الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86285
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86285 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اختار من أعيان قومه، ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلا ممّن لا يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال الله عزّوجلّ:( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا - إلى قوله -لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى - الي ان قال -اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) .

فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه للنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ أنّه الأصلح دون الأفسد علمنا أنّ الاختيار ليس إلّا لمن يعلم بما تخفي الصدور، وتكنّ الضمائر وتنصرف عليه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لمّا أرادوا أهل الصلاح.

اقول: الآية فيها منقولة بالمعنى بمعنى أنّها ملفّقة من آيات القصّة في سورتي الأعراف والنساء.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن نوف الحميريّ قال: لمّا اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقات ربّه قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة من ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير.

فقال موسى: إنّ الله قد جعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً. قالوا: لا نريد أن نصلّي إلّا في الكنائس. قال: ويجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلّا كما كانت في التابوت. قال: ويجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلّا نظراً. قال الله: فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزكاة - إلى قوله - المفلحون.

قال موسى: أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم اجعلني من هذه الأمّة. قال: إنّ نبيّهم منهم. قال: اجعلني من هذه الأمّة قال: إنّك لن تدركهم. قال: ربّ أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم. قال: فأوحى إليه( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال: فرضي موسى. قال نوف: أ لا تحمدون ربّاً شهد غيبتكم، وأخذ لكم بسمعكم وجعل وفادة غيركم لكم.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن نوف البكالي: أنّ موسى لمّا اختار من

٣٠١

قومه سبعين رجلاً قال لهم: فدوا إلى الله وسلوه فكانت لموسى مسألة ولهم مسألة فلمّا انتهى إلى الطور المكان الّذي وعده الله به قال لهم موسى: سلوا الله. قالوا: أرنا الله جهرة. قال: ويحكم تسألون الله هذا مرّتين؟ قالوا: هي مسألتنا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة فصعقوا. فقال موسى، أي ربّ جئتك بسبعين من خيار بني إسرائيل فأرجع إليهم وليس معي منهم أحد فكيف أصنع ببني إسرائيل؟ أليس يقتلوني؟ فقيل له: سل مسألتك. قال: أي ربّ إنّي أسألك أن تبعثهم، فبعثهم الله، فذهبت مسألتهم ومسألته، وجعلت تلك الدعوة لهذه الاُمّة.

أقول: وإنّما أوردنا الروايتين لكونهما بما فيهما من القصّة شبيهتين بالموقوفات لكنّهما مع الاختلاف لا ينطبقان على شئ ممّا فيهما من أطراف القصّة ونزول الآيات، على ظاهر شئ من الآيات فمسألتهم إنّما هي الرؤية وقد ردّت إليهم. ومسألة موسىعليه‌السلام إنّما بعثهم، وقد اُجيبت فبعثوا، وكتابة الرحمة على بني إسرائيل، وقد اُجيبت بشرط التقوى والإيمان بآيات الله، ولم يجعل شئ من وفادتهم لغيرهم، والخطاب بقوله:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون موسى على ما يعطيه السياق.

ونظير الروايتين في عدم الانطباق على الآية ما روي عن ابن عبّاس في قوله:( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) قال: فلم يعطها موسى قال:( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ - إلى قوله -الْمُفْلِحُونَ ) والمراد أنّه لم يعطها بل اُعطيتها هذه الاُمّة وقد مرّ أنّ ظهور الآية في غير ذلك.

ونظير ذلك ما روي عن السدّيّ في قوله تعالى:( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) الآية قال: قال موسى: يا ربّ إنّ هذا السامريّ أمرهم أن يتّخذوا العجل أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الربّ: أنا، قال: فأنت إذاً أضللتهم، وروي العيّاشيّ في تفسيره مثله عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهم‌السلام مرسلاً، وفيه قال موسى: يا ربّ ومن أخار العجل؟ قال: أنا. قال موسى عنده: إن هي إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء.

وذلك أنّ الآية أعني قوله:( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) من كلامهعليه‌السلام في قصّة هلاك

٣٠٢

السبعين، وأين هي من قصّة العجل؟ إلّا أن يتكرّر منه ذلك.

وفي الدّر المنثور أخرج أحمد وأبوداود عن جندب بن عبدالله البجليّ قال جاء أعربيّ فأناخ راحلته ثمّ عقلها ثمّ صلّى خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نادى: اللّهمّ ارحمني ومحمّداً ولا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد حظرت رحمة واسعة إنّ الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها، وعنده تسعة وتسعون.

وفيه أخرج أحمد ومسلم عن سلمان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان موقوفاً وابن مردويه عن سلمان قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض كلّ رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فأهبط منها رحمة إلى الأرض فبها تراحم الخلائق، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء، وبها تعيش الخلائق فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثمّ أفاضها على المتّقين، وزاد تسعة وتسعين رحمة ثمّ قرء:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

أقول: وهذا المعنى مروي أيضاً من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، والرواية الثانية كأنّها نقل بالمعنى للرواية الاُولى، وقد أفسد الراوي المعنى بقوله:( فإذا كان يوم القيامة أنتزعها من خلقه) وليت شعري إذا سلب الرحمة عن غير المتّقين من خلقه فبماذا يبقى ويعيش السماوات والأرض والجنّة والنار ومن فيها والملائكة وغيرهم ولا رحمة تشملهم.

والأحسن في التعبير ما ورد في بعض رواياتنا - على ما أذكر - أنّ الله يومئذ يجمع المائة للمؤمنين، وجمع المائة لهم واستعمالها فيهم غير انتزاعها عن غيرهم وتخصيصها بهم فالأوّل جائز معقول دون الثاني فافهم ذلك.

وفيه أخرج الطبرانيّ عن حذيفة بن اليمان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث: والّذي نفسي بيده ليغفرنّ الله يوم القيامة مغفرة يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه.

٣٠٣

أقول: ومن طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ما في معناه.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن أبي بكر الهذليّ قال: لمّا نزلت( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) قال إبليس: يا ربّ وأنا من الشئ فنزلت فسأكتبها( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية فنزعها الله من إبليس.

أقول: والظاهر أنّه فرض وتقدير من أبي بكر، ولا ريب في تنعّم إبليس بالرحمة العامّة الّتي يشتمل عليها صدر الآية وحرمانه من الرحمة الخاصّة الاُخرويّة الّتي يتضمّنها ذيلها.

في تفسير البرهان عن نهج البيان روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ فقالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربّهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: الأنبياء. فقال: الأنبياء يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: نحن. فقال: أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون؟ إنّما هم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتاباً في ورق فيؤمنون به، وهذا معنى قوله:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

أقول: والخبر لا بأس به، وهو من الجري والانطباق، وفي بعض الروايات أنّ النور هو عليعليه‌السلام وهو أيضاً من قبيل الجري أو الباطن.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة، وتفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة. فأمّا اليهود فإنّ الله يقول:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) وأمّا النصارى فإنّ الله يقول:( مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ) فهذه الّتي تنجو، وأمّا نحن فيقول:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) فهذه الّتي تنجو من هذه الاُمّة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي الصهبان البكريّ قال: سمعت عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام دعا رأس الجالوت واُسقف النصارى فقال: إنّي سائلكما عن أمروأنا أعلم به منكما ولا تكتماني.

٣٠٤

يا رأس الجالوت بالّذي أنزل التوراة على موسى، وأطعمهم المنّ والسلوى، وضرب لهم في البحر طريقاً يبساً، وفجّر لهم من الحجر الطوريّ اثنتي عشرة عيناً لكلّ سبط من بني إسرائيل عيناً إلّا ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال: فرقة واحدة، فقال: كذبت والّذي لا إله إلّا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة فإنّ الله يقول:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) فهذه الّتي تنجو.

وفي المجمع أنّهم قوم من وراء الصين وبينهم وبين الصين واد من الرمل لم يغيّروا ولم يبدّلوا. قال: وهو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

أقول: الرواية ضعيفة غير مسلّمة ولا خبر عن هذه الاُمّة اليهوديّة الهادية العادلة اليوم، ولو كانوا اليوم لم يكونوا هادين ولا مهتدين لنسخ شريعة موسى بشريعة عيسىعليه‌السلام أوّلاً ثمّ نسخ شريعتهما جميعاً بشريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً ولذا اضطرّ بعض من أورد هذه القصّة الخرافيّة فأضاف إليها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل إليهم ليلة المعراج ودعاهم فآمنوا به وعلّمهم الصلاة.

وقد اختلقوا لهم قصصاً عجيبة مختلفة، فعن مقاتل: أنّ ممّا فضّل الله به محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه عاين ليلة المعراج قوم موسى الّذين من وراء الصين، وذلك أنّ بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي وقتلوا الّذين يأمرون بالقسط من الناس دعوا ربّهم وهم بالأرض المقدّسة فقالوا: اللّهمّ أخرجنا من بين أظهرهم. فاستجاب لهم فجعل لهم سراباً في الأرض فدخلوا فيه، وجعل معهم نهراً يجري، وجعل لهم مصباحاً من نور بين أيديهم فساروا فيه سنة ونصفاً، وذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الّذي هم فيه فأخرجهم الله إلى أرض يجتمع فيها الهوامّ والبهائم والسباع مختلطين بها ليست فيها ذنوب ولا معاص، فأتاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك اللّيلة ومعه جبرئيل فآمنوا به وصدّقوه وعلّمهم الصلاة : وقالوا: إنّ موسى قد بشّرهم به.

وعن الشعبيّ قال: إنّ لله عباداً من وراء الاُندلس كما بيننا وبين الاُندلس لا يرون أنّ الله عصاه مخلوق رضراضهم الدرّ والياقوت، وجبالهم الذهب والفضّة لا يزرعون ولا

٣٠٥

يحصدون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها أوراق عراض هي لبوسهم، ولهم شجر على أبوابهم لها ثمر فمنها يأكلون.

إلى غير ذلك ممّا ورد في قصّتهم، وهي جميعاً مجعولة، وقد عرفت معنى الآية في البيان المتقدّم.

٣٠٦

( سورة الأعراف آية ١٦١ - ١٧١)

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ  سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( ١٦١ ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ( ١٦٢ ) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ  لَا تَأْتِيهِمْ  كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ١٦٣ ) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا  اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا  قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ١٦٤ ) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ١٦٥ ) فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( ١٦٦ ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ  إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ  وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٦٧ ) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا  مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ  وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ١٦٨ ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ  أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ  وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٦٩ ) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( ١٧٠ ) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٧١ )

٣٠٧

( بيان)

في الآيات بيان قصص اُخرى من قصص بني إسرائيل فسقوا فيها عن أمر الله، ونقضوا ميثاقه فأخذهم الله بعقوبة أعمالهم وسلّط عليهم من الظالمين من يسومهم سوء العذاب فهؤلاء أسلافهم وقد خلف من بعدهم أخلاف يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ويساهلون في أمر الدين، وهذا حالهم إلّا قليل منهم لا يعدون الحقّ.

قوله تعالى: ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ) إلى آخر الآيتين، القرية هي الّتي كانت في الأرض المقدّسة اُمروا بدخولها وقتال أهلها من العمالقة وإخراجهم منها فتمرّدوا عن الأمر، وردّوا على موسىعليه‌السلام فابتلوا بالتيه، والقصّة مذكورة في سورة المائدة آية ٢٠ - ٢٦.

وقوله:( وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) الآية تقدّم الكلام في نظيره من سورة البقرة آية ٥٨ - ٥٩، وقوله:( سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) في موضع الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قال:( نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ) قيل: ثمّ ماذا فقال:( سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) إلى آخر الآية. أي اسأل بني إسرائيل عن حال أهل القرية( الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ) أي قريبة منه مشرفة عليه من حضر الأمر إذا أشرف عليه وشهده( إِذْ يَعْدُونَ ) ويتجاوزون حدود ما أمر الله به في أمر( السَّبْتِ ) وتعظيمه وترك الصيد فيه( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ ) والسمك الّذي في ناحيتهم( يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ) جمع شارع وهو الظاهر البيّن( وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ ) أي إنّ تجاوزهم عن حدود ما أمر به الله كان إذ كانت الحيتان تأتيهم شرّعاً يوم منعوا من الصيد واُمروا بالسبت، وأمّا إذا مضى اليوم واُبيح لهم الصيد وذلك غير يوم السبت فكان لا تأتيهم الحيتان وكان ذلك من بلاء الله وامتحانه ابتلاهم بذلك لشيوع الفسق بينهم فبعثهم الحرص على صيدها على مخالفة أمر الله سبحانه، ولم يمنعهم تقوى عن التعدّي، ولذلك قال:( كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم ) أي نمتحنهم( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) .

٣٠٨

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) إلى آخر الآية، إنّما قالت هذه الاُمّة ما قالت، لاُمّة اُخرى منهم كانت تعظهم وتنهاهم عن مخالفة أمر الله في السبت.

فالتقدير:( وإذ قالت اُمّة منهم لاُمّة اُخرى كانت تعظهم) حذف للإيجاز وظاهر كلامهم:( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) أنّهم كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلّا أنّهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم وعاشروهم ولوكان هؤلاء اللّائمون من المتعدّين الفاسقين لوعظهم اُولئك الملومون، ولم يجيبوهم بمثل قولهم: معذرة إلى ربّكم الخ، وأنّ المتعدّين طغوا في تعدّيهم وتجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهراً غير أنّ الاُمّة الّتي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم، وكانوا يرجون منهم الانتهاء لو استمرّوا في عظتهم، ولا أقلّ من انتهاء بعضهم ولو بعض الانتهاء، وليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنّهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرّد.

ولذلك أجابوا عن قولهم:( لِمَ تَعِظُونَ ) الخ، بقولهم:( مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي إنّما نعظهم ليكون ذلك عذراً إلى ربّكم، ولأنّا نرجو منهم أن يتّقوا هذا العمل.

وفي قولهم:( إلى ربّكم ) حيث أضافوا الربّ إلى اللّائمين ولم يقولوا إلى ربّنا إشارة إلى أنّ التكليف بالعظة ليس مختصّاً بنا بل أنتم أيضاً مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأنّ ربّكم لمكان ربوبيّته يجب أن يعتذر إليه، ويبذل الجهد في فراغ الذمّة من تكاليفه والوظائف الّتي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكليف ما هو علينا.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) المراد بنسيانهم ما ذكّروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم وإن كانوا ذاكرين لنفس التذكّر حقيقة فإنّما الأخذ الإلهيّ مسبّب عن الاستهانة بأمره والإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعليّه التكليف وحلول العقوبة.

٣٠٩

فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكّره بتكاليف هامّة إلهيّة ثمّ إن استقام وثبت، وإن ترك الاستقامة ولم يزجره زاجر باطنيّ ولا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنّه في بادئ أمره يتألّم تألّماً باطنيّاً ويتحرّج تحرجاً قلبيّاً من ذلك ثمّ إذا عاد إليها ثانياً من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكّناً، وضعف أثر التذكير وهان أمره، وكلّما عاد إليها وتكرّرت منه المخالفة زادت تلك قوّة وهذه ضعفاً حتّى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، وهو المراد بقوله:( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا ) أي زال أثره كأنّه منسيّ زائل، الصورة عن النفس.

وفي الآية دلالة على أنّ الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، وقد أخذ الله الباقين، وهم الّذين يعدون في السبت والّذين قالوا:( لِمَ تَعِظُونَ ) الخ.

وفيه دلالة على أنّ اللّائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم.

وفي الآية دلالة على سنّة إلهيّة عامّة وهي أنّ عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، وعظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، وأنّ الأخذ الإلهيّ الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) العتوّ المبالغة في المعصية والقردة جمع القرد وهو الحيوان المعروف، والخاسئ الطريد البعيد من خسأ الكلب إذا بعد.

وقوله:( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ ) أي عن ترك ما نهوا عنه فإنّ العتوّ إنّما يكون عن ترك المنهيّات لا عن نفسها، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) إلى آخر الآية تأذّن وأذن بمعنى أعلم، واللّام في قوله:( لَيَبْعَثَنَّ ) للقسم، والمعنى: واذكر إذ أعلم ربّك أنّه قد أقسم ليبعثنّ على هؤلاء الظالمين بعثاً يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويولّيهم سوء العذاب.

٣١٠

وقوله:( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ) معناه أنّ من عقابه ما يسرع إلى الناس كعقاب الطاغي لطغيانه، قال تعالى:( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ - إلى أن قال -إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر: ١٤ والدليل على ما فسّرنا به قوله بعده:( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) فإنّ الظاهر أنّه لم يؤت به إلّا للدلالة على أنّه تعالى ليس بسريع العقاب دائماً وإلّا فمضمون الآية ليس ممّا يناسب التذييل باسمي الغفور والرحيم لتمحّضه في معنى المؤاخذة والانتقام فمعنى قوله:( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أنّه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده لكنّه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتوّ ونحو ذلك فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه ولا عائق يعوقه.

ولعلّ هذا هو معنى قول بعضهم: إنّ معنى قوله( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ) سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا، وإن كان الأنسب أن يقال: إنّ ذلك معنى قوله:( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، ويرتفع به ما يمكن أن يتوهّم أنّ كونه تعالى سريع العقاب ينافي كونه حليماً لا يسرع إلى المؤاخذة.

قوله تعالى: ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ ) إلى آخر الآية. قال: في المجمع: دون في موضع الرفع بالابتداء، ولكنّه جاء منصوباً لتمكّنه في الظرفيّة، ومثله على قول أبي الحسن( لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) هو في موضع الرفع فجاء منصوباً لهذا المعنى، وكذلك في قوله:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ) بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، وإن شئت كان التقدير: ومنهم جماعة دون ذلك فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه. انتهى.

والمراد بالحسنات والسيّئات نعماء الدنيا وضرّاءها والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ ) إلى آخر الآية، العرض ما لا ثبات له، ومنه قوله تعالى:( عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) النساء: ٩٤ أي ما لا ثبات له من شؤونها، والمراد بعرض هذا الأدنى عرض هذه الحياة الدنيا والدار العاجلة غير أنّه اُشير إليها بلفظ التذكير لأخذها شيئاً ليس له من الخصوصيّات إلّا أن يشار إليه تجاهلاً بخصوصيّاتها تحقيراً لشأنها كأنّها لا يخصّ بنعت من النعوت يرغب فيها، وقد تقدّم

٣١١

نظيره في قول إبراهيمعليه‌السلام على ما حكاه الله :( هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ) الأنعام: ٧٨ يريد الشمس.

وقوله:( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) قول جزافيّ لهم قالوه، ولا معوّل لهم فيه إلّا الاغترار بشعبهم الّذي سمّوه شعب الله كما سمّوا أنفسهم أبناء الله وأحبّاءه، ولم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة لأنّ ذلك قيد لا يدلّ عليه الكلام، ولا أنّهم قالوا ذلك رجاءً للمغفرة الإلهيّة فإنّ للرجاء آثاراً لا تلائم هذه المشيّة إذ رجاء الخير لا ينفكّ عن خوف الشرّ الّذي يقابله وكما أنّ الرجاء يستدعي شيئاً من ثبات النفس وطيّبها كذلك الخوف يوجب قلق النفس واضطرابها ومساءتها فآية الرجاء الصادق توسّط النفس بين سكون واضطراب، وجذب ودفع، ومسرّة ومساءة، وأمّا من توغّل في شهوات نفسه وانغمر في لذائذ الدنيا من غير أن يتذكّر بعقوبة ما يجنيه ويقترفه ثمّ إذا ردعه رادع من نفسه أو غيره بما أوعد الله الظالمين، وذكّره شيئاً من سوء عاقبة المجرمين قال: إنّ الله غفور رحيم يتخلّص به من اللوم، ويخلص به إلى صافي لذائذه الدنيّة فليس ما يتظاهر به رجاءً صادقاً بل اُمنيّة نفسانيّة كاذبة، وتسويل شيطانيّ موبق فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً.

وقوله:( وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) أي لم يقنعوا بما أخذوه من العرض بمرّة حتّى يكون تركهم ذلك ورجوعهم إلى إتّقاء محرّم الله نحواً من التوبة، وقولهم:( سَيُغْفَرُ لَنَا ) نوعاً من الرجاء يتلبّس به التائبون بل كلّما وجدوا شيئاً من عرض الدنيا أخذوه من غير أن يراقبوا الله تعالى فيه فالجملة أعني قوله:( وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) في معنى قوله تعالى في وصفهم في موضع آخر:( كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ) المائدة: ٧٩.

وقوله:( وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ) كأنّ الواو للحال، والجملة حال عن ضمير( عَلَيْهِم ) وقيل الجملة معطوفة على قوله:( وَرِثُوا الْكِتَابَ ) في صدر الآية، ولا يخلو من بعد.

والمعنى:( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ ) أي من بعد هؤلاء الأسلاف من بني إسرائيل وحالهم في تقوى الله واجتناب محارمه ما وصف( خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ ) وتحمّلوا ما فيه من المعارف والأحكام والمواعظ والعبر، وكان لازمه أن يتّقوا ويختاروا الدار الآخرة، ويتركوا أعراض

٣١٢

الدنيا الفانية الصارفة عمّا عند الله من الثواب الدائم( يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَىٰ ) وينكبّون على اللذائذ الفانية العاجلة، ولا يبالون بالمعصية وإن كثرت( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) قولاً بغير الحقّ ولا يرجعون عن المعصية بالمرّة والمرّتين بل هم على قصد العود إليها كلّما أمكن( وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) ولا يتناهون عمّا اقترفوه من المعصية.

( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ ) وهو الميثاق المأخوذ عليهم عند حملهم إيّاه( أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ) والحال أنّهم( دَرَسُوا مَا فِيهِ ) ، وعلموا بذلك أنّ قولهم:( سَيُغْفَرُ لَنَا ) قول بغير الحقّ ليس لهم أن يتفوّهوا به، وهو يجرّئهم على معاصي الله وهدم أركان دينه.

( وَ ) الحال أنّ( الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) لدوام ثوابها وأمنها من كلّ مكروه( أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) قال في المجمع: أمسك ومسّك وتمسّك واستمسك بالشئ بمعنى واحد أي اعتصم به. انتهى.

وتخصيص إقامة الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها وكونها ركناً من الدين يحفظ بها ذكر الله والخضوع إلى مقامه الّذي هو بمنزله الروح الحيّة في هيكل الشرائع الدينيّة.

والآية تعدّ التمسّك بالكتاب إصلاحاً والإصلاح يقابل الإفساد وهو الإفساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشريّ فيها، ولا تفسد الأرض ولا المجتمع البشريّ إلّا بإفساد طريقة الفطرة الّتي فطر الله الناس عليها، والدين الّذي يشتمل عليه الكتاب الإلهيّ النازل في عصر من الأعصار هو المتضمّن لطرق الفطرة بحسب ما يستدعيه استعداد أهله فإنّ الله سبحانه يذكر في كلامه أنّ الدين القيّم الّذي يقوم بحوائج الحياة هي الفطرة الّتي فطر الناس عليها، والخلقة الّتي لا حقيقة لهم وراءها قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم: ٣٠ ثمّ قال:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران: ١٩ والإسلام هو التسليم لله سبحانه في سنّته الجارية في تكوينه المبتنية عليها تشريعه.

٣١٣

فالآيتان - كما ترى - تناديان بأنّ دين الله سبحانه هو تطبيق الإنسان حياته على ما تقتضيه فيه قوانين التكوين ونواميسه حتّى يقف بذلك موقفاً تتحرًاه نفسية النوع الإنسانيّ ثمّ يسير في مسيرها أي يعود بذلك إنساناً نسمّيه إنساناً طبيعيّاً ويتربّى تربية يستدعيها ذاته بحسب ما ركّب عليه تركيبه الطبيعيّ.

فما تقتضيه نفسيّة الإنسان الطبيعيّة من الخضوع إلى المبدأ الغيبيّ الّذي يقوم بإيجاده وإبقائه وإسعاده، وتوفيق شؤون حياته مع القوانين الحاكمة في الكون حكومة حقيقيّة هو الدّين المسمّى بالإسلام الّذي يدعوا إليه القرآن وسائر كتب الله السماويّة المنزلة على أنبيائه ورسله.

فإصلاح شؤون الحياة الإنسانيّة وتخليصها من كلّ دخيل خرافيّ، ووضع الإصر والأغلال الّتي اختلقتها الأوهام والأهواء ثمّ وضعتها على الناس، جزء معنى الدين المسمّى بالإسلام لا أثر من آثاره وحكم من أحكامه حتّى تختلف فيه الآراء فيسلّمه مسلّم، ويردّه، رادّ، ويبحث فيه باحث منصف فيتبع ما أدّى إليه جهد نظره.

وبعبارة اُخرى: الّذي يدعى إليه الناس بمنطق الدين الإلهيّ هو الشرائع والسنن القائمة بمصالح العباد في حياتهم الدنيويّة والاُخرويّة لا أنّه يضع مجموعة من معارف وشرائع ثمّ يدّعي أنّ المصالح الإنسانيّة تطابقه وهو يطابقها فافهم ذلك.

وإيّاك أن تتوهّم أنّ الدين الإلهيّ مجموع اُمور من معارف وشرائع جافّة تقليديّة لا روح لها إلّا روح المجازفة بالاستبداد، ولا لسان لها إلّا لسان التأمّر الجافّ والتحكّم الجافي وقد قضى شارعها بوجوب اتّباعها والانقياد لها تجاه ما هيّأ لهم بعد الموت من نعيم مخلّد للمطيعين منهم، والعذاب المؤبّد للعاصين، ولا رابط لها يربطها بالنواميس التكوينيّة المماسّة للإنسان الحاكمة في حياته القائمة بشؤونها القيّمة بإصلاحها فتعود الأعمال الدينيّة أغلالاً غلت بها أيدي الناس في دنياهم، وأمّا الآخرة فقد ضمنت إصلاحها إرادة مولويّة إلهيّة فحسب، وليس للمنتحل بالدين في دنياه من سعادة الحياة إلّا ما استلذّها بالعادة كمن اعتاد بالأفيون والسمّ حتّى عاد يلتذّ بما يتألّم به المزاج الطبيعيّ السالم، ويتألّم بما يلتذّ به غيره.

٣١٤

فهذا من الجهل بالمعارف الدينيّة، والفرية على ساحة شارعة الطاهرة يدفعه الكلام الإلهيّ فكم من آية تتبرّأ من ذلك بتصريح أو تلويح أو بإشارة أو كناية وغير ذلك.

وبالجملة الكتاب الإلهيّ يتضمّن مصالح العباد، وفيه ما يصلح المجتمع الإنسانيّ بإجرائه فيه بل الكتاب الإلهيّ هو الكتاب الّذي يشتمل على ذلك، والدين الإلهيّ هو مجموع القوانين المصلحة، ومجموع القوانين المصلحة هو الدين فلا يدعو الدين الناس إلّا إلى إصلاح أعمالهم وسائر شؤون مجتمعهم ويسمّي ذلك إسلاماً لله لأنّ من جرى على مجرى الإنسان الطبيعيّ الّذي خطّه له التكوين فقد أسلم للتكوين ووافقه بأعماله فيما يقتضيه وموافقته والسير على المسير الّذي مهّده وخطّه إسلام لله سبحانه في ما يريده منه.

وليس يدعو الدين إلى متابعة موادّ قوانينة ومحتوياته ثمّ يدّعي أنّ في ذلك خيرهم وسعادتهم حتّى يكون لشاكّ أن يشكّ فيه.

والآية أعني قوله:( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ) الآية في نفسها عامّة مستقلّة لكنّها بحسب دخولها في سياق الكلام في بني إسرائيل معتنية بشأنهم، والمراد بالكتاب بهذا النظر التوراة أو هي والإنجيل.

قوله تعالى: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) الآية. النتق قلع الشئ من أصله، والظلّة هي الغمامة، وما يستظلّ بها من نحو السقف، والباقي ظاهر.

والآية تقصّ رفع الطور فوق رؤس بني إسرائيل، وقد تقدّمت هذه القصّة مكرّرة في سورتي البقرة والنساء.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن أبي عمير عن أبي عبيدة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: وجدنا في كتاب عليعليه‌السلام أنّ قوما من أهل إيلة من قوم ثمود وإنّ الحيتان كانت سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدّام أبوابهم في أنهارهم وسواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها ويأكلونها

٣١٥

فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الأحبار، ولا يمنعهم العلماء عن صيدها، ثمّ إنّ الشيطان أوحى إلى طائفة منهم أنّما نهيتم عن أكلها يوم السبت ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت و أكلوها في ما سوى ذلك من الأيّام.

فقالت طائفة منهم: الأنّ نصطادها فعتت و انحازت طائفة اُخرى منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرّضوا لخلاف أمره، واعتزلت طائفة منهم ذات اليسار فسكتت ولم تعظهم، فقالت للطائفة الّتي وعظتهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذّبهم عذاباً شديدا؟ فقالت الطائفة الّتي وعظتهم: معذرة إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون، فقال الله عزّوجلّ: فلمّا نسوا ما ذكّروا به يعني لمّا تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة الّتي وعظتهم: لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه الّتي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل عليكم البلاء فيعمّنا معكم.

قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريباً من المدينة فباتوا تحت السماء فلمّا أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقّوا فلم يجاوبوا ولم يسمعوا منها حسّ أحد فوضعوا فيها سلّماً على سور المدينة ثمّ أصعدوا رجلاً منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قرد يتعاوون ولهم أذناب فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، ولم يعرف الإنس أنسبها من القردة فقال القوم للقردة: ألم ننهكم؟.

فقال عليّعليه‌السلام : والّذي فلق الحبّة وبرء النسمة إنّي لأعرف أنسابها من هذه الاُمّة لا ينكرون ولا يغيرون بل تركوا ما اُمروا به فتفرّقوا، وقد قال الله: فبعداً للقوم الظالمين، فقال الله:( أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) .

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره عن أبي عبيده عن أبي جعفرعليه‌السلام . وروى هذا المعنى في الدرّ المثور عن عبد الرزّاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقيّ في سننه عن عكرمة عن ابن عبّاس غير أنّ فيها أنّ المذكورين في الآية حيّ من اليهود من أهل إيلة وظاهره أنّهم كانوا من بني إسرائيل ورواية أبي جعفرعليه‌السلام تصرّح بأنّهم كانوا من قوم

٣١٦

ثمود، وليس من البعيد أن يكونوا قوماً من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم وجوارهم فإنّ إيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر والمدينة على شاطئ البحر.

وربّما قيل: إنّ القرية الّتي أشارت إليها الآية هي مدين، وقيل: هي طبريّة، وقيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين وعينونا.

وفي رواية ابن عبّاس الّتي أشرنا إليها وغيرها ممّا روى عنه أيضاً أنّه كان يبكي ويقول: نجى الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما فعل بالساكتين، وفي رواية عكرمة: قلت لابن عبّاس: أي جعلني الله فداك ألا ترى أنّهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين. يريد أنّه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم واعتقادهم بأنّهم معاقبون لا محالة فخلع عليّ بثوبين، وأخذ بقولي.

وقد أخطأ عكرمة فإنّ القوم وإن كانوا كرهوا فعلهم ولم يشاركوهم في الصيد المحرّم لكنّهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك وهو ترك النهي عن المنكر، وقد نبّههم الناهون بذلك إذ قالوا: معذرة إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون، وكلامهم يدلّ على أنّ المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتّى يسقط بذلك التكليف، ولمّا يئس منهم الناهون هجروهم وفارقوهم، ولم يهجرهم الآخرون ولم يفارقوهم على ما في الروايات.

على أنّ الله تعالى قال:( أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) فلم يذكر في جانب النجاة إلّا الّذين ينهون عن السوء وأخذ في جانب الأخذ الّذين ظلموا دون الّذين صادوا، ولا مانع من شمول( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) لاُولئك التاركين للنهي عن المنكر.

وأمّا قوله:( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً ) فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدّم عن المفسّرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصّاً بالصائدين لكنّها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين والساكتين جميعاً لاشتراكهم في الظلم والفسق، وإن كان معنى الآية الإعراض عمّا نهوا عنه من غير تقدير الترك وما بمعناه اختصّت الآية ببيان عذاب الساكتين وكان عذاب الصائدين مبيّناً في الآية

٣١٧

السابقة:( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) الآية كما يومئ إليه بعض الروايات الآتية.

وفي المجمع: أنّه هلكت الفرقتان، ونجت الفرقة الناهية. روى ذلك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: ولا ينافيه نصّ الآية على مسخ العاتين فإنّ الهلاك يعمّ مثل المسخ. على أنّ الأخبار متظافرة في أنّ الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلّا أيّاماً ثمّ يهلك.

وفي الكافي عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبدالله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا ونجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا.

أقول: والرواية - كما ترى - مبنيّة على كون قوله:( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً ) الآية ناظراً إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرّم ومعنى( عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا ) كفّوا عن الصيد الّذي نهوا عنه ولا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك ونحوه في الكلام ويبقى لبيان عذاب الفرقة الاُخرى قوله في الآية السابقة.

ولا مانع من هذا المعنى إلّا أنّ مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفّهم عن موعظة الفاعلين لا عتوّهم عمّا نهوا عنه مع ما في استعمال العتوّ في مورد الكفّ والإعراض من البعد، والرواية مع ذلك ضعيفة وقد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفرعليه‌السلام في الآية وفيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا، ورواها العيّاشيّ عن طلحة عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهم‌السلام في الآية قال: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت واعتزلت، وفرقة أقامت ولم يقارف الذنوب، وفرقة اقترفت الذنوب فلم ينج من العذاب إلّا من انتهت قال جعفر: قلت لابي جعفرعليه‌السلام : ما صنع بالّذين أقاموا ولم يقارفوا الذنوب؟ قال أبو جعفرعليه‌السلام : بلغني أنّهم صاروا ذرّاً، والظاهر أنّها جميعاً رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، وفي متنها من التشويش والاختلاف.

وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عبدالله عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله

٣١٨

خصّ عباده بآيتين من كتابة: أن لا يقولوا حتّى يعلموا، ولا يردّوا ما لم يعلموا قال الله عزّوجلّ:( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ) وقال:( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) .

أقول: ورواه العيّاشيّ عن إسحاق عنهعليه‌السلام ، وروى مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الأوّلعليه‌السلام .

وفي تفسير القمّيّ في معنى قوله تعالى:( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ) الآية قال الصادقعليه‌السلام : لمّا أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه وطأطؤوا رؤسهم.

وفي الاحتجاج عن أبي بصير قال: كان مولانا أبوجعفر محمّد بن عليّعليه‌السلام جالساً في الحرم وحوله جماعة من أوليائه إذ أقبل طاوس اليمانيّ في جماعة من أصحابه. ثمّ قال لأبي جعفرعليه‌السلام : أتأذن لي في السؤال؟ قال: أذنّا لك فاسأل. فسأله عن سؤال وأجابه وكان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار ولم يطر قبلها ولا بعدها ذكره الله عزّوجلّ في القرآن، ما هو؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عزّوجلّ على بني إسرائيل الّذين أظلّهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتّى قبلوا التوراة، وذلك قوله عزّوجلّ:( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ) الآية.

أقول: وقد روي ما في معنى الرواية الأوّلى من طرق أهل السنّة عن ثابت بن الحجّاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتّى ظلّل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك.

والرواية الثانية من طرقهم عن ابن عبّاس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يسأله عنها فقيل له: لست هناك وإنّك متى تخطئ شيئاً في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عبّاس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلّا نبيّ أو أهل بيت نبيّ.

وأعلم أنّ في الآية بعض روايات اُخر تقدّمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت.

٣١٩

( سورة الأعراف آية ١٧٢ - ١٧٤)

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ  قَالُوا بَلَىٰ  شَهِدْنَا  أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( ١٧٢ ) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ  أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( ١٧٣ ) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ١٧٤ )

( بيان)

الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبيّة وهي من أدقّ الآيات القرآنيّة معنى، وأعجبها نظماً.

قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا ) أخذ الشئ من الشئ يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الأنحاء، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلّقه بها والاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام وأخذ الجرعة من ماء القدح وهو نوع من الأخذ، وأخذ المال والأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير وهو نوع آخر، أو أنواع مختلفة اُخرى، وكأخذ العلم من العالم وأخذ الاُهبة من المجلس وأخذ الحظّ من لقاء الصديق وهو نوع وأخذ الولد من والده للتربية وهو نوع إلى غير ذلك.

فمجرّد ذكر الأخذ من الشئ لا يوضح نوعه إلّا ببيان زائد، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) الدالّ على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض، قوله:( من ظهورهم ) ليدلّ على نوع الفصل والأخذ، وهو أخذ بعض المادّة منها بحيث لا تنقص المادّة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ثمّ تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تامّاً مستقلاًّ من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من

٣٢٠