الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89534 / تحميل: 6765
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ولا دليل على إباحة عمل من الأعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود والطبيعة الّذي يدلّ على أنّ الله سبحانه هو الرابط بين الإنسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى والأدوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة والتكوين.

ثمّ يذكر بعطف الطيّبات من الرزق على الزينة في حيّز الاستفهام الإنكاريّ أنّ هناك أقساماً من الرزق طيّبة ملأئمّة لطباع الإنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده، ولا يشعر بها ولا يتنبّه لها إلّا لقيام حاجته في الحياة إليها وإلى التصرّف فيها تصرّفاً يستمدّ به لبقائه، ولا دليل على إباحة شئ من الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعيّة والفقر التكوينيّ إليه كما سمعت.

ثمّ يذكر بالاستفهام الإنكاري أنّ إباحة زينة الله والطيّبات من الرزق ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل والقضاء الفطريّ.

وإباحة الزينة وطيّبات الرزق لا تعدو مع ذلك حدّ الاعتدال فيها والوسط العدل بين الإفراط والتفريط فإنّ ذلك هو الّذي يقضي به الفطرة، وقد قال الله سبحانه في الآية السابقة:( وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) وقال فيما قبل ذلك:( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) .

ففي التعدّي إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط من تهديد المجتمع الإنسانيّ بالانحطاط، وفساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلّما ظهر فساد في البرّ والبحر وتنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخرّبة للمعمورة إلّا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، وهو الإنسان إذا جاوز حدّ الإعتدال، وتعدّى ما خطّ له من وسط الجادّة ذهب لوجهه لا يقف على حدّ ولا يلوي على شئ فمن الحريّ أن لا يرفع عنه سوط التربية ويذكّر حتّى بأوضح ما يقضي به عقله، ومن هذا القبيل الأمر الإلهيّ بضروريّات الحياة كالأكل والشرب واللّبس والسكنى وأخذ الزينة.

قال صاحب المنار في بعض كلامه - وما أجود ما قال: - وإنّما يعرفها - يعني قيمة

٨١

الأمر بأخذ الزينة مع بساطته ووضوحه - من قراء تواريخ الاُمم والملل، وعلم أنّ أكثر المتوحّشين الّذين يعيشون في الحرجات والغابات أفراداً وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة الوثنيّة في بعض جزائر البحار وجبال إفريقيّة كلّهم يعيشون عراة الأجسام نساءً ورجالاً، وأنّ الإسلام ما وصل إلى قوم منهم الّا وعلّمهم لبس الثياب بإيجابه للستر والزينة إيجاباً شرعيّاً.

ولمّا أسرف بعض دعاة النصرانيّة الاُوربيّين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملّتهم ولتحريض اُوربة عليهم ردّ عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في ردّه أنّ في إنتشار الإسلام في إفريقيّة منّة على اُوربة بنشره للمدنيّة في أهلها بحملهم على ترك العرى وإيجابه لبس الثياب الّذي كان سبباً لرواج تجارة النسج الاُروبيّه فيهم.

بل أقول: إنّ بعض الاُمم الوثنيّة ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتّى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون ويتجمّلون ثمّ صاروا يصنعون الثياب وقلّدهم جيرانهم من الوثنيّين بعض التقليد.

هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيّين فيها قديماً وحديثاً لا يزال اُلوف الاُلوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر إلّا السوأتين - و يسمّونهما( سبيلين) وهي الكلمة العربيّة الّتي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء - أو ساتر لنصفه الأسفل فقط وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كلّه أو بعضه، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأنّ المسلمين هم الّذين علّموهم لبس الثياب، والأكل في الأواني ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه، ولكنّهم خير من كثير من الوثنيّين سترا وزينة لأنّ المسلمين كانوا حكّامهم، وقد كانوا ولا يزالون من أرقي مسلمي الأرض علماً وعملاً وتأثيراً في وثنيّي بلادهم.

وأمّا المسلمون في بلاد الشرق الّتي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنيّة منهم إلى الإسلام في اللّباس وكثير من الأعمال الدينيّة، ومنهم نساء مسلمي( سيام) اللّاتي

٨٢

لا ترين في أنفسهنّ عورة إلّا السوأتين كما بيّن هذا من قبل فحيث يقوى الإسلام يكون الستر والزينة اللّائقة بكرأمّة البشر ورقيّهم.

فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحيّ في الإسلام ولولا أن جعل هذا الدين المدنيّ الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل اُمماً وشعوباً كثيرة من الوحشيّة الفاحشة إلى المدنيّة الراقيّة، وإنّما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متّكئاً مميلاً طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللّباس من اُمور الدين؟ وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع دينيّ، وقد يقول مثل هذا في قوله تعالى:( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) انتهى.

وممّا يناسب المقام ما روي: أنّ الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطبّ شئ، والعلم علمان: علم وممّا يناسب المقام ما روي: أنّ الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطبّ شئ، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان ! فقال له عليّ: قد جمع الله الطبّ كلّه في نصف آية وهو قوله:( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ) وجمع نبيّنا الطبّ في قوله:( المعدة بيت الداء، والحمية رأس كلّ دواء، وأعط كلّ بدن ما عوّدته) فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً.

قوله تعالى: ( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لا ريب أنّ الخطاب في صدر الآية إمّا لخصوص الكفّار أو يعمّهم والمؤمنين جميعاً كما يعمّهم جميعاً ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله:( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ) ولازمه أن تكون الزينة وطيّبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعاً : مؤمنهم وكافرهم.

فقوله:( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) الخ، مسوق لبيان ما خصّ الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرأمّة والمزيّة، وإذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة، ولازم ذلك أن يكون قوله:( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) متعلّقاً بقوله:( آمَنُوا ) وقوله:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) متعلّقاً بما تعلّق به قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) وهو قولنا كائنة أو ما يقرب منه،

٨٣

و( خَالِصَةً ) حال عن الضمير المؤنث وقدّمت على قوله:( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لتكون فاصلة بين قوليه:( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) و( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) والمعنى: قل هي للمؤمنين يوم القيأمّة وهي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيأمّة.

وبهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم: إنّ المراد بالخلوص إنّما هو الخلوص من الهموم والمنغّصات والمعنى: هي في الحياة الدنيا للّذين آمنوا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقّة، وهي خالصة يوم القيأمّة من ذلك.

وذلك أنّه ليس في سياق الآية ولا في سياق ما تقدّمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيويّة بما ينغّص عيش المتنعّمين بها ويكدّرها عليهم حتّى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص.

وكذا ما في قول بعض آخر: أنّ قوله:( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) متعلّق بما تعلّق به قوله( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) والمعنى: هي ثابتة للّذين آمنوا بالأصالة والاستحقاق في الحياة الدنيا، ولكن يشاركهم غير هم فيها بالتبع لهم وإن لم يستحقّها مثلهم، وهي خالصة لهم يوم القيأمّة - أو حال كونها خالصة لهم يوم القيأمّة فقد قرأ نافع( خَالِصَةً ) بالرفع على أنّها خبر والباقون بالنصب على الحاليّة - وذلك أنّ المؤمنين هم الّذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة والأوامر المحرّضة لإصلاح الحياة بأخذ الزينة والارتزاق بالطيّبات والقيام بواجبات المعاش ثمّ التفكّر في آيات الآفاق والأنفس المؤدّي إلى إيجاد الصناعات والفنون المستخدمة في الرقيّ في المدنيّة والحضارة، ومعرفة قدرها والشكر عليها.

كلّ ذلك من طريق الوحي والنبوّة.

وجه فساده: أنّه إن أراد أنّ ما ذكره من الأصالة والتبعيّة هو مدلول الآية فمن الواضح أنّ الآية اجنبيّة عن الدلالة على ذلك، وإن أراد أنّ الآية تفيد أنّ النعم الدنيويّة للمؤمنين ثمّ بيّنت مشاركة الكفّار لهم فيها وأنّ ذلك بالأصالة والتبعيّة فقد عرفت أنّ الآية لا تدلّ إلّا على إشتراك الطائفتين معاً في النعم الدنيويّة لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الأصالة والتبعيّة؟.

٨٤

بل ربّما كان الظاهر من أمثال قوله:( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ - إلى أن قال -وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) الزخرف: ٣٥، خلاف ذلك وأنّ زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصّوا به.

وقد امتنّ الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال:( كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) إلى آخر الآية، قد تقدّم البحث المستوفي عن مفردات الآية فيما مرّ، وأنّ الفواحش هي المعاصي البالغة قبحاً وشناعة كالزنا واللّواط ونحوهما، والإثم هو الذنب الّذي يستعقب انحطاط الإنسان في حياته وذلّةً وهواناً وسقوطاً كشرب الخمر الّذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك، والبغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحقّ كانواع الظلم والتعدّي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم، ووصفه بغير الحقّ من قبيل التوصيف باللّازم نظير التقييد الّذي في قوله:( مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ) .

وكان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة وطيّبات الرزق داعياً لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرّمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك، ولا يشذّ عمّا ذكره شئ من المحرّمات الدينيّة، وهي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال وهي الثلاثة الاُول، وما يرجع إلى الأقوال والاعتقادات وهو الأخيران ، والقسم الأوّل منه ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحقّ، ومنه غيره وهو إمّا ذو قبح وشناعة فالفاحشة، وإمّا غيره فالإثم، والقسم الثاني إمّا شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصّة:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) نظير الأحكام الاُخر المستخرجة منها المذكورة سابقاً، ومفاده أنّ الاُمم والمجتمعات لها أعمار وآجال نظير ما للأفراد من الأعمار والآجال.

٨٥

وربّما استفيد من هذا التفريع والاستخراج أنّ قوله تعالى في ذيل القصّة سابقاً:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ) الخ، راجع إلى حياة كلّ فرد فرد وكلّ أمّة أمّة، وهي بعض عمر الإنسانيّة العامّة، وأنّ قوله قبله:( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) راجع إلى حياة النوع إلى حين وهو حين الانقراض أو البعث، وهذا هو عمر الإنسانيّة العامّة في الدنيا.

قوله تعالى:( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ) إلى آخر الآيتين.

( إِمَّا ) أصله إن الشرطيّة دخلت عليها ما، وفي شرطها النون الثقيلة، وكأنّ ذلك يفيد أنّ الشرط محقّق لا محالة، والمراد بقص الآيات بيانها وتفصيلها لما فيه من معنى القطع والإبانة عن مكمن الخفاء.

والآية إحدى الخطابات العامّة المستخرجة من قصّة الجنّة المذكورة ههنا وهي رابعها وآخرها يبيّن للناس التشريع الإلهيّ العامّ للدين باتّباع الرسالة وطريق الوحي، والأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه:( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) الخ، فبيّن أنّ إتيان الهدى منه إنّما يكون بطريق الرسالة.

( بحث روائي)

في الدّر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله:( قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ) قال: نزلت في الخمس من قريش ومن كان يأخذ مأخذها من قبائل العرب: الأنصار الأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وبني عامر بن صعصعه وبطون كنانة بن بكر كانوا لا يأكلون اللحم، ولا يأتون البيوت إلّا من أدبارها، ولا يضطربون وبراً ولا شعراً إنّما يضطربون الادم، ويلبسون صبيانهم الرهاط، وكانوا يطوفون عراةً إلّا قريشا، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم الّتي قدموا فيها، وقالوا: هذه ثيابنا الّتي تطهّرنا إلى ربّنا فيها من الذنوب والخطايا ثمّ قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرا؟ فإن لم يجدوا طافوا

٨٦

عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا ثيابهم الّتي كانوا وضعوا.

وفيه: أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها فجاءت امرأة فألقت ثيابها وطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا اُحلّه

فنزلت هذه الآية: خذو زينتكم عند كلّ مسجد - إلى قوله - والطيّبات من الرزق.

أقول: وروي ما يقرب منه عن ابن عبّاس ومجاهد وعطاء لكنّك قد عرفت أنّ الآيات المصدّرة بقوله( يَا بَنِي آدَمَ ) أحكام وشرائع عامّة لجميع بني آدم من غير أن يختصّ بأمّة دون أمّة فهذه الآحاد من الاخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجيّة فيها، وأعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان.

في الدّر المنثور: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وهو ما يواري السوآت وما سوى ذلك من جيّد البزّ والمتاع.

وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء أحلّها الله من الثياب وغيرها وهو قول الله:( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ) وهو هذا فأنزل الله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني: شارك المسلمون الكفّار في الطيّبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيّبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها ثمّ يخلص الله الطيّبات في الآخرة للّذين آمنوا وليس للمشركين فيها شئ.

أقول: والروايتان - كما ترى - ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول، والمعوّل على ذلك.

وفيه: أخرج أبوالشيخ عن الحسن قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلّم) : ما من عبد عمل

٨٧

خيراً أو شرّاً إلّا كسي رداء عمله حتّى يعرفوه، وتصديق ذلك في كتاب الله:( وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ) الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام عن قوله:( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا ) الآية.

لباس التقوى ثياب بيض.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن مردويه عن عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ:( ورياشا) ولم يقل: وريشا.

وفي تفسير القمّيّ قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ) قال: فأمّا اللباس فاللباس الّتي تلبسون، وأمّا الرياش فالمتاع والمال، وأمّا لباس التقوى فالعفاف، إنّ العفيف لا تبدو له عورة وأن كان عارياً من اللباس، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً من اللباس.

أقول : وما في الروايتين من معنى لباس التقوى من الأخذ ببعض المصاديق وقد تكرّر نظير ذلك في الروايات.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً في قوله تعالى:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا ) الآية قال: قال الّذين عبدوا الأصنام فردّ الله عليهم فقال:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) إلى آخر الآية.

وفي البصائر عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن محمّد بن منصور قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) إلى آخر الآية فقال: أرايت أحدا يزعم أنّ الله أمرنا بالزنا وشرب الخمور وشئ من المحارم؟ فقلت: لا، فقال: فما هذه الفاحشة الّتي يدّعون أنّ الله أمرنا بها؟ فقلت: الله إعلم ورسوله، فقال: فإنّ هذه في أئمّة الجور ادّعوا أنّ الله أمر بالائتمام بقوم لم يأمر الله بهم فردّ الله عليهم وأخبرنا أنّهم قالوا عليه الكذب فسمّى الله ذلك منهم فاحشة.

أقول: ورواه في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب عن محمّد بن المنصور قال: سألته وساق الحديث، وروي ما في معناه في تفسير

٨٨

العيّاشيّ عن محمّد بن منصور عن عبد صالح فعلم أنّ في السند أبا وهب وعنه يروي الحسين بن سعيد وأنّ الحديث مرويّ عن موسى بن جعفرعليه‌السلام .

وكيف كان فالرواية لا تنطبق بحسب مضمونها على حين نزول الآية ولا ما ذكر فيه من الحجّة ينطبق على موردها فإنّ أهل الجاهليّة كانت عندهم أحكام كثيرة متعلّقة بأمور من قبيل الفحشاء ينسبونه إلى الله سبحانه كالطواف بالبيت عارياً.

لكنّ الحجّة المذكورة فيه من حيث انطباق الآية على مصاديق بعد زمن النزول قرب انطباقاً على أئمّة الجور والحكّام الظلمة فإنّ المسلمين مرّت بهم أعصار يتولّى فيها اُمورهم أمثال الدعيّ زياد بن أبيه وابنه عبيد الله والحجّاج بن يوسف وعتاة آخرون، وحول عروشهم وكراسيّهم عدّة من العلماء يفتون بنفوذ أحكامهم ووجوب طاعتهم بأمثال قوله تعالى( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) فالرواية ناظرة إلى انطباق الآية على مصاديقها بعد عصر النزول.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله.

وفيه: عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : من زعم أنّ الله أمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة منه فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أنّ المعاصي عملت بغير قوّة الله فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله الله النار.

أقول: وقولهعليه‌السلام : ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة منه الخ، نار إلى قول المفوّضة باستقلال العبد في أفعال الخير والشرّ كما أنّ قوله في الرواية السابقة: ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه الخ، ناظر إلى قول المجبرّة: أنّ الخير والشرّ والطاعة والمعصية إنّما تستند إلى ارادة الله من غير أن يكون لإرادة العبد ومشيته دخل في صدور الفعل وإن أمكن بوجه إرجاع الضمير إلى العبد ليكون إشارة إلى قول المفوّضة.

٨٩

وفي التهذيب بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال: هذه القبلة.

أقول: وهو من قبيل الجري والانطبق كما تبيّن من البيان السابق، وروى مثله العيّاشيّ في تفسيره عن أبي بصير عن أحدهماعليهما‌السلام .

وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام في قوله:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال: مساجد محدثة فاُمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.

أقول: الظاهر أنّ مرادهعليه‌السلام أنّ معنى إقامة الوجوه في الآية التوجّه إلى الله باستقبال القبلة عند كلّ مسجد يصلّي فيه ثمّ القبلة تعيّنت بمثل قوله:( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) البقرة: ١٤٤ وهي الكعبة إذ قد تقدّم في الكلام على آيات القبلة أنّ الكعبة إنّما جعلت قبلة في المدينة بعد الهجرة، والآية الّتي نحن فيها وهي من سورة الأعراف مكّيّة ولعلّ أصل الجعل في هذه السورة ثمّ تفصيل التشريع أو التفسير في سورة البقرة المدنيّة إن ساعد سياق آيات القبلة على ذلك كما أنّ الأحكام الاُخر المفصّلة من الواجبات والمحرّمات تشتمل السور المكّيّة على إجمالها وتشرّع تفاصيلها أو تفسّر وتبيّن في السور المدنيّة.

فقولهعليه‌السلام : مساجد محدثة الخ، معناه أنّ المراد بكلّ مسجد في الآية المساجد يحدثها المسلمون في أكناف الأرض، والمراد بإقامة الوجوه تولية الوجوه الّتي في آية الكعبة وهي استقبال الشطر من المسجد الحرام.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الحسين بن مهران عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) يعني الأئمّة.

أقول: الظاهر أنّ المراد به أئمّة الجماعات، وسيجئ له معنى آخر.

وفيه: عن الحسين بن مهران عنهعليه‌السلام في قول الله:( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال يعني الأئمّة.

٩٠

أقول: وهو كالحديث السابق فإنّ تقديم الإمام زينة الصلاة ومن المستحبّ شرعاً تقديم خيار القوم ووجوههم للإمامة ويمكن أن يكون المراد بالأئمّة أئمّة الدين على ما سيجئ من رواية العلاء بن سيّابة في آخر البحث.

وفي الدّر المنثور أخرج العقيليّ وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن انس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله:( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال: صلّوا في نعالكم.

أقول: وروي هذا المعنى بعدّة طرق اُخرى عن عليّ وأبي هريرة وابن مسعود وشدّاد بن الأوس وغيرهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه: أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: وجّهني عليّ بن أبي طالب إلى ابن الكوّاء وأصحابه وعليّ قميص رقيق وحلّة فقالوا لي: أنت ابن عبّاس وتلبس مثل هذه الثياب؟ فقلت: أوّل ما اُخاصمكم به قال الله: قل من حرّم زينة الله الّتي أخرج لعباده وخذوا زينتكم عند كلّ مسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلبس في العيدين بردي حبرة.

وفي الكافي بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: بعث أمير المؤمنينعليه‌السلام عبد الله بن عبّاس إلى ابن الكوّاء وأصحابه وعليه قميص رقيق وحلّة فلمّا نظروا إليه قالوا: يا ابن عبّاس أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللّباس؟ فقال: وهذا أوّل ما اُخاصمكم فيه قل من حرّم زينة الله الّتي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق وقال الله عزّوجلّ: خذوا زينتكم عند كلّ مسجد.

وفي الكافي بإسناده عن فضالة بن أيّوب في قول الله عزّوجلّ:( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال: في العيد والجمعة.

أقول: ورواه في التهذيب عن فضالة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وروى ما في معناه العيّاشيّ في تفسيره عنه، وفي المجمع عن أبي جعفرعليه‌السلام .

وفي الفقيه سئل أبو الحسن الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال من ذلك التمشّط عند كلّ صلاة.

أقول: وفي معناها غيرها من الروايات.

٩١

وفي تفسير العيّاشيّ عن خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن علىّعليه‌السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه.

فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إنّ الله جميل يحبّ الجمال فأتجمّل لربّي وهو يقول:( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) فاُحبّ أن ألبس أجود ثيابي.

أقول: والحديث مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً.

وفي الكافي بإسناده عن يونس بن إبراهيم قال: دخلت يوما على أبي عبد اللهعليه‌السلام وعليّ جبّة خزّ وطيلسان خزّ فنظر إليّ فقلت: جعلت فداك عليّ جبّة خزّ وطيلسان خزّ هذا ما تقول فيه؟ فقال: لا بأس بالخزّ قلت: وسداه أبريسم فقال: وما بأس يا إبراهيم فقد اُصيب الحسينعليه‌السلام وعليه جبّة خزّ ثمّ ذكرعليه‌السلام قصّة عبد الله بن عبّاس مع الخوارج واحتجاجه عليهم بالآيتين.

وفيه: بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمّد بن عليّ رفعه قال: مرّ سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد اللهعليه‌السلام وعليه أثواب كثيرة القيمة حسان فقال: والله لآتينّه ولاُوبّخنّه فدنا منه فقال: يا ابن رسول الله والله ما لبس رسول الله مثل هذا اللّباس ولا عليّ ولا أحد من آبائك ! فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمان قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإنّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها(١) و أحقّ أهلها بها أبرارها ثمّ تلا:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) فنحن أحقّ من أخذ ما أعطاه الله.

يا ثوريّ ما ترى عليّ من ثوب إنّما لبسته للناس ثمّ اجتذب بيد سفيان فجرّها إليه ثمّ رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً، ثمّ قال: هذا لبسته لنفسي وما رأيته للناس ثمّ جذب ثوباً على سفيان أعلاه غليظاً خشناً وداخل ذلك الثوب ليّن فقال : لبست هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسترها.

وفيه: بإسناده عن ابن القدّاح قال: كان أبوعبداللهعليه‌السلام متّكئاً عليّ فلقيه عبّاد بن كثير وعليه ثياب مرويّة حسان فقال: يا أباعبدالله إنّك من أهل بيت النبوّة وكان أبوك فما لهذه الثياب المرويّة عليك ؟ فلو لبست دون هذه الثياب.

فقال له أبوعبداللهعليه‌السلام :

____________________

(١) وفي الحديث فأرسلت السماء عزاليها أي: أفراحها، والعزالي بفتح اللام وكسرها: جمع العزلاء مثل الحمراء، وهو فم المزادة: فقوله أرسلت السماء عزاليها يريد شدّة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادة.

ومثله: ( انّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها ) مجمع البحرين.

٩٢

ويلك يا عبّاد من حرّم زينة الله الّتي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق؟ إنّ الله عزّوجلّ إذا أنعم على عبده نعمة أحبّ أن يراها عليه، وليس به بأس.

وفي الدّر المنثور أخرج الترمذيّ وحسّنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده.

وفي قرب الاسناد للحميريّ عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرضاعليه‌السلام في حديث طويل: قالعليه‌السلام لي: ما تقول في اللّباس الخشن؟ فقلت: بلغني أنّ الحسن كان يلبس، وأنّ جعفر بن محمّد كان يأخذ الثوب الجديد فيأمر به فيغمسر في الماء فقال لي : البس وجمّل فإنّ عليّ بن الحسين كان يلبس الجبّة الخزّ بخمس مائة درهم، والمطرّف الخزّ بخمسين ديناراً فيشتو فيه فإذا خرج الشتاء باعه وتصدّق بثمنه، وتلا هذه الآية:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) .

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدّاً، ومن أجمعها معنى الرواية الآتية.

في تفسير العيّاشيّ عن أبان بن تغلب قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه أو منع من منع من هوان به عليه؟ لا ولكنّ المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، وجوّز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويلبسوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلمّوا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالاً ويشرب حلالاً ويركب حلالاً، وينكح حلالاً، ومن عدا ذلك كان عليه حراماً، ثمّ قال: ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين.

أترى الله ائتمن رجلاً على مال خوّل له أن يشتري فرساً بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرسا بعشرين درهماً، ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه جارية بعشرين ديناراً وقال: ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين.

وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: نكون بطريق مكّة ونريد الإحرام فنطلّي ولا يكون معنا نخالة فنتدلّك بها من النورة فنتدلّك بالدقيق وقد دخلني من ذلك ما الله أعلم به؟ فقال: مخافة الإسراف؟ قلت: نعم،

٩٣

فقال: ليس فيما أصلح البدن إسراف إنّي ربّما أمرت بالنقي فيلتّ بالزيت فأتدلّك به، إنّما الإسراف فيما أفسد المال وأضرّ بالبدن، قلت: وما الإقتار؟ قال: أكل الخبز والملح وأنت تقدر على غيره.

قلت: فما القصد؟ قال: الخبز واللحم واللّبن والخلّ والسمن مرّة هذا ومرّة هذا.

وفي الكافي بإسناده عن عليّ بن يقطين عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: قال: قول الله عزّوجلّ:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) فأمّا قوله: ما ظهر منها يعني الزنا المعلن ونصب الرايات الّتي كانت ترفعها الفواحش في الجاهليّة للفواحش، وأمّا قوله عزّوجلّ: وما بطن يعني ما نكح من أزواج الآباء لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن اُمّه فحرّم الله عزّوجلّ ذلك، وأمّا الإثم فإنّها الخمر بعينها.

أقول: والرواية ملخّصة من كلامهعليه‌السلام مع المهديّ وقد رواها في صورة المحاجّة في الكافي مسندة وفي تفسير العيّاشيّ مرسلة وأوردناها في روايات آية الخمر من سورة المائدة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن منصور قال: سألت عبداً صالحاًعليه‌السلام عن قول الله:( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) قال: إنّ للقرآن ظهراً وبطناً فأمّا ما حرّم به في الكتاب هو في الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الجور، وجميع ما اُحلّ في الكتاب هو في الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الحقّ.

أقول: ورواه في الكافي عن محمّد بن منصور مسنداً، وفيه: فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الجور، وجميع ما أحلّ الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الحقّ.

أقول: انطباق المعاصي والمحرّمات على أولئك والمحلّلات على هؤلاء لكون كلّ واحد من الطائفتين سبباً للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتّباع كلّ سبباً لما يناسبه من الأعمال.

٩٤

ومن هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال: الغسل عند لقاء كلّ إمام، وكذا ما تقدّم من روايتي الحسين بن مهران.

وفي الدّر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والبخاريّ ومسلم وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أتعجبون من غيرة سعد ؟ فو الله لأنا أغير من سعد والله أغير منّي، ومن أجله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا شخص أغير من الله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أباعبد اللهعليه‌السلام يقول: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من أحد أغير من الله تبارك وتعالى، ومن أغير ممّن حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن؟.

وفيه عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله:( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) قال: هو الّذي يسمّى لملك الموت.

أقول: وقد تقدّمت روايات في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) الأنعام: ٢.

( بحث روائي مختلط بغيره)

في تفسير القمّيّ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) قال: خلقهم حين خلقهم مؤمناً وكافراً وشقيّاً وسعيداً، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتد وضالّ.

قال عليّ بن إبراهيم: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشقيّ من شقي في بطن اُمّه والسعيد من سعد في بطن اُمّه.

أقول: الرواية وإن كانت عن أبي الجارود وهو مطعون غير أنّ القوم قبلوا ما رواه

٩٥

عن أبي جعفرعليه‌السلام في حال استقامته قبل إنحرافه عنه، على أنّ الآية قد فسّرت بمثل ما في هذه الرواية في غيرها كرواية إبراهيم اللّيثيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام وغيره، وقد وقع هذا المعنى في روايات اُخرى وارادة في تفسير آيات القدر، وهي روايات جمّة مختلفة يشترك جميعها في الدلالة على أنّ آخر الخلقة يشكلّ أوّلها، وعود الإنسان يناظر بدءه، وأنّ المهتدي في آخر أمره مهتد من أوّل، وأنّ الضالّ كذلك ضالّ من أوّل والشقيّ شقيّ في بدء خلقته والسعيد سعيد فيه، والروايات على اختلاف بياناتها كالآيات ليست في مقام إثبات السعادة والشقاوة الذاتيّتين بمعنى ما يقتضيه ذات الإنسان ويلزم ماهيّته كالزوجية للأربعة فإنّ ذلك ممّا لا ينبغي توهّمه إذ لو رجع إلى مجرّد التصوير العقليّ من غير مطابقة للواقع الخارجيّ لم يستلزم أثراً حقيقيّاً لتأخّر الوجود عن مهيّات الأشياء وعروضه لها في الذهن والخارج على خلافه، ولو رجع إلى اقتضاء ذاتيّ حقيقيّ تملك به الماهيّة الإنسانية سعادتها أو شقاوتها بحيث لا يبقى لله سبحانه في خلقه إلّا أن يظهر منها ما كان دفيناً في ذاته كامناً في باطنها كان في ذلك إبطال لإطلاق ملك الله سبحانه وتحديد لسلطانه، والكتاب والسنّة والعقل متعاضدة على نفيه.

على أنّ ذلك يوجب اختلال نظام العقل في جميع ما يبني عليه العقلاء في اُمورهم واتّفاقهم على توقّع التّأثير في باب التعليم والتربية، وتسالمهم على وجود ما يستتبع المدح والذمّ أو يتّصف بالحسن والقبح يدفعه.

وكذا يوجب لغويّة تشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل، ولا معنى لإتمام الحجّة في الذاتيّات بأيّ معنى صوّرناها بعد ما كانت مستحيلة الانفكاك عن الذوات.

والكتاب الكريم يسلّم نظام العقل ويصدّق بناء الإنسان بنيان أعماله في الحياة على الاختيار، ويبيّن فيما يبيّن أنّ الله سبحانه خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثمّ أنبته نباتاً حسناً حتّى أنعم عليه بالبلوغ والعقل، يفعل باختياره ويميّز بين الحسن والقبيح، والخير والشرّ، والنفع والضرر والطاعة والمعصية، والثواب والعقاب بعقله، ثمّ أنعم عليه بتكاليف دينيّة فإن اتّبع عقله وأطاع ربّه فيما يأمره وينهاه كان

٩٦

سعيداً وجوزي أحسن الجزاء، وإن خالف عقله واتّبع هواه وعصى ربّه كان شقياً وذاق وبال أمره، والدار دار امتحان وابتلاء، والعمل اليوم والجزاء غدا.

وأساس هذا البيان كما ترى - على قضيّتين اثنتين: إحداهما: أنّ بين الفعل الاختياريّ وغيره فرقاً، وهي قضيّة عقليّة ضروريّة، والثانية: أنّ الأفعال الاختياريّة تتّصف بحسن وقبح وتستتبع مدحاً وذمّاً وثواباً وعقابا، وهي قضيّة عقلائيّة لا يسع لعاقل أن ينكرها وهو واقع تحت النظام الاجتماعيّ الحاكم عليه مدى حياته.

وبالجملة لا مجال للقول بالسعادة والشقاوة الذاتيّتين بالمعنى المتقدّم أبداً فما ورد من الآيات والروايات الّتي تعطف آخر الأمر على أوّله إنّما تسند الأمر إلى الخلق والإيجاد دون ذات الإنسان بما أنّه إنسان، وقد عرفت أنّ ارتباط السعادة والشقاء بأفعال الإنسان الاختياريّة على ما تقتضيه القضيّتان المتقدّمتان ممّا لا يشوبه شكّ ولا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات والروايات؟.

والروايات الوارادة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها وأنحاء بيانها طبقاً للآيات:

فمنها : ما دلّ على ذلك إجمالاً، وأنّ الله خلقهم حين خلقهم صنفين: شقيّ وسعيد، وكافر ومؤمن كرواية أبي الجارود المتقدّمة، وما مرّ في ذيل قوله تعالى:( هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ) آل عمران: ٦، من رواية الكافي في خلقة الجنين.

وهذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ) التغابن: ٢، وقوله:( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ) النجم: ٣٢، وقوله تعالى:( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ) الآية.

ولا كثير إشكال فيها فإنّ الآيات كما يشهد به سياقها ويدلّ عليه ذيل الأخيرة منها إنّما تدلّ على قضاء إجماليّ بكون النوع الإنسانيّ مشتملاً على فريقين، وإنّما يفصّل الإجمال، ويتعيّن كلّ من الطائفتين، وتتميّز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختياريّة تستتبع سعادة أو شقاوة، وتستدعي الإهتداء بالتوفيق أو أن يحقّ له الضلالة

٩٧

بولاية الشياطين، وبعبارة اُخرى الّذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثمّ يخرج عن الاشتراط إلى الإطلاق بالأعمال الاختياريّة بعد ذلك.

ومنها: ما يدلّ تفصيلاً أنّ الله سبحانه خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنّة وإليه مرجعه، ومنهم من خلقه من طينة النار وإليها مآله ففي البصائر عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال: أخذ الله ميثاق شيعتنا معنا على ولايتنا لا يزيدون ولا ينقصون إنّ الله خلقنا من طينة علّيّين وخلق شيعتنا من طينة أسفل من ذلك، وخلق عدوّنا من طينة سجّين وخلق أوليائهم من طينة أسفل من ذلك.

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة جدّاً.

وفي المحاسن عن عبد الله بن كيسان قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان فقال: أمّا النسب فأعرفه، وأمّا أنت فلست أعرفك، قال: قلت: ولدت بالجبل ونشأت بأرض فارس وأنا اُخالط الناس في التجارات وغير ذلك فأرى الرجل حسن السمت وحسن الخلق والأمانة ثمّ اُفتّشه فاُفتّشه عن عداوتكم، وأخالط الرجل وأرى فيه سوء الخلق وقلّة أمانة وزعارة ثمّ اُفتّشه فاُفتّشه عن ولايتكم فكيف يكون ذلك.

فقال: أما علمت يا ابن كيسان أنّ الله تبارك وتعالى أخذ طينة من الجنّة وطينة من النار فخلطهما جميعاً ثمّ نزع هذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة وحسن السمت وحسن الخلق فممّا مسّتهم من طينة الجنّة، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلّة الأمانة وسوء الخلق والزعارة، فممّا مستهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه.

أقول: والروايات في هذا المعنى أيضاً كثيرة جدّاً.

وفي العلل عن حبة العرنيّ عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ الله خلق آدم من أديم الأرض فمنه السباخ، ومنه الملح، ومنه الطيّب فكذلك في ذرّيّته الصالح والطالح.

أقول: وحديث الخلق من طينة علّيّين وسجّين إشارة إلى قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - إلى

٩٨

أن قال -كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين: ٢١، أمّا الآيات فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في محلّها، وأمّا الروايات فالرواية الأخيرة لا تخلو عن جهة بيان بمدلولها لمدلول ما تقدّم عليها.

وذلك أنّها تدلّ على أنّ المادّة الأرضيّة على اختلافها في أوصافها لها ارتباط بأحوال الإنسان وأوصافه من حيث الصلاح والطلاح على حسب ما نشاهده في الخارج أنّ اختلاف الموادّ لها تأثير مّا قطعيّ في اختلاف الصور الطارئة عليها والآثار البارزة منها وإن كان ذلك على الاقتضاء دون العلّيّة التامة.

فقولهعليه‌السلام : إنّ الإنسان مخلوق من الطين ثمّ قوله: إنّ أصله من الجنّة أو من النار يفيد أنّ من الأرض ما هو من الجنّة ومنها ما هي من النار وإليهما يؤل فإنّها تصير إنساناً ثمّ يسلك إلى الجنّة أو إلى النار، وإنّما يسلك إلى كلّ منهما ما يناسبها في مادّة الخلقة فهذا الموجود الماديّ الأرضيّ هو الّذي يصفو فيدخل الجنّة ويكون طينه طين الجنّة، أو يزيد في التكدّر والانحطاط فيدخل النار فيكون وقوداً لها.

ويشعر به بعض الاشعار قوله تعالى حكاية عن أهل الجنّة:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) الآية الزمر: ٧٤، فإنّ ظاهر الآية أنّ المراد من الأرض هو هذه الأرض يسكنها الإنسان ويموت فيها ويبعث منها، وهي المرادة من الجنّة، وإليه يشير أيضاً قوله تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) إبراهيم: ٤٨.

فكأنّ المراد بطينة الجنّة والنار في الروايات الطينة الّتي ستكون من أجزاء الجنّة أو النار، وخاصّة بالنظر إلى بعض تعبيراته كقولهعليه‌السلام : من طينة علّيّين ومن طينة سجّين ومن طينة الجنّة ومن طينة النار.

وعلى هذا فالمراد أنّ الإنسان مأخوذ بحسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الأرضيّة إمّا مادّة طيّبة أو مادّة خبيثة، وهي بحسب وصفها البارز فيها مؤثّرة في الإنسان في إدراكاته وعواطفه الباطنيّة وقواه ثمّ إذا شرعت قواه وعواطفه المناسبة لمادّته في العمل تأيّدت أعمال المادّة بأعمال العواطف والقوى وبالعكس ولم يزل على ذلك يشتدّ أمره حتّى يتمّ إنساناً سعيداً

٩٩

أو شقياً على حسب ما نظمه الله من عمل الأسباب وأراده ولله فيه البداء بتسليط سبب آخر أقوى من الأسباب الموجودة الفعّالة يبدّل مجرى سير الإنسان ويمنع من تأثير الأسباب المخالفة له.

ترى الإنسان المتكوّن من نطفة صالحة غير مؤفة مربّاة في رحم سالمة وممدّة بأغذية صالحة في هواء سالم ومحيط سالم أشدّ استعداداً للسلوك في المسلك الإنسانيّ، وأوقد ذهناً وألطف إدراكاً، وأقوى للعمل فالأمزجة السالمة بالوراثة ثمّ بامداد النطفة بأسبابها وشرائطها كالمناطق المعتدلة أقرب إلى قبول الكمالات الإنسانيّة، والمناطق الرديئة ماءً وهواءً والصعبة الخشنة في أسبابها الحيويّة كالمناطق الاستوائيّة والقطبيّة أقرب إلى الخشونة والقسوة والبلادة من غيرها.

ثمّ الأمزجة السالمة من موانع لطف الإدراك تنشأ ذوات أرواح لطيفة لها عقول جيّدة وعواطف رقيقة تميل بالإنسان إلى ما فيه صلاح إنسانيّته من العقائد والإرادات والأعمال، وتقرّبه من الموادّ الحافظة للبقاء إلى ما يزيد في تأييد الروح في عمله ولا يزال يتعاكس التأثير حتّى يتمّ الأثر، ونظير الكلام جارٍ في جانب الشقاء قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت: ٦٩، وقال:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) الروم: ١٠ والآيات في هذا المعنى كثيرة.

ومع ما نعلم من تأثير الموادّ الأرضيّة في نحو حياة الإنسان السعيدة و الشقية لسنا نحصي من الأسباب الدخيلة في هذا الباب إلّا بعض الأسباب العامّة البيّنة الّتي ليس لها قدر تجاه ما نجهله منها كما سمعت من حديث سلامة مزاج الأبوين والغذاء الممدّ للبقاء والمنطقة من الأرض الّتي يعيش فيها الإنسان وغيرها، فهناك أسباب لا تحصى كثرة خفيّة عنّا، ومن شواهد ذلك نوادر الأفراد الّذين ينشأون في غير ما نحسبه منشأ لهم والله يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ.

وبالجملة سعادة الإنسان في حياته أعني سعادته في علمه وعمله لها ارتباط تام بطيّب موادّه الأصليّة فهي الّتي تقبل ما يناسبها من الروح، وهي الّتي تهتدي إلى الجنّة، و

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408