الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86268
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86268 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الظلال فقيل: وأيّ شئ الظلال؟ قال: ألم تر إلى ظلّك في الشمس شئ وليس بشئ ثمّ بعث معهم النبيّين فدعوهم إلى الإقرار بالله وهو قوله:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ، ثمّ دعوهم إلى الإقرار فأقرّ بعضهم وأنّكر بعض، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا فأقرّ بها والله من أحبّ وأنكرها من أبغض، وهو قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام كان التكذيب.

أقول: والرواية وإن لم تكن ممّا وردت في تفسير آية الذرّ غير أنّا أوردناها لاشتمالها على قصّة أخذ الميثاق، وفيها ذكر الظلال، وقد تكرّر ذكر الظلال في لسان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام والمراد به - كما هو ظاهر الرواية - وصف هذا العالم الّذي هو بوجه عين العالم الدنيويّ وبوجه غيره، وله أحكام غير أحكام الدنيا بوجه وعينها بوجه فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدّم.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. وزاد العيّاشيّ: يعني في الميثاق.

أقول: وما زاده العيّاشيّ من كلام الراوي وليس المراد بقوله( جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه) دلالة حالهم على ذلك بل لمّا فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيويّة استبعد صدوره عن الذرّ فسأل عن ذلك فأجابهعليه‌السلام بأنّ الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جواباً دنيويّاً باللسان والكلام اللفظيّ، ويؤيّده قولهعليه‌السلام ما إذا سألهم، ولم يقل: ما لو تكلّموا ونحو ذلك.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) قالوا بألسنتهم؟ قال نعم وقالوا بقلوبهم. فقلت: وأين كانوا يومئذ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به.

أقول: جوابهعليه‌السلام أنّهم قالوا: بلى بألسنتهم وقلوبهم مبنيّ على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جواباً بلسان على النحو المعهود في الدنيا لكنّ

٣٤١

اللسان والقلب هناك واحد، ولذلك قالعليه‌السلام : نعم وبقلوبهم فصدّق اللسان، وأضاف إليه القلب.

ثمّ لمّا كان في ذهن الراوي أنّه أمر واقع في الدنيا ونشأة الطبيعة، وقد ورد في بعض الروايات الّتي تذكر قصّة إخراج الذرّيّة من ظهر آدم: تعيين المكان له وقد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير سألهعليه‌السلام عن مكانهم بقوله: وأين كانوا يومئذ فأجابهعليه‌السلام بقوله:( صنع منهم ما اكتفى به) فلم يجبه بتعيين المكان بل بأنّ الله سبحانه خلقهم خلقاً يصحّ معه السؤال والجواب، وكلّ ذلك يؤيّد ما قدّمناه في وصف هذا العالم، الرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أنّ التكليم والتكلّم في الآية على الحقيقة دون المجاز بل هي صريحة فيه.

وفي الدّر المنثور أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول وأبوالشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خلق الله الخلق وقضى القضيّة، وأخذ ميثاق النبيّين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بيده الاُخرى - وكلتا يد الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا: لبّيك ربّنا، وسعديك. قال: ألست بربّكم؟ قالوا: بلى قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا لبّيك ربّنا وسعديك قال: ألست بربّكم؟ قالوا: بلى.

فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم : ربّ لم خلطت بيننا؟ قال: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ثمّ ردّهم في صلب آدم فأهل الجنّة أهلها وأهل النار أهلها.

فقال قائل: يا رسول الله فما الأعمال؟ قال: يعمل كلّ قوم لمنازلهم. فقال عمر بن الخطّاب: إذاً نجتهد.

أقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وعرشه على الماء) كناية عن تقدّم أخذ الميثاق، وليس المراد به تقدّم خلق الأرواح على الأجساد زماناً فإنّ عليه من الإشكال ما على عالم الذرّ بالمعنى الّذي فهمه جمهور المثبتين، وقد تقدّم.

وقوله:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يعمل كلّ قوم لمنازلهم) أي إنّ كلّ واحد من المنزلين يحتاج

٣٤٢

إلى أعمال تناسبه في الدنيا فإن كان العامل من أهل الجنّة عمل الخير لا محالة، وإن كان من أهل النار عمل الشرّ لا محالة، والدعوة إلى الجنّة وعمل الخير لأنّ عمل الخير يعيّن منزله في الجنّة، وأنّ عمل الشرّ يعيّن منزله في النار لا محالة كما قال تعالى:( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) البقرة: ١٤٨.

فلم يمنع تعيّن الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات، ولا منافاة بين تعيّن السعادة والشقاوة بالنظر إلى العلل التامّة وبين عدم تعيّنها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله فإنّه جزء العلّة، وجزء علّة الشئ لا يتعيّن معه وجود الشئ ولا عدمه بخلاف تمام العلّة، وقد تقدّم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب، وآخرها في تفسير قوله تعالى:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) الأعراف: ٣٠، وأخبار الطينة المتقدّمة من أخبار هذا الباب بوجه.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن ابن عبّاس في قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) الآية قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ثمّ أخرج ولده من ظهره كهيئة الذرّ فأخذ مواثيقهم أنّه ربّهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم.

أقول: وقد روي هذا المعنى عن ابن عبّاس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة لكنّ الجميع تشترك في أصل المعنى، وهو إخراج ذرّيّه آدم من ظهره وأخذ الميثاق منهم.

وفيه أخرج ابن عبد البرّ في التمهيد من طريق السدّيّ عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) .

قالوا: لمّا أخرج الله آدم من الجنّة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرّيّة بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذرّ فقال لهم: اُدخلوا الجنّة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرّيّة سوداء كهيئة الذرّ: فقال: ادخلوا النار ولا اُبالي فذلك قوله:( أصحاب اليمين وأصحاب الشمال) .

ثمّ أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربّكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين، و طائفة

٣٤٣

كارهين على وجه التقيّة فقال هو والملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين أو يقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل.

قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلّا وهو يعرف الله أنّه ربّه وذلك قوله عز وجل:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) ، وذلك قوله:( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) يعني يوم أخذ الميثاق.

أقول: وقد روى حديث الذرّ كما في الرواية موقوفة وموصولة عن عدّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعليّعليه‌السلام ، وابن عبّاس، وعمر بن الخطّاب، وعبدالله بن عمر، وسلمان، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وأبي سعيد الخدريّ، وعبدالله بن مسعود، وعبد الرحمان بن قتادة، وأبي الدرداء، وأنّس، ومعاوية، وأبي موسى الاشعري.

كما روي من طرق الشيعة عن عليّ وعليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد والحسن بن عليّ العسكريعليه‌السلام ، ومن طرق أهل السنّة أيضاً عن عليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّدعليه‌السلام بطرق كثيرة فليس من البعيد أن يدّعى تواتره المعنويّ.

وفي الدّر المنثور أيضاً أخرج ابن سعد وأحمد عن عبد الرحمان بن قتادة السلميّ وكان من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثمّ أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنّة ولا اُبالي، وهؤلاء في النار ولا اُبالي. فقال رجل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر.

أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أمامة المتقدّمة، وقد فهم الرجل من قوله( هؤلاء في الجنّة ولا اُبالى، وهؤلاء في النار ولا اُبالي) (الخبر) سقوط الاختيار، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هذا قدر منه تعالى وأنّ أعمالنا في عين أنّا نعملها وهي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر وينطبق هو عليها، وذلك أنّ الله قدّر ما قدّر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، ويقع مع ذلك ما قدّره الله سبحانه لا أنّه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، ونفي تأثير إرادتنا والروايات بهذا المعنى كثيرة.

٣٤٤

وفي الكافي عن علىّ بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن اُذينة عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) قال: الحنفيّة من الفطرة الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال: فطرهم على المعرفة به.

قال زرارة: وسألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) الآية قال : أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرّفهم وأراهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه.

وقال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأنّ الله عز وجل خالقه، كذلك قوله:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )

أقول: وروي وسط الحديث العيّاشيّ في تفسيره عن زرارة بعين اللفظ، وفيه شهادة على ما تقدّم من تقرير معنى الإشهاد والخطاب في الآية خلافاً لما ذكره النافون أنّ المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالّة على ربوبيّته تعالى لجميع خلقه.

وقد روى الحديث في المعاني بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام إلّا أنّه قال: فعرّفهم وأراهم صنعه بدل قوله: فعرّفهم وأراهم نفسه، ولعلّه من تغيير اللفظ قصداً للنقل بالمعنى زعماً أنّ ظاهر اللفظ يوهم التجسّم وفيه إفساد اللفظ والمعنى جميعاً، وقد عرفت أنّ الرواية مرويّة في الكافي وتفسير العيّاشيّ بلفظ: أراهم نفسه.

وتقدّم في حديث ابن مسكان عن الصادقعليه‌السلام قوله: قلت معاينة كان هذا؟ قال: نعم. وقد تقدّم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسّم.

وفي المحاسن عن الحسن بن عليّ بن فضلّ عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ) الآية قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف، ويذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه.

وفي الكافي بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان عليّ بن الحسينعليه‌السلام لا يرى

٣٤٥

بالعزل بأساً، يقرء هذه الآية:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) فكلّ شئ أخذ الله من الميثاق فهو خارج وإن كان على صخرة صمّاء.

أقول: ورواه في الدّر المنثور عن ابن أبي شيبة وابن جرير عنهعليه‌السلام ، وروى هذا المعنى أيضاً عن سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأعلم أنّ الروايات في الذرّ كثيرة جدّاً وقد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها وهنا روايات اُخر في أخذ الميثاق عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياءعليهم‌السلام سنوردها في محلّها إن شاء الله تعالى.

٣٤٦

( سورة الأعراف آية ١٧٥ - ١٧٩)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( ١٧٥ ) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ  فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث  ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا  فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ١٧٦ ) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( ١٧٧ ) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي  وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٧٨ ) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا  أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( ١٧٩ )

( بيان)

قصّة اُخرى من قصص بني إسرائيل وهي نبأ بلعم بن باعورا أمر الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلوه عليهم يتبيّن به أنّ مجرّد الاتّصال بالأسباب الظاهريّة العاديّة لا يكفي في فلاح الإنسان وتحتّم السعادة له ما لم يشأ الله ذلك، وأنّ الله لا يشاء ذلك لمن أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فإنّ مصيره إلى النار ثمّ يذكر آية ذلك فيهم وهي أنّهم لا يستعملون قلوبهم وأبصارهم وأذانهم فيما ينفعهم، والآية الجامعة أنّهم غافلون.

قوله تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ) إلى آخر الآية معنى إيتاء الآيات على ما يعطيه السياق التلبّس من الآيات الأنفسيّة والكرامات الخاصّة الباطنيّة بما يتنوّر به طريق معرفة الله له، وينكشف له ما لا يبقى له معه ريب في الحقّ والإنسلاخ خروج الشئ وانتزاعه من جلده، وهو كناية استعاريّة عن أنّ الآيات كانت

٣٤٧

لزمتها لزوم الجلد فخرج منها الخبث في ذاته، والإتباع كالتبع والإتّباع التعقيب واقتفاء والأثر يقال: تبع وأتبع واتّبع، والكلّ بمعنى واحد، والغيّ والغواية هي الضلال، كأنّه خروج من الطريق للقصور عن حفظ المقصد الّذي يوصل إليه الطريق ففيه نسيان المقصد والغاية، فالمتحيّر في أمره وهو في الطريق غويّ، والخارج عن الطريق وهو ذاكر لمقصده ضالّ، وهو الأنسب لمورد الآية فإنّ صاحب النبإ بعد ما انسلخ عن آيات الله وأتبعه الشيطان غاب عنه سبيل الرشد فلم يتمكّن من إنجاء نفسه عن ورطة الهلاك، وربّما استعمل كلّ من الغواية والضلالة في معنى واحد. وهو الخروج عن الطريق الموصل إلى الغاية.

وقد اختلف المفسّرون في تعيين من هو صاحب النبإ في هذه الآية على أقوال مختلفة سنشير إلى جلّها أو كلّها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

والآية - كما ترى - أبهمت اسمه واقتصرت على الإشارة إلى إجمال قصّته لكنّها مع ذلك ظاهرة في أنّه نبأ ٌواقع لا مجرّد تمثيل فلا وقع لقول من قال: إنّها مجرّد تمثيل من غير نبإ واقع.

والمعنى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) أي على بني إسرائيل أو على الناس خبراً عن أمر عظيم وهو( نَبَأَ ) الرجل( الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) وكشفنا لباطنه عن علائم وآثار إلهيّة عظام يتنوّر له بها حقّ الأمر( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) ورفضها بعد لزومها( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) فلم يقو على انجاء نفسه من الهلاك.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) الآية الإخلاد اللّزوم على الدوام، والإخلاد إلى الأرض اللصوق بها، وهو كناية عن الميل إلى التمتّع بالملاذّ الدنيويّة والتزامها، واللهث من الكلب أن يدلع لسانه من العطش.

فقوله:( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي لو شئنا لرفعناه بتلك الآيات وقرّبناه إلينا لأنّ في القرب إلى الله ارتفاعاً عن حضيض هذه الدنيا الّتي هي بما لها من اشتغال الإنسان بنفسها عن الله وآياته أسفل سافلين، ورفعه بتلك الآيات بما أنّها أسباب إلهيّة ظاهريّة تفيد اهتداء من تلبّس بها لكنّها لا تحتم السعادة للإنسان لأنّ تمام تأثيرها في ذلك منوط

٣٤٨

بمشيّة الله، والله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه وأقبل إلى غيرها. وهي الحياة الأرضيّة اللاهية عن الله ودار كرامته فإنّ الإعراض عن الله سبحانه وتكذيب آياته ظلم، وقد حقّ القول منه سبحانه أنّه لا يهدي القوم الظالمين، وأنّ الّذين كفروا وكذّبوا بآياته اُولئك اصحاب النار هم فيها خالدون.

ولذلك عقّب تعالى قوله:( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) بقوله:( لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) فالتقدير: لكنّا لم نشأ ذلك لأنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه وكان ذلك مورداً لإضلالنا لا لهدايتنا كما قال تعالى:( وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم: ٢٧.

وقوله:( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) أي إنّه ذو هذه السجيّة لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته و( تَحْمِلْ ) من الحملة لا من الحمل( ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) فالتكذيب منهم سجيّة وهيئة نفسانيّة خبيثة لازمة فلا تزال آياتنا تتكرّر على حواسّهم ويتكرّر التكذيب بها منهم( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ ) وهو مصدر أي اقصص قصصاً أو اسم مصدر أي اقص القصّة( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) فينقادوا للحقّ وينتزعوا عن الباطل.

قوله تعالى: ( سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) ذمّ لهم من حيث وصفهم، وإعلام لهم أنّهم لا يضرّون شيئاً في تكذيب آياته بل ذلك ظلم منهم لأنفسهم إذ يستضرّ بذلك غيرهم.

قوله تعالى: ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) اللام في( الْمُهْتَدِي ) و( الْخَاسِرُونَ ) يفيد الكمال دون الحصر ظاهراً، ومفاد الآية أنّ مجرّد الإهتداء إلى شئ لا ينفع شيئاً ولا يؤثّر أثر الإهتداء إلّا إذا كانت معه هداية الله سبحانه فهي الّتي يكمل بها الإهتداء، وتتحتّم معها السعادة، وكذلك مجرّد الضلال لا يضرّ ضرراً قطعيّاً إلّا بانضمام إضلال الله سبحانه إليه فعند ذلك يتمّ أثره، ويتحتّم الخسران.

فمجرّد اتّصال الإنسان بأسباب السعادة كظاهر الإيمان والتقوى وتلبّسه بذلك

٣٤٩

لا يورده مورد النجاة، وكذلك اتّصاله وتلبّسه بأسباب الضلال لا يورده مورد الهلاك والخسران إلّا أن يشاء الله ذلك فيهدي بمشيّته من هدى ويضلّ بها من أضلّ.

فيؤل المعنى إلى أنّ الهداية إنّما تكون هداية حقيقيّة تترتّب عليها آثارها إذا كانت لله فيها مشيّة، وإلّا فهي صورة هداية وليست بها حقيقة، وكذلك الأمر في الإضلال، وإن شئت فقل: إنّ الكلام يدلّ على حصر الهداية الحقيقيّة في الله سبحانه، وكذلك الإضلال ولا يضلّ به إلّا الفاسقين.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) إلى آخر الآية. الذرء هو الخلق، وقد عرّف الله سبحانه جهنّم غاية لخلق كثير من الجنّ والإنس، ولا ينافي ذلك ما عرّف في موضع آخر أنّ الغاية لخلق الخلق هي الرحمة وهي الجنّة في الآخرة كقوله تعالى:( إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود: ١١٩ فإنّ الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل ونهاية الفعل الّتي ينتهي إليها.

بيان ذلك أنّ النجّار إذا أراد أن يصنع باباً عمد إلى أخشاب يهيّؤها له ثمّ هندسة فيها ثمّ شرع في النشر والنحت والخرط حتّى أتمّ الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة ومن جهة اُخرى هو يعلم من أوّل الأمر أنّ جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لأن تكون أجزاءً للباب فإنّ للباب هيئة خاصّة لا تجامع هيئة الخشبات، ولا بدّ في تغيير هيئتها من ضيعة بعض الأجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الأبعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مراده له بإرادة تسمّى قصداً ضروريّاً فللنجّار في صنع الباب بالنسبة إلى الأخشاب الّتي بين يديه نوعان من الغاية : أحدهما الغاية الكماليّة وهي أن يصنع منها باباً، والثاني الغاية التابعة وهي أن يصنع بعضها باباً ويجعل بعضها فضلّة لا ينتفع بها وضيعة يرمي بها، وذلك لعدم استعدادها لتلبّس صورة الباب.

وكذا الزارع يزرع أرضاً ليحصد قمحاً فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلّا بعض ما صرفه من البذر، ويذهب غيره سدى يضيع في الأرض أو تفسده الهوامّ أو يخصفه المواشي والجميع مقصودة للزراع من وجه، والمحصول من القمح مقصود من وجه آخر.

٣٥٠

وقد تعلّقت المشيّة الإلهيّة أن يخلق من الأرض إنساناً سويّاً يعبده ويدخل بذلك في رحمته، واختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيويّة على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كلّ فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقيّ ويسلك سبيل النجاة إلّا من وفّق له، وعند ذلك تختلف الغايات وصحّ أنّ لله سبحانه غاية في خلقه الإنسان مثلاً وهو أن يشملهم برحمته ويدخلهم جنّته، وصحّ أنّ لله غاية في إهل الخسران والشقاوة من هذا النوع وهو أن يدخلهم النار وقد كان خلقهم للجنّة غير أنّ الغاية الاُولى غاية أصليّة كماليّة، والغاية الثانية غاية تبعيّة ضروريّة، والقضاء الإلهيّ المتعلّق بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنّه تعالى يعلم ما يؤل إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعيّة لا أصليّة.

وعلى هذا النوع من الغاية ينزّل قوله تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) وما في هذا المساق من الآيات الكريمة وهي كثيرة.

وقوله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ) إشارة إلى بطلان استعدادهم للوقوع في مجرى الرحمة الإلهيّة، والوقوف في مهبّ النفحات الربّانيّة، فلا ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله، وما يسمعونه من مواعظ أهل الحقّ، وما تلقّنه لهم فطرتهم من الحجّة والبيّنة.

ولا يفسد عقل ولا عين ولا اُذن في عمله وقد خلقها الله لذلك، وقد قال:( لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) الروم: ٣٠ إلّا أن يكون الّذي يغيّره هو الله سبحانه فيكون من جملة الخلق لكنّه سبحانه لا يغيّر ما أنعمه على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، قال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

فالّذي أبطل ما عندهم من الاستعداد، وأفسد أعمال قلوبهم وأعينهم وآذانهم هو الله سبحانه فعل بهم ما فعل جزاءً بما كسبوا نكلاً فهم غيّروا نعمة الله بتغيير طريق العبوديّة فجازاهم الله بالطبع على قلوبهم فلا يفقهون بها وجعل الغشاوة على أبصارهم فلا يبصرون بها، والوقر على آذانهم فلا يسمعون بها فهذه آية أنّهم مسيّرون إلى النار.

٣٥١

وقوله:( اولئك كلأنعام بل هم أضلّ) نتيجة ما تقدّم، وبيان لحالهم فإنّهم فقدوا ما يتميّز به الإنسان من سائر الحيوان، وهو تمييز الخير والشرّ والنافع والضارّ بالنسبة إلى الحياة الإنسانيّة السعيدة من طريق السمع والبصر والفؤاد.

وإنّما شبّهوا من بين الحيوان العجم بالأنعام مع أنّ فيهم خصال السباع الضارية وخصائصها كخصال الأنعام الراعية، لأنّ التمتّع بالأكل والسفاد أقدم وأسبق بالنسبة إلى الطبع الحيوانيّ فجلب النفع أقدم من دفع الضرّ، وما في الإنسان من القوى الدافعة الغضبيّة مقصودة لأجل ما فيه من القوى الجاذبة الشهويّة، وغرض النوع بحسب حياته الحيوانيّة يتعلّق أوّلاً بالتغذّي والتوليد، ويتحفّظ على ذلك بإعمال القوى الدافعة فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ) سورة محمّد: ١٢.

وأمّا كونهم أكثر أو أشدّ ضلالاً من الأنعام، ولازمه ثبوت ضلال مّا في الأنعام فلأنّ الضلال في الأنعام نسبيّ غير حقيقيّ فإنّها مهتدية بحسب ما لها من القوى المركّبة الباعثة لها إلى قصر الهمّة في الأكل والتمتّع غير ضالّة فيما هيّئت لها من سعادة الحياة ولا مستحقّه للذمّ فيما أخلدت إليه، وإنّما تعدّ ضالّة بقياسها إلى السعادة الإنسانيّة الّتي ليست لها ولا جهّزت بما تتوسّل به إليها.

وأمّا هؤلاء المطبوع على قلوبهم وأعينهم وآذانهم فالسعادة سعادتهم وهم مجهّزون بما يوصلهم إليها ويدلّهم عليها من السمع والبصر والفؤاد لكنّهم أفسدوها وضيّعوا أعمالها ونزّلوها منزلة السمع والبصر والقلب الّتي في الأنعام، واستعملوها فيما تستعملها فيه الأنعام وهو التمتّع من لذائذ البطن والفرج فهم أكثر أو أشدّ ضلالاً من الأنعام، وإليهم يعود الذمّ.

وقوله:( أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) نتيجة وبيان حال اُخرى لهم وهو أنّ حقيقة الغفلة هي الّتي توجد عندهم فإنّها بمشيّة الله سبحانه ألبسها إيّاهم بالطبع الّذي طبع به على قلوبهم وأعينهم وآذانهم والغفلة مادّة كلّ ضلال وباطل.

٣٥٢

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) الآية قال: حدّثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام : أنّه اُعطى بلعم ابن باعورا الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيستجيب(١) له فمال إلى فرعون فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عزّوجلّ فقالت ويلك على ماذا تضربني؟ أتريد أن أجئ معك لتدعو على نبيّ الله وقوم مؤمنين؟ ولم يزل يضربها حتّى قتلها فانسلخ الاسم من لسانه، وهو قوله:( فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) وهو مثل ضربه الله.

أقول: قولهعليه‌السلام :( وهو مثل ضربه الله) الظاهر أنّه يشير إلى نبإ بلعم، وسيجئ الكلام في معنى الاسم الأعظم في الكلام على الأسماء الحسنى إن شاء الله.

وفي الدّر المنثور أخرج الفريابيّ وعبد الرزّاق وعبد بن حميد والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ والطبرانيّ وابن مردويه عن عبدالله بن

مسعود في قوله:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ) قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس قال: هو بلعم بن باعوراء - وفي لفظ: بلعام بن عامر - الّذي اُوتي الاسم كان في بني إسرائيل.

أقول: وقد روي كون اسمه بلعم وكونه من بني إسرائيل عن غير ابن عبّاس وروي عنه غير ذلك.

____________________

(١) فيستجاب خ ظ.

٣٥٣

وفي روح المعاني عند ذكر القول بأنّ الآية نزلت في اُميّة بن أبي الصلت الثقفيّ الشاعر: إنّه كان قرء الكتب القديمة وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فاتّفق أن خرج إلى البحرين وتنبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثمّ قدم فلقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرء عليه سورة يس حتّى إذا فرغ منها وثب اُميّة يجرّ رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا اُميّة؟ قال: حتّى أنظر في أمره.

فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلمّا اُخبر بها ترك الإسلام وقال: لو كان نبيّاً ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به.

فأتت اُخته الفارعة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنّه أنشد عند موته.

كلّ عيش وإن تطاول دهراً

صائر مرّة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدالي

في قلال الجبال أرعي الوعولا

إنّ يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الصغير يوماً ثقيلا

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت:

لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا

ولا شئ أعلى منك جدّاً وأمجدُ

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجدُ

من قصيدة طويلة أتت على آخرها.

ثمّ أنشدته قصيدته الّتي يقول فيها:

وقف الناس للحساب جميعاً

فشقيّ معذبٌ وسعيدُ

والّتي فيها:

عند ذي العرش يعرضون عليه

يعلم الجهر والسرار الخفيّا

يوم يأتي الرحمان وهو رحيمٌ

إنّه كان وعده مأتيّا

ربّ إن تعف فالمعافاة ظنّي

أو تعاقب فلم تعاقب بريّا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أخاك آمن شعره، وكفر قلبه وأنزل الله تعالى الآية.

٣٥٤

أقول: والقصّة مجموعة من عدّة روايات، وقد ذكر في المجمع إجمال القصّة وذكر أنّ نزول الآية فيه مروىّ عن عبدالله بن عمر وسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وأبي روق، والظاهر أنّ الآيات مكّيّة نزلت بنزول السورة بمكّة، وما ذكروه من باب التطبيق.

وفي المجمع: وقيل: إنّه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الّذي سماه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( الفاسق) وكان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المسموح فقدم المدينة فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا الّذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم قال: فأنا عليها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لست عليها، ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منّا وحيداً طريداً.

فخرج إلى أهل الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ثمّ أتى قيصر وإتى بجند ليخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة فمات بالشام وحيداً طريداً. عن سعيد بن المسيّب.

أقول: وإشكال كون السورة مكّيّة في محلّه، وقد روي في ذلك قصص لا جدوى في استقصائها.

وفيه قال أبوجعفرعليه‌السلام : الأصل في ذلك بلعم ثمّ ضربه الله مثلاً لكلّ مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة.

وفي تفسير القمّيّ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا ) يقول: طبع الله عليها فلا تعقل( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ) عليها غطاء عن الهدى( لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ) أي جعل في آذانهم وقراً فلن يسمعوا الهدى.

وفي الدّر المنثور أخرج البيهقيّ في الأسماء والصفات عن عبدالله بن عمر بن العاصي قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يقول: إنّ الله خلق خلقه في ظلمة ثمّ ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ شئ اهتدى. ومن أخطأ ضلّ.

وفيه اُخرج الحكيم الترمذيّ وابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن

٣٥٥

أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خلق الله الجنّ ثلاثة أصناف: صنف حيّات وعقرب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) وجنسٌ أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظلّ الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه.

أقول: وسيأتي الكلام في الجنّ والشياطين من الأنس في مقام يناسبه إن شاء الله تعالى.

٣٥٦

( سورة الأعراف آية ١٨٠ - ١٨٦)

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا  وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ  سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٨٠ ) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٨١ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٨٢ ) وَأُمْلِي لَهُمْ  إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( ١٨٣ ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا  مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ  إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ١٨٤ ) أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ  فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ١٨٥ ) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ  وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٨٦ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها، وهي بمنزلة تجديد البيان لما انتهى إليه الكلام في الآيات السابقة، وذلك أنّ الهدى والضلال يدوران مدار دعوته تعالى بأسمائه الحسنى والإلحاد فيها، والناس من منتحلهم وزنديقهم وعالمهم وجاهلهم لا يختلفون بحسب فطرتهم وباطن سريرتهم في أنّ هذا العالم المشهود متكّئٌ على حقيقة هي المقوّمة لأعيان أجزائها الناظمة نظامها، وهو الله سبحانه الّذي منه يبتدء كلّ شئ وإليه يعود كلّ شئ الّذي يفيض على العالم ما يشاهد فيه من جمال وكمال، وهي له ومنه.

والناس في هذا الموقف على ما لهم من الاتّفاق على أصل الذات ثلاثة أصناف: صنف يسمّونه بما لا يشتمل من المعنى إلّا على ما يليق أن ينسب إلى ساحته من الصفات المبيّنة للكمال، أو النافية لكلّ نقص وشين، وصنف يلحدون في أسمائه، ويعدلون بالصفات

٣٥٧

الخاصّة به إلى غيره كالماديّين والدهريّين الّذين ينسبون الخلق والإحياء والرزق وغير ذلك إلى المادّة أو الدهر، وكالوثنيّين الناسبين الخير والنفع إلى آلهتهم، وكبعض أهل الكتاب حيث يصفون نبيّهم أو أولياء دينهم بما يختصّ له تعالى من الخصائص، ويلحق بهم طائفة من المؤمنين حيث يعطون للأسباب الكونيّة من الاستقلال في التأثير ما لا يليق إلّا بالله سبحانه، وصنف يؤمنون به تعالى غير أنّهم يلحدون في أسمائه فيثبتون له من صفات النقص والأفعال الدنيّة ما هو منزّه عنه كالاعتقاد بأنّ له جسما، وأنّ له مكانا، وأنّ الحواسّ المادّيّة يمكن أن تتعلّق به على بعض الشرائط، وأنّ له علماً كعلومنا وإرادة كإراداتنا وقدرة كمقدراتنا، وأنّ لوجده بقاءً زمانيّاً كبقائنا، وكنسبة الظلم في فعله أو الجهل في حكمه ونحو ذلك إليه، وهذه جميعاً من الإلحاد في أسمائه.

ويرجع الأصناف الثلاثة في الحقيقة إلى صنفين: صنف يدعونه بالأسماء الحسنى ويعبدون الله ذو الجلال والإكرام، وهؤلاء هم المهتدون بالحقّ، وصنف يلحدون في أسمائه ويسمّون غيره باسمه أو يسمّونه باسم غيره: وهؤلاء أصحاب الضلال الّذين مسيرهم إلى النار على حسب حالهم في الضلال وطبقاتهم منه، وقد بيّن الله سبحانه: أنّ الهداية منه مطلقا فإنّها صفة جميلة وله تعالى حقيقتها، وأمّا الضلال فلا ينسب إليه سبحانه أصله لأنّه بحسب الحقيقة عدم اهتداء المحلّ بهداية الله، وهو معني عدمي وصفة نقص وأمّا تثبيته في المحلّ بعد أوّل تحقّقه، وجعله صفة لازمة للمحلّ بمعنى سلب التوفيق وقطع العطيّة الإلهيّة جزاءً للضالّ بما آثر الضلال على الهدى، وكذّب بآيات الله فهو من الله سبحانه، وقد نسبه إلى نفسه في كلامه، وذلك بالاستدراج والإملاء.

فالآيات تشير إلى أنّ ما انتهى إليه كلامه سبحانه أنّ حقيقة الهداية والإضلال من الله إنّما مغزاه وحقيقة معناه أنّ الأمر يدور مدار دعوته تعالى بالأسماء الحسنى وكلّها له، وهو الإهتداء، والإلحاد في أسمائه، والناس في ذلك صنفان: مهتد بهداية الله لا يعدل به غيره، وضالّ منحرف عن أسمائه مكذّب بآياته، والله سبحانه يسوقهم إلى النار جزاءً لهم بما كذّبوا بآياته، كما قال:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) الآية، وذلك بالاستدراج والإملاء.

٣٥٨

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) الاسم بحسب اللغة ما يدلّ به على الشئ سواء أفاد مع ذلك معنى وصفيّا كاللفظ الّذي يشار به إلى الشئ لدلالته على معنى موجود فيه، أو لم يفد إلّا الإشارة إلى الذات كزيد وعمرو وخاصّة المرتجل من الأعلام، وتوصيف الأسماء الحسنى - وهي مؤنّث أحسن - يدلّ على أنّ المراد بها الأسماء الّتي فيها معنى وصفىّ دون ما لا دلالة لها إلّا على الذات المتعالية فقط لو كان بين أسمائه تعالى ما هو كذلك، ولا كلّ معني وصفىّ، بل المعني الوصفيّ الّذي فيه شئ من الحسن، ولا كلّ معني وصفىّ حسن بل ما كا أحسن بالنسبة إلى غيره إذا اعتبرا مع الذات المتعالية: فالشجاع والعفيف من الأسماء الحسنة لكنّهما لا يليقان بساحة قدسه لإنبائهما عن خصوصيّة جسمانيّة لا يمكن سلبها عنهما، ولو أمكن لم يكن مانع عن إطلاقهما عليه كالجواد والعدل والرحيم.

فكون اسم مّا من أسمائه تعالى أحسن الأسماء أن يدلّ على معنى كماليّ غير مخالط لنقص أو عدم، مخالطة لا يمكن معها تحرير المعنى من ذلك النقص والعدم وتصفيته، وذلك في كلّ ما يستلزم حاجة أو عدماً وفقداً كالأجسام والجسمانيّات والأفعال المستقبحة أو المستشنعة، والمعاني العدميّة.

فهذه الأسماء بأجمعها محصول لغاتنا لم نضعها إلّا لمصاديقها فينا الّتي لا تخلو عن شوب الحاجة والنقص غير أنّ منها ما لا يمكن سلب جهات الحاجة والنقص عنها كالجسم واللون والمقدار وغيرها، ومنها ما يمكن فيه ذلك كالعلم والحياة والقدرة فالعلم فينا الإحاطة بالشئ من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادّيّة، والقدرة فينا المنشإيّة للفعل بكيفيّة مادّيّة موجودة لعضلاتنا، والحياة كوننا بحيث نعلم ونقدر بما لنا من وسائل العلم والقدرة فهذه لا تليق بساحة قدسه غير أنّا إذا جرّدنا معانيها عن خصوصيّات المادّة عاد العلم وهو الإحاطة بالشئ بحضوره عنده، والقدرة هي المنشإيّة للشئ بإيجاده، والحياة كون الشئ بحيث يعلم ويقدر، وهذه لا مانع من إطلاقها عليه لأنّها معان كماليّة خالية عن جهات النقص والحاجة، وقد دلّ العقل والنقل أنّ كلّ صفة كماليّة فهي له تعالى وهو المفيض لها على غيره من غير مثال سابق فهو تعالى عالم قادر حيّ لكن لا كعلمنا وقدرتنا وحياتنا بل بما

٣٥٩

يليق بساحة قدسه من حقيقة هذه المعاني الكماليّة مجرّدة عن النقائص.

وقد قدّم الخبر في قوله:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) وهو يفيد الحصر، وجئ بالأسماء محلّى باللّام، والجمع المحلّى باللّام يفيد العموم، ومقتضى ذلك أنّ كلّ اسم أحسن في الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد، وإذ كان الله سبحانه ينسب بعض هذه المعاني إلى غيره ويسمّيه به كالعلم الحياة والخلق والرحمة فالمراد بكونها لله كون حقيقتها له وحده لا شريك له.

وظاهر الآيات بل نصّ بعضها يؤيّد هذا المعنى كقوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة: ١٦٥. وقوله:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء: ١٣٩، وقوله:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة: ٢٥٥، وقوله:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن: ٦٦ فللّه سبحانه حقيقة كلّ اسم أحسن لا يشاركه غيره إلّا بما ملّكهم منه كيفما أراد وشاء.

ويؤيّد هذا المعنى ظاهر كلامه أينما ذكر أسماءه في القرآن كقوله تعالى:( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه: ٨ وقوله:( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) أسرى: ١١٠، وقوله:( لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ  يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحشر: ٢٤ فظاهر الآيات جميعاً كون حقيقة كلّ اسم أحسن لله سبحانه وحده.

وما احتمله بعضهم أنّ اللّام في( الأسماء ) للعهد ممّا لا دليل عليه ولا في القرائن الحافّة بالآيات ما يؤيّده غير ما عهده القائل من الأخبار العادّة للاسماء الحسنى، وسيجئ الكلام فيها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

وقوله :( فَادْعُوهُ بِهَا ) إمّا من الدعوة بمعنى التسمية كقولنا: دعوته زيدا ودعوتك أباعبدالله أي سمّيته وسمّيتك، وإمّا من الدعوة بمعنى النداء أي نادوه بها فقولوا: يا رحمان يا رحيم وهكذا. أو من الدعوة بمعنى العبادة أي فاعبدوه مذعنين أنّه متّصف بما يدلّ عليه هذه الأسماء من الصفات الحسنة والمعاني الجميلة.

وقد احتملوا جميع هذه المعاني غير أنّ كلامه تعالى في مواضع مختلفة يذكر فيها

٣٦٠