الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89404 / تحميل: 6709
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

منهم والمقام الّذي كان يجمعهم جميعاً كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصّة ذكر الخلافة( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) البقرة: ٣٠، وأنّ الأمر بالسجود إنّما كان متوجّهاً إلى ذلك المقام أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي:( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) والضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنّة ومآلهما إلى المنزلة والمقام ولو كان الخطاب متوجّهاً إليهم من غير دخل المنزلة والمقام في ذلك لكان من حقّ الكلام أنّ يقال:( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ ) .

وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك؟ وعند ذلك تميّز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم الّتي حلّوا فيها، وهو الخضوع العبوديّ والامتثال كما حكاه الله عنهم:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) فهذه حقيقة حياة الملائكة وسنخ أعمالهم، وقد بقوا على ذلك وخرج ابليس من المنزلة الّتي كان يشاركهم فيها كما يشير إليه قوله:( كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) والفسق خروج التمرة عن قشرها فتميّز منهم فأخذ حياة لا حقيقة لها إلّا الخروج من الكرامة الإلهيّة وطاعة العبوديّة.

والقصّة وإن سيقت مساق القصص الاجتماعيّة المألوفة بيننا وتضمّنت أمراً وامتثالا وتمرّداً و احتجاجاً وطرداً ورجماً وغير ذلك من الامور التشريعيّة والمولويّة غير أنّ البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أنّ ابليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الإنسانيّة فتفرّعت عليه المعصية، ويشعر به قوله تعالى:( فما يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) فإنّ ظاهره أنّ هذا المقام لا يقبل لذاته التكبّر فكان تكبّره فيه خروجه منه وهبوطه إلى ما هو دونه.

على أنّ الأمر بالسجود - كما عرفت - أمر واحد توجّه إلى الملائكة وابليس جميعاً بعينه، والأمر المتوجّه إلى الملائكة ليس من شأنه أن يكون مولويّا تشريعيّاً بمعنى الأمر المتعلّق بفعل يتساوى نسبة مأموره إلى الطاعة والمعصية والسعادة والشقاوة

٢١

فإنّ الملائكة مجبولون على الطاعة مستقرّون في مقرّ السعادة كما أنّ ابليس واقع في الجانب المخالف لذلك على ما ظهر من أمره بتوجيه الأمر إليه.

فلو لا أنّ الله سبحانه خلق آدم وأمر الملائكة وابليس جميعاً بالسجود له لكان ابليس على ما كان عليه من منزلة القرب غير متميّز من الملائكة لكن خلق الإنسان شقّ المقام مقامين: مقام القرب ومقام البعد، وميّز السبيل سبيلين: سبيل السعادة وسبيل الشقاوة.

قوله تعالى:( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) يريد ما منعك أن تسجد كما وقع في سورة ص من قوله:( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص: ٧٥، ولذلك ربّما قيل: أنّ( لا ) زائدة جيئ بها للتأكيد كما في قوله:( لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ ) الحديد: ٢٩.

والظاهر أنّ( مَّنَعَ ) مضمّن نظير معنى حمل أو دعا والمعنى: ما حملك أو ما دعاك على أن لا تسجد مانعاً لك.

وقوله:( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) يحكي عمّا أجاب به لعنه الله، وهو أوّل معصيته وأوّل معصية عصى بها الله سبحانه فإنّ جميع المعاصي ترجع بحسب التحليل إلى دعوى الإنّيّة ومنازعة الله سبحانه في كبريائه، وله رداء الكبرياء لا شريك له فيه، فليس لعبد مخلوق أن يعتمد على ذاته ويقول: أنا قبال الإنّيّة الإلهيّة الّتي عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، وذلّ له كلّ شئ.

ولو لم تنجذب نفسه إلى نفسه، ولم يحتبس نظره في مشاهدة إنّيّته لم يتقيّد باستقلال ذاته، وشاهد الإله القيّوم فوقه فذلّت له إنّيّته ذلّة تنفي عنه كلّ استقلال وكبرياء فخضع للأمر الإلهيّ، وطاوعته نفسه في الأيتمار والامتثال، ولم تنجذب نفسه إلى ما كان يتراآى من كونه خيراً منه لأنّه من النار وهو من الطين بل انجذبت نفسه إلى الأمر الصادر عن مصدر العظمة والكبرياء ومنبع كلّ جمال وجلال.

وكان من الحرىّ إذا سمع قوله:( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) أن يأتي بما يطابقه من الجواب كأن يقول: منعني أنّي خير منه لكنّه أتى بقوله:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ )

٢٢

ليظهر به الإنّيّة، ويفيد الثبات والاستمرار، ويستفاد منه أيضاً أن المانع له من السجدة ما يرى لنفسه من الخيريّه فقوله:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) أظهر وآكد في إفادة التكبّر.

ومن هنا يظهر أنّ هذا التكبّر هو التكبّر على الله سبحانه دون التكبّر على آدم.

ثمّ إنّه في قوله:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) استدلّ على كونه خيراً من آدم بمبدء خلقته وهو النار وأنّها خير من الطين الّذي خلق منه آدم، وقد صدّق الله سبحانه ما ذكره من مبدأ خلقته حيث ذكر أنّه كان من الجنّ، وأنّ الجنّ مخلوق من النار قال تعالى:( كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠ وقال:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) الحجر: ٢٧، وقال أيضاً:( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) الرحمن: ١٥.

لكنّه تعالى لم يصدّقه فيما ذكره من خيريّته منه فإنّه تعالى وإن لم يردّ عليه قوله( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ) الخ، في هذه السورة إلّا أنّه بيّن فضل آدم عليه وعلى الملائكة في حديث الخلافة الّذي ذكره في سورة البقرة للملائكة.

على أنّه تعالى ذكر القصّة في موضع آخر بقوله:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) الخ، ص: ٧٦.

فبيّن أوّلاً أنّهم لم يدعوا إلى السجود له لمادّته الأرضيّة الّتي سوّي منها، وإنّما دعوا إلى ذلك لمّا سوّاه ونفخ فيه من روحه الخاصّ به تعالى الحاملة للشرف كلّ الشرف والمتعلّقة لتمام لعناية الربّانيّة ويدور أمر الخيريّة في التكوينيّات مدار العناية الإلهيّة لا لحكم من ذواتها فلا حكم إلّا لله.

ثمّ بيّن ثانياً لمّا سأله عن سبب عدم سجوده بقوله:( مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) أنّه تعالى اهتمّ بأمر خلقته كلّ الاهتمام واعتنى به كلّ الاعتناء حيث خلقه بكلتا

٢٣

يديه بأيّ معنى فسّرنا اليدين، وهذا هو الفضل فأجاب لعنه الله بقوله:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) فتعلّق بأمر النار والطين، وأهمل أمر تكبّره على ربّه كما أنّه في هذه السورة سئل عن سبب تكبّره على ربّه إذ قيل له:( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) فتعلّق بقوله:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) الخ، ولم يعتن بما سئل عنه أعني السبب في تكبّره على ربّه إذ لم يأتمر بأمره.

بلى قد اعتنى به إذ قال:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) فأثبت لنفسه استقلال الإنّيّة قبال الإنّيّة الإلهيّة الّتي قهرت كلّ شئ فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبريائه تعالى ووجد نفسه مثل ربّه وأنّ له استقلالاً كاستقلاله، وأوجب ذلك أن أهمل وجوب امتثال أمره لأنّه الله بل اشتغل بالمرجّحات فوجد الترجيح للمعصية على الطاعة وللتمرّد على الانقياد وليس إلّا أنّ تكبّره بإثبات الإنّيّة المستقلّة لنفسه أعمى بصره فوجد مادّة نفسه وهي النار خيراً من مادة نفس آدم وهي الطين فحكم بأنّه خير من آدم، ولا ينبغي للفاضل أن يخضع بالسجود لمفضوله، وإن أمر به الله سبحانه لأنّه يسوي بنفسه نفس ربّه بما يرى لنفسه من استقلال وكبرياء كاستقلاله فيترك الأمر ويتعلّق بالمرجّحات في الأمر.

وبالجملة هو سبحانه الله الّذي منه يبتدئ كلّ شئ وإليه يرجع كلّ شئ فإذا خلق شيئاً وحكم عليه بالفضل كان له الفضل والشرف واقعاً و بحسب الوجود الخارجيّ وإذا خلق شيئاً ثانياً وأمره بالخضوع للأوّل كان وجوده ناقصاً مفضولاً بالنسبه إلى ذلك الأوّل فإنّ المفروض أنّ أمره إمّا نفس التكوين الحقّ أو ينتهي إلى التكوين فقوله الحقّ والواجب في امتثال أمره أن يمتثل لأنّه أمره لا لأنّه مشتمل على مصلحة أو جهة من جهات الخير والنفع حتّى يعزل عن ربوبيّته ومولويّته ويعود زمام الأمر والتأثير إلى المصالح والجهات، وهي الّتي تنتهي إلى خلقه وجعله كسائر الاشياء من غير فرق.

فجملة ما تدلّ عليه آيات القصّة أنّ إبليس إنّما عصى واستحقّ الرجم بالتكبّر على الله في عدم امتثال أمره، وأنّ الّذي أظهر به تكبّره هو قوله:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) وقد تكبّر فيه على ربّه كما تقدّم بيانه وإن كان ذلك تكبّراً منه على آدم حيث إنّه فضّل نفسه عليه واستصغر أمره وقد خصّه الله بنفسه وأخبرهم بأنّه أشرف منهم في حديث الخلافة

٢٤

وفي قوله:( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) وقوله:( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) إلّا أنّ لعناية في الآيات باستكباره على الله لا استكباره على آدم.

ومن الدليل على ذلك قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠ حيث لم يقل: فاستنكف عن الخضوع لآدم بل إنّما ذكر الفسق عن أمر الربّ تعالى.

فتلخّص أنّ آيات القصّة إنّما تعتني بمسألة استعلائه على ربّه، وأمّا استكباره على آدم وما احتجّ به على ذلك فذلك من المدلول عليه بالتبع، والظاهر أنّه هو السرّ في عدم التعرّض للجواب عن حجّته صريحاً إلّا ما يؤمي إليه بعض أطراف الكلام كقوله:( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) وقوله:( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) وغير ذلك.

فان قلت: القول بكون الأمر بالسجود تكوينيّاً ينافي ما تنصّ عليه الآيات من معصية إبليس فإنّ القابل للمعصية والمخالفة إنّما هو الأمر التشريعيّ وأمّا الأمر التكوينيّ فلا يقبل المعصية والتمرّد البتّة فإنّه كلمة الايجاد الّذي لا يتخلّف عنه الوجود قال:( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل: ٤٠.

قلت: الّذي ذكرناه آنفاً أنّ القصّة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر والامتثال والتمرّد والطرد وغير ذلك وإن كانت تتشبّه بالقضايا الاجتماعيّة المألوفة فيما بيننا لكنّها تحكي عن جريان تكوينيّ في الروابط الحقيقيّة الّتي بين الإنسان والملائكة وإبليس فهي في الحقيقة تبيّن ما عليه خلق الملائكة وإبليس وهما مرتبطان بالإنسان، وما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الإنسان وشقائه، وهذا غير كون الأمر تكوينيّاً.

فالقصّة قصّة تكوينيّة مثّلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيويّة الاجتماعيّة كملك من الملوك أقبل على واحد من عامّة رعيّته لمّا تفرّس منه كمال الاستعداد وتمام القابليّة فاستخلصه لنفسه وخصّه بمزيد عنايته، وجعله خليفته في مملكته مقدّماً له على خاصّته ممّن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه والعمل بين يديه فلبّاه في دعوته وامتثال أمره جمع منهم، فرضي عنهم بذلك وأقرّهم على مكانتهم، واستكبر بعضهم فخطّأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلّاً بأنّه أشرف منه جوهراً وأغزر عملاً فغضب عليه وطرده عن نفسه وضربّ عليه الذلّة

٢٥

والصغار لأنّ الملك إنّما يطاع لأنّه ملك بيده زمام الأمر وإليه إصدار الفرامين والدساتير، وليس يطاع لأنّ ما أمر به يطابق المصلحة الواقعيّة فإنّما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير والرشد.

وبالتأمّل في هذا المثل ترى أنّ خاصّة الملك - أعمّ من المطيع والعاصي - كانوا متّفقين قبل صدور الأمر في منزلة القرب مستقرّين في مستوى الخدمة وحظيرة الكرامة من غير أيّ تميّز بينهم حتّى أتاهم الأمر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين ويتفرّقون طائفتين : طائفة مطيعة مؤتمرة واُخرى عاصية مستكبرة وتظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة ووجوه قدرته وصور إرادته من رحمة وغضب وتقريب وتبعيد وعفو ومغفرة وأخذ وانتقام ووعد ووعيد وثواب وعقاب، والحوادث كالمحكّ يظهر باحتكاكه جوهر الفلزّ ما عنده من جودة أو رداءة.

فقصّة سجود الملائكة وإباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمّنه هذا المثل من الحقائق والأمر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة ونعمة الخلافة وكرامة الولاية تشريفاً أخضع له الملائكة وأبعد منه إبليس لمضادّة جوهر السعادة الإنسانيّة فصار يفسد الأمر عليه كلّما مسّه ويغويه إذا اقترب منه كتب عليه أنّه من تولّاه فإنّه يضلّه.

وقد عبّر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الأمر أو ما يشبه ذلك كقوله:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) حم السجدة: ١١، وقوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) الاحزاب: ٧٢ وأشمل من الجميع قوله:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس: ٨٢.

فان قلت: رفع اليد عن ظاهر القصّة وحملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامّة كلامه تعالى، ولا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدء والمعاد بل والقصص والعبر والشرائع على الامثال، وفي تجويز ذلك إبطال للدين.

٢٦

قلت: إنّما المتّبع هو الدليل فربّما دل على ثبوتها وعلى صراحتها ونصوصيّتها كالمعارف الأصليّة والاعتقادات الحقّة وقصص الأنبياء والاُمم في دعواتهم الدينيّة والشرائع والأحكام وما تستتبعه من الثواب والعقاب ونظائر ذلك، وربّما دلّ الدليل وقامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصّة الّتي نحن فيها، ومثل قصّة الذرّ وعرض الأمانة وغير ذلك ممّا لا يستعقب إنكار ضروريّ من ضروريّات الدين، ولا يخالف آية محكمة ولا سنّة قائمة ولا برهأنّا يقينيّاً.

والّذي ذكره إبليس في مقام الاحتجاج:( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) من القياس وهو استدلال ظنّي لا يعبأ به في سوق الحقائق، وقد ذكر المفسّرون وجوهاً كثيره في الردّ عليه لكنّك عرفت أنّ القرآن لم يعتن بأمره، وإنّما آخذ الله إبليس باستكباره عليه في مقام ليس له فيه إلّا الانقياد والتذلّل، ولذلك أغمضنا عن التعرّض لما ذكروه.

قوله تعالى:( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) التكبّر هو أخذ الإنسان مثلاً الكبر لنفسه وظهوره به على غيره فإنّ الكبر والصغر من الامور الإضافيّة ويستعمل في المعاني غالباً فإذا أظهر الإنسان بقول أو فعل أنّه أكبر من غيره شرفاً أو جاهاً أو نحو ذلك فقد تكبّر عليه وعدّه صغيراً، وإذ كان لا شرف ولا كرامة لشئ على شئ إلا ما شرّفه الله وكرّمه كان التكبّر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلّة في أنفسهم من غير فرق بين شئ وشئ ولا كرامة إلّا بالله ومن قبله، فليس لأحد من دون الله أن يتكبّر على أحد، وإنّما هو صفة خاصّة بالله سبحانه فهو الكبير المتعال على الاطلاق فمن التكبّر ما هو حقّ محمود وهو الّذي لله عزّ اسمه أو ينتهي إليه بوجه كالتكبّر على أعداء الله الّذي هو في الحقيقة اعتزاز بالله، ومنه ما هو باطل مذموم وهو الّذي يوجد عند غيره بدعوى الكبر لنفسه لا بالحقّ.

و( الصَّاغِرِينَ ) جمع صاغر من الصغار وهو الهوأنّ والذلّة والصغار في المعاني كالصغر في الصور، وقوله:( فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) تفسير وتأكيد لقوله( فَاهْبِطْ مِنْهَا )

٢٧

لأنّ الهبوط هو خروج الشئ من مستقرّه نازلاًَ فيدلّ ذلك على أنّ الهبوط المذكور إنّما كان هبوطاً معنويّاً لا نزولاً من مكان جسمانيّ إلى مكان آخر، ويتأيّد به ما تقدّم أنّ مرجع الضمير في قوله:( مِنْهَا ) وقوله:( فِيهَا ) هو المنزلة دون السماء أو الجنّة إلّا أن يرجعا إلى المنزلة بوجه.

والمعنى: قال الله تعالى: فتنزّل عن منزلتك حيث لم تسجد لما أمرتك فإنّ هذه المنزلة منزلة التذلّل والانقياد لي فما يحقّ لك أنّ تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصاغرين أهل الهوان وإنّما اُخذ بالصغار ليقابل به التكبّر.

قوله تعالى:( قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ) استمهال وإمهال، وقد فصّل الله تعالى ذلك في موضع آخر بقوله:( قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) الحجر: ٣٨، ص: ٨١، ومنه يعلم أنّه أمهل بالتقييد لا بالاطلاق الّذي ذكره فلم يمهل إلى يوم البعث بل ضرب الله لمهلته أجلاً دون ذلك وهو يوم الوقت المعلوم، وسيجئ الكلام فيه في سورة الحجر إنشاء الله تعالى.

فقوله تعالى:( إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ) إنّما يدلّ على إجمال ما أمهل به، وفيه دلالة على أنّ هناك منظرين غيره.

واستمهاله إلى يوم البعث يدلّ على أنّه كان من همّه أن يديم على إغواء هذا النوع في الدنيا وفي البرزخ جميعاً حتّى تقوم القيامة فلم يجبه الله سبحانه إلى ما استدعاه بل لعلّه أجابه إلى ذلك إلى آخر الدنيا دون البرزخ فلا سلطان له في البرزخ سلطان الإغواء والوسوسة وإن كان ربّما صحب الإنسان بعد موته في البرزخ مصاحبة الزوج والقرين كما يدلّ عليه ظاهر قوله تعالى:( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) الزخرف: ٣٩، وظاهر قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) الصافات: ٢٢.

قوله تعالى:( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) إلى آخر الآية.

الإغواء هو الإالقاء في الغيّ والغيّ والغواية هو

٢٨

الضلال بوجه والهلاك والخيبة، والجملة أعني قوله:( أَغْوَيْتَنِي ) وإن فسّر بكلّ من هذه المعاني على اختلاف أنظار المفسرين غير أنّ قوله تعالى في سورة الحجر فيما حكاه عنه:( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يؤيّد أنّ مراده هو المعنى الأوّل، والباء في قوله( فَبِمَا ) للسببيّة أو المقابلة، والمعنى: فبسبب إغوائك إيّاي أو في مقابلة إغوائك إيّاي لأقعدنّ لهم الخ، وقد أخطأ من قال: أنّها للقسم وكأنّ القائل أراد أن يطبّقه على قوله تعالى في موضع آخر حكاية عنه:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٢.

وقوله:( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي لأجلسنّ لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السويّ الّذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم لما أنّ الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك فالقعود على الصراط المستقيم كنايه عن التزامه والترصّد لعابريه ليخرجهم منه.

وقوله:( ثثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ) بيان لما يصنعه بهم وقد كمن لهم قاعداً على الصراط المستقيم، وهو أنّه يأتيهم من كلّ جانب من جوانبهم الأربع .

وإذ كان الصراط المستقيم الّذي كمن لهم قاعداً عليه أمراً معنويّاً كانت الجهات الّتي يأتيهم منها معنويّة لا حسّيّة والّذي يستأنس من كلامه تعالى لتشخيص المراد بهذه الجهاد كقوله تعالى:( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) النساء: ١٢٠، وقوله:( إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) آل عمران: ١٧٥ وقوله:( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) البقرة: ١٦٨، وقوله:( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) البقرة: ٢٦٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة هو أنّ المراد ممّا بين أيديهم ما يستقبلهم من الحوادث أيّام حياتهم ممّا يتعلّق به الآمال والأمانيّ من الاُمور الّتي تهواه النفوس وتستلذّه الطباع، وممّا يكرهه الإنسان ويخاف نزوله به كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله أو ذمّ الناس ولومهم لو ورد سبيلاً من سبل الخير والثواب.

والمراد بخلفهم ناحية الأولاد والأعقاب فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد

٢٩

آمالٌ وأمانيّ ومخاوف ومكاره فإنّه يخيّل إليه أنّه يبقى ببقائهم فيسرّه ما يسرّهم ويسوءه ما يسوؤهم فيجمع المال من حلاله وحرامه لأجلهم، ويعدّ لهم ما استطاع من قوّة فيهلك نفسه في سبيل حياتهم.

والمراد باليمين وهو الجانب القويّ الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم وهو الدين وإتيانه من جانب اليمين أن يزيّن لهم المبالغة في بعض الاُمور الدينيّة، والتكلّف بما لم يأمرهم به الله وهو الّذي يسمّيه الله تعالى باتّباع خطوات الشيطان.

والمراد بالشمال خلاف اليمين، وإتيانه منه أنّ يزيّن لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتّباع الأهواء.

قال الزمخشريّ في الكشّاف: فإن قلت: كيف قيل:( مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) بحرف الابتداء، و( عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ) بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا وكانت لغه تؤخذ ولا تقاس وإنّما يبحث عن صحّة موقعها فقط.

فلمّا سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه وجلس عن شماله وعلى شماله قلنا: معنى على يمينه أنّه تمكّن من جهة اليمين تمكّن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى عن يمينه أنّه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ثمّ كثر حتّى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في تعالي انتهى موضع الحاجة.

وقوله تعالى:( وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) نتيجة ما ذكره من صنعه بهم بقوله:( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم ) الخ، وقد وضع في ما حكاه الله من كلامه في غير هذا الموضع بدل هذه الجملة أعني( وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) جملة اُخرى قال:( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) أسرى: ٦٢ فاستثنى من وسوسته وإغوائه القليل مطابقاً لما في هذه السورة، وقال:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الحجر: ٤٠، ص: ٨٣.

ومنه يظهر أنّه إنّما عنى بالشاكرين في هذا الموضع المخلصين، والتأمّل الدقيق في معنى الكلمتين يرشد إلى ذلك فإنّ المخلصين - بفتح اللّام - هم الّذين اُخلصوا لله

٣٠

سبحانه فلا يشاركه فيهم أي في عبوديّتهم وعبادتهم سواه، ولا نصيب فيهم لغيره ولا يذكرون إلّا ربّهم وقد نسوا دونه كلّ شئ حتّى أنفسهم فليس في قلوبهم إلّا هو سبحانه، ولا موقف فيها للشيطان ولا لتزييناته.

والشاكرون هم الّذين استقرّت فيهم صفة الشكر على الاطلاق فلا يمسّون نعمة إلّا بشكر أي بأن يستعملوها ويتصرّفوا فيها قولاً أو فعلاً على نحو يظهرون به أنّها من عند ربّهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شئ - أعمّ من أنفسهم وغيرهم - إلّا وهم على ذكر من ربّهم قبل أن يمسّوه ومعه وبعده، وأنّه مملوك له تعالى طلقاً ليس له من الأمر شئ فذكرهم ربّهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلّا بالله، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

فلو اُعطي اللفظ حقّ معناه لكان الشاكرون هم المخلصين، واستثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه وإضلاله جرى منه على حقيقة الأمر اضطراراً ولم يأت به جزافاً أو امتناناً على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك.

فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزّة والعظمة أعني قوله:( فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - إلى قوله -وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) فأخبر أنّه يقصدهم من كلّ جهة ممكنة، ويفسد الأمر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم، ولم يبيّن نحو فعله وكيفيّة صنعه.

لكنّ في كلامه إشارة إلى حقيقتين: أحداهما: أنّ الغواية الّتي تمكّنت في نفسه وهو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لإضلاله وإغوائه لهم أي أنّه يمسّهم بنفسه الغويّة فلا يودع فيهم إلّا الغواية كالنار الّتي تمسّ الماء بسخونتها فتسخّنه، وهذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ - إلى أن قال -وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - إلى أن قال -فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ) الصافّات: ٣٢.

والثانية: أنّ الّذي يمسه الشيطان من بني آدم - وهو نوع عمله وصنعه - هو الشعور الإنسانيّ وتفكره الحيويّ المتعلّق بتصوّرات الأشياء والتصديق بما ينبغى فعله

٣١

أو لا ينبغي، وسيجئ تفصيله في الكلام في إبليس وعمله.

قوله تعالى:( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ ) (الخ) المذؤم من ذمّه يذمّه ويذيمه إذا عابه وذمّه، والمدحور من دحره إذا طرده ودفعه بهوان.

وقوله:( لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ) الخ، اللّام للقسم وجوابه هو قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) الخ، لمّا كان مورد كلام إبليس - وهو في صورة التهديد بالانتقام - هو بني آدم وأنّه سيبطل غرض الخلقة فيهم وهو كونهم شاكرين أجابه تعالى بما يفعل بهم وبه فقال:( لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ) محاذاة لكلامه ثمّ قال:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي منك ومنهم فأشركه في الجزاء معهم.

وقد امتنّ تعالى في كلمته هذه الّتي لا بدّ أن تتمّ فلم يذكر جميع من تبعه بل أتى بقوله:( مِنكُمْ ) وهو يفيد التبعيض.

قوله تعالى:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) إلى آخر الآية.

خصّ بالخطاب آدمعليه‌السلام وألحقّ به في الحكم زوجته، وقوله:( فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ) توسعة في إباحة التصرّف إلّا ما استثناه بقوله:( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) والظلم هو الظلم على النفس دون معصية الأمر المولويّ فإنّ الأمر إرشاديّ.

قوله تعالى:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ) إلى آخر الآية.

الوسوسة هي الدعاء إلى أمر بصوت خفيّ، والمواراة ستر الشئ بجعله وراء ما يستره، والسوآة جمع السؤة وهي العضو الّذي يسوء الإنسان إظهاره والكشف عنه، وقوله:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) الخ، أي إلّا كراهة أنّ تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.

والملك وإن قرئ بفتح اللّام إلّا أنّ فيه معنى الملك - بالضمّ فالسكون - والدليل عليه قوله في موضع آخر:( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ) طه: ١٢٠.

ونقل في المجمع عن السيّد المرتضى رحمه الله احتمال أن يكون المراد بقوله:( إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) الخ، أنّه أوهمهما أنّ المنهيّ عن تناول الشجرة الملائكة خاصّة و

٣٢

الخالدون دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلّا أن تكون فلاناً، وإنّما يريد أنّ المنهيّ إنّما هو فلان دونك، وهذا أوكد في الشبهة واللبس عليهما (انتهى).

لكن آية سورة طه المنقولة آنفاً تدفعه.

قوله تعالى:( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) المقاسمة المبالغة في القسم أي حلف لهما وأغلظ في حلفه أنّه لهما لمن الناصحين، والنصح خلاف الغش.

قوله تعالى:( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ) إلى آخر الآية.

التدلية التقريب والإيصال كما أنّ التدلّي الدنوّ والاسترسال، وكأنّه من الاستعارة من دلوت الدلو أي أرسلتها، والغرور إظهار النصح مع إبطان الغشّ، الخصف الضمّ والجمع، ومنه خصف النعل.

وفي قوله:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) دلالة على أنّهما عند توجّه هذا الخطاب كانا في مقام البعد من ربّهما لأنّ النداء هو الدعاء من بعد، وكذا من الشجرة بدليل قوله:( تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) بخلاف قوله عند أوّل ورودهما الجنّة:( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) .

قوله تعالى:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) هذا منهما نهاية التذلّل والابتهال، ولذلك لم يسألا شيئاً وإنّما ذكرا حاجتهما إلى المغفرة والرحمة وتهديد الخسران الدائم المطلق لهما حتّى يشاء الله ما يشاء.

قوله تعالى:( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) إلى آخر الآية، كأنّ الخطاب لآدم وزوجته وإبليس، وعداوة بعضهم لبعض هو ما يشاهد من اختلاف طبائعهم، وهذا قضاء منه تعالى والقضاء الآخر قوله:( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) أي إلى آخر الحياة الدنيويّة، وظاهر السياق أنّ الخطاب الثاني أيضاً يشترك فيه الثلاثة.

قوله تعالى:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) قضاء آخر يوجب تعلّقهم بالأرض إلى حين البعث، وليس من البعيد أن يختصّ هذا الخطاب بآدم وزوجته وبنيهما، لما فيه من الفصل بلفظة( قَالَ ) وقد مرّ تفصيل الكلام في قصّة الجنّة في سورة البقرة فليراجعها من شاء.

٣٣

( كلام في إبليس وعمله)

عاد موضوع إبليس موضوعاً مبتذلاً عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحياناً ونلعنه أو نتعوّذ بالله منه أو نقبّح بعض أفكارنا بأنّها من الأفكار الشيطانيّة ووساوسه ونزغاته دون أنّ نتدبّر فنحصّل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسّنا، وما له من عجيب التصرّف والولاية في العالم الإنسانيّ.

وكيف لا وهو يصاحب العالم الإنسانيّ على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتّى ينقضي أجله وينقرض بانطواء بساط الدنيا ثمّ يلازمه بعد الممات ثمّ يكون قرينه حتّى يورده النار الخالدة، وهو مع الواحد منّا كما هو مع غيره هو معه في علانيته وسرّه يجاريه كلّما جرى حتّى في أخفى خيال يتخيّله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوى سريرته لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغل شاغل.

وأمّا الباحثون منّا فقد أهملوا البحث عن ذلك وبنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأوّل سالكين ما خطّوا لهم من طريق البحث، وهي النظريّات الساذجة الّتي تلوح للأفهام العامّيّة لأوّل مرّة تلقّوا الكلام الإلهيّ ثمّ التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كلّ طائفة خاصّة، والتحصّن فيه ثمّ الدفاع عنه بأنواع الجدال، والاشتغال بإحصاء إشكالات القصّة وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه.

لم خلق الله إبليس وهو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة وليس منهم؟ لم أمره بالسجدة وهو يعلم أنّه لا يأتمر؟ لِم لم يوفّقه للسجدة وأغواه؟ لِم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لِم مكّنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الّذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيّده بالجنود من خيل ورجل وسلّطه على جميع ما للحياة الإنسانيّة به مساس؟ لِم لم يظهره على حواسّ الإنسان ليحترز مساسه؟ لِم لم يؤيّد الإنسان بمثل ما أيّده به؟ ولِم لم يكتم أسرار خلقة آدم وبنيه من إبليس حتّى لا يطمع في إغوائهم؟ وكيف جازت المشافهة بينه وبين الله سبحانه

٣٤

وهو أبعد الخليقة منه وأبغضهم إليه ولم يكن بنبيّ ولا ملك؟ فقيل : بمعجزة وقيل: بإيجاد أثر تدلّ على المراد ولا دليل على شئ من ذلك.

ثمّ كيف دخل إبليس الجنّة؟ وكيف جاز وقوع الوسوسة والكذب والمعصية هناك وهي مكان الطهارة والقدس؟ وكيف صدّقه آدم وكان قوله مخالفاً لخبر الله؟ وكيف طمع في الملك والخلود وذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ وكيف جازت منه المعصية وهو نبيّ معصوم؟ وكيف قبلت توبته ولم يرد إلى مقامه الأوّل والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وكيف...؟ وكيف....؟

وقد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقيّ واسترسالهم في الجدال إشكالاً وجواباً أن ذهب الذاهب منهم إلى أنّ المراد بآدم هذا آدم النوعيّ والقصّة تخييليّه محضة واختار آخرون أنّ إبليس الّذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوّة الداعية إلى الشرّ من الإنسان !.

وذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح والشنائع إليه تعالى وأنّ جميع المعاصي من فعله، وأنّه يخلق الشرّ والقبيح فيفسد ما يصلحه، وأنّ الحسن هو الّذي أمر به والقبيح هو الّذي نهى عنه، وآخرون: إلى أنّ آدم لم يكن نبيّاً، وآخرون: إلى أنّ الأنبياء غير معصومين مطلقاً، وآخرون : إلى أنّهم غير معصومين قبل البعثة وقصّة الجنّة قبل بعثة آدم، وآخرون: إلى أنّ ذلك كلّه من الامتحان واختبار ولم يبيّنوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الّذي يضلّ به كثيرون ويهلك به الأكثرون، ولو لا وجود ملاك يحسم مادّة الإشكال لعادت الإشكالات بأجمعها.

والّذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث ويختلّ به نتائجها هو أنّهم لم يفرّقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقيّة من جهاتها الاعتباريّة، ولم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختلّ بذلك نظام البحث، وحكّموا في ناحية التكوين غالباً الاُصول الوضعيّة الاعتباريّة الحاكمة في التشريعيّات والاجتماعيّات.

والّذي يجب تحريره وتنقيحه على الحرّ الباحث عن هذه الحقائق الدينيّة المرتبطة بجهات التكوين أن يحرّر جهات:

٣٥

الأولى: أنّ وجود شئ من الأشياء الّتي يتعلّق بها الخلق والإيجاد في نفسه - أعني وجوده النفسيّ من غير إضافة - لا يكون إلّا خيراً ولا يقع إلّا حسناً، فلو فرض محالاً تعلّق الخلقة بما فرض شرّا في نفسه عاد أمراً موجوداً له أثر وجوديّة يبتدئ من الله ويرتزق برزقه ثمّ ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشرّ والقبح إلّا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاماً عادلاً في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها وسعادتها، وهذه هي الاضافة المذكورة.

ولذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهيّة أن ينتفع من هذه الموجودات المضرّة الوجود بما يربو على مضرّتها وذلك قوله تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة : ٧، وقوله:( تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف: ٥٤، وقوله:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) أسرى: ٤٤.

والثانية: أنّ عالم الصنع والإيجاد على كثرة أجزائه وسعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوّله فإيجاد بعضه إنّما هو بإيجاد الجميع، وإصلاح الجزء إنّما هو بإصلاح الكلّ فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود وهو الّذي صيّر العالم عالماً ثمّ ارتباطها يستلزم استلزاماً ضروريّاً في الحكمة الإلهيّة نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي والتضادّ أو بالكمال والنقص والوجدان والفقدان والنيل والحرمان، ولولا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شئ واحد لا تميّز فيه ولا اختلاف ويبطل بذلك الوجود قال تعالى:( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠.

فلو لا الشرّ والفساد والتعب والفقدان والنقص والضعف وأمثالها في هذا العالم لما كان للخير والصحّة والراحة والوجدان والكمال والقوّة مصداق، ولا عقل منها معنى لأنّا إنّما نأخذ المعاني من مصاديقها.

ولولا الشقاء لم تكن سعادة، ولولا المعصية لم تتحقّق طاعة، ولولا القبح والذمّ لم توجد حسن ولا مدح، ولولا العقاب لم يحصل ثواب، ولولا الدنيا لم تتكوّن آخرة.

٣٦

فالطاعة مثلاً امتثال الأمر المولويّ فلو لم يمكن عدم الامتثال الّذي هو المعصية لكان الفعل ضروريّاً لازماً، ومع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولويّ لامتناع تحصيل الحاصل ومع عدم الأمر المولويّ لا مصداق للطاعه ولا مفهوم لها كما عرفت.

ومع بطلان الطاعة والمعصية يبطل المدح والذمّ المتعلّق بهما والثواب والعقاب والوعد والوعيد والإنذار والتبشير ثمّ الدين والشريعة والدعوة ثمّ النبوة والرسالة ثمّ الاجتماع والمدنيّة ثمّ الإنسانيّة ثمّ كلّ شئ، وعلى هذا القياس جميع الاُمور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.

ومن هنا ينكشف لك أنّ وجود الشيطان الداعي إلى الشرّ والمعصية من أركان نظام العالم الإنسانيّ الّذي إنّما يجرى على سنّة الاختيار ويقصد سعادة النوع.

وهو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الّذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحاً إلى ربّه ليلاقيه، ومن المعلوم أنّ الصراط إنّما يتعيّن بمتنه صراطاً بالحاشية الخارجة عنه الحافّة به فلولا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك وتذكّر قوله تعالى:( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) الأعراف: ١٦، وقوله:( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) الحجر: ٤٢.

إذا تأمّلت في هاتين الجهتين ثمّ تدبّرت آيات قصّة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعيّة الّتي بين النوع الإنسانيّ والملائكة وإبليس عبّر عنها بالأمر والامتثال والاستكبار والطرد والرجم والسؤال والجواب، وأنّ جميع الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبّر القصّة حتّى أنّ بعض(١) من تنبّه لوجه الصواب وأنّها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان والملك والشيطان ذكر أنّ الأمر والنهي - يريد أمر إبليس بالسجدة ونهي آدم عن أكل الشجرة - تكوينيّان فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، وذهل عن أنّ الأمر والنهي التكوينيّين لا يقبلان التخلّف والمخالفة، وقد خالف إبليس الأمر وخالف آدم النهي.

الثالثة: أنّ قصّة الجنّة مدلولها - على ما تقدّم تفصيل القول فيها في سورة البقرة -

____________________

(١) صاحب المنار في المجلد ٨ من التفسير تحت عنوان ( الإشكالات في القصّة ) .

٣٧

ينبئ عن أنّ الله سبحانه خلق جنّة برزخيّة سماويّة، وأدخل آدم فيها قبل أن يستقرّ عليه الحياة الأرضيّة، ويغشاه التكليف المولوي ليختبر بذلك الطباع الإنسانيّ فيظهر به أنّ الإنسان لا يسعه إلّا أن يعيش على الأرض، ويتربّى في حجر الأمر والنهي فيستحقّ السعادة والجنّة بالطاعة، وإن كان دون ذلك فدون ذلك، ولا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب وينزل في منزل السعادة إلّا بقطع هذا الطريق.

وبذلك ينكشف أن لامجري لشئ من الإشكالات الّتي أوردوها في قصّة الجنّة فلا الجنّة كانت جنّة الخلد الّتي لا يدخلها إلّا وليّ من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده أبداً، ولا الدار كانت داراً دنيويّة يعاش فيها عيشة دنيويّة يديرها التشريع ويحكم فيها الأمر والنهي المولويّان بل كانت داراً يظهر فيها حكم السجيّة الإنسانيّة لا سجيّة آدمعليه‌السلام بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له ولا أدخل الجنّة إلّا لأنّه إنسان كما تقدّم بيانه.

رجعنا إلى أوّل الكلام:

لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الّذي سمّاه إبليس إلّا يسيراً وهو قوله تعالى:( كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠، وما حكاه عنه في كلامه:( خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ) فبيّن أنّ بدء خلقته كان من نار من سنخ الجنّ وأمّا ما الّذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحاً كما أنّه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصّل القول في خلقة الإنسان.

نعم هناك آيات واصفة لصنعه وعمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكاية عنه:( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧.

فأخبر أنّه يتصرّف فيهم من جهة العواطف النفسانيّة من خوف ورجاء واُمنيّة وأمل وشهوة وغضب ثمّ في أفكارهم وإرادتهم المنبعثة منها.

كما يقارنه في المعنى قوله:( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) الحجر: ٣٩، أي لاُزيّننّ لهم الاُمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف وزينات مهيّأة من تعلّق العواطف

٣٨

الداعية نحو اتّباعها ولاُغوينّهم بذلك كالزنا مثلاً يتصوّره الإنسان وتزيّنه في نظره الشهوة ويضعف بقوّتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدّق به فيقترفه، ونظير ذلك قوله:( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) النساء: ١٢٠، وقوله:( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) النحل: ٦٣.

كلّ ذلك - كما ترى - يدلّ على أنّ ميدان عمله هو الإدراك الإنسانيّ و وسيلة عمله العواطف والاحساسات الداخلة فهو الّذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة والأفكار الباطلة في النفس الإنسانيّة كما يدل عليه قوله:( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥.

لكنّ الإنسان مع ذلك لا يشكّ في أنّ هذه الأفكار والأوهام المسمّاة وساوس شيطانيّة أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبّب إلى ذلك بشئ كما في سائر أفكاره وآرائه الّتي لا تتعلّق بعمل وغيره كقولنا: الواحد نصف الإثنين والاربعة زوج وأمثال ذلك.

فالإنسان هو الّذي يوجد هذه الأفكار والأوهام في نفسه كما أنّ الشيطان هو الّذي يلقيها إليه ويخطرها بباله من غير تزاحم، ولو كان تسبّبه فيها نظير التسبّبات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبراً أو حكماً أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، ولا نتفت نسبة الفعل الإختياريّ إلينا لكون العلم والترجيح والإرادة له لا لنا، ولم يترتّب على الفعل لوم ولا ذمّ ولا غيره، وقد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة:( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم: ٢٢، فنسب الفعل والظلم واللوم إليهم وسلبها عن نفسه، ونفى عن نفسه كلّ سلطان إلّا السلطان على الدعوة والوعد الكاذب كما قال تعالى:( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ

٣٩

الْغَاوِينَ ) الحجر: ٤٢ فنفى سبحانه سلطانه إلّا في ظرف الاتّباع ونظيره قوله تعالى:( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) ق: ٢٧.

وبالجملة فإنّ تصرّفه في إدراك الإنسان تصرّف طوليّ لا ينافي قيامه بالإنسان وانتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضيّ ينافي ذلك.

فله أن يتصرّف في الإدراك الإنسانيّ بما يتعلّق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور والتزيين فيضع الباطل مكان الحقّ ويظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشئ إلّا من وجهه الباطل الّذي يغرّه ويصرفه عن الحقّ، وهذا هو الاستقلال الّذي يراه الإنسان لنفسه أوّلاً ثمّ لسائر الأسباب الّتي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحقّ ويلهوه عن الحياة الحقيقيّة كما تقدّم استفاده ذلك من قوله المحكّي:( فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ ) الأعراف: ١٦، وقوله:( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) الحجر: ٣٩.

ويؤدّي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحقّ وهو الاصل الّذي ينتهي ويحلّل إليه كلّ ذنب قال تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف: ١٧٩.

فاستقلال الإنسان بنفسه وغفلته عن ربّه وجميع ما يتفرّع عليه من سيّئ الاعتقاد وردئ الأوهام والأفكار الّتي يرتضع عنها كلّ شرك وظلم إنّما هي من تصرّف الشيطان في عين أنّ الإنسان يخيّل إليه أنّه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد ولا عمل إلا صبغه بها.

وهذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان وتدبيره وتصرّفه من غير أن يتنبه لشئ أو يشعر بشئ وراء نفسه قال تعالى:( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧.

وولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي والمظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات والقربات، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408