الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86236
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86236 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) حم السجدة: ٣١، والله من ورائهم محيط وهو الوليّ لا وليّ سواه قال تعالى:( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) السجدة: ٤.

وهذا هو الاحتناك أي الإلجام الّذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله:( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ...لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) أسرى: ٦٤، أي لألجمنّهم فأتسلّط عليهم تسلّط راكب الدابّة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم ويتوجّهون إلى حيث اُشير لهم إليه من غير أيّ عصيان وجماح.

ويظهر من الآيات أنّ له جنداً يعينونه فيما يأمر به ويساعدونه على ما يريد وهو القبيل الّذي ذكر في الآية السابقة:( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) وهؤلاء وإن بلغوا من كثرة العدد وتفنّن العمل ما بلغوا فإنّما صنعهم صنع نفس إبليس و وسوستهم نفس وسوسته كما يدلّ عليه قوله:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: ٣٩، وغيره ممّا حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الملوت:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة: ١١، ثمّ قال:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ) الأنعام: ٦١ إلى غير ذلك.

وتدلّ الآية:( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) الناس: ٦ على أنّ في جنده اختلافاً من حيث كون بعضهم من الجنّة وبعضهم من الإنس ويدل قوله:( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) الكهف: ٥٠، أنّ له ذرّيّة هم من أعوانه وجنوده لكن لم يفصّل كيفيّة انتشاء ذرّيّته منه.

كما أنّ هناك نوعاً آخر من الاختلاف يدلّ عليه قوله:( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) في الآية المتقدّمة، وهو الاختلاف من جهة الشدّة والضعف وسرعة العمل وبطؤه فإنّ الفارق بين الخيل والرجل هو السرعة في اللحوق والإدراك وعدمها.

٤١

وهناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، وهو الاجتماع عليه والإنفراد كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ) المؤمنون: ٩٨ ولعلّ قوله تعالى:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) الشعراء: ٢٢٣ من هذا الباب.

فملخّص البحث: أنّ إبليس لعنة الله موجود مخلوق ذو شعور وإرادة يدعوا إلى الشرّ ويسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميّز منهم إلا بعد خلق الإنسان وحينئذ تميّز منهم ووقع في جانب الشرّ والفساد، وإليه يستند نوعاً من الاستناد إنحراف الإنسان عن الصراط المستقيم وميله إلى جانب الشقاء والضلال، ووقوعه في المعصية والباطل كما أنّ الملك موجود مخلوق ذو إدراك وإرادة إليه يستند نوعاً من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة ومنزل الكمال والقرب، وأنّ لابليس أعواناً من الجنّ والإنس وذرّيّة مختلفي الأنواع يجرون بأمره إيّاهم أن يتصرّفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا وما فيها بإظهار الباطل في صورة الحقّ، وتزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.

وهم يتصرّفون في قلب الإنسان وفي بدنه وفي سائر شؤن الحياة الدنيا من أموال وبنين وغير ذلك بتصرّفات مختلفة اجتماعاً وإنفراداً، وسرعة وبطؤاً، وبلا واسطة ومع الواسطة والواسطه ربّما كانت خيراً أو شراً وطاعة أو معصية.

ولا يشعر الإنسان في شئ من ذلك بهم ولا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه ولا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان ولا ذواتهم وأعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أنّ الله سبحانه أخبرنا أنّ إبليس من الجنّ وأنّهم مخلوقون من النار، وكأنّ أوّل وجوده وآخره مختلفان.

٤٢

( بحث عقلي وقرآني مختلط)

قال في روح المعاني: وقد ذكر الشهرستانيّ عن شارح الأناجيل الاربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة، وقد ذكرت في التوراة، وهي أنّ اللعين قال للملائكة: إنّي اُسلّم أنّ لي إلهاً هو خالقي وموجدي لكن لي على حكمه أسئلة.

الأوّل: ما الحكمة في الخلق لا سيّما وقد كان عالماً أنّ الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار؟

الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنّه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر، وكلّ ما يعود إلى المكلّفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟

الثالث: هب إنّه كلّفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلّفني بالسجود لآدم؟

الرابع: لمّا عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنّه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر؟

الخامس: أنّه لمّا فعل ذلك لم سلّطني على أولاده ومكّنني من إغوائهم وإضلالهم؟

السادس: لمّا استمهلته المدّة الطويلة في ذلك فلم أمهلنى ومعلوم أنّه لو كان العالم خالياً من الشرّ لكان ذلك خيراً؟

قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء: يا إبليس أنت ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنّه لا اعتراض عليّ في شئ من أفعالي فإنّي أنا الله لا إله إلا أنا لا اُسال عمّا أفعل. (انتهى).

ثمّ قال الآلوسيّ: قال الإمام - الرازيّ - إنّه لو اجتمع الأوّلون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصاً، وكان الكلّ لازماً.

٤٣

ثمّ قال الآلوسيّ: ويعجبني ما يحكى أنّ سيف الدولة بن حمدان خرج يوماً على جماعته فقال: قد عملت بيتاً ما أحسب أنّ أحداً يعمل له ثانياً إلّا أن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالساً. فقيل له: ما هو؟ فقال قولي:

لك جسمي تعلّه

فدمي لن تطلّه

فابتدر أبو فراس قائلاً:

قال إن كنت مالكا

فلي الأمر كلّه

انتهى

أقول: ما مرّ من البيان في أوّل الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستّة عن آخرها ويكفي مؤنتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأوّلين والآخرين ثمّ لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادّعاه الإمام فليست بذاك الّذي يحسب، ولتوضيح الأمر نقول: أمّا الشبهة الأوّلى: فالمراد بالحكمة - وهي جهة الخير والصلاح الّذي يدعو الفاعل إلى الفعل - في الخلق إمّا الحكمة في مطلق الخلق وهو ما سوى الله سبحانه من العالم، وإمّا الحكمة في خلق الإنسان خاصّة.

فإن كان سؤالاً عن الحكمة في مطلق الخلق والإيجاد فمن المبرهن عليه أنّه فاعل تامّ لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمّم يتمّم فاعليّته ويصلح له اُلوهيّته فهو مبدء لما سواه منبع لكلّ خير ورحمة بذاته، واقتضاء المبدء لما هو مبدء له ضروريّ، والسؤال عن الضروريّ لغو كما أنّ ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها وتظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الأثر وإلّا لم تكن ملكة، فظهور أثرها ضروريّ لها وهو أن يتنعمّ بها كلّ مستحقّ على حسب استعداده واستحقاقه، واختلاف المستحقّين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة الّتي هي مبدء الخير.

وأمّا حديث الحكمة في الخلق والإيجاد بمعنى الغاية وجهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الّذي يستكمل بفعله ويكتسب به تماماً وكمالاً، وأمّا الفاعل الّذي عنده كلّ خير وكمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود،

٤٤

نعم يترتب على فعله فوائد ومنافع كثيرة لا تحصى ونعم إلهيّة لا تنقطع وهي غير مقصودة إلّا ثانياً وبالعرض، هذا في أصل الإيجاد.

وإن كان السؤال عن الحكمة في خلق الإنسان كما يشعر به قوله بعد: لا سيّما وقد كان عالماً أنّ الكافر لا يستوجب عند خلقه إلّا النار فالحكمه بمعنى غاية الفاعل والفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنّه تعالى غنيّ بذاته لا يفتقر إلى شئ ممّا سواه حتّى يتمّ أو يكمل به، وأمّا الحكمة بمعنى الغاية الكماليّة الّتي ينتهي إليها الفعل وتحرز فائدته فهو أن يخلق من المادّة الأرضيّة الخسيسة تركيب خاصّ ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علويّ شريف كريم يفوق بكمال وجوده كلّ موجود سواه، ويتقرّب إلى ربّه تقرّباً كماليّاً لا يناله شئ غيره فهذه غاية النوعيّة الإنسانيّة.

غير أنّ من المعلوم أنّ مركّباً أرضيّاً مؤلّفاً من الأضداد واقعاً في عالم التزاحم والتنافي محفوفاً بعلل وأسباب موافقة ومخالفة لا ينجو منها بكلّه، ولا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلّا بعض أفراده، ولا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلّا شطر من مصاديقه لا جميعها.

وليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال والسعادة وحرمان البعض ممّا يختصّ به الإنسان بل جميع الأنواع المتعلّقة الوجود بالمادّة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان والنبات وجميع التركيبات المعدنيّة وغيرها كذلك فشئ من هذه الأنواع الموجودة - وهي اُلوف واُلوف - لا يخلو عن غاية نوعيّة هي كمال وجوده، وهي مع ذلك لا تنال الكمال إلّا بنوعيّته، وأمّا الأفراد و الأشخاصّ فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال، وتفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل والأسباب المخالفة لأنها محفوفة بها ولا بدّ لها من العمل فيها جرياً على مقتضى علّيّتها وسببيّتها.

ولو فرض شئ من هذه الأنواع غير متأثّر من شئ من العوامل المخالفة كالنبات مثلاً غير متأثّر من حرارة وبرودة ونور وظلمة ورطوبة ويبوسة والسمومات والموادّ الأرضيّة المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاصّ أوّلاً، وإبطال العلل والأسباب ثانياً، وفيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك.

٤٥

ولا ضير في بطلان مساعي بعض الأفراد أو التركيبات إذا أدّى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال والغاية الشريفة المقصودة الّتي هي كمال النوع وغايته فإنّ الخلقة المادّيّة لا تسع أزيد من ذلك، وصرف الكثير من المادّة الخسيسة الّتي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.

فالعلّة الموجبة لوجود النوع الإنسانيّ لا تريد بفعلها إلّا الإنسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه وآخرته إلّا أنّ الإنسان لا يوجد إلّا بتركيب مادّيّ، وهذا التركيب لا يوجد إلّا إذا وقع تحت هذا النظام المادّيّ المنبسط على هذه الأجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفعلّة فيما بينها جميعاً بتأثيراتها وتأثراتها المختلفة، ولازم ذلك سقوط بعض أفراد الإنسان دون الوصول إلى كمال الإنسانيّة فعلّة وجود الإنسان تريد السعادة الإنسانيّة أوّلاً وبالذات، وأمّا سقوط بعض الأفراد فإنّما هو مقصود ثانياً وبالعرض ليس بالقصد الأوّليّ.

فخلقه تعالى الإنسان حكمته بلوغ الإنسان إلى غايته الكماليّة، وأما علمه بأنّ كثيرين من أفراده يكونون كفّاراً مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختلّ مراده من خلقه النوع الإنسانيّ، ولا أنّه يوجب أن يكون خلقه الإنسان الّذي سيكون كافراً علّة تامّة لكفره أو لصيرورته إلى النار، كيف؟ وعلّة كفره التامّة بعد وجوده علل وعوامل خارجيّة كثيرة جدّاً، وآخرها اختياره الّذي لا يدع الفعل ينتسب إلّا إليه فالعلّة الّتي أوجدت وجوده لم توجد إلّا جزءً من أجزائه علّة كفره، وأمّا تعلّق القضاء الإلهيّ بكفره فإنّما تعلّق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره وإرادته ويضطرّ إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرميّ إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطراراً.

وأمّا الشبهة الثانية : فقوله ( ما الفائدة في التكليف مع أنّه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر؟ ) مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التّام الغنيّ في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنّما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيّاً في ذاته.

فلا حكم من العقل أنّ كلّ فاعل حتّى ما هو غنيّ في ذاته لا جهة نقص فيه يجب

٤٦

أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه، ولا أنّ الموجود الّذي هو غنيّ في ذاته لا جهة نقص فيه حتّى يستكمل بشئ فهو يمتنع صدور فعل عنه.

والتكليف وإن كان في نفسه أمراً وضعيّاً اعتباريّاً لا يجري في متنه الأحكام الحقيقيّة إلّا أنّه في المكلّفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقيّة بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين:

توضيح ذلك ملخّصاً: أنّا لسنا نشكّ عن المشاهدة المتكرّرة والبرهان أنّ ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة الّتي نسميّها بما فيها من النظام الجاري عالماً مادّيّاً واقعة تحت الحركة الّتي ترسم لكلّ منها بقاء بحسب حاله، ووجوداً ممتدّاً يبتدي من حالة النقص وينتهي إلى حالة الكمال، وبين أجزاء هذا الامتداد الوجوديّ المسمّى بالبقاء ارتباطاً وجوديّاً حقيقيّاً يؤدّي به كلّ سابق إلى لاحقه، ويتوجّه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى مايليه بل هو قصد من أوّل حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه.

فالحبّة من القمح من أوّل ما تنشقّ للنموّ قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوءً و عليها سنابلها، والنطفة من الحيوان متوجّهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعيّة وهكذا، وليس النوع الإنساني بمستثنى من هذه الكليّة البتة فهو أيضاً من أوّل ما يأخذ فرد منه في التكوّن عازم نحو غايته متوجّه إلى مرتبة إنسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.

والإنسان لمّا اضطرّ بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعيّة، والعيشة الاجتماعيّة إنّما تتحقّق تحت قوانين وسنن جارية بين أفراد المجتمع وهي عقائد وأحكام وضعيّة اعتباريّة - التكاليف الدينيّة أو غير الدينيّة - تتكّون بالعمل بها في الإنسان عقائد وأخلاق وملكات هي الملاك في سعادة الإنسان في دنياه وكذا في آخرته وهي لوازم الأعمال المسمّاة بالثواب والعقاب.

فالتكليف يستبطن سيراً تدريجيّاً للإنسان بحسب حالاته وملكاته النفسانيّة نحو كماله وسعادته يستكمل بطيّ هذا الطريق والعمل بما فيه طوراً بعد طور حتّى ينتهي

٤٧

إلى ما هو خير له وأبقى، ويخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الّذي يسير نحو كماله فينتهي إليه إن ساعدته موافقة الأسباب، ويفسد في مسيره نحو الكمال إن خذلته ومنعته.

فقول القائل ( وما الفائدة في التكليف؟ ) كقوله ما الفائدة في تغذيّ النبات؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد؟.

وأمّا قوله: ( وكلّ ما يعود إلى المكلّفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف ) مغالطة أخرى لما عرفت أنّ التكليف في الإنسان أو أيّ موجود سواه يجري في حقّه التكليف واقع في طريق السعادة متوسّط بين كماله ونقصه في وجوده الّذي إنّما يتمّ ويكمل له بالتدريج، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلّفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلاً من طريق التكليف ووضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق وحال الطرقين في طريقيّتهما واحد عاد السؤال في الثاني كالأوّل: لم عين هذا الطريق وهو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم بغيره؟ والجواب أنّ العلل والأسباب الّتي تجمّعت على الإنسان مثلاً على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملاً بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهّرة لسرّه من طريق العادة.

وإن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلاً وإفاضة جميع مراحل الكمال ومراتب السعادة لهم في أوّل وجودهم من غير تدريج بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجوديّة وانتقاء المادّة والقوّة وجميع شؤن الامكان والموجود المخلوق الّذي هذا شأنه مجرّد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته، وليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أوّلاً المستكمل تدريجاً ففي الفرض خلف.

وأمّا الشبهة الثالثة فقوله ( هب إنّه كلّفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلّفني بالسجود لآدم؟) فجوابه ظاهر فإنّ هذا التكليف يتمّ بالإيتمار به صفة العبوديّة لله سبحانه، ويظهر بالتمرّد عنه صفة الاستكبار ففيه على أيّ حال تكميل من الله واستكمال من إبليس إمّا في جانب السعادة وإمّا في جانب الشقاوة، وقد اختار الثاني.

على أنّ تكليفه وتكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخطّ الّذي خطّ لآدم فإنّ

٤٨

الصراط المستقيم الّذي قدّر لآدم وذرّيّته أن يسلكوه لا يتمّ أمره إلّا بمسدّد معين يدعو الإنسان إلى هداه وهو الملائكة، وعدوّ مضلّ يدعوه إلى الإنحراف عنه والغواية فيه وهو إبليس وجنوده كما عرفت فيما تقدّم من الكلام.

وأمّا الشبهة الاربعة: فقوله ( لما ذا لعنني وأوجب عقابي بعد المعصية ولا فائدة له فيه؟ الخ).

جوابه أنّ اللعن والعقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الّذي هو الأصل المولّد لكلّ معصية، وليس الفعل الإلهيّ ممّا يجرّ إليه نفعاً أو فائدة حتّى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدّمت الإشارة إليه.

وليس قوله هذا إلّا كقول من يقول فيمن استقى سمّاً وشربه فهلك به: لم لم يجعله الله شفاءً وليس له في إماتته به نفع وله فيه أعظم الضرر؟ هلّا جعله رزقاً طيّباً للمسموم يرفع عطشه وينمو به بدنه؟ فهذا كلّه من الجهل بمواقع العلل والأسباب الّتي أثبتها الله في عالم الصنع والإيجاد فكلّ حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل وعوامل خاصّة من غير تخلّف واختلاف قانوناً كلّيّا.

فالمعصية إنّما تستتبع العقاب على النفس المتقذّرة بها إلّا أن تتطهّر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة، وإبطال العقاب من غير وجود شئ من أسبابه هدم لقانون العلّيّة العامّ، وفي انهدامه انهدام كلّ شئ.

وأمّا الشبهة الخامسة: أعني قوله ( إنّه لمّا فعل ذلك لم سلّطني على أولاده ومكّنني من إغوائهم وإضلالهم؟ ) فقد ظهر جوابه ممّا تقدّم فإنّ الهدى والحقّ العمليّ والطاعة وأمثالها إنّما تتحقّق مع تحقّق الضلال والباطل والمعصية وأمثالها، والدعوة إلى الحقّ إنّما تتمّ إذا كان هناك دعوة إلى باطل، والصراط المستقيم إنّما يكون صراطاً لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته.

فمن الضروريّ أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الإنسانيّة قائمة على ساقها والإنسانيّة محفوظة ببقائها النوعيّ بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الإنسانيّ ولم يمكّنه الله منهم ولا سلّطه عليهم إلّا بمقدار

٤٩

الدعوة كما صرّح(١) به القرآن الكريم وحكاه(٢) عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة.

وأمّا الشبهة السادسة: فأمّا قوله ( لمّا استمهلته المدّة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟ ) فقد ظهر جوابه ممّا تقدّم آنفا.

وأمّا قوله: ( ومعلوم أنّ العالم لو كان خالياً من الشرّ لكان ذلك خيراً ) فقد عرفت أنّ معنى كون العالم خالياً من الشرّ مأموناً من الفساد كونه مجرّداً غير مادّيّ، ولا معنى محصّل لعالم مادّيّ يوجد فيه الفعل من غير قوّة والخير من غير شرّ والنفع من غير ضرّ والثبات من غير تغيّر والطاعة من غير معصية والثواب من غير عقاب.

وأمّا ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله: ( يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنّه لا اعتراض عليّ في شئ من أفعالي فإنّي أنا الله الّذي لا إله إلّا أنا لا اُسأل عمّا أفعل ) فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم، قال تعالى:( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣.

وظاهر المنقول من قوله تعالى أنّه جواب إجماليّ عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيليّ عن كلّ واحد واحد، ومحصّله: أنّ هذه الشبهات جميعاً سؤال واعتراض عليه تعالى: ولا يتوجّه إليه اعتراض لأنّه الله لا إله إلّا هو لا يسأل عمّا يفعل.

وظاهر قوله تعالى أنّ قوله( لَا يُسْأَلُ ) متفرّع على قوله:( فَإِنِّي ) الخ، فمفاد الكلام أنّ الله تعالى لمّا كان بإنّيّته الثابتة بذاته الغنيّة لذاته هو الإله المبدئ المعيد الّذي يبتدئ منه كلّ شئ وينتهي إليه كلّ شئ فلا يتعلّق في فعل يفعله بسبب فاعليّ آخر دونه، ولا يحكم عليه سبب غائيّ آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كلّ فاعل، والغاية وراء كلّ غاية فكلّ فاعل يفعل بقوّة فيه وإنّ القوّة لله جميعاً، وكلّ غاية إنّما تقصد وتطلب لكمال ما فيه وخير ما عنده وبيده الخير كلّه.

____________________

(١) قوله تعالى:( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) الحجر: ٤٢ وقوله:( يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ ) لقمان: ٣١.

(٢) قوله( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ ) ابراهيم: ٢٢.

٥٠

ويتفرّع عليه أنّه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإنّ سبب الفعل إمّا فاعل وإمّا غاية وهو فاعل كلّ فاعل وغاية كلّ غاية، وأمّا غيره تعالى فلمّا كان ما عنده من قوّة الفعل موهوباً له من عند الله، وما يكتسبه من جهة الخير والمصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الأسباب وتنظيم العوامل والشرائط فإنّه مسؤول عن فعله لم فعله؟ وأكثر ما يسأل عنه إنّما هو الغاية وجهة الخير والمصلحة، وخاصّة في الأفعال الّتي يجري فيه الحسن والقبح والمدح والذمّ من الأفعال الاجتماعيّة في ظرف الاجتماع فإنّها المتّكئة على مصالحه، فهذا بيان تامّ يتوافق فيه البرهان والوحي.

وأمّا المتكلّمون فإنّهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة: أنّ أفعال الله هل تعلّل بالاغراض؟ وما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أنّ الله لا يسأل عن فعله فالأشاعرة لتجويزهم الاردة الجزافيّة واستناد الشرور والقبائح إليه تعالى ذكروا أنّ له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسّنة وليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض وهو ترتّب مصلحة محسّنة على الفعل.

والمعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض وغاية لاستلزامه اللغو والجزاف المنفيّ عنه تعالى فيفسّرون عدم كونه تعالى مسؤلاً في فعله بأنّه حكيم والحكيم هو الّذي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه فلا يفعل قبيحاً ولا لغواً ولا جزافاً، والّذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقّه إتيان القبيح واللغو والجزاف فهو تعالى غير مسؤول عمّا يفعل وهم يسألون.

والبحث طويل الذيل وقد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين ومن وافقهم من غيرهم قروناً متمادية، ولا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنّا نشير إلى حقيقة اُخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحقّ في المقام.

لا ريب أنّ لنا علوماً وتصديقات نركن إليها، ولا ريب أنّها على قسمين:القسم الأوّل: العلوم والتصديقات الّتي لا مساس لها طبعاً بأعمالنا وإنّما هي علوم تصديقيّة تكشف عن الواقع وتطابق الخارج سواء كنّا موجودين عاملين أعمالنا الحيويّة الفرديّة

٥١

أو الاجتماعيّة أم لا كقولنا: الاربعة زوج، والواحد نصف الإثنين، والعالم موجود، وإنّ هناك أرضاً وشمساً وقمراً إلى غير ذلك، وهي إمّا بديهيّة لا يدخلها شكّ، وإمّا نظريّة تنتهي إلى البديهيّات وتتبيّن بها.

والقسم الثاني: العلوم العمليّة والتصديقات الوضعيّة الاعتباريّة الّتي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، والاستناد إليها في مستوى الاجتماع الإنسانيّ فنستند إليها في إرادتنا ونعلل بها أفعالنا الاختياريّة، وليست ممّا يطابق الخارج بالذات كالقسم الأوّل وإن كنّا نوقعها على الخارج إيقاعاً بحسب الوضع والاعتبار لكنّ ذلك إنّما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة والواقعيّة كالأحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين والسّنن والشؤن الاعتباريّة كالولاية والرئاسة والسلطنة والملك وغيرها فإنّ الرئاسة الّتي نعتبرها لزيد مثلاً في قولنا ( زيد رئيس) وصف اعتباريّ، وليس في الخارج بحذائه شئ غير زيد الإنسان وليس كوصف الطول أو السواد الّذي نعتبرهما لزيد في قولنا ( زيد طويل القامة، أسود البشرة ) وإنّما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كوّنّا مجتمعاً من عدّة أفراد لغرض من الاغراض الحيويّة وسلّمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلّاً موضعه الّذي يليق به ثمّ يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنّه رأس لينحفظ بذلك المقام الّذي نصبناه فيه وينتفع بآثاره وفوائده.

فالاعتقاد بأنّ زيداً رأس ورئيس إنّما هو في الوهم لا يتعدّاه إلى الخارج غير أنّا نعتبره معنى خارجيّاً لمصلحة الاجتماع، وعلى هذا القياس كلّ معنى دائر في المجتمع الإنسانيّ معتبر في الحياة البشريّة متعلّق بالأعمال الإنسانيّة فإنّها جميعاً ممّا وضعه الإنسان وقلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدّى وهمه.

فهذان قسمان من العلوم، والفرق بين القسمين: أنّ القسم الأوّل مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة، وهو معنى كونه صدقاً ويطابقه الخارج وهو معنى كونه حقّا فالّذي في الذهن هو بعينه الّذي في الخارج وبالعكس: وأمّا القسم الثاني فإنّ موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلّا أنّا لمصلحة من المصالح الحيويّة نعتبره ونتوهّمه خارجيّاً منطبقاً عليه دعوى وأنّ لم ينطبق حقيقتة.

٥٢

فكون زيد رئيساً لغرض الاجتماع ككونه أسداً بالتشبيه والاستعاره لغرض التخيّل الشعريّ، وتوصيفنا في مجتمعنا زيداً بأنّه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيداً بأنّه أسد خارجيّ، وعلى هذا القياس جميع المعاني الاعتباريّه من تصوّر أو تصديق.

وهذه المعاني الاعتباريّة وإن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطبق إلّا أنها معتمدة على الخارج من جهة اُخرى وذلك أنّ نقص الإنسان مثلاً وحاجته إلى كماله الوجوديّ ونيله غاية النوع الإنسانيّ هو الّذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصوّراً وتصديقاً فإبقاء الوجود والمقاصد الحقيقيّة الماديّة أو الروحيّة الّتي يقصدها الإنسان ويبتغيها في حياته هي الّتي توجب له أن يعتبر هذه المعاني ثمّ يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة.

ولذلك تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعيّة فهناك أعمال واُمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبيّة مثلاً وهي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائيّة، وكذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيّين والغربيّين وبين الحاضرين والبادين، وربّما يحسن عند العامّة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصّة، وكذلك اختلاف النظر بين الغنيّ والفقير، وبين المولى والعبد، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة.

نعم هناك أمور اعتباريّة وأحكام وضعيّة لا تختلف فيها المجتمعات وهي المعاني الّتي تعتمد على مقاصد حقيقيّة عامّة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه، وحسن العدل، وقبح الظلم، فقد تحصّل أن للقسم الثاني من علومنا أيضاً اعتماداً على الخارج وإن كان غير منطبق عليه مستقيماً انطباق القسم الأوّل.

إذا عرفت ذلك علمت أنّ علومنا وأحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإنّ الخارج الّذي نماسّه فننتزع ونأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع والإيجاد وهو فعله، وعلى هذا فيعود معنى قولنا مثلاً: ( الواحد نصف الإثنين بالضرورة ) إلى أنّ الله سبحانه يفعل دائماً الواحد والإثنين على هذه النسبة الضروريّة، وعلى هذا القياس، ومعنى قولنا: ( زيد رئيس يجب احترامه ) أنّ الله سبحانه أوجد الإنسان إيجاداً بعثه

٥٣

إلى هذه الدعوى والمزعمة ثمّ إلى العمل على طبقه، وعلى هذا القياس كلّ ذلك على ما يليق بساحة قدسه عزّ شأنه.

وإذا علمت هذا دريت أنّ جميع ما بأيدينا من الأحكام العقليّة سواء في ذلك العقل النظريّ الحاكم بالضرورة والامكان، والعقل العمليّ الحاكم بالحسن والقبح المعتمد على المصالح والمفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.

فمن عظيم الجرم أن نحكّم العقل عليه تعالى فنقيّد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحدّه بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد والتقييد، أو أن نقنّن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا وحرمة فعل كذا وأنّه يحسن منه كذا ويقبح منه كذا على ما يراه قوم فإنّ في تحكيم العقل النظريّ عليه تعالى حكماً بمحدوديّته والحدّ مساوق للمعلوليّة فإنّ الحدّ غير المحدود والشئ لا يحدّ نفسه بالضرورة، وفي تحكيم العقل العمليّ عليه جعله ناقصاً مستكملاً تحكم عليه القوانين والسّنن الاعتباريّة الّتي هي في الحقيقة دعا و وهميّة كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.

ومن عظيم الجرم أيضاً أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين والتشريع أعني أحكام العقل النظريّة والعمليّة.

أمّا في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلّيّة النظريّة من مشاهدة أفعاله، ونسلك بها إلى إثبات وجوده حتّى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضروريّة معتلّاً بأنّ العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته ودرجات صفاته، وأنّه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعليّة، والفعل والترك بالنسبة إليه على السويّة وأنّه لا غرض له في فعله ولا غاية، وأنّ الخير والشرّ يستندان إليه جميعاً، ولو أبطلنا الأحكام العقليّة في تشخيص خصوصيّات أفعاله وسننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف عن أصل وجوده، وإشكال من ذلك أنّا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام والقوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه، والمنتزعة للمنتزع منه وهو عين السفسطة الّتي فيها بطلان العلم والخروج عن الفطرة الإنسانيّة إذ لو خالف شئ من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقليّة كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقليّ على الخارج المنتزع عنه - وهو فعله - ولو جاز

٥٤

الشكّ في صحّة شئ من هذه الأحكام الّتي نجدها ضروريّة كان الجميع ممّا يجوز فيه ذلك فينتفي العلم، وهو السفسطة.

وأمّا في مرحلة العمل فليتذكّر أنّ هذه الأحكام العمليّة والاُمور الاعتباريّة دعاو اعتقاديّة ومخترعات ذهنيّة وضعها الإنسان ليتوسّل بها إلى مقاصده الكماليّة وسعادة الحياة فما كان من الأعمال مطابقاً لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثمّ أمر بها وندب إليها، وما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح والمساءة ثمّ نهى عنها وحذّر منها - وحسن الفعل وقبحه موافقة لغرض الحياة وعدمها - والغايات الّتي تضطّر الإنسان إلى جعل هذه الأوامر والنواهي وتقنين هذه الأحكام واعتبار الحسن والقبح في الأفعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعيّ ولا حسن في العمل به ولا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الاطراف لا محصّل له.

والّذي شرّعه الله سبحانه من الأحكام والشرائع متّحد سنخاً مع ما نشرّعه فيما بيننا أنفسنا من الأحكام فوجوبه وحرمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده مثلاً من سنخ ما عندنا من الوجوب والحرمة والأمر والنهي والوعد والوعيد لا شك في ذلك، وهي معان اعتباريّة وعناوين ادّعائيّة غير أنّ ساحته تعالى منزّهة من أن تقوم به الدعوى الّتي هي من خطاء الذهن فهذه الدعاوى منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجّي والتمنّي منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكنّ الأحكام المشرّعة منه تعالى كالأحكام المشرّعة منّا متعلّقة بالإنسان الاجتماعيّ السالك بها من النقص إلى الكمال، والمتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الإنسانيّة فثبت أنّ لفعله تعالى التشريعي مصلحة وغرضاً تشريعيّاً، ولما أمر به أو نهى عنه حسناً وقبحاً ثابتين بثبوت المصالح والمفاسد.

فقول القائل: إنّ أفعاله التشريعيّة لا تعلّل بالأغراض كما لو قال قائل: إنّ ما مهّده من الطريق لا غاية له، ومن الضروريّ أنّ الطريق إنّما يكون طريقاً بغايته، والوسط إنّما يكون وسطا بطرفه، وقول القائل: إنّما الحسن ما أمر به الله و القبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلاً ضروريّاً كالظلم كان حسناً، ولو نهى عن حسن بالضرورة العقليّة كالعدل كان قبيحاً كما لو قال قائل: أنّ الله لو سلك بالإنسان نحو الهلاك والفناء

٥٥

كان فيه حياته السعيدة، ولو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقيّة عادت السعادة شقاوة.

فالحقّ الّذي لا محيص عنه في المرحلتين: أنّ العقل النظري مصيب فيما يشخّصه ويقضي به من المعارف الحقيقيّة المتعلّقة به تعالى فإنّا إنّما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم و القدرة والحياة، واستناد الموجودات إليه وسائر الصفات الفعليّة العليا كالرحمة والمغفرة والرزق والإنعام والهداية وغير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.

غير أن الّذي نجده من الصفات الكماليّة لا يخلو عن محدوديّة وهو تعالى أعظم من أن يحيط به حدّ، والمفاهيم لا تخلو عنه لأنّ كلّ مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عمّا سواه وهذا لا يلائم الإطلاق الذاتيّ فتوسّل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشئ من النعوت السلبيّة تنزيها وهو أنّه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف وأعظم من أن يحيط به تقييد وتحديد فمجموع التشبيه والتنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر، وقد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) المائدة: ٧٣، من غرر خطب أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ما يبيّن هذه المسألة بأوفى بيان ويبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت.هذا كلّه في العقل النظريّ.

وأمّا العقل العمليّ فقد عرفت أنّ أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعيّة غير أنّه تعالى إنّما شرّع ما شرّع واعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضّل به على الإنسان مثلاً وهو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنّه قائم بالإنسان الّذي قامت به الحاجة لا به تعالى، ولتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدّم.

وإذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرّعه من الأحكام ويطلب الحصول على الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره وينهاه ويوجب ويحرّم عليه كما يفعل ذلك بالإنسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجوّ حتّى يتوجّه إليه حكم موصل إليه بخلاف الإنسان بل لأنّه تعالى شرّع الشرائع وسنّ السنن ثمّ عاملنا معاملة العزيز المقتدر الّذي نقوم له بالعبوديّة وترجع إليه حياتنا ومماتنا ورزقنا وتدبير اُمورنا ودساتير أعمالنا وحساب أفعالنا والجزاء على حسناتنا وسيّئاتنا فلا يوجّه

٥٦

إلينا حكماً إلّا بحجّة، ولا يقبل منّا معذرة إلّا بحجّة، ولا يجزينا جزاءً إلّا بحجّة كما قال:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: ١٦٥، وقال:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الأنفال: ٤٢ إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الإنس والجنّ.

ولازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العمليّ ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن الّتي سنّها.

وعلى ذلك جرى كلامه سبحانه قال:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) يونس: ٤٤، وقال:( إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) آل عمران: ٩، وقال:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ) الدخان: ٣٨، وفي هذا المعنى الآيات الكثير الّتي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعيّة.

وفي ما تقدّم من معنى جريان حكم العقل النظريّ والعمليّ في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففيالقسم الأوّل كقوله تعالى:( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ ) آل عمران: ٦٠ ولم يقل: الحقّ مع ربّك لأنّ القضايا الحقّة والأحكام الواقعيّة مأخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتّى يتأيّد بها مثلنا، وقوله:( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقليّ أو غيره فإنّ الموانع والمعقّبات إنّما تتحقّق بفعله وهي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثّرة فيه، وقوله:( وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، وقوله:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) يوسف: ٢١، وقوله:( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣، فهو القاهر الغالب البالغ الّذي لا يقهره شئ ولا يغلب عن شئ ولا يحول بينه وبين أمره حائل يزاحمه، وقوله:( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الّتي ليس دونها مقيّد.

نعم يجري في أفعاله الحكم العقليّ لتشخيص الخصوصيّات وكشف المجهولات لا لأن يكون متبوعاً بل لأنّه تابع لازم مأخوذ من سنّته في فعله الّذي هو نفس الواقع الخارج، ويدلّ على ذلك جميع الآيات الّتي تحيل الناس إلى التعقّل والتذكّر والتفكّر والتدبّر ونحوها فلو لا أنّها حجّة فيما إفادته لم يكن لذلك وجه.

وفيالقسم الثاني: نحو قوله:( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )

٥٧

الأنفال: ٢٤، يدلّ على أنّ في العمل بالأحكام مصلحة الحياة السعيدة، وقوله:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الأعراف: ٢٨، وظاهره أنّ ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أنّ الله لو أمر بها لم تكن فحشاء، وقوله:( لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان: ١٣، وآيات كثيرة اُخرى تعلّل الأحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة والصوم والصدقات والجهاد وغير ذلك لا حاجة إلى نقلها.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم وكان في علم الله أنّه ليس منهم فاستخرج الله ما في نفسه بالحميّة فقال:( خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) .

وفي الدرّ المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية والديلميّ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم، فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.

قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتّبعه بالقياس.

وفي الكافي بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشيّ قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللهعليه‌السلام فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس.

قال: نعم، أنا أقيس.

قال: لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال : خلقتني من نار وخلقته من طين.

وفي العيون عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ إبليس أوّل من كفر وأنشأ الكفر.

اقول: ورواه العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام .

وفي الكافي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في حديث: أنّ إوّل معصية ظهرت الأنانيّة من إبليس.

اقول: وقد تقدّم بيانه.

وفي تفسير القمّي عن الصادقعليه‌السلام : الاستكبار هو أوّل معصية عصى الله بها.

٥٨

اقول: قد ظهر ممّا تقدّم من البيان أنّ مرجعه إلى الأنانيّة كما في الحديث المتقدّم.

وفي النهج من خطبة لهعليه‌السلام في صفة خلق آدم: واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لهم، وعهد وصيّته إليهم في الإذعان بالسجود له والخشوع لتكرمه فقال سبحانه: اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس وجنوده اعترتهم الحميّة، وغلبت عليهم الشقوة.

الخطبة.

اقول: وفيها تعميم الأمر بالسجدة لجنود إبليس كما يعمّ نفسه، وفيه تأييد ما تقدّم أنّ آدم إنّما جعل مثالاً يمثّل به الإنسانيّة من غير خصوصيّة في شخصه، وأنّ مرجع القصّة إلى التكوين.

وفي المجمع عن الباقرعليه‌السلام : في معنى قوله:( ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ) الآية( مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) اُهوّن عليهم الآخرة( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) آمرهم بجمع الأموال ومنعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم( وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) اُفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة( وَعَن شَمَائِلِهِمْ ) بتحبيب اللّذّة وتغليب الشهوات على قلوبهم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : والّذي بعث محمّداً للعفاريت والأبالسة على المؤمن أكثر من الزنابير على اللحم.

وفي المعاني عن الرضاعليه‌السلام : إنّه سمّي إبليس لأنّه اُبلس من رحمه الله.

وفي تفسير القمّي حدّثني أبي رفعة قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن جنّة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً.

قال: فلمّا أسكنه الله تعالى الجنّة وأباحها له إلّا الشجرة لأنّه خلق خلقة لا تبقى إلّا بالأمر والنهي والغذاء واللّباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلّا بالتوفيق فجاءه إبليس فقال له: إنّكما إن أكلتما من هذه الشجرة الّتي نهاكهما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنّة أبداً، وإن لم تأكلا منها أخرجكما

٥٩

الله من الجنّة، وحلف لهما أنّه لهما ناصح كما قال الله عزّوجلّ حكاية عنه:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكان كما حكى الله:( فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) وسقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنّة، وأقبلا يستتران من ورق الجنّة وناداهما ربّهما الم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين فقالا كما حكى الله عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فقال الله لهما:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) قال إلى يوم القيامة.

وفي الكافي عن عليّ بن إبراهيم روى عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لمّا خرج آدم من الجنّة نزل عليه جبرئيل فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وزوّجك حوّاء أمته، وأسكنك الجنّة وأباحها لك ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي بالله إنّه لي ناصح فما ظننت أنّ أحداً من خلق الله يحلف بالله كاذباً.

اقول: وقد تقدّمت عدّة من روايات القصّة في سورة البقرة وسيأتي إن شاء الله بعضها في مواضع اُخر مناسبة لها.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادقعليه‌السلام في حديث: فقال إبليس: يا ربّ فكيف وأنت العدل الّذي لا يجور فثواب عملي بطل؟ قال: لا، ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثواباً لعملك اُعطك. فأوّل ما سأل: البقاء إلى يوم الدين فقال الله: وقد أعطيتك.

قال: سلّطني على ولد آدم. قال: سلّطتك. قال: أجرني فيهم مجرى الدم في العروق.

قال: قد أجريتك. قال: لا يولد لهم ولد إلّا ولد لي اثنان و أراهم ولا يروني و أتصوّر لهم في كلّ صورة شئت. فقال: قد أعطيتك.

قال: يا ربّ زدني. قال قد جعلت لك ولذرّيّتك صدورهم أوطاناً. قال: ربّ حسبي.

قال إبليس عند ذلك: فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلّا عبادك منهم المخلصين.

اقول: تقدّم ما يتّضح به معنى الحديث، وقوله: ( أتصوّر لهم في كلّ صورة

٦٠