الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89529 / تحميل: 6765
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الظلال فقيل: وأيّ شئ الظلال؟ قال: ألم تر إلى ظلّك في الشمس شئ وليس بشئ ثمّ بعث معهم النبيّين فدعوهم إلى الإقرار بالله وهو قوله:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ، ثمّ دعوهم إلى الإقرار فأقرّ بعضهم وأنّكر بعض، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا فأقرّ بها والله من أحبّ وأنكرها من أبغض، وهو قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام كان التكذيب.

أقول: والرواية وإن لم تكن ممّا وردت في تفسير آية الذرّ غير أنّا أوردناها لاشتمالها على قصّة أخذ الميثاق، وفيها ذكر الظلال، وقد تكرّر ذكر الظلال في لسان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام والمراد به - كما هو ظاهر الرواية - وصف هذا العالم الّذي هو بوجه عين العالم الدنيويّ وبوجه غيره، وله أحكام غير أحكام الدنيا بوجه وعينها بوجه فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدّم.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. وزاد العيّاشيّ: يعني في الميثاق.

أقول: وما زاده العيّاشيّ من كلام الراوي وليس المراد بقوله( جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه) دلالة حالهم على ذلك بل لمّا فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيويّة استبعد صدوره عن الذرّ فسأل عن ذلك فأجابهعليه‌السلام بأنّ الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جواباً دنيويّاً باللسان والكلام اللفظيّ، ويؤيّده قولهعليه‌السلام ما إذا سألهم، ولم يقل: ما لو تكلّموا ونحو ذلك.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) قالوا بألسنتهم؟ قال نعم وقالوا بقلوبهم. فقلت: وأين كانوا يومئذ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به.

أقول: جوابهعليه‌السلام أنّهم قالوا: بلى بألسنتهم وقلوبهم مبنيّ على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جواباً بلسان على النحو المعهود في الدنيا لكنّ

٣٤١

اللسان والقلب هناك واحد، ولذلك قالعليه‌السلام : نعم وبقلوبهم فصدّق اللسان، وأضاف إليه القلب.

ثمّ لمّا كان في ذهن الراوي أنّه أمر واقع في الدنيا ونشأة الطبيعة، وقد ورد في بعض الروايات الّتي تذكر قصّة إخراج الذرّيّة من ظهر آدم: تعيين المكان له وقد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير سألهعليه‌السلام عن مكانهم بقوله: وأين كانوا يومئذ فأجابهعليه‌السلام بقوله:( صنع منهم ما اكتفى به) فلم يجبه بتعيين المكان بل بأنّ الله سبحانه خلقهم خلقاً يصحّ معه السؤال والجواب، وكلّ ذلك يؤيّد ما قدّمناه في وصف هذا العالم، الرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أنّ التكليم والتكلّم في الآية على الحقيقة دون المجاز بل هي صريحة فيه.

وفي الدّر المنثور أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول وأبوالشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: خلق الله الخلق وقضى القضيّة، وأخذ ميثاق النبيّين وعرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، وأخذ أهل الشمال بيده الاُخرى - وكلتا يد الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا: لبّيك ربّنا، وسعديك. قال: ألست بربّكم؟ قالوا: بلى قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا لبّيك ربّنا وسعديك قال: ألست بربّكم؟ قالوا: بلى.

فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم : ربّ لم خلطت بيننا؟ قال: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ثمّ ردّهم في صلب آدم فأهل الجنّة أهلها وأهل النار أهلها.

فقال قائل: يا رسول الله فما الأعمال؟ قال: يعمل كلّ قوم لمنازلهم. فقال عمر بن الخطّاب: إذاً نجتهد.

أقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وعرشه على الماء) كناية عن تقدّم أخذ الميثاق، وليس المراد به تقدّم خلق الأرواح على الأجساد زماناً فإنّ عليه من الإشكال ما على عالم الذرّ بالمعنى الّذي فهمه جمهور المثبتين، وقد تقدّم.

وقوله:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يعمل كلّ قوم لمنازلهم) أي إنّ كلّ واحد من المنزلين يحتاج

٣٤٢

إلى أعمال تناسبه في الدنيا فإن كان العامل من أهل الجنّة عمل الخير لا محالة، وإن كان من أهل النار عمل الشرّ لا محالة، والدعوة إلى الجنّة وعمل الخير لأنّ عمل الخير يعيّن منزله في الجنّة، وأنّ عمل الشرّ يعيّن منزله في النار لا محالة كما قال تعالى:( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) البقرة: ١٤٨.

فلم يمنع تعيّن الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات، ولا منافاة بين تعيّن السعادة والشقاوة بالنظر إلى العلل التامّة وبين عدم تعيّنها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله فإنّه جزء العلّة، وجزء علّة الشئ لا يتعيّن معه وجود الشئ ولا عدمه بخلاف تمام العلّة، وقد تقدّم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب، وآخرها في تفسير قوله تعالى:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) الأعراف: ٣٠، وأخبار الطينة المتقدّمة من أخبار هذا الباب بوجه.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ عن ابن عبّاس في قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) الآية قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ثمّ أخرج ولده من ظهره كهيئة الذرّ فأخذ مواثيقهم أنّه ربّهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم.

أقول: وقد روي هذا المعنى عن ابن عبّاس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة لكنّ الجميع تشترك في أصل المعنى، وهو إخراج ذرّيّه آدم من ظهره وأخذ الميثاق منهم.

وفيه أخرج ابن عبد البرّ في التمهيد من طريق السدّيّ عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عبّاس، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) .

قالوا: لمّا أخرج الله آدم من الجنّة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرّيّة بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذرّ فقال لهم: اُدخلوا الجنّة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرّيّة سوداء كهيئة الذرّ: فقال: ادخلوا النار ولا اُبالي فذلك قوله:( أصحاب اليمين وأصحاب الشمال) .

ثمّ أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربّكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين، و طائفة

٣٤٣

كارهين على وجه التقيّة فقال هو والملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين أو يقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل.

قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلّا وهو يعرف الله أنّه ربّه وذلك قوله عز وجل:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) ، وذلك قوله:( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) يعني يوم أخذ الميثاق.

أقول: وقد روى حديث الذرّ كما في الرواية موقوفة وموصولة عن عدّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعليّعليه‌السلام ، وابن عبّاس، وعمر بن الخطّاب، وعبدالله بن عمر، وسلمان، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وأبي سعيد الخدريّ، وعبدالله بن مسعود، وعبد الرحمان بن قتادة، وأبي الدرداء، وأنّس، ومعاوية، وأبي موسى الاشعري.

كما روي من طرق الشيعة عن عليّ وعليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد والحسن بن عليّ العسكريعليه‌السلام ، ومن طرق أهل السنّة أيضاً عن عليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّدعليه‌السلام بطرق كثيرة فليس من البعيد أن يدّعى تواتره المعنويّ.

وفي الدّر المنثور أيضاً أخرج ابن سعد وأحمد عن عبد الرحمان بن قتادة السلميّ وكان من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثمّ أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنّة ولا اُبالي، وهؤلاء في النار ولا اُبالي. فقال رجل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر.

أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أمامة المتقدّمة، وقد فهم الرجل من قوله( هؤلاء في الجنّة ولا اُبالى، وهؤلاء في النار ولا اُبالي) (الخبر) سقوط الاختيار، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هذا قدر منه تعالى وأنّ أعمالنا في عين أنّا نعملها وهي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر وينطبق هو عليها، وذلك أنّ الله قدّر ما قدّر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، ويقع مع ذلك ما قدّره الله سبحانه لا أنّه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، ونفي تأثير إرادتنا والروايات بهذا المعنى كثيرة.

٣٤٤

وفي الكافي عن علىّ بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن اُذينة عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) قال: الحنفيّة من الفطرة الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال: فطرهم على المعرفة به.

قال زرارة: وسألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) الآية قال : أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرّفهم وأراهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه.

وقال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأنّ الله عز وجل خالقه، كذلك قوله:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )

أقول: وروي وسط الحديث العيّاشيّ في تفسيره عن زرارة بعين اللفظ، وفيه شهادة على ما تقدّم من تقرير معنى الإشهاد والخطاب في الآية خلافاً لما ذكره النافون أنّ المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالّة على ربوبيّته تعالى لجميع خلقه.

وقد روى الحديث في المعاني بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام إلّا أنّه قال: فعرّفهم وأراهم صنعه بدل قوله: فعرّفهم وأراهم نفسه، ولعلّه من تغيير اللفظ قصداً للنقل بالمعنى زعماً أنّ ظاهر اللفظ يوهم التجسّم وفيه إفساد اللفظ والمعنى جميعاً، وقد عرفت أنّ الرواية مرويّة في الكافي وتفسير العيّاشيّ بلفظ: أراهم نفسه.

وتقدّم في حديث ابن مسكان عن الصادقعليه‌السلام قوله: قلت معاينة كان هذا؟ قال: نعم. وقد تقدّم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسّم.

وفي المحاسن عن الحسن بن عليّ بن فضلّ عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ) الآية قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف، ويذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه.

وفي الكافي بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان عليّ بن الحسينعليه‌السلام لا يرى

٣٤٥

بالعزل بأساً، يقرء هذه الآية:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) فكلّ شئ أخذ الله من الميثاق فهو خارج وإن كان على صخرة صمّاء.

أقول: ورواه في الدّر المنثور عن ابن أبي شيبة وابن جرير عنهعليه‌السلام ، وروى هذا المعنى أيضاً عن سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأعلم أنّ الروايات في الذرّ كثيرة جدّاً وقد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها وهنا روايات اُخر في أخذ الميثاق عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياءعليهم‌السلام سنوردها في محلّها إن شاء الله تعالى.

٣٤٦

( سورة الأعراف آية ١٧٥ - ١٧٩)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( ١٧٥ ) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ  فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث  ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا  فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ١٧٦ ) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( ١٧٧ ) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي  وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٧٨ ) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا  أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( ١٧٩ )

( بيان)

قصّة اُخرى من قصص بني إسرائيل وهي نبأ بلعم بن باعورا أمر الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلوه عليهم يتبيّن به أنّ مجرّد الاتّصال بالأسباب الظاهريّة العاديّة لا يكفي في فلاح الإنسان وتحتّم السعادة له ما لم يشأ الله ذلك، وأنّ الله لا يشاء ذلك لمن أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فإنّ مصيره إلى النار ثمّ يذكر آية ذلك فيهم وهي أنّهم لا يستعملون قلوبهم وأبصارهم وأذانهم فيما ينفعهم، والآية الجامعة أنّهم غافلون.

قوله تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ) إلى آخر الآية معنى إيتاء الآيات على ما يعطيه السياق التلبّس من الآيات الأنفسيّة والكرامات الخاصّة الباطنيّة بما يتنوّر به طريق معرفة الله له، وينكشف له ما لا يبقى له معه ريب في الحقّ والإنسلاخ خروج الشئ وانتزاعه من جلده، وهو كناية استعاريّة عن أنّ الآيات كانت

٣٤٧

لزمتها لزوم الجلد فخرج منها الخبث في ذاته، والإتباع كالتبع والإتّباع التعقيب واقتفاء والأثر يقال: تبع وأتبع واتّبع، والكلّ بمعنى واحد، والغيّ والغواية هي الضلال، كأنّه خروج من الطريق للقصور عن حفظ المقصد الّذي يوصل إليه الطريق ففيه نسيان المقصد والغاية، فالمتحيّر في أمره وهو في الطريق غويّ، والخارج عن الطريق وهو ذاكر لمقصده ضالّ، وهو الأنسب لمورد الآية فإنّ صاحب النبإ بعد ما انسلخ عن آيات الله وأتبعه الشيطان غاب عنه سبيل الرشد فلم يتمكّن من إنجاء نفسه عن ورطة الهلاك، وربّما استعمل كلّ من الغواية والضلالة في معنى واحد. وهو الخروج عن الطريق الموصل إلى الغاية.

وقد اختلف المفسّرون في تعيين من هو صاحب النبإ في هذه الآية على أقوال مختلفة سنشير إلى جلّها أو كلّها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

والآية - كما ترى - أبهمت اسمه واقتصرت على الإشارة إلى إجمال قصّته لكنّها مع ذلك ظاهرة في أنّه نبأ ٌواقع لا مجرّد تمثيل فلا وقع لقول من قال: إنّها مجرّد تمثيل من غير نبإ واقع.

والمعنى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) أي على بني إسرائيل أو على الناس خبراً عن أمر عظيم وهو( نَبَأَ ) الرجل( الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) وكشفنا لباطنه عن علائم وآثار إلهيّة عظام يتنوّر له بها حقّ الأمر( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) ورفضها بعد لزومها( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) فلم يقو على انجاء نفسه من الهلاك.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) الآية الإخلاد اللّزوم على الدوام، والإخلاد إلى الأرض اللصوق بها، وهو كناية عن الميل إلى التمتّع بالملاذّ الدنيويّة والتزامها، واللهث من الكلب أن يدلع لسانه من العطش.

فقوله:( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي لو شئنا لرفعناه بتلك الآيات وقرّبناه إلينا لأنّ في القرب إلى الله ارتفاعاً عن حضيض هذه الدنيا الّتي هي بما لها من اشتغال الإنسان بنفسها عن الله وآياته أسفل سافلين، ورفعه بتلك الآيات بما أنّها أسباب إلهيّة ظاهريّة تفيد اهتداء من تلبّس بها لكنّها لا تحتم السعادة للإنسان لأنّ تمام تأثيرها في ذلك منوط

٣٤٨

بمشيّة الله، والله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه وأقبل إلى غيرها. وهي الحياة الأرضيّة اللاهية عن الله ودار كرامته فإنّ الإعراض عن الله سبحانه وتكذيب آياته ظلم، وقد حقّ القول منه سبحانه أنّه لا يهدي القوم الظالمين، وأنّ الّذين كفروا وكذّبوا بآياته اُولئك اصحاب النار هم فيها خالدون.

ولذلك عقّب تعالى قوله:( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) بقوله:( لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) فالتقدير: لكنّا لم نشأ ذلك لأنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه وكان ذلك مورداً لإضلالنا لا لهدايتنا كما قال تعالى:( وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم: ٢٧.

وقوله:( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) أي إنّه ذو هذه السجيّة لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته و( تَحْمِلْ ) من الحملة لا من الحمل( ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) فالتكذيب منهم سجيّة وهيئة نفسانيّة خبيثة لازمة فلا تزال آياتنا تتكرّر على حواسّهم ويتكرّر التكذيب بها منهم( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ ) وهو مصدر أي اقصص قصصاً أو اسم مصدر أي اقص القصّة( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) فينقادوا للحقّ وينتزعوا عن الباطل.

قوله تعالى: ( سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) ذمّ لهم من حيث وصفهم، وإعلام لهم أنّهم لا يضرّون شيئاً في تكذيب آياته بل ذلك ظلم منهم لأنفسهم إذ يستضرّ بذلك غيرهم.

قوله تعالى: ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) اللام في( الْمُهْتَدِي ) و( الْخَاسِرُونَ ) يفيد الكمال دون الحصر ظاهراً، ومفاد الآية أنّ مجرّد الإهتداء إلى شئ لا ينفع شيئاً ولا يؤثّر أثر الإهتداء إلّا إذا كانت معه هداية الله سبحانه فهي الّتي يكمل بها الإهتداء، وتتحتّم معها السعادة، وكذلك مجرّد الضلال لا يضرّ ضرراً قطعيّاً إلّا بانضمام إضلال الله سبحانه إليه فعند ذلك يتمّ أثره، ويتحتّم الخسران.

فمجرّد اتّصال الإنسان بأسباب السعادة كظاهر الإيمان والتقوى وتلبّسه بذلك

٣٤٩

لا يورده مورد النجاة، وكذلك اتّصاله وتلبّسه بأسباب الضلال لا يورده مورد الهلاك والخسران إلّا أن يشاء الله ذلك فيهدي بمشيّته من هدى ويضلّ بها من أضلّ.

فيؤل المعنى إلى أنّ الهداية إنّما تكون هداية حقيقيّة تترتّب عليها آثارها إذا كانت لله فيها مشيّة، وإلّا فهي صورة هداية وليست بها حقيقة، وكذلك الأمر في الإضلال، وإن شئت فقل: إنّ الكلام يدلّ على حصر الهداية الحقيقيّة في الله سبحانه، وكذلك الإضلال ولا يضلّ به إلّا الفاسقين.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) إلى آخر الآية. الذرء هو الخلق، وقد عرّف الله سبحانه جهنّم غاية لخلق كثير من الجنّ والإنس، ولا ينافي ذلك ما عرّف في موضع آخر أنّ الغاية لخلق الخلق هي الرحمة وهي الجنّة في الآخرة كقوله تعالى:( إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود: ١١٩ فإنّ الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل ونهاية الفعل الّتي ينتهي إليها.

بيان ذلك أنّ النجّار إذا أراد أن يصنع باباً عمد إلى أخشاب يهيّؤها له ثمّ هندسة فيها ثمّ شرع في النشر والنحت والخرط حتّى أتمّ الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة ومن جهة اُخرى هو يعلم من أوّل الأمر أنّ جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لأن تكون أجزاءً للباب فإنّ للباب هيئة خاصّة لا تجامع هيئة الخشبات، ولا بدّ في تغيير هيئتها من ضيعة بعض الأجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الأبعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مراده له بإرادة تسمّى قصداً ضروريّاً فللنجّار في صنع الباب بالنسبة إلى الأخشاب الّتي بين يديه نوعان من الغاية : أحدهما الغاية الكماليّة وهي أن يصنع منها باباً، والثاني الغاية التابعة وهي أن يصنع بعضها باباً ويجعل بعضها فضلّة لا ينتفع بها وضيعة يرمي بها، وذلك لعدم استعدادها لتلبّس صورة الباب.

وكذا الزارع يزرع أرضاً ليحصد قمحاً فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلّا بعض ما صرفه من البذر، ويذهب غيره سدى يضيع في الأرض أو تفسده الهوامّ أو يخصفه المواشي والجميع مقصودة للزراع من وجه، والمحصول من القمح مقصود من وجه آخر.

٣٥٠

وقد تعلّقت المشيّة الإلهيّة أن يخلق من الأرض إنساناً سويّاً يعبده ويدخل بذلك في رحمته، واختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيويّة على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كلّ فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقيّ ويسلك سبيل النجاة إلّا من وفّق له، وعند ذلك تختلف الغايات وصحّ أنّ لله سبحانه غاية في خلقه الإنسان مثلاً وهو أن يشملهم برحمته ويدخلهم جنّته، وصحّ أنّ لله غاية في إهل الخسران والشقاوة من هذا النوع وهو أن يدخلهم النار وقد كان خلقهم للجنّة غير أنّ الغاية الاُولى غاية أصليّة كماليّة، والغاية الثانية غاية تبعيّة ضروريّة، والقضاء الإلهيّ المتعلّق بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنّه تعالى يعلم ما يؤل إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعيّة لا أصليّة.

وعلى هذا النوع من الغاية ينزّل قوله تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) وما في هذا المساق من الآيات الكريمة وهي كثيرة.

وقوله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ) إشارة إلى بطلان استعدادهم للوقوع في مجرى الرحمة الإلهيّة، والوقوف في مهبّ النفحات الربّانيّة، فلا ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله، وما يسمعونه من مواعظ أهل الحقّ، وما تلقّنه لهم فطرتهم من الحجّة والبيّنة.

ولا يفسد عقل ولا عين ولا اُذن في عمله وقد خلقها الله لذلك، وقد قال:( لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) الروم: ٣٠ إلّا أن يكون الّذي يغيّره هو الله سبحانه فيكون من جملة الخلق لكنّه سبحانه لا يغيّر ما أنعمه على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، قال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

فالّذي أبطل ما عندهم من الاستعداد، وأفسد أعمال قلوبهم وأعينهم وآذانهم هو الله سبحانه فعل بهم ما فعل جزاءً بما كسبوا نكلاً فهم غيّروا نعمة الله بتغيير طريق العبوديّة فجازاهم الله بالطبع على قلوبهم فلا يفقهون بها وجعل الغشاوة على أبصارهم فلا يبصرون بها، والوقر على آذانهم فلا يسمعون بها فهذه آية أنّهم مسيّرون إلى النار.

٣٥١

وقوله:( اولئك كلأنعام بل هم أضلّ) نتيجة ما تقدّم، وبيان لحالهم فإنّهم فقدوا ما يتميّز به الإنسان من سائر الحيوان، وهو تمييز الخير والشرّ والنافع والضارّ بالنسبة إلى الحياة الإنسانيّة السعيدة من طريق السمع والبصر والفؤاد.

وإنّما شبّهوا من بين الحيوان العجم بالأنعام مع أنّ فيهم خصال السباع الضارية وخصائصها كخصال الأنعام الراعية، لأنّ التمتّع بالأكل والسفاد أقدم وأسبق بالنسبة إلى الطبع الحيوانيّ فجلب النفع أقدم من دفع الضرّ، وما في الإنسان من القوى الدافعة الغضبيّة مقصودة لأجل ما فيه من القوى الجاذبة الشهويّة، وغرض النوع بحسب حياته الحيوانيّة يتعلّق أوّلاً بالتغذّي والتوليد، ويتحفّظ على ذلك بإعمال القوى الدافعة فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ) سورة محمّد: ١٢.

وأمّا كونهم أكثر أو أشدّ ضلالاً من الأنعام، ولازمه ثبوت ضلال مّا في الأنعام فلأنّ الضلال في الأنعام نسبيّ غير حقيقيّ فإنّها مهتدية بحسب ما لها من القوى المركّبة الباعثة لها إلى قصر الهمّة في الأكل والتمتّع غير ضالّة فيما هيّئت لها من سعادة الحياة ولا مستحقّه للذمّ فيما أخلدت إليه، وإنّما تعدّ ضالّة بقياسها إلى السعادة الإنسانيّة الّتي ليست لها ولا جهّزت بما تتوسّل به إليها.

وأمّا هؤلاء المطبوع على قلوبهم وأعينهم وآذانهم فالسعادة سعادتهم وهم مجهّزون بما يوصلهم إليها ويدلّهم عليها من السمع والبصر والفؤاد لكنّهم أفسدوها وضيّعوا أعمالها ونزّلوها منزلة السمع والبصر والقلب الّتي في الأنعام، واستعملوها فيما تستعملها فيه الأنعام وهو التمتّع من لذائذ البطن والفرج فهم أكثر أو أشدّ ضلالاً من الأنعام، وإليهم يعود الذمّ.

وقوله:( أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) نتيجة وبيان حال اُخرى لهم وهو أنّ حقيقة الغفلة هي الّتي توجد عندهم فإنّها بمشيّة الله سبحانه ألبسها إيّاهم بالطبع الّذي طبع به على قلوبهم وأعينهم وآذانهم والغفلة مادّة كلّ ضلال وباطل.

٣٥٢

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) الآية قال: حدّثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام : أنّه اُعطى بلعم ابن باعورا الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيستجيب(١) له فمال إلى فرعون فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عزّوجلّ فقالت ويلك على ماذا تضربني؟ أتريد أن أجئ معك لتدعو على نبيّ الله وقوم مؤمنين؟ ولم يزل يضربها حتّى قتلها فانسلخ الاسم من لسانه، وهو قوله:( فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) وهو مثل ضربه الله.

أقول: قولهعليه‌السلام :( وهو مثل ضربه الله) الظاهر أنّه يشير إلى نبإ بلعم، وسيجئ الكلام في معنى الاسم الأعظم في الكلام على الأسماء الحسنى إن شاء الله.

وفي الدّر المنثور أخرج الفريابيّ وعبد الرزّاق وعبد بن حميد والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ والطبرانيّ وابن مردويه عن عبدالله بن

مسعود في قوله:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ) قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس قال: هو بلعم بن باعوراء - وفي لفظ: بلعام بن عامر - الّذي اُوتي الاسم كان في بني إسرائيل.

أقول: وقد روي كون اسمه بلعم وكونه من بني إسرائيل عن غير ابن عبّاس وروي عنه غير ذلك.

____________________

(١) فيستجاب خ ظ.

٣٥٣

وفي روح المعاني عند ذكر القول بأنّ الآية نزلت في اُميّة بن أبي الصلت الثقفيّ الشاعر: إنّه كان قرء الكتب القديمة وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فاتّفق أن خرج إلى البحرين وتنبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثمّ قدم فلقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرء عليه سورة يس حتّى إذا فرغ منها وثب اُميّة يجرّ رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا اُميّة؟ قال: حتّى أنظر في أمره.

فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلمّا اُخبر بها ترك الإسلام وقال: لو كان نبيّاً ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به.

فأتت اُخته الفارعة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنّه أنشد عند موته.

كلّ عيش وإن تطاول دهراً

صائر مرّة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدالي

في قلال الجبال أرعي الوعولا

إنّ يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الصغير يوماً ثقيلا

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت:

لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا

ولا شئ أعلى منك جدّاً وأمجدُ

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجدُ

من قصيدة طويلة أتت على آخرها.

ثمّ أنشدته قصيدته الّتي يقول فيها:

وقف الناس للحساب جميعاً

فشقيّ معذبٌ وسعيدُ

والّتي فيها:

عند ذي العرش يعرضون عليه

يعلم الجهر والسرار الخفيّا

يوم يأتي الرحمان وهو رحيمٌ

إنّه كان وعده مأتيّا

ربّ إن تعف فالمعافاة ظنّي

أو تعاقب فلم تعاقب بريّا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أخاك آمن شعره، وكفر قلبه وأنزل الله تعالى الآية.

٣٥٤

أقول: والقصّة مجموعة من عدّة روايات، وقد ذكر في المجمع إجمال القصّة وذكر أنّ نزول الآية فيه مروىّ عن عبدالله بن عمر وسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وأبي روق، والظاهر أنّ الآيات مكّيّة نزلت بنزول السورة بمكّة، وما ذكروه من باب التطبيق.

وفي المجمع: وقيل: إنّه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الّذي سماه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( الفاسق) وكان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المسموح فقدم المدينة فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا الّذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم قال: فأنا عليها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لست عليها، ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منّا وحيداً طريداً.

فخرج إلى أهل الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ثمّ أتى قيصر وإتى بجند ليخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة فمات بالشام وحيداً طريداً. عن سعيد بن المسيّب.

أقول: وإشكال كون السورة مكّيّة في محلّه، وقد روي في ذلك قصص لا جدوى في استقصائها.

وفيه قال أبوجعفرعليه‌السلام : الأصل في ذلك بلعم ثمّ ضربه الله مثلاً لكلّ مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة.

وفي تفسير القمّيّ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا ) يقول: طبع الله عليها فلا تعقل( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ) عليها غطاء عن الهدى( لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ) أي جعل في آذانهم وقراً فلن يسمعوا الهدى.

وفي الدّر المنثور أخرج البيهقيّ في الأسماء والصفات عن عبدالله بن عمر بن العاصي قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يقول: إنّ الله خلق خلقه في ظلمة ثمّ ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ شئ اهتدى. ومن أخطأ ضلّ.

وفيه اُخرج الحكيم الترمذيّ وابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن

٣٥٥

أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خلق الله الجنّ ثلاثة أصناف: صنف حيّات وعقرب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله:( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) وجنسٌ أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظلّ الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه.

أقول: وسيأتي الكلام في الجنّ والشياطين من الأنس في مقام يناسبه إن شاء الله تعالى.

٣٥٦

( سورة الأعراف آية ١٨٠ - ١٨٦)

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا  وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ  سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٨٠ ) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( ١٨١ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٨٢ ) وَأُمْلِي لَهُمْ  إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( ١٨٣ ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا  مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ  إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ١٨٤ ) أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ  فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ١٨٥ ) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ  وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٨٦ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها، وهي بمنزلة تجديد البيان لما انتهى إليه الكلام في الآيات السابقة، وذلك أنّ الهدى والضلال يدوران مدار دعوته تعالى بأسمائه الحسنى والإلحاد فيها، والناس من منتحلهم وزنديقهم وعالمهم وجاهلهم لا يختلفون بحسب فطرتهم وباطن سريرتهم في أنّ هذا العالم المشهود متكّئٌ على حقيقة هي المقوّمة لأعيان أجزائها الناظمة نظامها، وهو الله سبحانه الّذي منه يبتدء كلّ شئ وإليه يعود كلّ شئ الّذي يفيض على العالم ما يشاهد فيه من جمال وكمال، وهي له ومنه.

والناس في هذا الموقف على ما لهم من الاتّفاق على أصل الذات ثلاثة أصناف: صنف يسمّونه بما لا يشتمل من المعنى إلّا على ما يليق أن ينسب إلى ساحته من الصفات المبيّنة للكمال، أو النافية لكلّ نقص وشين، وصنف يلحدون في أسمائه، ويعدلون بالصفات

٣٥٧

الخاصّة به إلى غيره كالماديّين والدهريّين الّذين ينسبون الخلق والإحياء والرزق وغير ذلك إلى المادّة أو الدهر، وكالوثنيّين الناسبين الخير والنفع إلى آلهتهم، وكبعض أهل الكتاب حيث يصفون نبيّهم أو أولياء دينهم بما يختصّ له تعالى من الخصائص، ويلحق بهم طائفة من المؤمنين حيث يعطون للأسباب الكونيّة من الاستقلال في التأثير ما لا يليق إلّا بالله سبحانه، وصنف يؤمنون به تعالى غير أنّهم يلحدون في أسمائه فيثبتون له من صفات النقص والأفعال الدنيّة ما هو منزّه عنه كالاعتقاد بأنّ له جسما، وأنّ له مكانا، وأنّ الحواسّ المادّيّة يمكن أن تتعلّق به على بعض الشرائط، وأنّ له علماً كعلومنا وإرادة كإراداتنا وقدرة كمقدراتنا، وأنّ لوجده بقاءً زمانيّاً كبقائنا، وكنسبة الظلم في فعله أو الجهل في حكمه ونحو ذلك إليه، وهذه جميعاً من الإلحاد في أسمائه.

ويرجع الأصناف الثلاثة في الحقيقة إلى صنفين: صنف يدعونه بالأسماء الحسنى ويعبدون الله ذو الجلال والإكرام، وهؤلاء هم المهتدون بالحقّ، وصنف يلحدون في أسمائه ويسمّون غيره باسمه أو يسمّونه باسم غيره: وهؤلاء أصحاب الضلال الّذين مسيرهم إلى النار على حسب حالهم في الضلال وطبقاتهم منه، وقد بيّن الله سبحانه: أنّ الهداية منه مطلقا فإنّها صفة جميلة وله تعالى حقيقتها، وأمّا الضلال فلا ينسب إليه سبحانه أصله لأنّه بحسب الحقيقة عدم اهتداء المحلّ بهداية الله، وهو معني عدمي وصفة نقص وأمّا تثبيته في المحلّ بعد أوّل تحقّقه، وجعله صفة لازمة للمحلّ بمعنى سلب التوفيق وقطع العطيّة الإلهيّة جزاءً للضالّ بما آثر الضلال على الهدى، وكذّب بآيات الله فهو من الله سبحانه، وقد نسبه إلى نفسه في كلامه، وذلك بالاستدراج والإملاء.

فالآيات تشير إلى أنّ ما انتهى إليه كلامه سبحانه أنّ حقيقة الهداية والإضلال من الله إنّما مغزاه وحقيقة معناه أنّ الأمر يدور مدار دعوته تعالى بالأسماء الحسنى وكلّها له، وهو الإهتداء، والإلحاد في أسمائه، والناس في ذلك صنفان: مهتد بهداية الله لا يعدل به غيره، وضالّ منحرف عن أسمائه مكذّب بآياته، والله سبحانه يسوقهم إلى النار جزاءً لهم بما كذّبوا بآياته، كما قال:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ) الآية، وذلك بالاستدراج والإملاء.

٣٥٨

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) الاسم بحسب اللغة ما يدلّ به على الشئ سواء أفاد مع ذلك معنى وصفيّا كاللفظ الّذي يشار به إلى الشئ لدلالته على معنى موجود فيه، أو لم يفد إلّا الإشارة إلى الذات كزيد وعمرو وخاصّة المرتجل من الأعلام، وتوصيف الأسماء الحسنى - وهي مؤنّث أحسن - يدلّ على أنّ المراد بها الأسماء الّتي فيها معنى وصفىّ دون ما لا دلالة لها إلّا على الذات المتعالية فقط لو كان بين أسمائه تعالى ما هو كذلك، ولا كلّ معني وصفىّ، بل المعني الوصفيّ الّذي فيه شئ من الحسن، ولا كلّ معني وصفىّ حسن بل ما كا أحسن بالنسبة إلى غيره إذا اعتبرا مع الذات المتعالية: فالشجاع والعفيف من الأسماء الحسنة لكنّهما لا يليقان بساحة قدسه لإنبائهما عن خصوصيّة جسمانيّة لا يمكن سلبها عنهما، ولو أمكن لم يكن مانع عن إطلاقهما عليه كالجواد والعدل والرحيم.

فكون اسم مّا من أسمائه تعالى أحسن الأسماء أن يدلّ على معنى كماليّ غير مخالط لنقص أو عدم، مخالطة لا يمكن معها تحرير المعنى من ذلك النقص والعدم وتصفيته، وذلك في كلّ ما يستلزم حاجة أو عدماً وفقداً كالأجسام والجسمانيّات والأفعال المستقبحة أو المستشنعة، والمعاني العدميّة.

فهذه الأسماء بأجمعها محصول لغاتنا لم نضعها إلّا لمصاديقها فينا الّتي لا تخلو عن شوب الحاجة والنقص غير أنّ منها ما لا يمكن سلب جهات الحاجة والنقص عنها كالجسم واللون والمقدار وغيرها، ومنها ما يمكن فيه ذلك كالعلم والحياة والقدرة فالعلم فينا الإحاطة بالشئ من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادّيّة، والقدرة فينا المنشإيّة للفعل بكيفيّة مادّيّة موجودة لعضلاتنا، والحياة كوننا بحيث نعلم ونقدر بما لنا من وسائل العلم والقدرة فهذه لا تليق بساحة قدسه غير أنّا إذا جرّدنا معانيها عن خصوصيّات المادّة عاد العلم وهو الإحاطة بالشئ بحضوره عنده، والقدرة هي المنشإيّة للشئ بإيجاده، والحياة كون الشئ بحيث يعلم ويقدر، وهذه لا مانع من إطلاقها عليه لأنّها معان كماليّة خالية عن جهات النقص والحاجة، وقد دلّ العقل والنقل أنّ كلّ صفة كماليّة فهي له تعالى وهو المفيض لها على غيره من غير مثال سابق فهو تعالى عالم قادر حيّ لكن لا كعلمنا وقدرتنا وحياتنا بل بما

٣٥٩

يليق بساحة قدسه من حقيقة هذه المعاني الكماليّة مجرّدة عن النقائص.

وقد قدّم الخبر في قوله:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) وهو يفيد الحصر، وجئ بالأسماء محلّى باللّام، والجمع المحلّى باللّام يفيد العموم، ومقتضى ذلك أنّ كلّ اسم أحسن في الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد، وإذ كان الله سبحانه ينسب بعض هذه المعاني إلى غيره ويسمّيه به كالعلم الحياة والخلق والرحمة فالمراد بكونها لله كون حقيقتها له وحده لا شريك له.

وظاهر الآيات بل نصّ بعضها يؤيّد هذا المعنى كقوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة: ١٦٥. وقوله:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء: ١٣٩، وقوله:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة: ٢٥٥، وقوله:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن: ٦٦ فللّه سبحانه حقيقة كلّ اسم أحسن لا يشاركه غيره إلّا بما ملّكهم منه كيفما أراد وشاء.

ويؤيّد هذا المعنى ظاهر كلامه أينما ذكر أسماءه في القرآن كقوله تعالى:( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه: ٨ وقوله:( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) أسرى: ١١٠، وقوله:( لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ  يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحشر: ٢٤ فظاهر الآيات جميعاً كون حقيقة كلّ اسم أحسن لله سبحانه وحده.

وما احتمله بعضهم أنّ اللّام في( الأسماء ) للعهد ممّا لا دليل عليه ولا في القرائن الحافّة بالآيات ما يؤيّده غير ما عهده القائل من الأخبار العادّة للاسماء الحسنى، وسيجئ الكلام فيها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

وقوله :( فَادْعُوهُ بِهَا ) إمّا من الدعوة بمعنى التسمية كقولنا: دعوته زيدا ودعوتك أباعبدالله أي سمّيته وسمّيتك، وإمّا من الدعوة بمعنى النداء أي نادوه بها فقولوا: يا رحمان يا رحيم وهكذا. أو من الدعوة بمعنى العبادة أي فاعبدوه مذعنين أنّه متّصف بما يدلّ عليه هذه الأسماء من الصفات الحسنة والمعاني الجميلة.

وقد احتملوا جميع هذه المعاني غير أنّ كلامه تعالى في مواضع مختلفة يذكر فيها

٣٦٠

دعاء الربّ يؤيّد هذا المعنى الأخير كما في الآية السابقة:( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) وقوله:( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن: ٦٠ حيث ذكر أوّلاً الدعاء ثمّ بدّله ثانياً من العبادة إيماءً إلى اتّحادهما، وقوله:( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) الأحقاف: ٦، وقوله:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: ٦٥ يريد إخلاص العبادة.

ويؤيّده ذيل الآية:( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) بظاهره فإنّه لو كان المراد بالدعاء التسمية أو النداء دون العبادة لكان الأنسب أن يقال: بما كانوا يصفون كما قال في موضع آخر:( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) الأنعام: ١٣٩.

فمعنى الآية - والله أعلم - ولله جميع الأسماء الّتي هي أحسن فاعبدوه وتوجّهوا إليه بها والتسمية والنداء من لواحق العبادة.

قوله تعالى: ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) إلى آخر الآية. اللحد والإلحاد بمعنى واحد وهو التطرّف والميل عن الوسط إلى أحد الجانبين، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح الّذي في الوسط فقرائة يلحدون بفتح الياء من المجرّد، ويلحدون بضمّ الياء من باب الإفعال بمعنى واحد، ونقل عن بعض اللغويّين: أنّ اللحد بمعنى الميل إلى جانب، والإلحاد بمعنى الجدال والمماراة.

وقوله:( سَيُجْزَوْنَ ) الآية بالفصل لأنّه بمنزلة الجواب لسؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل:( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) قيل: إلى مَ يصير حالهم؟ فاُجيب:( سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وللبحث في الأسماء الحسنى بقايا ستوافيك في كلام مستقلّ نورده بعد الفراغ عن تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قد مرّ بعض ما يتعلّق به من الكلام في قوله تعالى:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) الآية: ١٥٩ من السورة وتختصّ هذه الآية بأنّها لوقوعها في سياق تقسيم الناس إلى ضالّ

٣٦١

ومهتد، وبيان أنّ الملاك في ذلك دعاؤه سبحانه بأحسن الأسماء اللائقة بحضرته والإلحاد في أسمائه، تدلّ على أنّ النوع الإنسانيّ يتضمّن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقة إذ الكلام في الإهتداء والضلال الحقيقيّين المستندين إلى صنع الله، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فاُولئك هم الخاسرون، والإهتداء الحقيقيّ لا يكون إلّا عن هداية حقيقيّة، وهي الّتي لله سبحانه، وقد تقدّم في قوله تعالى:( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) الأنعام: ٨٩، وغيره أنّ الهداية الحقيقيّة الإلهيّة لا تتخلّف عن مقتضاها بوجه وتوجب العصمة من الضلال، كما أنّ الترديد الواقع في قوله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ) يونس: ٣٥. يدلّ على أنّ من يهدي إلى الحقّ يجب أن لا يكون مهتدياً بغيره إلّا بالله فافهم ذلك.

وعلى هذا فإسناد الهداية إلى هذه الاُمّة لا يخلو عن الدلالة على مصونيّتهم من الضلال واعتصامهم بالله من الزيغ إمّا بكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله:( أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) متّصفين بهذه العصمة والصيانة كالأنبياء والاوصياء، وإمّا بكون بعض هذه الاُمّة كذلك وتوصيف الكلّ بوصف البعض نظير قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الجاثية: ١٦، وقوله:( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) المائدة: ٢٠، وقوله:( لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة: ١٤٣، وإنّما المتّصف بهذه المزايا بعضهم دون الجميع.

والمراد بالآية - والله أعلم - إنّا لا نأمركم بأمر غير واقع أو خارج عن طوق البشر فإنّ ممّن خلقنا اُمّة متلبّسة بالإهتداء الحقيقيّ هادين بالحقّ لأنّ الله كرمهم بهدايته الخاصّة.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجةً فدرجةً، والاستدناء من أمر أو مكان، وقرينة المقام تدلّ على أنّ المراد به هنا الاستدناء من الهلاك إمّا في الدنيا أو في الآخرة.

وتقييد الاستدراج بكونه من حيث لا يعلمون للدلالة على أنّ هذا التقريب خفيّ غير ظاهر عليهم بل مستبطن فيما يتلهّون فيه من مظاهر الحياة المادّيّة فلا يزالون يقترابون

٣٦٢

من الهلاك باشتداد مظالمهم فهو تجديد نعمة بعد نعمة حتّى يصرفهم التلذّذ بها عن التأمّل في وبال أمرهم كما مرّ في قوله تعالى:( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا ) الأعراف: ٩٥، وقال تعالى:( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران: ١٩٧.

ومن وجه آخر لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربّهم وكذّبوا بآياته سلبوا اطمئنان القلوب وأمنها بالتشبّث بذيل الأسباب الّتي من دون الله وعذّبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب وقصور الأسباب وتراكم النوائب، وهم يظنّون أنّها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذاباً وهم يحسبونه زيادة في النعمة حتّى يردوا عذاب الآخرة وهو أمرّ وأدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربّهم حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدون.

قال تعالى:( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد: ٢٨، وقال:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) طه: ١٢٤، وقال:( فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة: ٥٥، وهذا معنى آخر من الاستدراج لكن قوله تعالى بعده:( وَأُمْلِي لَهُمْ ) لا يلائم ذلك فالمتعيّن هو المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الإملاء هو الإمهال، وقوله:( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) تعليل لمجموع ما في الآيتين، وفي قوله( وَأُمْلِي ) بعد قوله:( سَنَسْتَدْرِجُهُم ) الآية، التفات من التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده للدلالة على مزيد العناية بتحريمهم من الرحمة الإلهيّة وإيرادهم مورد الهلكة.

وأيضاً الإملاء هو إمهالهم إلى أجل مسمّي. فيكون في معنى قوله:( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤، وهذه الكلمة هي قوله لآدمعليه‌السلام حين إهباطه إلى الأرض:( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) البقرة: ٣٦ وهو القضاء الإلهيّ والقضاء مختصّ به تعالى لا يشاركه فيه غيره، وهذا بخلاف الاستدراج الّذي هو إيصال النعمة بعد النعمة وتجديدها فإنّها نعمٌ إلهيّة مفاضة بالوسائط من

٣٦٣

الملائكة والأمر فلهذا السبب جئ في الاستدراج بصيغة المتكلّم مع الغير، وغيّر ذلك في الإملاء وفي الكيد الّذي هو أمر متحصّل من الاستدراج والإملاء إلى لفظ المتكلّم وحده.

قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) في تركيب الكلام اختلاف شديد بينهم، والّذي يستبق إلى الذهن من السياق أن يكون قوله:( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ) كلاماً تامّاً سيق للإنكار و التوبيخ ثمّ قوله:( مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ) الآية كلاماً آخر سيق لبيان صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعواه النبوّة، وهو يشير إلى ما يتفكّرون فيه كأنّه قيل: أولم يتفكّروا في أنّه ما بصاحبهم من جنّة الآية حتّى يتبيّن لهم ذلك؟ نعم، ما به من جنّة إن هو إلّا نذير مبين.

والتعبير عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصاحبهم للإشارة إلى مادّة الاستدلال الفكريّ فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصحبهم ويصحبونه طول حياته بينهم فلو كان به شئ من جنّة لبان لهم ذلك البتّة فهو فيما جاء به نذير لا مجنون، والجنّة بناء نوع من الجنّون على ما قيل وإن كان من الجائز أن يكون المراد به الفرد من الجنّ بناء على ما يزعمونه أنّ المجنون يحلّ فيه بعض الجنّ فيتكلّم من فيه وبلسانه.

قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) إلى آخر الآية قد مرّ كراراً أنّ الملكوت في عرف القرآن على ما يظهر من قوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس: ٨٣ هو الوجه الباطن من الأشياء الّذي يلي جهة الربّ تعالى، وأنّ النظر إلى هذا الوجه واليقين متلازمان كما يفهم من قوله:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥.

فالمراد توبيخهم في الإعراض والانصراف عن الوجه الملكوتيّ للأشياء لم نسوه ولم ينظروا فيه حتّى يتبيّن لهم أنّ ما يدعوهم إليه هو الحقّ؟

وقوله:( وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ) عطف على موضع السماوات، وقوله( مِن شَيْءٍ ) بيان لما الموصولة، ومعنى الآية: لم لم ينظروا في خلق السماوات والأرض وأيّ شئ آخر ممّا خلقه الله؟ لكن لا من الوجه الّذي يلي الأشياء حتّى ينتج العلم بخواصّ الأشياء

٣٦٤

الطبيعيّة بل من جهة أنّ وجوداتها غير مستقلّة بنفسها مرتبطة بغيرها محتاجة إلى ربّ يدبّر أمرها وأمر كلّ شئ، وهو ربّ العالمين.

وقوله:( وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) عطف على قوله :( مَلَكُوتِ ) الآية لكونه في تأويل المفرد والتقدير: أولم ينظروا في أنّه عسى أن يكون قد اقتراب أجلهم فإنّ النظر في هذا الاحتمال ربّما صرفهم عن التمادي على ضلالهم وغيّهم فأغلب ما يصرف الإنسان عن الاشتغال بأمر الآخرة، ويوجّه وجهه إلى الاغترار بالدنيا نسيان الموت الّذي لا يدري متى يرد رائده، وأمّا إذا التفت إلى ذلك وشاهد جهله بأجله وأنّ من المرجوّ المحتمل أن يكون قد اقتراب منهم فإنّه يقطع منابت الغفلة ويمنعه عن اتّباع الهوى وطول الأمل.

وقوله:( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) الضمير للقرآن على ما يستدعيه السياق، وفي الكلام إيآس من إيمانهم بالمرّة أي إن لم يؤمنوا بالقرآن وهو تجلّيه سبحانه عليهم بكلامه يكلّمهم بما يضطرّ عقولهم بقبوله من الحجج والبراهين والموعظة الحسنة وهو مع ذلك معجزة باهرة فلا يؤمنون بشئ آخر البتّة، وقد أخبر سبحانه أنّه طبع على قلوبهم فلا سبيل لهم إلى فقه القول والإيمان بالحقّ، ولذلك عقبه بقوله في الآية التالية:( مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ) الآية.

قوله تعالى: ( مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) العمه الحيرة والتردّد في الضلال أو عدم معرفة الحجّة، وإنّما لم يذكر ما يقابله وهو أنّ من يهدي فلا مضلّ له لأنّ الكلام مسوق لتعليل الآية السابقة:( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ ) الآية كأنّه قيل: لم لا يؤمنون بحديث البتّة؟ فقيل: لأنّ من يضلل الله الآية.

( كلام في الأسماء الحسنى في فصول)

١ - ما معنى الأسماء الحسنى؟ و كيف الطريق إليها؟ نحن أوّل ما نفتح أعيننا ونشاهد من مناظر الوجود ما نشاهده يقع إداراكنا على أنفسنا وعلى قرب الاُمور منّا

٣٦٥

وهي روابطنا مع الكون الخارج من مستدعيات قوانا العاملة لإبقائنا فأنفسنا، وقوانا، وأعمالنا المتعلّقة بها هي أوّل ما يدقّ باب إدراكنا لكنّا لا نرى أنفسنا إلّا مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلّا كذلك، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة، وعند ذلك يقضي بذات مّا يقوم بحاجته ويسدّ خلّته، وإليه ينتهي كلّ شئ، وهو الله سبحانه، ويصدّقنا في هذا النظر والقضاء قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) .

وقد عجز التاريخ عن العثور على بدء ظهور القول بالربوبيّة بين الأفراد البشريّة بل وجده وهو يصاحب الإنسانيّة إلى أقدم العهود الّتي مرّت على هذا النوع حتّى أنّ الأقوام الوحشيّة الّتي تحاكي الإنسان الأوّلي في البساطة لمّا اكتشفوهم في أطراف المعمورة كقطّان أميركا واُستراليا وجدوا عندهم القول بقوى عالية هي وراء مستوى الطبيعة ينتحلون بها، وهو قول بالربوبيّة وإن اشتبه عليهم المصداق فالإذعان بذات ينتهي إليها أمر كلّ شئ من لوازم الفطرة الإنسانيّة لا يحيد عنه إلّا من انحرف عن إلهام فطرته لشبهة عرضت له كمن يضطرّ نفسه على الاعتياد بالسمّ وطبيعته تحذّره بإلهامها، وهو يستحسن ما ابتلي به.

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الإلهيّة أنّا نذعن بانتهاء كلّ شئ إليه، وكينونته ووجوده منه فهو يملك كلّ شئ لعلمنا أنّه لولم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره على أنّ بعض هذه الأشياء ممّا ليست حقيقته إلّا مبنيّة على الحاجة منبئة عن النقيصة، وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الّذي إليه يرجع كلّ شئ في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك - بكسر الميم وبضمّها - على الإطلاق، فهو سبحانه يملك ما وجدناه في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة وغير ذلك.

فهو سبحانه حيّ، قادر، عليم، سميع، بصير لأنّ في نفيها إثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه، ورازق ورحيم وعزيز ومحي ومميت ومبدء ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ

٣٦٦

الرزق والرحمة والعزّة والإحياء واللإماتة والإبداء والإعادة والبعث له، وهو السبّوح القدّوس العليّ الكبير المتعال إلى غير ذلك نعني بها نفى كلّ نعت عدميّ وكلّ صفة نقص عنه.

فهذا طريقنا إلى إثبات الأسماء والصفات له تعالى على بساطته، وقد صدّقنا كتاب الله في ذلك حيث أثبت الملك - بكسر الميم - والملك - بضمّ الميم - له على الإطلاق في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

٢ - ما هو حد ما نصفه أو نسمّيه به من الأسماء؟ تبيّن من الفصل الأوّل أنّا ننفي عنه جهات النقص والحاجة الّتي نجدها فيما نشاهده من أجزاء العالم، وهي تقابل الكمال كالموت والفقد والفقر والذلّة والعجز والجهل ونحو ذلك، ومعلوم أنّ نفي هذه الاُمور، وهي في نفسها سلبيّة يرجع إلى إثبات الكمال فإنّ في نفي الفقر إثبات الغنى، وفي نفي الذلّة والعجز والجهل إثبات العزّة والقدرة والعلم وهكذا.

وأمّا صفات الكمال الّتي نثبتها له سبحانه كالحياة والقدرة والعلم ونحو ذلك فقد عرفت أنّا نثبتها بالإذعان بملكه جميع الكمالات المثبتة في دار الوجود غير أنّا ننفي عنه تعالى جهات الحاجة والنقص الّتي تلازم هذه الصفات بحسب وجودها في مصاديقها.

فالعلم في الإنسان مثلاً إحاطة حضوريّة بالمعلوم من طريق انتزاع الصورة وأخذها بقوى بدنيّة من الخارج والّذي يليق بساحته أصل معنى الإحاطة الحضوريّة، وأمّا كونه من طريق أخذ الصورة المحوج إلى وجود المعلوم في الخارج قبلاً وإلى آلات بدنيّة مادّيّة مثلاً فهو من النقص الّذي يجب تنزيهه تعالى منه، وبالجملة نثبت له أصل المعنى الثبوتيّ ونسلب عنه خصوصيّة المصداق المؤدّية إلى النقص والحاجة.

ثمّ لمّا كنّا نفينا عنه كلّ نقص وحاجة ومن النقص أن يكون الشئ محدوداً بحدّ منتهياً بوجوده إلى نهاية فإنّ الشئ لا يحدّ نفسه وإنّما يحدّه غيره الّذي يقهره بضرب الحدّ والنهاية له، ولذلك نفينا عنه كلّ حدّ ونهاية فليس سبحانه محدوداً في ذاته بشئ ولا في صفاته بشئ وقد قال تعالى:( وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦ فله الوحدة الّتي تقهر كلّ شئ من قبله فتحيط به.

٣٦٧

ومن هنا قضينا أنّ صفاته تعالى عين ذاته، وكلّ صفة عين الصفة الاُخرى، فلا تمايز إلّا بحسب المفهوم، ولو كان علمه غير قدرته مثلاً، وكلّ منهما غير ذاته كما فينا معاشر الإنسان مثلاً لكان كلّ منها يحدّ الآخر والآخر ينتهي إليه فكان محدود وحدّ ومتناه ونهاية فكان تركيب وفقر إلى حادّ يحدّها غيره، تعالى عن ذلك وتقدّس، وهذه صفة أحديّته تعالى لا ينقسم من جهة من الجهات، ولا يتكثّر في خارج ولا في ذهن.

وممّا تقدّم يظهر فساد قول من قال: إنّ معاني صفاته تعالى ترجع إلى النفى رعاية لتنزيهه عن صفات خلقه فمعنى العلم والقدرة والحياة هناك عدم الجهل والعجز والموت، وكذا في سائر الصفات العليا، وذلك لاستلزامه نفي جميع صفات الكمال عنه تعالى، وقد عرفت أنّ سلوكنا الفطريّ يدفع ذلك، وظواهر الآيات الكريمة تنافيه، ونظيره القول بكون صفاته زائدة على ذاته أو نفي الصفات وإثبات آثارها وغير ذلك ممّا قيل في الصفات فكلّ ذلك مدفوعة بما تقدّم من كيفيّة سلوكنا الفطريّ، ولتفصيل البحث عن بطلانها محلّ آخر.

٣ - الانقسامات الّتي لها: يظهر ممّا قدّمناه من كيفيّة السلوك الفطريّ أنّ من صفات الله سبحانه ما يفيد معنى ثبوتيّاً كالعلم والحياة وهي المشتملة على معنى الكمال، ومنها ما يفيد معنى السلب وهي الّتي للتنزيه كالسبّوح والقدّوس، وبذلك يتمّ انقسام الصفات إلى قسمين: ثبوتيّة، وسلبيّة.

وأيضاً من الصفات ما هي عين الذات ليست بزائدة عليها كالحياة والقدرة والعلم بالذات، وهي الصفات الذاتيّة، ومنها ما يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبلا كالخلق والرزق وهي الصفات الفعليّة، وهي زائدة على الذات منتزعة عن مقام الفعل، ومعنى انتزاعها عن مقام أنّا مثلاً نجد هذه النعم الّتي نتنعّم بها ونتقلّب فيها نسبتها إلى الله سبحانه نسبة الرزق المقرّر للجيش من قبل الملك إلى الملك فنسمّيها رزقاً، وإذ كان منتهياً إليه تعالى نسمّيه رازقاً، ومثله الخلق والرحمة والمغفرة وسائر الصفات والأسماء الفعليّة، فهي تطلق عليه تعالى ويسمّى هو بها من غير أن يتلبّس بمعانيها كتلبّسه بالحياة والقدرة وغيرها من الصفات الذاتيّة، ولو تلبّس بها حقيقة لكانت صفات ذاتيّة

٣٦٨

غير خارجة من الذات فللصفات والأسماء انقسام آخر إلى الذاتيّة والفعليّة.

ولها انقسام آخر إلى النفسيّة والاضافيّة فما لا إضافة في معناها إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة نفسيّ، وما له إضافة إلى الخارج سواء كان معنى نفسيّاً ذا إضافة كالصنع والخلق هي النفسيّة ذات الإضافة، أو معنى إضافيّاً محضاً كالخالقيّة والرازقيّة هي الإضافيّة المحضة.

٤ - نسب الصفات والأسماء إلينا ونسبتها فيما بينها. لا فرق بين الصفة والاسم غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني يتلبّس به الذات أعمّ من العينيّة والغيريّة، والاسم هو الدالّ على الذات مأخوذة بوصف. فالحياة والعلم صفتان، والحيّ والعالم اسمان وإذ كان اللّفظ لا شأن له إلّا الدلالة على المعنى وانكشافه به فحقيقة الصفة والاسم هو الّذي يكشف عنه لفظ الصفة والاسم فحقيقة الحياة المدلول عليها بلفظ الحياة هي الصفة الإلهيّة وهي عين الذات، وحقيقة الذات بحياتها الّتي هي عينها هو الاسم الإلهيّ، وبهذا النظر يعود الحيّ والحياة اسمين للاسم والصفة وإن كانا بالنظر المتقدّم نفس الاسم ونفس الصّفة.

وقد تقدّم أنّا في سلوكنا الفطريّ إلى الأسماء إنّما تفطّنّا بها من جهة ما شاهدناه في الكون من صفات الكمال فأيقنّا من ذلك أنّ الله سبحانه مسمّى بها لما أنّه مالكها الّذي أفاض علينا بها، وما شاهدنا فيه من صفات النقص والحاجة فأيقنّا أنّه تعالى منزّه منها متّصف بما يقابلها من صفة الكمال وبها يرفع عنّا النقص والحاجة فيما يرفع، فمشاهدة العلم والقدرة في الكون تهدينا إلى اليقين بأنّ له سبحانه علماً وقدرة يفيض بهما ما يفيضه من العلم والقدرة، ومشاهدة الجهل والعجز في الوجود تدلّنا على أنّه منزّه عنهما متّصف بما يقابلهما من العلم والقدرة الّذين بهما ترفع حاجتنا إلى العلم والقدرة فيما ترفع، وهكذا في سائرها.

ومن هنا يظهر أنّ جهات الخلقة وخصوصيّات الوجود الّتي في الأشياء ترتبط إلى ذاته المتعالية من طريق صفاته الكريمة أي إنّ الصفات وسائط بين الذات وبين مصنوعاته فالعلم والقدرة والرزق والنعمة الّتي عندنا بالترتيب تفيض عنه سبحانه بما أنّه عالم قادر

٣٦٩

رازق منعم بالترتيب، وجهلنا يرتفع بعلمه، وعجزنا بقدرته، وذلّتنا بعزّته، وفقرنا بغناه، وذنوبنا بعفوه و مغفرته، وإن شئت فقل بنظر آخر هو يقهرنا بقهره ويحدّنا بلا محدوديّته، وينهينا بلا نهايته، ويضعنا برفعته، ويذلّلنا بعزّته، ويحكم فينا بما يشاء بملكه - بالضمّ - ويتصرّف فينا كيف يشاء بملكه - بالكسر فافهم ذلك.

وهذا هو الّذي نجري عليه بحسب الذوق المستفاد من الفطرة الصافية فمن يسأل الله الغنى ليس يقول: يا مميت يا مذلّ أغنني، وإنّما يدعوه بأسمائه: الغنيّ والعزيز والقادر مثلاً، والمريض الّذي يتوجّه إليه لشفاء مرضه يقول: يا شافي يا معافي يا رؤوف يا رحيم ارحمني واشفني، ولن يقول: يا مميت يا منتقم يا ذا البطش اشفني، وعلى هذا القياس.

والقرآن الكريم يصدّقنا في هذا السلوك والقضاء، وهو أصدق شاهد على صحّة هذا النظر فتراه يذيّل آياته الكريمة بما يناسب مضامين متونها من الأسماء الإلهيّة ويعلل ما يفرغه من الحقائق بذكر الاسم والاسمين من الأسماء بحسب ما يستدعيه المورد من ذلك. والقرآن هو الكتاب السماويّ الوحيد الّذي يستعمل الأسماء الإلهيّة في تقرير مقاصده، ويعلّمنا علم الأسماء من بين ما بلغنا من الكتب السماويّة المنسوبة إلى الوحي.

فتبيّن أنّا ننتسب إليه تعالى بواسطة أسمائه، وبأسمائه بواسطة آثارها المنتشرة في أقطار عالمنا المشهود فآثار الجمال والجلال في هذا العالم هي الّتي تربطنا بأسماء جماله وجلاله من حياة وعلم وقدرة وعزّة وعظمة وكبرياء، ثمّ الأسماء تنسبنا إلى الذات المتعالية الّتي تعتمد عليها قاطبة أجزاء العالم في استقلالها.

وهذه الآثار الّتي عندنا من ناحية أسمائه تعالى مختلفة في أنفسها سعة وضيقاً، وهما بإزاء ما في مفاهيمها من العموم والخصوص فموهبة العلم الّتي عندنا تنشعب منها شعب السمع والبصر والخيال والتعقّل مثلاً، ثمّ هي والقدرة والحياة وغيرها تندرج تحت الرزق والإعطاء والإنعام والجود، ثمّ هي والعفو والمغفرة ونحوها تندرج تحت الرحمة العامّة.

ومن هنا يظهر أنّ ما بين نفس الأسماء سعة وضيقاً، وعموماً وخصوصاً على الترتيب الّذي بين آثارها الموجودة في عالمنا فمنها خاصّة، ومنها عامّة، وخصوصها وعمومها بخصوص

٣٧٠

حقائقها الكاشفة عنها آثارها وعمومها، وتكشف عن كيفيّة النسب الّتي بين حقائقها النسب الّتي بين مفاهيمها فالعلم اسم خاصّ بالنسبة إلى الحيّ وعامّ بالنسبة إلى السميع البصير الشهيد اللطيف الخبير والرازق خاصّ بالنسبة إلى الرحمان، وعام بالنسبة إلى الشافي الناصر الهادي وعلى هذا القياس.

فللأسماء الحسنى عرض عريض تنتهي من تحت إلى اسم أو أسماء خاصّة لا يدخل تحتها اسم آخر ثمّ تأخذ في السعة والعموم ففوق كلّ اسم ما هو أوسع منه وأعمّ حتّى تنتهي إلى اسم الله الأكبر الّذي يسع وحده جميع حقائق الأسماء وتدخل تحته شتات الحقائق برُمّتها، وهو الّذي نسمّيه غالباً بالاسم الأعظم.

ومن المعلوم أنّه كلّما كان الاسم أعمّ كانت آثاره في العالم أوسع، والبركات النازلة منه أكبر وأتمّ لما أنّ الآثار للأسماء كما عرفت فما في الاسم من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كلّ أثر، ويخضع له كلّ أمر.

٥ - ما معنى الاسم الاعظم؟ شاع بين الناس أنّه اسم لفظيّ من أسماء الله سبحانه إذا دعي به استجيب، ولا يشذّ من أثره شئ غير أنّهم لما لم يجدوا هذه الخاصّة في شئ من الأسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة اعتقدوا أنّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا لو عثرنا عليه أخضعنا لإرادتنا كلّ شئ.

وفي مزعمة أصحاب العزائم والدعوات أنّ له لفظاً يدلّ عليه بطبعه لا بالوضع اللغويّ غير أنّ حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب، ولهم في الحصول عليه طرق خاصّة يستخرجون بها حروفا أوّلاً ثمّ يؤلّفونها ويدعون بها على ما يعرفه من راجع فنّهم.

وفي بعض الروايات الوارادة إشعار مّا بذلك كما ورد أنّ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها، وما ورد أنّه في آية الكرسيّ وأوّل سورة آل عمران، وما ورد أنّ حروفه متفرّقة في سورة الحمد يعرفها الإمام وإذا شاء ألّفها ودعا بها فاستجيب له.

وما ورد أنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف اسم الله الأعظم

٣٧١

فأحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أقلّ من طرفة عين، وما ورد أنّ الاسم الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسّم الله بين أنبيائه اثنتين وسبعين منها، واستأثر واحدة منها عنده في علم الغيب، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأنّ له تأليفاً لفظيّاً.

والبحث الحقيقيّ عن العلّة والمعلول وخواصّها يدفع ذلك كلّه فإنّ التأثير الحقيقيّ يدور مدار وجود الأشياء في قوّته وضعفه والمسانخة بين المؤثّر والمتأثّر، والاسم اللفظيّ إذا اعتبر من جهة خصوص لفظه كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيّات العرضيّة، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنيّة لا أثر لها من حيث نفسها في شئ البتّة، ومن المستحيل أن يكون صوت أوجدناه من طريق الحنجرة أو صورة خياليّة نصوّرها في ذهننا بحيث يقهر بوجوده وجود كلّ شئ، ويتصرّف فيما نريده على ما نريده فيقلّب السماء أرضاً والأرض سماءً ويحوّل الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا، وهو في نفسه معلول لإرادتنا.

والأسماء الإلهيّة واسمه الأعظم خاصّة وإن كانت مؤثّرة في الكون ووسائط وأسباباً لنزول الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود لكنّها إنّما تؤثّر بحقائقها لا بالألفاظ الدالّة في لغة كذا عليها، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصوّرة في الأذهان ومعنى ذلك أنّ الله سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شئ بما له من الصفة الكريمة المناسبة له الّتي يحويها الاسم المناسب، لا تأثير اللفظ أو صورة مفهومة في الذهن أو حقيقة اُخرى غير الذات المتعالية.

إلّا أنّ الله سبحانه وعد إجابة دعوة من دعاه كما في قوله:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة: ١٨٦، وهذا يتوقّف على دعاء وطلب حقيقيّ، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره - كما تقدّم في تفسير الآية - فمن انقطع عن كلّ سبب واتّصل بربّه لحاجة من حوائجه فقد اتّصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثّر الاسم بحقيقته ويستجاب له، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم فعلى حسب حال الاسم الّذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم انقاد لحقيقته كلّ شئ واستجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق. وعلى هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات و

٣٧٢

الأدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظيّ أو مفهومه.

ومعنى تعليمه تعالى نبيّاً من أنبيائه أو عبداً من عباده اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته فإن كان هناك اسم لفظيّ وله معنى مفهوم فإنّما ذلك لأجل أنّ الألفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعاً من الحفظ فافهم ذلك.

واعلم أنّ الاسم الخاصّ ربّما يطلق على ما لا يسمّى به غير الله سبحانه كما قيل به في الاسمين: الله، والرحمان. أمّا لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاصّ به ليس اسماً بالمعنى الّذي نبحث عنه، وأمّا الرحمان فقد عرفت أنّ معناه مشترك بينه وبين غيره تعالى لما أنّه من الأسماء الحسنى، هذا من جهة البحث التفسيريّ، وأمّا من حيث النظر الفقهيّ فهو خارج عن مبحثنا.

٦ - عدد الأسماء الحسنى: لا دليل في الآيات الكريمة على تعيّن عدد للأسماء الحسنى تتعيّن به بل ظاهر قوله:( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه: ٨، وقوله:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) الأعراف: ١٨٠، وقوله:( لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحشر: ٢٤، وأمثالها من الآيات أنّ كلّ اسم في الوجود هو أحسن الأسماء في معناها فهو له تعالى فلا تتحدّد أسمائه الحسنى بمحدّد.

الّذي ورد منها في لفظ الكتاب الإلهيّ مائة وبضعة (١٢٧) وعشرون اسماً هي.

ا - الإله، الأحد، الأوّل، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب الأبقى.

ب - البارئ، الباطن، البديع، البرّ، البصير.

ت - التوّاب.

ج - الجبّار، الجامع.

ح - الحكيم، الحليم، الحيّ، الحقّ، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفيّ.

٣٧٣

خ - الخبير، الخالق، الخلّاق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين.

ذ - ذو العرش، ذو الطول، ذو انتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوّة، ذو الجلال والإكرام، ذو المعارج.

ر - الرّحمان، الرّحيم، الرّؤوف، الرّبّ، رفيع الدرجات، الرّزّاق، الرّقيب.

س - السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب.

ش - الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المحال.

ص - الصمد.

ظ - الظاهر.

ع - العليم، العزيز، العفوّ، العليّ، العظيم، علّام الغيوب، عالم الغيب والشهادة.

غ - الغنيّ، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفّار.

ف - فالق الإصباح، فالق الحبّ والنوى، الفاطر، الفتّاح.

ق - القويّ، القدّوس، القيّوم، القاهر، القهّار، القريب، القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كلّ نفس بما كسبت.

ك - الكبير، الكريم، الكافي.

ل - اللطيف.

م - الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبّر، المصوّر، المجيد، المجيب، المبين ، المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المتقدر، المستعان، المبدئ ، مالك الملك.

ن - النصير، النور.

و - الوهّاب، الواحد، الوليّ، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود.

ه‍ - الهادي.

٣٧٤

وقد تقدّم أنّ ظاهر قوله:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) ( لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) أنّ معاني هذه الأسماء له تعالى حقيقة وعلى نحو الأصالة، ولغيره تعالى بالتبع فهو المالك لها حقيقة، وليس لغيره إلّا ما ملّكه الله من ذلك، وهو مع ذلك مالك لما ملّكه غيره لم يخرج عن ملكه بالتمليك، فله سبحانه حقيقة العلم مثلاً وليس لغيره منه إلّا ما وهبه له وهو مع ذلك له لم يخرج من ملكه وسلطانه.

ومن الدليل على الاشتراك المعنويّ في ما يطلق عليه تعالى وعلى غيره من الأسماء والأوصاف ما ورد من أسمائه تعالى بصيغة أفعل التفضيل كالأعلى والأكرم فإنّ صيغة التفضيل تدلّ بظاهرها على اشتراك المفضّل والمفضّل عليه في أصل المعنى، وكذا ما ورد بنحو الإضافة كخير الحاكمين وخير الرازقين وأحسن الخالقين لظهوره في الاشتراك.

٧- هل أسماء الله توقيفية؟ تبيّن ممّا تقدّم أن لا دليل على توقيفيّه أسماء الله تعالى من كلامه بل الأمر بالعكس، والّذي استدلّ به على التوقيف من قوله:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) الآية مبنيّ على كون اللام للعهد، وأن يكون المراد بالإلحاد التعدّي إلى غير ما ورد من أسمائه من طريق السمع، وكلا الأمرين مورد نظر لما مرّ بيانه.

وأمّا ما ورد مستفيضاً ممّا رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلّا واحداً من أحصاها دخل الجنّة) أو ما يقرب من هذا اللفظ فلا دلالة فيها على التوقيف. هذا بالنظر إلى البحث التفسيريّ، وأمّا البحث الفقهيّ فمرجعه فنّ الفقه والاحتياط في الدين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع، وأمّا مجرّد الإجراء والإطلاق من دون تسمية فالأمر فيه سهل.

( بحث روائي)

في التوحيد بإسناده عن الرّضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام : إنّ لله عزّوجلّ تسعة وتسعين اسماً من دعا الله بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنّة.

٣٧٥

أقول: وسيجئ نظيره عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام والمراد بقوله:( من أحصاها دخل الجنّة) الإيمان باتّصافه تعالى بجميع ما تدلّ عليه تلك الأسماء بحيث لا يشذّ عنها شاذّ.

وفي الدّر المنثور أخرج البخاريّ ومسلم وأحمد والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبّان والطبرانيّ وأبوعبدالله بن منده في التوحيد وابن مردويه وأبونعيم ولبيهقيّ في كتاب الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلّا واحداً من أحصاها دخل الجنّة إنّه وتر يحبّ الوتر.

أقول: رواها عن أبي نعيم وابن مردويه عنه، ولفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) لله مائة اسم غير اسم من دعا بها استجاب الله له دعاءه، وعن الدار قطنيّ في الغرائب عنه ولفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): قال عزّوجلّ: لي تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنّة.

وفيه أخرج أبو نعيم وابن مردويه عن ابن عبّاس وابن عمر قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنّة.

أقول: ورواه أيضاً عن أبي نعيم عن ابن عبّاس وابن عمر ولفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنّة، وهي في القرآن.

أقول: والرواية تعرّض ما سيأتي من روايات الإحصاء حيث إنّ جميعها مشتملة على أسماء ليست في القرآن بلفظها إلّا أن يكون المراد كونها في القرآن بمعناها.

وفي التوحيد بإسناده عن الصادق عن آبائه عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلّا واحداً من أحصاها دخل الجنّة.

وهي: الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأوّل، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العليّ، الأعلى، الباقي، البديع، الباري، الأكرم، الظاهر الباطن، الحيّ، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحقّ، الحسيب، الحميد، الحفيّ الربّ، الرحمان، الرحيم، الذاري، الرازق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام،

٣٧٦

المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، السيّد، سبّوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الظاهر، العدل، العفوّ، الغفور، الغنيّ، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتّاح، الفالق، القديم، الملك، القدّوس، القويّ، القريب، القيّوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنّان، المحيط، المبين، المغيث، المصوّر، الكريم، الكبير الكافي، كاشف الضرّ، الوتر، النور، الوهّاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفيّ، الوكيل، الوارث، البرّ، الباعث، التوّاب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديّان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي.

وفي الدّر المنثور أخرج الترمذيّ وابن المنذر وابن حبّان وابن منده والطبرانيّ والحاكم وابن مردويه والبيهقيّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلّا واحد من أحصاها دخل الجنّة إنّه وتر يحبّ الوتر: هو الله الّذي لا إله إلّا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القويّ، المتين، الوليّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، الوالي، المتعال، المقسط، الجامع، الغنيّ، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.

وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في الدعاء والطبرانيّ كالاهما و أبوالشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم و البيهقيّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنّة :

٣٧٧

اسأل الله، الرحمان، الرحيم، الإله، الربّ، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الحكيم، العليم، السميع، البصير، الحيّ، القيّوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنّان، المنّان، البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البادى - وفي لفظ: القائم - الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، العفوّ، الغفّار، الوهّاب، الفرد - وفي لفظ: القادر - الأحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم، المتعال، ذا الجلال والإكرام، المولى، النصير، الحقّ، المبين، الوارث، المنير، الباعث، القدير - وفي لفظ: المجيب - المحيي، المميت، الحميد - وفي لفظ: الجميل - الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتّاح، التوّاب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزّاق، العلّام، العليّ، العظيم، الغنيّ، المليك، المقتدر، الأكرم، الرؤوف، المدبّر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلّاق، الكفيل، الجليل.

أقول: وذكر لفظ الجلالة في هذه الروايات المشتملة على الإحصاء لإجراء الأسماء عليه. وإلّا فهو خارج عن العدد.

وفيه أخرج أبونعيم عن محمّد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمّد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين الّتي من أحصاها دخل الجنّة فقال: هي في القرآن: ففي الفاتحة خمسة أسماء، يا الله يا ربّ يا رحمان يا رحيم يا مالك، وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً: يا محيط يا قدير يا عليم يا حكيم يا عليّ يا عظيم يا توّاب يا بصير يا وليّ يا واسع يا كافي يا رؤوف يا بديع يا شاكر يا واحد يا سميع يا قابض يا باسط يا حيّ يا قيّوم يا غنيّ يا حميد يا غفور يا حليم يا إله يا قريب يا مجيب يا عزيز يا نصير يا قويّ يا شديد يا سريع يا خبير.

وفي آل عمران: يا وهّاب يا قائم يا صادق يا باعث يا منعم يا متفضّل، وفي النساء: يا رقيب يا حسيب يا شهيد يا مقيت يا وكيل يا عليّ يا كبير، وفي الأنعام يا فاطر يا قاهر يا لطيف يا برهان، وفي الأعراف: يا محيي يا مميت، وفي الأنفال يا نعم المولى يا نعم

٣٧٨

النصير، وفي هود: يا حفيظ يا مجيد يا ودود يا فعّالاً لما يريد، وفي الرعد: يا كبير يا متعال، وفي إبراهيم: يا منّان يا وارث، وفي الحجر: يا خلّاق.

وفي مريم: يا فرد، وفي طه: يا غفّار، وفي قد أفلح: يا كريم، وفي النور: يا حقّ، يا مبين، وفي الفرقان: يا هادي، وفي سبأ يا فتّاح، وفي الزمر: يا عالم، وفي غافر: يا غافر يا قابل التوب يا ذا الطول يا رفيع، وفي الذاريات: يا رزّاق يا ذا القوّة يا متين، وفي الطور: يا برّ.

وفي اقتربت: يا مليك يا مقتدر، وفي الرحمن: يا ذاالجلال والإكرام يا ربّ المشرقين يا ربّ المغربين يا باقي يا محسن، وفي الحديد: يا أوّل يا آخر يا ظاهر يا باطن، وفي الحشر: يا ملك يا قدّوس يا سلام يا مؤمن يا مهيمن يا عزيز يا جبّار يا متكبّر يا خالق يا بارئ يا مصوّر، وفي البروج يا مبدئ يا معيد، وفي الفجر: يا وتر، وفي الاخلاص: يا أحد يا صمد.

أقول: والرواية لا تخلو عن تشويش فإنّ فيه إدخال لفظ الجلالة في الأسماء التسعة والتسعين وليس منها، وقد كرّر بعض الأسماء كالكبير، وقد ذكر في أوّلها التسعة والتسعون، واُنهيت إلى مائة وعشرة أسماء، وفيها مع ذلك موضع مناقشات اُخر فيما يذكر من وجود الاسم في بعض السور كالفرد في سورة مريم، والبرهان في سورة الأنعام. إلى غير ذلك.

وعلى أيّ حال ظهر لك من هذه الروايات وهي الّتي عثرنا عليها من روايات الإحصاء أنّها لا تدلّ على انحصار الأسماء الحسنى فيما تحصيها مع ما فيها من الاختلاف في الأسماء، وذكر بعض ما ليس في القرآن الكريم بلفظ الاسميّة، وترك بعض ما في القرآن الكريم بلفظ الاسمّية بل غاية ما تدلّ عليه أنّ من أسماء الله تسعة وتسعين من خاصّتها أنّ من دعا بها استجيب له، ومن أحصاها دخل الجنّة.

على أنّ هناك روايات اُخرى تدلّ على كون أسمائه تعالى أكثر من تسعة وتسعين كما سيأتي بعضها، وفي الأدعية المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام شئ كثير من أسماء الله غير ما ورد منها في القرآن واُحصى في روايات الإحصاء.

٣٧٩

وفي الكافي بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: أنّ الله تبارك وتعالى خلق اسماً بالحروف غير متصوّت، وباللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسّد، وبالتشبية غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفيّ عنه الأقطار مبعّد عنه الحدود، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم مستتر غير مستور.

فجعله كلمة تأمّة على أربعة أجزاء معاً ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحداً منها وهو الاسم المكنون والمخزون فهذه الأسماء الّتي ظهرت(١) فالظاهر هو الله، تبارك، وتعالى، وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركناً، ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها: فهو الرحمان، الرحيم، الملك، القدّوس، الخالق، البارئ، المصوّر، الحيّ، القيّوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع، الحكيم، العزيز، الجبّار، المتكبّر، العليّ، العظيم، المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن، البارئ، المنشئ، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي، المميت، الباعث، الوارث.

فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتمّ ثلاثمأة وستّين اسماً فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة، وهذه الأسماء الثلاثة أركان، وحجب الاسم الواحد(٢) المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، وذلك قوله عز وجل:( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ )

أقول: قولهعليه‌السلام إنّ الله تبارك وتعالى خلق اسماً بالحروف غير متصوّت الخ هذه الصفات المعدودة صريحة في أنّ المراد بهذا الاسم ليس هو اللفظ، ولا معنى يدلّ عليه اللفظ من حيث إنّه مفهوم ذهني فإنّ اللفظ والمفهوم الذهنيّ الّذي يدلّ عليه لا معنى لاتّصافه بالاوصاف الّتي وصفه بها وهو ظاهر، وكذا يأبي عنه ما ذكره في الرواية بعد ذلك فليس المراد بالاسم إلّا المصداق المطابق للّفظ لو كان هناك لفظ، ومن المعلوم أنّ الاسم بهذا المعنى - وخاصّة بالنظر إلى تجزّية بمثل: الله وتبارك وتعالى - ليس إلّا الذات المتعالية أو هو قائم بها غير خارج عنها البتّة.

____________________

(١) رواه في التوحيد هكذا: المخزون بهذه الأسماء الثلاثة الّتي ظهرت: فالظاهر هو الله (و) تبارك وسبحان ولكلّ اسم من هذه أربعة أركان الخ.

(٢) في التوحيد : اركان و حجب للاسم الواحد الخ

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408