الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 86248
تحميل: 5882


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86248 / تحميل: 5882
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شئت ) لا يدلّ على اُزيد من أنّ له أن يتصرّف في حاسّة الإنسان بظهوره في أيّ صورة شاء عليها، وأمّا تغيّر ذاته في نفسه كيفما شاء وأراد فلا.

والّذي ذكره بعضهم: أنّ أهل العلم أجمعوا على أنّ إبليس وذرّيّته من الجنّ وأنّ الجنّ أجسام لطيفة هوائيّة تتشكّل بإشكال مختلفة حتّى الكلب والخنزير، وأنّ الملائكة أجسام لطيفة تتشكّل بإشكال مختلفة إلّا الكلب والخنزير - وكأنّهم يريدون بذلك تغيّرهم في ذواتهم - لا دليل عليه من نقل ثابت أو عقل، وأمّا ما ادّعى من الاجماع ومآله إلى الاتّفاق في الفهم فلا حجيّة لمحصّله فضلاً عن منقوله، والمأخذ في ذلك من الكتاب والسنّة ما عرفت.

وكذا حديث ذرّيّته وكثرتهم لا يتحصّل منه إلّا أنّ لها كثرة في العدد تنشعب من إبليس نفسه، وأمّا كيف ذلك؟ وهل هو بطريق التناسل المعهود بيننا أو بنحو البيض والإفراخ أو بنحو آخر لا سبيل لنا إلى فهمه؟ فممّا هو مجهول لنا.

نعم هناك روايات معدودة تذكر أنّه ينكح نفسه ويبض ويفرخ أو أنّ له في فخذيه عضوا التناسل الموجودان في الذكر والاُنثى فينكح بهما نفسه ويولد له كلّ يوم عشرة وأمّا ولده فكلّهم ذكران لا توالد بينهم أو توالدهم بالازدواج نظير الحيوان فكلّ ذلك ممّا لا دليل عليه إلّا بعض الآحاد من الاخبار وهي ضعاف ومراسيل ومقاطيع وموقوفات لا يعوّل عليها وخاصّة في أمثال هذه المسائل ممّا لا اعتماد فيها إلّا على آية محكمة أو حديث متواتر أو محفوف بقرينة قطعيّة، وليست ظاهرة الانطبق على القرآن الكريم حتّى تصحّح بذلك.

وفي الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ما من قلب إلّا وله اُذنان على إحداهما ملك مرشد، وعلى الاُخرى شيطان مفتّن هذا يأمره، وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، والملك يزجره عنها، وذلك قول الله عزّوجلّ:( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) .

وفي البحار: الشهاب: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

٦١

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال: ما من أحد إلّا وقد وكلّ به قرينه من الجنّ. قالوا: وإيّاك يا رسول الله؟ قال: وإيّاى إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرنى إلّا بخير.

أقول: وقوله:( فأسلم) أخذه بعضهم بضمّ الميم وبعضهم بالفتح.

وفي تفسير العيّاشيّ عن جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئاً من إمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى أنّه منها، وكان الله يعلم أنّه ليس منها، ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء ولا كرامة.

فأتيت الطيّار فأخبرته بما سمعت فأنكرو قال: كيف لا يكون من الملائكة؟ والله يقول للملائكة:( اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) فدخل عليه الطيّار فسأله وأنا عنده فقال له : قول الله عزّوجلّ:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون والضلّال وكلّ من أقرّ بالدعوة الظاهرة.

اقول: وفي الحديث ردّ ما روي أنّه كان من الملائكة وأنّه كان خازناً في السماء الخامسة أو خازن الجنّة.

وأعلم أنّ الاخبار الواردة من طرق الشيعة وأهل السنّة في أنحاء تصرّفاته أكثر من أن تحصى، وهي على قسمين: أحدهما: ما يذكر تصرّفاً منه من غير تفسير، والثاني: ما يذكره مع تفسير مّا.

فمن : القسم الأوّل: ما في الكافي عن عليعليه‌السلام : لا تؤوا منديل اللحم في البيت فإنّه مربض الشيطان، ولا تؤوا التراب خلف الباب فإنّه مأوى الشيطان.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام : إنّ على ذروة كلّ جسر شيطاناً فإذا أنتهيت إليه فقل: بسم الله يرحل عنك.

وفيه عن عليّعليه‌السلام قال رسول صلى الله عليه وآله بيت الشيطان في بيوتكم بيت العنكبوت.

وفيه عن أحدهماعليهما‌السلام قال: لا تشرب وأنت قائم، ولا تبل في ماء نقيع، ولا

٦٢

تطف بقبر، ولا تخل في بيت وحدك، ولا تمش بنعل واحدة، فإنّ الشيطان أسرع ما يكون إلى العبد إذا كان على بعض هذه الأحوال.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام : إذا ذكر اسم الله تنحّى الشيطان، وإن فعل ولم يسمّ أدخل ذكره وكان العمل منهما جميعاً والنطفة واحدة.

وفي تفسير القمّيّ عنهعليه‌السلام : ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان.

وفي الحديث: من نام سكران بات عروساً للشيطان.

اقول: ومن هذا الباب قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) المائدة: ٩٠.

ومن القسم الثاني ما في الكافي عن الباقرعليه‌السلام : إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع.

وفي المحاسن عن الرضا عن آبائه عن علىّعليه‌السلام في حديث: فأمّا كحله فالنوم وأمّا سفوفه فالغضب، وأمّا لعوقه فالكذب.

وفي الحديث: أنّ موسىعليه‌السلام رآه وعليه برنس فسأله عن برنسه فقال: به أصطاد قلوب بني آدم.

وفي مجالس ابن الشيخ عن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام : أنّ إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث الله المسيح يتحدّث عندهم ويسألهم، ولم يكن بأحد منهم أشدّ اُنساً منه بيحيى بن زكريّا فقال له يحيى: يا أبا مرّة إنّ لي إليك حاجة فقال: أنت أعظم قدراً من أن أردّك بمسألة فاسألني ما شئت فإنّي غير مخالفك في أمر تريده، فقال يحيى: يا أبا مرّة اُحبّ أن تعرّض عليّ مصائدك و فخوخك الّتي تصطاد بها بني آدم، فقال له إبليس: حبّاً وكرامة وواعده لغد.

فلمّا أصبح يحيى قعد في بيته ينتظر الوعد، وأغلق عليه الباب إغلاقاً، فما شعر حتّى ساواه من خوخة كانت في بيته فإذا وجهه صورة وجه القرد، وجسده على صورة الخنزير،

٦٣

وإذا عيناه مشقوقتان طولا، وإذا أسنانه وفمه مشقوقات طولاً عظماً واحداً بلا ذقن ولا لحية، وله أربعة أيد يدان في صدره ويدان في منكبه، وإذا عراقيبه قوادمه وأصابعه خلفه وعليه قباء وقد شدّ وسطه بمنطقة فيها خيوط معلّقة بين أحمر وأصفر وأخضر وجميع الألوان، وإذا بيده جرس عظيم وعلى رأسه بيضة، وإذا في البيضة حديدة معلّقة شبيهة بالكلّاب.

فلمّا تأمّله يحيى قال: ما هذه المنطقة الّتي في وسطك؟ فقال: هذه المجوسيّة أنا الّذي سننتها وزيّنتها لهم.

فقال له: ما هذه الخطوط الألوان؟ فقال: هذه جميع أصناع النساء لا تزال المرأة تصنع الصنيع حتّى يقع مع لونها فأفتّن الناس بها فقال له: فما هذا الجرس الّذي بيدك؟ قال: هذا مجمع كلّ لذّة من طنبور وبربط ومعزفة وطبل وناي وصرناي، وإنّ القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذّونه فأحرّك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخفّ بهم الطرب فمن بين من يرقص، ومن بين من يفرقع أصابعه، ومن بين من يشقّ ثيابه.

فقال له: وأيّ الأشياء أقرّ لعينك؟ قال: النساء، هنّ فخوخي ومصائدي فإذا اجتمعت إلىّ دعوات الصالحين ولعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهنّ فقال: له يحيى: فما هذه البيضة على رأسك؟ قال بها أتوقّى دعوة المؤمنين.

قال: فما هذه الحديدة الّتي أرى فيها؟ قال بهذه اُقلّب قلوب الصالحين.

قال يحيى: فهل ظفرت بي ساعة قطّ؟ قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني.

قال يحيى فما هي؟ قال: أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت وبشمت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى فإنّي اُعطى الله عهداً أن لا اُشبع من الطعام حتّى ألقاه.

قال له إبليس : وأنا أعطى الله عهداً أن لا أنصح مسلماً حتّى القاه، ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك.

أقول: والحديث مرويّ من طرق أهل السنّة بوجه أبسط من ذلك: وقد روي له مجالس ومحاورات ومشافهات مع آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليهم، وهناك - كما مرّت الإشارة إليه - روايات لا تحصى كثرة في أنحاء تسويلاته وأنواع تزييناته عند أنواع المعاصي والذنوب رواها الفريقان، والجميع تشهد أوضح شهادة على أنّها تشكّلات

٦٤

مثاليّه على حسب ما يلائم نوع المعصية من الشكل والكيفيّة ويناسبها نظير ما تتمثّل الحوادث في الرؤيا على حسب المناسبات المألوفة والاعتقادات المعتادة.

ومن التأمّل في هذا القسم الثاني يظهر أنّ الكيفيّات والخصوصيّات الواردة في القسم الأوّل المذكور من الاخبار إنّما هي أنواع نسب بين هذا الموجود أعني إبليس وبين الأشياء تدعو إلى وساوس وخطرات تناسبها.

فالجميع من التجسّمات المثاليّة الّتي تناسبها الأعمال أو الأشياء غير التجسّم المادّيّ الّذي ربّما مال إليه الحشويّة و بعض أهل الحديث حتّى تكون المجوسيّة مثلاً اعتقاداً عند الإنسان وهي بعينها منطقة من أديم عند إبليس يشدّ بها وسطه، أو أنّ يصير إبليس تارة آدميّاً له حقيقة الإنسان وقواه وأعماله وتارة شيئا من الحيوان الأعجم له حقيقة نوعيّة وتارة جماداً ليس بذي حياة وشعور، أو أنّ هذه النوعيّات جميعاً هي أشكال وصور عارضة على مادّة إبليس فالروايات أجنبيّة عن الدلالة على أمثال هذه المحتملات.

وإنّما هي روايات جمّة لا ريب في صدور مجموعها من حيث المجموع و تأييد القرآن لها كذلك وهي تدلّ على أنّ لإبليس أنّ يظهر لحواسّنا بمختلف الصور هذا من حيث المجموع وأمّا كلّ واحد واحد فما صح منها سنداً - وليس الجميع على هذه الصفة - فهو من الآحاد الّتي لا يعوّل عليها في أمثال هذه المسائل الأصليّة نعم ربّما أمكن استفادة حكم فرعيّ منها من استحباب أو كراهة على ما هو شأن الفقيه.

٦٥

( سورة الأعراف آية ٢٦ - ٣٦)

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا  وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ  ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٢٦ ) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا  إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ  إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٢٧ ) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا  قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ  أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٢٨ ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ  وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ  كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( ٢٩ ) فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ  إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ( ٣٠ ) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ٣١ ) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ  قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٣٢ ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٣ ) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٤ ) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي  فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٣٥ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٣٦ )

٦٦

( بيان)

التدبّر في هذه الخطابات وما تقدّم عليها من قصّة السجدة والجنّة ثمّ عرض ذلك جميعاً على ما ورد من القصّة والمخاطبة في غير هذه السورة وخاصّة سورة طه المكّيّة الّتي هي كإجمال هذه السورة المفصّلة وسورة البقرة المدنيّة يهدينا إلى أنّ هذه الخطابات العامّة المصدرة بقوله: يا بني آدم، يا بني آدم هي تعميم الخطابات الخاصّة الّتي وجّهت إلى آدم كما أنّ القصّة عمّمت نحواً من التعميم في هذه السورة، وقد أشرنا إليه فيما تقدّم.

وهذه الخطابات الأربعة المصدّرة بقوله: يا بني آدم ثلاثة منها راجعة إلى التحذير من فتنة الشيطان وإلى الأكل والشرب واللباس تعميم ما في قوله تعالى في سورة طه:( يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) الآيات طه: ١١٩، والرابعة تعميم قوله فيها:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) الخ، طه: ١٢٣.

ويعلم من انتزاع هذه الخطابات من قصته وتعميمها بعد التخصيص ثمّ تفريع أحكام اُخرى عليها ذيّلت بها الخطابات المذكورة أنّ هذه الأحكام المشرّعة المذكورة هيهنا على الإجمال أحكام مشرّعة في جميع الشرائع الإلهيّة من غير استثناء كما يعلم أنّ ما قدّر للإنسان من سعادة وشقاوة وسائر المقدّرات الإنسانيّة كالأحكام العامّة جميعها تنتهي إلى تلك القصّة فهي الأصل تفرّعت عليه هذه الفروع، والفهرس الّذي يشير إلى التفاصيل.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ) اللباس كلّ ما يصلح للّبس وستر البدن وغيره، وأصله مصدر يقال: لبس يلبس لبساً - بالكسر والفتح - ولباساً، والريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال والزينة، وربّما يطلق على أثاث البيت ومتاعه.

٦٧

وكأن المراد من إنزال اللباس والريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى:( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ ) الحديد: ٢٥، وقوله:( وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) الزمر: ٦، وقد قال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر: ٢١، فقد أنزل الله اللباس والريش بالخلق من غيب مّا عنده إلى عالم الشهادة وهو الخلق.

واللباس هو الّذي يعمله الإنسان صالحاً لأن يستعمله بالفعل دون الموادّ الأصليّة من قطن أو صوف أو حرير أو غير ذلك ممّا يأخذه الإنسان فيضيف إليه أعمالاً صناعيّة من تصفية وغزل ونسج وقطع وخياطة فيصير لباساً صالحاً للّبس فعدّ اللباس والريش من خلق الله وهما من عمل الإنسان نظير ما في قوله تعالى:( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الصافات: ٩٦، من النسبة.

ولا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبه ما عمله الإنسان إلى الله سبحانه وما عمله منته إلى أسباب جمّة أحدها الإنسان، ونسبة سائر ما عملته الطبائع ولها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الأرض وصفرة الذهب وحلاوة العسل فإنّ جميع الأسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه وهو محيط بها.

وليست الخلقة منتسبة إلى الأشياء على وتيره واحدة وإن كانت جميع مواردها متّفقة في معنى الانتهاء إليه إلّا ما فيه معنى النقص والقبح والشناعة من المعاصي ونحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الأمر الإلهيّ، وليست بمخلوقة له وإنّما هي أوصاف نقص في أعمال الإنسان مثلاً في باطنه أو ظاهره، وقد تكرّرت الإشارة إلى هذه الحقيقة فيما مرّ من أجزاء هذا الكتاب.

وتوصيف اللباس بقوله:( يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ) للدلالة على أنّ المراد باللباس ما ترفع به حاجة الإنسان الّتي اضطرّته إلى اتّخذ اللباس وهي مواراة سوأته الّتي يسوؤه انكشافها وأمّا الريش فإنّما يتّخذه لجمال زائد على أصل الحاجة.

وفي الآية امتنان بهداية الإنسان إلى اللباس والريش وفيها - كما قيل - دلالة على إباحة لباس الزينة.

٦٨

قوله تعالى: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ) إلى آخر الآية.

انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الّذي يواري سوآت الإنسان فيتّقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره، إلى لباس الباطن الّذي يواري السوآت الباطنيّة الّتي يسوء الإنسان ظهورها وهي رذائل المعاصي من الشرك وغيره، وهذا اللباس هو التقوى الّذي أمر الله به.

وذلك أنّ الّذي يصيب الإنسان من ألم المساءة وذلّة الهوان من ظهور سوأته روحيّ من سنخ واحد في السوآتين إلّا أنّ ألم ظهور السوآت الباطنيّة أشدّ وأمرّ وأبقى فالمحاسب هو الله، والتبعة شقوة لازمة، ونار تطّلع على الأفئدة، ولذلك كان لباس التقوى خيراً من لباس الظاهر.

وللإشارة إلى هذا المعنى وتتميم الفائدة عقّب الكلام بقوله:( ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) فاللباس الّذي اهتدى إليه الإنسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سوآته الّتي يسوؤه ظهورها آية إلهيّة إن تأمّله الإنسان وتبصّر به تذكّر أنّ له سوآت باطنيّة تسوؤه إن ظهرت وهي رذائل النفس، وسترها عليه أوجب وألزم من ستر السوآت الظاهريّة بلباس الظاهر واللّباس الّذي يسترها ويرفع حاجة الإنسان الضروريّة هو لباس التقوى الّذي أمر الله به وبيّنه بلسان أنبيائه.

وفي تفسير لباس التقوى أقوال اُخر مأثورة عن المفسّرين، فقيل: هو الإيمان والعمل الصالح، وقيل: هو حسن السمت الظاهر، وقيل: هو الحياء، وقيل: هو لباس النسك والتواضع كلبس الصوف والخشن، وقيل: هو الإسلام، وقيل: هو لباس الحرب، وقيل: هو ما يستر العورة، وقيل: هو خشية الله، وقيل: هو ما يلبسه المتّقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا، وأنت ترى أنّ شيئاً من هذه الأقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطبق.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ) إلى آخر الآية.

الكلام وإن كان مفصولا عمّا قبله بتصديره بخطاب( يَا بَنِي آدَمَ ) إلّا أنّه بحسب المعنى من تتمّة المفاد السابق، ولذا أعاد ذكر السوآت ثانياً فيرجع المعنى إلى أنّ لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلّا لباس التقوى الّذي ألبسنا كموه بحسب الفطرة

٦٩

ءالّتي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنّة ليريهما سوآتهما فإنّا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم ولم يؤمن باياتنا.

ومن هنا يظهر أنّ ما صنعه إبليس بهما في الجنّة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما كان مثلاً لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة وأنّ الإنسان في جنّة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها.

وقوله:( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) تأكيد للنهي وبيان لدقّة مسلكه وخفاء سربّه دقة لا يميّزه حسّ الإنسان وخفاء لا يقع عليه شعوره فإنّه لا يرى إلّا نفسه من غير أن يشعر أنّ وراءه من يأمر بالشرّ ويهديه إلى الشقوة.

وقوله:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) تأكيد آخر للنهي، وليست ولايتهم وتصرّفهم في الإنسان إلّا ولاية الفتنة والغرور فإذا افتتن واغترّ بهم تصرّفوا بما شاؤا وكما أرادوا كما قال تعالى مخاطباً لإبليس:( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا ) أسرى: ٦٥، وقال:( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) النحل: ٩٩، وقال:( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) الحجر: ٤٢.

ومن الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين وان مسّهم طائف منهم أحياناً، وأن لا سلطان له على المتوكلّين من المؤمنين وهم الّذين عدّهم الله عباداً له بقوله:( عبادي ) فلا ولاية له إلّا على الّذين لا يؤمنون.

والظاهر أنّ المراد به عدم الإيمان بآيات الله بتكذيبها وهو أخصّ من وجه من عدم الإيمان بالله الّذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي، وذلك لأنّ هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العامّ الّذي في ذيل القصّة من سورة البقرة حيث قال تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى - إلى أن قال -وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة: ٣٩، وفي ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث

٧٠

قال:( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) الأعراف: ٣٦.

قوله تعالى: ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) إلى آخر الآية، رجوع من الخطاب العامّ لبني آدم إلى خطاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة ليتوسّل به إلى أنتزاع خطابات خاصّة يوجّهها إلى اُمّته كما جرى نظيره من الالتفات في الخطاب المتقدّم يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً حيث قال:( ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) لنظير الغرض.

وبالجملة فقد استخرج من هذا الاصل الثابت في قصّة الجنّة وهو أمر ظهور السوآت الّذي أفضى إلى خروج آدم وزوجته من الجنّة أنّ الله لا يرضى بالفحشاء الشنيعة من أفعال بني آدم، فذكر إتيان المشركين بالفحشاء واستنادهم في ذلك إلى عمل آبائهم وأمر الله سبحانه بها فأمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يرّد عليهم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء، ويذكّرهم أنّ ذلك من القول على الله بغير علم والافتراء عليه، كيف لا؟ وقصّة الجنّة شاهدة عليه.

وقد ذكر لهم في فعلهم الفحشاء عذرين يعتذرون بهما ومستندين يستندون إليهما وهما فعل آبائهم وأمر الله إيّاهم بها، وكان الثاني هو الّذي يرتبط بالخطاب العامّ المستخرج من قصّة الجنّة فقط، ولذلك تعرّض لدفعه وردّه عليهم، و أمّا استنادهم إلى فعل آبائهم فذلك وإن لم يكن ممّا يرتضيه الله سبحانه وقد ردّه في سائر كلامه بمثل قوله:( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) فلم يتعرّض لردّه ههنا لخروجه عن غرض الكلام.

وقد ذكر جمع من المفسرين أنّ قوله:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) الخ، إشارة إلى ما كان معمولاً عند أهل الجاهليّة من الطواف بالبيت الحرام عراةً يقولون: نطوف كما ولدتنا اُمّهاتنا ولا نطوف في الثياب الّتي قارفنا فيها الذنوب، ونقل عن الفرّاء أنّهم كانوا يعملون شيئاً من سيور مقطّعة يشدّونهم على حقويهم يسمّى حوفاً وإن عمل من صوف سمّي رهطاً وكانت المرأة تضع على قبلها نسعة إو شيئاً آخر فتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا اُحلّه

ولم يزل دائراً بينهم حتّى منعهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الفتح حين بعث عليّاًعليه‌السلام

٧١

بآيات البرائة إلى مكّة.

وكأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعض المسلمين كانوا يعيبونهم على ذلك فيعتذرون إليهم بقولهم:( وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) فردّ الله سبحانه عليهم وذمّهم بقوله:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِأَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) .

وليس ما ذكروه ببعيد وفي الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء وهي الأمر الشنيع الشديد القبح ثمّ ذكرت أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ الله أمرهم بذلك ولازم ذلك أنّ يكون ما فعلوه أمراً شنيعا أتوا به في صفة العبادد والنسك كالطواف عارياً، والآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك، وعلى مصاديق اُخرى ما أكثر وجودها بين الناس وخاصّة في زماننا الّذي نعيش فيه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لمّا نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء وذكرت أنّ ذلك افتراء عليه وقول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أوحي به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به وهو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة وعدّته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح والإفراط والتفريط فقال:( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ .. ) الخ.

والقسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة قال:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ) والقسط هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور و الإقساط أن يعطي قسط غيره، وذلك انصاف ولذلك قيل: قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال:( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) وقال:( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) . انتهى كلامه.

فالمراد: قل أمر ربّي بالنصيب العدل ولزوم وسط الاعتدال في الامور كلّها وأن تجتنبوا جانبي الإفراط والتفريط فأقسطوا وأنيبوا وأقرّوا نفوسكم عند كلّ معبد تعبدون الله فيه وادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنماً أو أحداً من آبائكم وكبرائكم بالتقليد لهم وهذا هو القسط في العبادة.

فقوله:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) معطوف ظاهراً على مقول القول لأنّ

٧٢

معنى أمر ربّي بالقسط: أقسطوا. فيكون التقدير: أقسطوا وأقيموا (الخ)، والوجه هو ما يتوجّه به إلى الشئ، وهو في حال تمام النفس الإنسانيّة، وإقامتها عندها إيجاد القيام بالأمر لها أي إيفاؤه والإيتان به كما ينبغي تامّاً غير ناقص فيؤل معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة والانقطاع عن غيرها.

فيفيد قوله:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) إذا انضمّ إليه قوله:( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) وجوب الانقطاع للعبادة عن غيرها ولله سبحانه عن غيره كما عرفت ومن الغير الّذي يجب الانقطاع عنه إلى الله سبحانه نفس العبادة، وإنّما العبادة توجّه لا متوجّه إليها، والتوجّه إليها يبطل معنى كونها عبادة وتوجّهاً إلى الله فيجب أن لا يذكر الناسك في نسكه إلّا ربّه وينسى غيره.

وللمفسّرين في معنى قوله:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ ) الخ، أقوال اُخر منها: أنّ المعنى: توجّهوا إلى قبلة كلّ مسجد في الصلاة على استقامة.

ومنها: أنّ المعنى توجّهوا في أوقات السجود وهي أوقات الصلاة إلى الجهة الّتي أمركم الله بها وهي الكعبة.

ومنها إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلّوا ولا تقولوا حتّى أرجع إلى مسجدي.

ومنها: أنّ المعنى: اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة اُمر فيها بالجماعة.

ومنها: أنّ المعنى: أخلصوا وجوهكم لله بالطاعة فلا تشركوا وثناً ولا غيره.

والوجوه المذكورة على علّاتها وإباء الآية عنها لا تناسب الثلاثة الاُول منها حال المسلمين في وقت نزول السورة وهي مكّيّة ولم تكن الكعبة قبلة يومئذ، ولا كانت للمسلمين مساجد مختلفة متعدّدة، وآخر الوجوه وأنّ كان قريبا ممّا قدّمناه إلّا أنّه ناقص في بيان الاخلاص المستفاد من الآية وما تضمّنه إنّما هو معنى قوله تعالى:( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لا قوله:( وَأَقِيمُوا ) الخ، كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) إلى آخر الآية.

ظاهر السياق أنّ يكون قوله( فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) حالاً من فاعل( تَعُودُونَ ) ويكون هو الوجه المشترك الّذي شبّه فيه العود بالبدء، والمعنى تعودون فريقين كما بدأكم فريقين نظير قوله تعالى:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ

٧٣

أَوَّلَ مَرَّةٍ ) الأنعام: ٩٤، والمعنى لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة فرادى.

فهذا هو الظاهر المستفاد من الكلام، وأمّا كون( فَرِيقًا هَدَىٰ ) الخ، حالاً لا يعدو عامله، ووجه الشبه بين البدء والعود أمراً آخر غير مذكور ككونهم فرادى بدءً وعوداً أو كون الخلق الأوّل والثاني جميعاً من تراب أو كون البعث مثل الانشاء في قدرة الله إلى غير ذلك ممّا احتملوه فوجوه بعيدة عن دلالة الآية، وأيّ فائدة في حذف وجه الشبه من الذكر وذكر ما لا حاجه إليه مع وقوع اللّبس، وسيجئ إن شاء الله توضيح ذلك.وظاهر البدء في قوله:( بَدَأَكُمْ ) أوّل خلقة الإنسان الدنيويّة لا مجموع الحياة الدنيويّة قبال الحياة الاُخرويّة فيكون البدء هو الحياه الدنيا والعود هو الحياة الاُخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقاً منكم وحقّت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يؤل إليه قول من قال:( إنّ معنى الآية: تبعثون على ما متّم عليه: المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره) .

وذلك أنّ ظاهر البدء إذا نسب إلى شئ ذي امتداد واستمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتدّ المستمرّ لا على الجميع، والخطاب للناس فبدؤهم أوّل خلقة النوع الإنسانيّ وبدؤ ظهوره.

على أنّ الآية من تتمة الآيات الّتي يبيّن الله سبحانه فيها بدء إيجاده الإنسان بمثل قوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الخ، فالمراد به كيفيّة البدء الّتي قصّها في أوّل كلامه، وقد كان من القصّة أنّ الله قال لإبليس لمّا رجمه:( اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ) وفيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقاً مهتدين على الصراط المستقيم، وفريقاً ضالّين حقّاً فهذا هو الّذي بدأهم به وكذلك يعودون.

وقد بيّن ذلك في مواضع اُخر من كلامه أوضح من ذلك وأصرح كقوله:( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) الحجر: ٤٢، وهذا قضاء حتم وصراط مستقيم أنّ الناس طائفتان طائفة ليس لإبليس عليهم سلطان وهم الّذين هداهم الله، وطائفة متّبعون لإبليس غاوون وهم المقضيّ ضلالهم لاتّباعهم الشيطان وتولّيهم إيّاه قال:( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحج: ٤، وإنّما قضي ضلالهم

٧٤

إثر اتّباعهم وتولّيهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية.

ونظيره في ذلك قوله تعالى:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥، فإنّه يدلّ على أنّ هناك قضاءً بتفرّقهم فريقين، وهذا التفرّق هو الّذي فرّع تعالى عليه قوله إذ قال:( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا . فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) الخ، طه: ١٢٤ وهو عمى الضلال.

وبعد ذلك كلّه فمن الممكن أنّ يكون قوله:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) الخ، في مقام التعليل لمضمون الكلام السابق والمعنى: اقسطوا في أعمالكم وأخلصوا لله سبحانه فإنّ الله سبحانه إذ بدأ خلقكم قضى فيكم أنّ تتفرّقوا فريقين فريقاً يهديهم وفريقاً يضلّون عن الطريق وستعودون إليه كما بدأكم فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليهم الضلالة بتولّى الشياطين فأقسطوا وأخلصوا حتّى تكونوا من المهتدين بهداية الله لا الضالّين بولاية الشياطين.

فيكون الكلام جاريا مجرى قوله تعالى:( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) البقرة: ١٤٨ فإنّه في عين أنّه بيّن أوّلاً أنّ لكلّ وجهة خاصّة محتومة هو مولّيها لا يتخلّف عنه إن سعادة فسعادة وإن شقاوة فشقاوة أمرهم ثانياً أن استبقوا الخيرات، ولا يستقيم الأمر مع تحتّم إحدى المنزلتين: السعادة والشقاوة لكنّ الكلام في معنى قولنا: إنّ كلّا منكم لا محيص له عن وجهة متعيّنة في حقّه لازمة له إمّا الجنّة وإمّا النار فاستبقوا الخيرات حتّى تكونوا من أهل وجهة السعادة دون غيرها.

وكذلك الأمر فيما نحن فيه فالكلام في معنى قولنا: إنّكم ستعودون فريقين كما بدأكم فريقين بقضائه فأقسطوا في أعمالكم وأخلصوا لله سبحانه حتّى تكونوا من الفريق الّذي هدى دون الفريق الّذي حقّ عليهم الضلالة.

ومن الممكن أن يكون قوله:( كَمَا بَدَأَكُمْ ) الخ، كلاماً مستأنفا وهو مع ذلك لا يخلو عن تلويح بالدعوة إلى الاقساط والاخلاص على ما يتبادر من السياق.

وأمّا قوله:( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ ) فهو تعليل لثبوت الضلالة ولزومها

٧٥

لهم في قوله:( حقّت عليهم الضلالة ) كأنّ كلمة الضلال والخسران صدرت من مصدر القضاء في حقّهم مشروطاً بولاية الشيطان كما يذكره في قوله:( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحج: ٤.

فلمّا تولّوا الشياطين في الدنيا حقّت عليهم الضلالة ولزمتهم لزوماً لا انفكاك بعده أبداً وهذا نظير ما يستفاد من قوله:( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) حم السجدة: ٢٥.

وأمّا قوله:( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) فهو كعطف التفسير بالنسبة إلى الجملة السابقة يفسّر به معنى تحقّق الضلالة ولزومها فإنّ الإنسان مهما ركب غير طريق الحقّ واعتنق الباطل وهو يعترف بأنّه من الباطل ولمّا ينس الحقّ أو شك أن يعود إلى الحقّ الّذي فارقه وكان مرجوّاً أن ينتزع عن ضلاله إلى الهدى أمّا إذا اعتقد حقيّة الباطل الّذي هو عليه، وحسب أنّه على الهدى وهو في ضلال فقد استقرّ فيه شيمة الغيّ وحقّت عليه الضلالة ولا يرجى معه فلاح أبدا.

فقوله:( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) كالتفسير لتحققّ الضلالة لكونه من لوازمه، وقد قال تعالى في موضع آخر:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) الكهف: ١٠٤، وقال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) البقرة: ٧.

وإنّه الإنسان يسير على الفطرة ويعيش على الخلقة لا ينقاد إلّا للحقّ ولا يخضع إلّا للصدق ولا يريد إلّا ما فيه خيره وسعادته غير أنّه إذا شمله التوفيق وكان على الهدى طبّق ما يطلبه ويقصده على حقيقة مصداقه ولم يعبد إلّا الله وهو الحقّ الّذي يطلبه ولم يرد إلّا الحياة الدأئمّة الخالدة وهي السعادة الّتي يقصدها، وإذا ضلّ عن الصراط أنتكس وجهه من الحقّ إلى الباطل ومن الخير إلى الشرّ ومن السعادة إلى الشقاء فيتّخذ إلهه هواه، ويعبد الشيطان، ويخضع للأوثان، وأخلد إلى الأرض، وتعلّق بالزخارف

٧٦

المادّيّة الدنيويّة وتبصّر إليها لكنّه إنّما يعمل ما يعمل بإذعان أنّه هكذا ينبغي أن يعمل وحسبان أنّه مهتد في عمله فيأخذ بالباطل بعنوان أنّه حقّ، ويركن إلى الشرّ أو الشقاء بعنوان أنّه خير وسعادة فالإدراك الفطريّ محفوظ له غير أنّه يطبّقه في مقام العمل على غير مصداقه.

قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا ) النساء: ٤٧، وأما إنسان يتّبع الباطل بما هو باطل، ويقصد الشقاء والخسران بما هو شقاء وخسران فمن المحال ذلك.

قال تعالى( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) الروم: ٣٠ وشئ من العلل والأسباب ومنها الإنسان لا يريد غاية ولا يفعل فعلاً إلّا إذا كان ملائماً لنفسه حاملاً لما فيه نفعه وسعادته، وما ربّما يترآى من خلاف فإنّما هو في بادئ النظر لا بحسب الحقيقة وفي نفس الأمر.

هذا كلّه ما يقتضيه التدبّر وإيفاء النظر من معنى قوله( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) الخ، وهو يدور مدار كون( فَرِيقًا هَدَىٰ ) الخ، حالاً مبيّناً لوجه الشبه والمعنى المشترك بين البدء والعود سواء أخذنا الكلام مستأنفاً أو واقعاً موقع التعليل متّصلاً بما قبله.

وأمّا جمهور المفسّرين فكأنّهم متسالمون على أنّ قوله:( فَرِيقًا هَدَىٰ ) حال مبيّن لكيفيّة العود فحسب دون العود والبدء جميعاً، وأنّ المعنى المشترك الّذي هو وجه تشبيه العود بالبدء أمر آخر وراءه إلّا من فسّر البدء بالحياة الدنيا والخلق الأوّل كما تقدّم وسيجئ، وكأنّ ذلك فراراً منهم عن لزوم الجبر المبطل للاختيار مع احتفاف الكلام بالأوامر والنواهي، وقد عرفت أنّ ذلك غير لازم.

وبالجملة فقد اختلفوا في وجه اتّصال الكلام بما قبله بعد التسالم على ذلك فمن قائل: أنّه إنذار بالبعث تأكيداً للأحكام المذكورة سابقاً، واحتجاج عليه بالبدء فالمعنى: ادعوه مخلصين فإنّكم مبعوثون مجازون، وإن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء واعلموا أنّه كما بدأكم في الخلق الأوّل فإنّه يبعثكم فتعودون في الخلق الثاني.

وفيه أنّه مبنيّ على أنّ تشبيه العود بالبدء في تساويهما بالنسبة إلى قدرة الله،

٧٧

وأنّ النكتة في التعرّض لذلك هو الإنذار بالمجازاة، والسياق المناسب لهذا الغرض أن يقال: كما بدأكم يبعثكم فيجازيكم بوضع بعثه تعالى موضع عود الناس والتصريح بالمجازاة الّتي هي العمدة في الغرض المسوق لأجله الكلام كما صنع ذلك القائل نفسه فيما ذكره من المعنى، والآية خالية من ذلك.

ومن قائل: إنّه احتجاج على منكري البعث، واتّصاله بقوله تعالى قبل عدّة آيات:( فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) .

فقوله:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) معناه فليس بعثكم بأشدّ من ابتدائكم.

وفيه: ما في الوجه السابق على أنّه تحكمّ من غير دليل.

ومن قائل: أنّه كلام مستأنف. وقد تقدّم ذكره.

ومن قائل: أنّه متّصل بما سبقه، والمعنى: اخلصوا لله في حياتكم فإنّكم تبعثون على ما متّم عليه: المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره.

وفيه: أنّه مبنيّ على كون المراد بالبدء هو مجموع الحياة الدنيا في قبال الحياة الآخرة ثمّ تشبيه بالعود وهو الحياة الآخرة بآخر الحياة الاُولى المسمّاة بعثاً، والآية - كما تقدّم - بمعزل عن الدلالة على هذا المعنى.

قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) إلى آخر الآية.

قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، انتهى.

أخذ الزينة عند كلّ مسجد هو التزيّن الجميل عند الحضور في المسجد، وهو إنّما يكون بالطبع للصلاة والطواف وسائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الأمر بالتزيّن الجميل للصلاة ونحوها، ويشمل بإطلاقه صلوات الأعياد والجماعات اليوميّة وسائر وجوه العبادة والذكر.

وقوله:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ) الخ، أمران إباحيّان ونهي تحريميّ معلّل بقوله:( إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) والجميع مأخوذة من قصّة الجنّة كما مرّت الإشارة إليه، وهي كما تقدّم خطابات عأمّة لا تختصّ بشرع دون شرع ولا بصنف من أصناف

٧٨

الناس دون صنف.

ومن هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم: أنّ قوله:( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) الخ يدلّ على بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جميع البشر، وأنّ الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعاً لا لغة (انتهى).

نعم تدلّ الآية على أنّ هناك أحكاماً عأمّة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر، وأمّا شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب والقرينة العقليّة قأئمّة.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) هذا من استخراج حكم خاصّ - بهذه الأمّة - من الحكم العامّ السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدّم في قوله:( ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) وقوله( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) الآية.

والاستفهام إنكاريّ، والزين يقابل الشين وهو ما يعاب به الإنسان فالزينة ما يرتفع به العيب ويذهب بنفرة النفوس، والاخراج كناية عن الاظهار واستعارة تخييليّة كأنّ الله سبحانه بإلهامه وهدايته الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة الّتي يستحسنها مجتمعه ويستدعي انجذاب نفوسهم إليه وارتفاع نفرتهم واشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة وقد كانت مخبيّة خفيّة فأظهرها لحواسّهم.

ولو كان الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة يتزيّن بها قطّ ولا تنبّه للزوم إيجادها لأنّ ملاك التنبّه هو الحاجة.

لكنّه لمّا لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد وهم يعيشون بالارادة والكراهة والحبّ والبغض والرضى والسخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه وما يستقبحونه من الهيآت والأزياء فيلهمهم المعلّم الغيبيّ من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم ويزيّن ما يشين منهم وهو الزينة بأقسامها، ولعلّ هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله :( لِعِبَادِهِ ) .

وهذه المسمّاة بالزينة من أهمّ ما يعتمد عليه الاجتماع الإنسانيّ وهي من الآداب العريقة الّتي تلازم المجتمعات وتترقّى وتتنزّل على حسب تقدّم المدنيّة والحضارة

٧٩

ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع وتلاشت أجزاءه من حينه لأنّ معنى بطلانها ارتفاع الحسن والقبح والحبّ والبغض والارادة والكراهة وأمثالها من بينهم، ولا مصداق للاجتماع الإنسانيّ عندئذٍ فافهم ذلك.

ثمّ الطيّبات من الرزق - والطيّب هو الملائم للطبع - هي الأنواع المختلفة ممّا يرتزق به الإنسان بالتغذّي منه، أو مطلق ما يستمدّ به في حياته وبقائه كانواع المطعم والمشرب والمنكح والمسكن ونحوها، وقد جهّز الله سبحانه الإنسان بما يحسّ بحاجته إلى أقسام الرزق ويستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في باطنه إلى ما يلائمها ممّا يرفع حاجته وهذا هو الطيّب والملأئمّة الطبيعيّة.

وابتناء حياة الإنسان السعيدة على طيّبات الرزق غنيّ عن البيان فلا يسعد الإنسان في حياته من الرزق إلّا بما يلائم طباع قواه وأدواته الّتي جهّز بها ويساعده على بقاء تركيبه الّذي ركب به، وما جهّز بشئ ولا ركّب من جزء إلّا لحاجة له إليه فلو تعدّى في شئ ممّا يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعاً اضطرّ إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوّة المربوطة به إلى صرف شئ من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الّذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم.

فيضطرّ إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم والمشهّية للمعدة ولا يزال يستعمل ويفرط حتّى يعتاد بها فلا تؤثّر فيه فيصير إنساناً عليلا تشغله العلّة عن عأمّة واجبات الحياة، وأهمّها الفكر السالم الحرّ وعلى هذا القياس.

والتعدّي عن طيّب الرزق يبدّل الإنسان إلى شئ آخر لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له وأيّ خير يرجى في إنسان يتوخّى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الّذي أعدّه له الكون، ويسلك طريقاً لم تهيّئه له الفطرة، وينال غاية غير غايته وهو أن يتوسّع بالتمتّع بكلّ ما تزيّنه له الشهوة والشره، ويصوّره له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن.

والله سبحانه يذكر في هذه الآية أنّ هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبيّنها لهم من طريق الإلهام الفطريّ، ولا تلهم الفطرة إلّا بشئ قامت حاجة الإنسان إليه بحسبها.

٨٠