطة على بني إسرائيل في جماعة قليلة منهم آمنوا بالنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم ).

فقوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ) الآية وإن كان بياناً لقوله:( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) إلّا أنّه ليس بياناً مساوياً في السعة والضيق لمبيّنه بل بيان مستخرج

٢٩٢

من مبيّنه أنتزع منه، وخصّ بالذكر ليستفاد منه فيما هو الغرض من سوق الكلام، وهو بيان حقيقة الدعوة المحمّديّة، ولزوم إجابتهم لها وتلبيتهم لداعيها.

ولذلك في القرآن الكريم نظائر من حيث التضييق والتوسعة في البيان كما قال تعالى حاكياً عن إبليس:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) الآية ثمّ قال في موضع آخر حاكياً عنه:( لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ) النساء: ١١٩ فإنّ القول الثاني المحكيّ عن إبليس مستخرج من عموم قوله المحكيّ أوّلاً:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وقال تعالى في أوّل هذه السورة:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ - إلى أن قال -يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ) الآية وقد تقدّم أنّ ذلك من قبيل استخراج الخطاب من الخطاب لغرض التعميم إلى غير ذلك من النظائر.

فيؤول معنى بيانيّة قوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ) إلى استخراج بيان من بيان للتطبيق على مورد الحاجة كأنّه قيل : فإذا كان المكتوب من رحمة الله لبني إسرائيل قد كتب للّذين يتّقون ويؤتون الزكاة والّذين هم بآياتنا يؤمنون فمصداقه اليوم - يوم بعث محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - هم الّذين يتّبعونه من بني إسرائيل لأنّهم الّذين اتّقوا وآتوا الزكاة وهم الّذين آمنوا بآياتنا فإنّهم آمنوا بموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم آياتنا، وآمنوا بمعجزات هؤلاء الرسل وما نزّل عليهم من الشرائع والأحكام وهي آياتنا، وآمنوا بما ذكرنا لهم في التوراة والإنجيل من أمارات نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلامات ظهوره ودعوته، وهي آياتنا.

ثمّ قوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ) الآية أخذ فيه( يَتَّبِعُونَ ) موضع يؤمنون، وهو من أحسن التعبير لأنّ الإيمان بآيات الله سبحانه كأنبيائه وشرائعهم إنّما هو بالتسليم والطاعة فاختير لفظ الاتّباع للدلالة على أنّ الإيمان بمعنى الاعتقاد المجرّد لا يغني شيئاً فإنّ ترك التسليم والطاعة عملاً تكذيب بآيات الله وإن كان هناك اعتقاد بأنّه حقّ.

وذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الأوصاف الثلاث: الرّسول النبيّ الاُمّيّ، ولم يجتمع له في موضع من كلامه تعالى إلّا في هذه الآية والآية التالية، مع قوله تعالى بعده:( الَّذِي

٢٩٣

يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ) تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مذكوراً فيهما معرّفاً بهذه الأوصاف الثلاث.

ولولا أنّ الغرض من توصيفه بهذه الثلاث هو تعريفه بما كانوا يعرفونه به من النعوت المذكورة له في كتابيهم لما كانت لذكر الثلاث:( الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ) وخاصّة الصفة الثالثة نكتة ظاهرة.

وكذلك ظاهر الآية يدلّ أو يشعر بأنّ قوله: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى آخر الاُمور الخمسة الّتي وصفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها في الآية من علائمه المذكورة في الكتابين، وهي مع ذلك من مختصّات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملّته البيضاء فإنّ الاُمم الصالحة وإن كانوا يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكره تعالى من أهل الكتاب في قوله:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ - إلى أن قال -وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران: ١١٤.

وكذلك تحليل الطيّبات وتحريم الخبائث في الجملة من جملة الفطريّات الّتي أجمع عليها الأديان الإلهيّة، وقد قال تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢.

وكذلك وضع الإصر والأغلال وإن كان ممّا يوجد في الجملة في شريعة عيسىعليه‌السلام كما يدلّ عليه قوله فيما حكى الله عنه في القرآن الكريم:( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) آل عمران: ٥٠ ويشعر به قوله خطاباً لبني إسرائيل:( قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) الزخرف ٦٣.

إلّا أنّه لا يرتاب ذو ريب في أنّ الدين الّذي جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتاب من عند الله مصدّق لما بين يديه من الكتب السماويّة - وهو دين الإسلام - هو الدين الوحيد الّذي نفخ في جثمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّ ما يسعه من روح الحياة، وبلغ به من حدّ الدعوة الخالية إلى درجة الجهاد في سبيل الله بالأموال والنفوس، وهو الدين الوحيد الّذي أحصى جميع ما يتعلّق به حياة الإنسان من الشؤون والأعمال ثمّ قسّمها إلى طيّبات

٢٩٤

فأحلّها، وإلى خبائث فحرّمها، ولا يعادله في تفصيل القوانين المشرّعة أيّ شريعة دينيّة وقانون إجتماعيّ، وهو الدين الّذي نسخ جميع الأحكام الشاقّة الموضوعة على أهل الكتاب واليهود خاصّة، وما تكلّفها علماؤهم، وابتدعها أحبارهم ورهبانهم من الأحكام المبتدعة.

فقد اختصّ الإسلام بكمال هذه الاُمور الخمسة وإن كانت توجد في غيره نماذج من ذلك.

على أنّ كمال هذه الاُمور الخمسة في هذه الملّة البيضاء أصدق شاهد وأبين بيّنة على صدق الناهض بدعوتهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لم تكن تذكر أمارات له في الكتابين فإنّ شريعته كمال شريعة الكليم والمسيحعليه‌السلام وهل يطلب من شريعة حقّة إلّا عرفانها المعروف وإنكارها المنكر، وتحليلها الطيّبات، وتحريمها الخبائث، وإلغاؤها كلّ إصر وغلّ؟ وهي تفاصيل الحقّ الّذي يدعو إليه الشرائع الإلهيّة فليعترف أهل التوراة والإنجيل أنّ الشريعة الّتي تتضمّن كمال هذه الاُمور بتفاصيلها هي عين شريعتهم في مرحلة كاملة.

وبهذا البيان يظهر أنّ قوله تعالى:( يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ) الآية يفيد بمجموعة معنى تصديقه لما في كتابيهم من شرائع الله تعالى كأنّه قيل مصدّقاً لما بين يديه كما في قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) البقرة: ١٠١ وقوله:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) البقرة: ٨٩ يريد مجئ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكمال ما في كتابهم من الشريعة مصدّقاً له ثمّ كفرهم به وهم يعلمون أنّه المذكور في كتبهم المبشّر به بلسان أنبيائهم كما حكى سبحانه عن المسيح في قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الصف: ٦.

وسنبحث عن بشاراتهعليه‌السلام الواقعة في كتبهم المقدّسة بما تيسّر من البحث إن شاء الله العزيز.

٢٩٥

غير أنّه تعالى لم يقل: مصدّقاً لما بين يديه بدل قوله:( يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ) الآية لأنّ وجه الكلام إلى جميع الناس دون أهل الكتاب خاصّة، ولذا أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية التالية بقوله:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ولم يقيّد الكلام في قوله:( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ) الخ بما يختصّ به بأهل الكتاب.

قوله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ ) إلى آخر الآية. التعزير النصرة مع التعظيم، والمراد بالنور النازل معه القرآن الكريم ذكر بنعت النوريّة ليدلّ به على أنّه ينير طريق الحياة ويضئ الصراط الّذي يسلكه الإنسان إلى موقف السعادة والكمال، والكلام في هذا الشأن.

وفي قوله تعالى:( أُنزِلَ مَعَهُ ) ولم يقل: اُنزل عليه أو اُنزل إليه و( مَعَ ) تدلّ على المصاحبة والمقارنة تلويح إلى معنى الأمارة والشهادة الّتي ذكرناها كأنّه قيل: واتّبعوا النور الّذي اُنزل عليه وهو بما يحتوي عليه من كمال الشرائع السابقة، ويظهره بالإضاءة شاهد على صدقه، وأمارة أنّه هو الّذي وعد به أنبياؤهم، وذكر لهم في كتبهم فقوله:( مَعَهُ ) حال من نائب فاعل( أُنزِلَ ) . وقد وقع نظيره في قوله تعالى:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣.

وقد اختلف المفسّرون في توجيه هذه المعيّة ومعناها: فقيل : إنّ الظرف - معه - متعلّق باُنزل، والكلام على حذف مضاف إي مع نبوّته أو إرسالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه لم ينزل معه، وإنّما أنزل مع جبرئيل، وقيل: متعلّق ب( اتّبعوا ) والمعنى شاركوا النبيّعليه‌السلام في اتباعه، أو المعنى اتّبعوا القرآن مع اتباعهم له وقيل: حال عن فاعل اتّبعوا، والمعنى اتّبعوا القرآن مصاحبين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اتّباعه، وقيل:( مَعَ ) هنا بمعنى على، وقيل: بمعنى عند، ولا يخفى بعد الجميع.

وقوله:( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ ) الآية بمنزلة التفسير لقوله في صدر الآية:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ) وأنّ المراد باتّباعه حقيقة اتّباع كتاب الله المشتمل على شرائعه، وأنّ الّذي لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معنى الاتّباع هو الإيمان بنبوّته ورسالته

٢٩٦

من غير تكذيب به، واحترامه بالتسليم له ونصرته فيما عزم عليه من سيرته.

والكلام أعني قوله:( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ) الآية نتيجة متفرّعة على قوله في صدر الآية:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ) الآية بناءً على ما قدّمناه من أنّه بيان خاصّ مستخرج من قوله:( وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) الّذي هو بيان عامّ، والمعنى إذا كان اتّباع الرسول بهذه الأوصاف والنعوت هو من الإيمان بآياتنا الّذي شرطناه على بني إسرائيل في قبول دعوة موسى لهم ببسط الرحمة في الدنيا والآخرة وفيه الفلاح بكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة فالّذين آمنوا به - إلى آخر ما شرط الله - اُولئك هم المفلحون.

قوله تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا - إلى قوله -وَيُمِيتُ ) لمّا لاح من الأوصاف الّتي وصف بها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ عنده كمال الدين الّذي به حياة الناس الطيّبة في أيّ مكان فرضوا وفي أيّ زمان قدّر وجودهم، ولا حاجة للناس في طيّب حياتهم إلى أزيد من أن يؤمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، وتحلّل لهم الطيّبات، وتحرّم عليهم الخبائث، ويوضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي عليهم أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلن بنبوّته الناس جميعاً من غير أن تختصّ بقوم دون قوم فقال:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) .

وقوله:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) صفات وصف الله بها، وهي بمجموعها بمنزلة تعليل يبيّن بها إمكان الرسالة من الله في نفسها أوّلاً وإمكان عمومها لجميع الناس ثانياً فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم وخاصّة من الاُميّين وهم شعب الله ومن مزاعمهم أنّه ليس عليهم في الاُميّين سبيل، وهم خاصّة الله وأبناؤه وأحبّاؤه، وبه يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبيّة القوميّة أن يرسل إليهم رسول عربيّ.

وذلك أنّ الله الّذي اتّخذه رسولا هو الّذي له ملك السماوات والأرض والسلطنة العامّة عليها، ولا إله غيره حتّى يملك شيئاً منها فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه أو تعوّق إرادته إرادة غيره فله أن يتّخذ رسولاً إلى عباده وأن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء.

٢٩٧

وهو الّذي له الإحياء والإماتة فله أن يحيي قوماً أو الناس جميعاً بحياة طيّبة سعيدة والسعادة والهدى من الحياة كما أنّ الشقاوة والضلالة موت قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال: ٢٤، وقال:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢، وقال:( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ) الأنعام: ٣٦.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ) إلى آخر الآية تفريع على ما تقدّم أي إذا كان الحال هذا الحال فآمنوا بي فإنّي ذاك الرسول النبيّ الاُمّيّ الّذي بشّر به في التوراة والإنجيل، وأنا أو من بالله ولا أكفر به وأو من بكلماته وهي ما قضى به من الشرائع النازلة عليّ وعلى الأنبياء السالفين، واتّبعوني لعلّكم تفلحون.

هذا ما يقتضيه السياق، ومنه يعلم وجه الالتفات من التكلّم إلى الغيبة في قوله( وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي ) الآية فإنّ الظاهر من السياق أنّ هذه الآية ذيل الآية السابقة، وهما جميعاً من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ووجه الالتفات - كما ظهر ممّا تقدّم - أن يدلّ بالاوصاف الموضوعة مكان ضمير المتكلّم على تعليل الأمر في قوله:( فَآمِنُوا ) وقوله:( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .

والمراد بالإهتداء الإهتداء إلى السعادة الآخرة الّتي هي رضوان الله والجنّة لا الإهتداء إلى سبيل الحقّ فإنّ الإيمان بالله ورسوله واتّباع رسوله بنفسه اهتداء، فيرجع معنى قوله:( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) إلى معنى قوله في الآية السابقة في نتيجة الإيمان والاتّباع:( أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) وهذا من نصفة القرآن مدح من يستحقّ المدح، وحمد صالح أعمالهم بعد ما قرّعهم بما صدر عنهم من السيّئات فالمراد أنّهم ليسوا جميعاً على ما وصفنا من مخالفة الله ورسوله، والتزام الضلال والظلم بل منهم اُمّة يهدون الناس بالحقّ وبالحقّ يعدلون فيما بينهم فالباء في قوله:( بِالْحَقِّ ) للآلة وتحتمل الملابسة.

وعلى هذا فالآية من الموارد الّتي نسبت الهداية فيها إلى غيره تعالى وغير الأنبياء

٢٩٨

والأئمّة كما في قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون ولم يكن بنبيّ ظاهراً:( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) المؤمن: ٣٨.

ولا يبعد أن يكون المراد بهذه الأمّة من قوم موسىعليه‌السلام الأنبياء والأئمّة الّذين نشؤوا فيهم بعد موسى وقد وصفهم الله في كلامه بالهداية كقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) الم السجدة: ٢٤ وغيره من الآيات وذلك أنّ الآية أعني قوله:( أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) لو حملت على حقيقة معناها من الهداية بالحقّ والعدل بالحقّ لم يتيسّر لغير النبيّ والإمام أن يتلبّس بذلك وقد تقدّم كلام في الهداية في تفسير قوله تعالى:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) البقرة: ١٢٤ وقوله:( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ ) الأنعام: ١٢٥. وغيرهما من الآيات.

قوله تعالى: ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) إلى آخر الآية. السبط بحسب اللغة ولد الولد أو ولد البنت. والجمع أسباط، وهو في بني إسرائيل بمعنى قوم خاصّ، فالسبط عندهم بالمنزلة القبيلة عند العرب. وقد نقل عن ابن الحاجب أنّ أسباطاً في الآية بدل من العدد لا تمييز وإلّا لكانوا ستّة وثلاثين سبطاً على إرادة أقلّ الجمع من( أَسْبَاطًا ) وتمييز العدد محذوف للدلالة عليه بقوله:( أَسْبَاطًا ) والتقدير وقطّعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطاً هذا. وربّما قيل: إنّه تمييز لكونه بمعنى المفرد والمعنى اثنتي عشرة جماعة مثلا.

وقوله:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ ) الآية الانبجاس هو الانفجار وقيل : الانبجاس خروج الماء بقلّة، والانفجار خروجه بكثرة، وظاهر من قوله:( فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ) أنّ العيون كانت بعدد الاسباط وأنّ كلّ سبط اختصّوا بعين من العيون، وأنّ ذلك كانت عن مشاجرة بينهم ومنافسة، وهو يؤيّد ما في الروايات من قصّتها. وباقي الآية ظاهر.

وقد عدّ الله سبحانه في هذه الآيات من معجزات موسىعليه‌السلام وآياته: الثعبان و اليد البيضاء، وسني آل فرعون ونقص ثمراتهم، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع،

٢٩٩

والدم، وفلق البحر، وإهلاك السبعين، وإحياءهم، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، والتظليل بالغمام، وأنزل المنّ والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنّه ظلّة. ويمكنك أن تضيف إليها التكليم ونزول التوراة، ومسخ بعضهم قردة خاسئين. وسيجئ تفصيل البحث في قصّتهعليه‌السلام في تفسير سورة هود إن شاء الله.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن سالم بيّاع القصب عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: إنّ عبد الله بن عجلان قال في مرضه الّذي مات فيه: أنّه لا يموت فمات. فقال: لا غفر الله شيئاً من ذنوبه أين ذهب إنّ موسى اختار سبعين رجلاً من قومه فلمّا أخذتهم الرجفة قال ربّ: أصحابي أصحابي. قال: إنّي اُبدّلك بهم من هو خير لكم منهم فقال: إنّي عرفتهم ووجدت ريحهم. قال: فبعث الله له أنبياء.

أقول: المراد أنّ الله بدّل له بعبد الله بن عجلان أصحاباً هم خير منه كما فعل بموسى، والخبر غريب في بابه ولا يوافق ظاهر الكتاب.

وفي البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن سعد بن عبدالله القمّيّ في حديث طويل عن القائمعليه‌السلام قال: قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلّة الّتي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: فهل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحدهم ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى. قال: هي العلّة الّتي اُوردها لك برهاناً:

أخبرني عن الرسل الّذين اصطفاهم الله، وأنزل عليهم الكتاب وأيدهم بالعصمة إذهم أعلام الاُمم(١) وأهدى للاختيار منهم مثل موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنّه مؤمن؟ قلت: لا. فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه، ونزول الوحي عليه

____________________

(١) كذا في النسختين المطبوعتين من البرهان ولعلّه تصحيف: إذ هم أعلم الاُمم.

٣٠٠