في الزندقة والشعوبية

 في الزندقة والشعوبية33%

 في الزندقة والشعوبية مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39812 / تحميل: 10271
الحجم الحجم الحجم
 في الزندقة والشعوبية

في الزندقة والشعوبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ليس من المعقول أن يطلق اللفظ ابتداء على الملحد واللواط ومستحل المحارم والمجاهر بشرب الخمر ومعتقد الاثنين ومنكر النبوّات ومحرم الزواج و … و (١)

فمتى استعمل هذا اللفظ؟

هنا أيضاً لا تمدّنا المصادر بما يحل إشكالنا أو يساعد على حلّه. ولم أجد بين الذين تعرّضوا للموضوع وكتبوا فيه مَن تجاوز (الزندافستا) (٢) الزرادشتي، أو اشتقاقات منسوبة إلى عصور ليست أقرب من الزندافستا، الذي قفز عبر الزمن ليحط في القرن الثاني الهجري، محمّلاً بكل تلك الآثام التي عرفها ذلك القرن والقرون التالية له.

____________________

(١) ويمكنك أن تضيف إلى كل أولئك: مَن ينتقص الصحابة أو طعن في عدالتهم عند أصحاب الحديث و(من طلب الدين بالكلام) عند أبي يوسف. والمعتزلة عنده أيضاً، ربّما للسبب السابق والجهمية عند الأصمعي. ومَن يشرب الخمر ويضرب بالطنبور كما يذكر صاحب العقد الفريد ج٤ ص١٠٥ والعبيديين الفاطميين. وحتى الإمام الشيخ محمد عبدة لم يسلم من الاتهام بالزندقة هو وجماعة من أصحابه، كما يذكر الدكتور محمد حسين هيكل في (حياة محمد) ط١ القاهرة ١٣٥٤هجري ص١٥.

(٢) أنظر في ذلك ص ٧٥ وما بعدها من كتاب عبد الله بن المقفّع للسيد محمد غفراني الخراساني، نشر الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة ١٩٦٥.

٢١

لقد كانت بعض وجوه الزندقة معروفة قبل الإسلام وبعده، لكنّها كانت تسمّى بأسمائها ولم تكن الزندقة بين هذه الأسماء.

كان الكفر معروفاً في الجاهلية ومعروفاً في الإسلام.

وكان الزنا واللواط معروفاً في الجاهلية ومعروفاً في الإسلام.

وكانت الخمر ومعاقرتها والتمدّح بشربها معروفاً في الجاهلية ومعروفاً في الإسلام.

لكنّها كانت كفراً وزنا ولواطاً وخمراً. هذه أسماؤها في الجاهلية وهي أسماؤها في الإسلام الذي فرض على ارتكابها عقوبات محدّدة، ولم يكن هناك ما يسمّى زندقة.

هذا يزيد بن معاوية المتوفّى عام ٦٤ والذي ارتكب من الذنوب والمعاصي ما يخرج به على كل دين لا الإسلام وحده لم أجد مَن وصفه بالزندقة. لقد وصفوه بأنّه: فاسق فاجر وحتى كافر لكنّه لم يوصف في عصره بالزنديق، وما أظن ذلك إلاّ لأنّ اللفظ كتهمة منافية للإسلام لم يكن قد عرف بعد. لا إشفاقاً على يزيد، ولا لأنّ الأفعال التي ارتكبها لا توجب له هذا الوصف، الذي لحق في زمن تال من لم يرتكب بعض ما ارتكبه.

وهكذا يمر القرن الأوّل ولم أعرف مَن استعمل لفظ الزنديق في واحد من الوجوه التي شملها فيما بعد.

وأحسب أنّ أوّل إشارة إلى الزندقة كفكر أو سلوك مخالف للإسلام جاءت في بدايات القرن الثاني مع الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخليفة السيئ الصيت.

فأبو الفرج يورد اللفظ في موضعين عند الحديث عنه أما أوّلهما فهذا نصّه:

(وكتب - يعني هشام بن عبد الملك - إلى الوليد: ما تدع شيئاً من المنكر إلاّ أتيته وارتكبته غير متحاش ولا مستتر فليت شعري ما دينك؟! أعلى الإسلام أنت أم لا؟! فكتب إليه الوليد بن يزيد ويقال بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى، ونحله إيّاه:

يا أيّها السائل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكرِ

نشربها صرفاً وممزوجة

بالسخن أحياناً وبالفاتـرِ

فغضب هشام على ابنه مسلمة وقال: يعيرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة فالزم الأدب واحضر الصلوات وولاّه الموسم سنة سبع عشرة ومائة، فأظهر النسك وقسم بمكّة والمدينة أموالاً فقال رجل من موالي أهل المدينة:

٢٢

يا أيّها السائل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكرِ

الواهب البزل بأرسانها

ليس بزنديقٍ ولا كافـرِ (١)

هذا أحد النصّين وفيه كما ترى يرد لفظ الزنديق، وفيه كما ترى أيضاً ما يحدّد بعض ملامحه بربطه بالكافر الذي لا يدين بالإسلام.

أمّا النص الثاني فصريح لو صح، في تحديد الوجه الذي بدأ يعنيه اللفظ وهو المانوية.

فيروي صاحب الأغاني عن العلاء بن بندار أنّه قال: (كان الوليد زنديقاً وكان رجل من كلب يقول بمقالته مقالة التنويه، فدخلت على الوليد يوماً وذلك الكلبي عنده وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه فإذا ما يبدو منه حرير أخضر، فقال: أدن يا علاء، فدنوت فرفع الحريرة فإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه فجفنه يطرف كأنّه يتحرك فقال: يا علاء هذا ماني لم يبتعث الله نبياً قبله ولا يبتعث نبياً بعده، فقلت: يا أمير المؤمنين اتق الله ولا يغرنّك هذا الذي ترى عن دينك. فقال له الكلبي: يا أمير المؤمنين ألم أقل لك: إنّ العلاء لا يحتمل هذا الحديث، قال العلاء: ومكثت أياماً ثم جلست مع الوليد على بناءٍ كان بناه في عسكره يشرف به والكلبي عنده إذ نزل من عنده وقد كان الوليد حمله على برْذَون هملاج أشقر من أفْرِهَ ما سُخِّرَ، فخرج على بِرْذَونِه ذلك فمضى به في الصحراء حتى غاب عن العسكر، فما شعر إلاّ وأعراب قد جاؤوا به يحملونه منفسخة عنقه ميتاً وبِرْذَونَه يقاد حتى أسلموه. فبلغني ذلك، فخرجت متعمداً حتى أتيت أولئك الأعراب، وقد كانت لهم أبيات بالقرب منه في أرض البَخْراء لا حجر فيها ولا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصة هذا الرجل؟ قالوا: أقبل علينا على بِرْذَون، فو الله لكأنّه دُهْن يسيل على صفاةٍ من فَراهَتِه، فعجبنا لذلك، إذ انقضّ رجل من السماء عليه ثياب بيض فأخذ بضَبْعَيْه فاحتمله ثم نكسه وضرب برأسه الأرضَ فدقَّ عنقه، ثم غاب عن عيوننا، فاحتملناه فجئنا به (٢) .

وأنا أشك في هذه الرواية لأسباب منها: أنّ ما هو معروف من أخلاق الوليد ومجونه وانغماسه في الملذّات، يتعارض تماماً مع ما كان يدعو إليه ماني من نسك وزهد ودعوة إلى عدم الزواج وقطع النسل.

____________________

(١) الأغاني طبعة دار الكتب ج٧ ص٤.

(٢) الأغاني ج٧ ص٧٢ - ٧٣.

٢٣

ومنها أنّ شخصاً مثل هذا الكلبي الذي لا يشاركه أحد مجلسه مع الخليفة الوليد، ويلعب في حياته هذا الدور ويضلّه عن سبيل الإسلام إلى دين آخر، وهو يعرف العلاء معرفة تامة كما يظهر من الرواية. أفمن المعقول ألاّ يعرفه العلاء ولا يذكر اسمه ويكتفي في كل موضع يريد أن يذكره فيه بأنّه رجل من كلب أو الكلبي، مع أنّه رآه أكثر من مرة عند الخليفة.

ومنها أنّ ماني نفسه الذي يدين بما جاء به الوليد وهذا (الكلبي) يعترف بنبوّة عيسى. ودينه (المانوية) مزيج من النصرانية والمجوسية، فليس للوليد ولا لغيره أن يقول (لم يبتعث الله نبيّاً قبله …) إذا كان يدين حقاً أو يعرف ملّة ماني.

وأخيراً فإنّ هذه الرواية، خصوصاً في نهايتها، أشبه بالأساطير التي لا يمكن قبولها والاطمئنان إليها؛ ولهذا تحفّظت عليها منذ البداية بـ (لو صح).

على أنّ شكّي في الرواية لا ينفي أنّ هذا اللفظ قد بدأ تداوله في ذلك التاريخ أو تاريخ قريب منه، مع توسّع العرب بالفتح واختلاطهم بالفرس واطلاعهم على ما كانوا يدينون به، وانتقال بعض ذاك إليهم بسبب الاختلاط.

وممّا سبق، يظهر بوضوح ارتباط الزندقة في الأصل بأديان الفرس القديمة. ومن هنا وجب الإلمام ولو سريعاً بهذه الأديان، لمعرفة العلاقة بين الاثنين، ثم افتراق الزندقة وتوسّع مدلولها الذي شمل فيما بعد، ما لا علاقة له بتلك الأديان بل وما خالفها وعارضها.

ولنبدأ بأوّل هذه الأديان.

٢٤

الفصـل ال رابع:

المجوسيّة

وهي أقدم ما عرف من مذاهب الفرس، وقد ورد ذكر المجوس في القرآن الكريم إلى جانب اليهود والنصارى والصابئة في سورة الحج:

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .

وهم كما يظهر من الآية الكريمة ليسوا مشركين، ويعتبرهم المسلمون ممّن لهم كتاب أو شبهة كتاب (١) .

كما أنّهم ليسوا من القائلين بالاثنين، وهذا ما يبدو بوضوح من الشهرستاني في الملل والنحل حيث يعالجهم في فصل خاص، ويجعل للثنوية فصلاً آخر خاصاً بهم (٢) .

ومن شعائر المجوس تعظيم النار وبناء البيوت لها.

وأهم مذاهبهم الزرادشتية (أتباع زرادشت) التي غلبت على سائر مذاهب المجوسية الأُخرى حتى أنّك لتستطيع، مع شيء من التجوز، أن تعتبر الزرادشتية هي الممثّلة للمجوسية، وهي المقصودة حين يجري الكلام عن المجوس والمجوسية.

ولا يعنيني أن يكون زرادشت من نسل نوشهر الملك أو أنّه من أهل فلسطين، كان خادماً لبعض تلامذة أرميا النبي فكذب عليه وخانه فأصابه البرص ولحق بأذربيجان. فأنا لا أريد أن أترجم له وما يعنيني هنا تعاليمه التي أتى بها أو التي تناقلها المسلمون، ومدى علاقتها بما اصطلح عليه بالزندقة.

يقول صاحب الملل والنحل: (وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الخبائث) (٣) .

هذه إذن هي تعاليم زرادشت تاركاً ما يذكره المؤلّفون عن المجوسية ممّا لا علاقة له بالزندقة، وإنّما بقضايا أُخرى تتصل بالسياسة وبغير السياسة من شؤون الحياة.

____________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج١ ص٢٠٨، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج١ ص١٩٧.

(٢) الملل والنحل ج١ ص٢٣٣.

(٣) الملل والنحل ج١ ص٢٣٧.

٢٥

الفصل ال خامس:

المانويّـة

أصحاب ماني الذي ظهر في زمان سابور بن اردشير. كان يقول بنبوّة عيسى ابن مريم، ودينه مزيج من النصرانية والمجوسية.

اتبعه سابور أوّلاً وترك المجوسية، لكنّه عاد إليها فيما بعد وقتل ماني وأتباعه. ويقال إنّ الذي تولّى ذلك بهرام بن هرمز بن سابور، أو بهرام بن بهرام.

(وفي أيام ماني هذا - كما يقول المسعودي - (١) ظهر اسم الزندقة الذي إليه أضيف الزنادقة، وذلك أنّ الفرس حين أتاهم زرادشت بن اسبيمان بكتابهم المعروف بالبستاه باللغة الأُولى من الفارسية وعمل له التفسير وهو الزند.. وكان الزند بياناً لتأويل المتقدم المنزل، وكان مَن أورد في شريعتهم شيئاً بخلاف المنزل الذي هو البستاه وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا: هذا زندي فأضافوه إلى التأويل، وأنّه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، فلمّا أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس وقالوا زنديق، وعرّبوه والثنوية هم الزنادقة …)

أمّا الخوارزمي في مفاتيح العلوم (٢) فينسب كتاب الزند - تأويل الابستا - إلى مزدك ويربط الزندقة به وبأصحابه.

ولقد أورد الأُستاذ غفراني في كتابه عبد الله بن المقفع الآراء المختلفة في لفظ زنديق (٣) لمَن أراد الزيادة.

ويذكر المؤلّفون أنّ تعاليم ماني كانت تقوم على ترك الكذب والقتل والسرقة والزنا والبخل والسحر وعبادة الأوثان وقتل ذي الروح أو أذاه.

هذا من ناحية سلوك الإنسان في حياته.

أمّا خارج هذا فإنّ المانوية تقوم على الأصلين الأزليين: النور والظلمة وأنّ العالم مصنوع ومركّب منهما.

____________________

(١) مروج الذهب ج١ ص٢٧٥.

(٢) مفاتيح العلوم للخوارزمي ص٢٥ - ٢٦.

(٣) عبد الله بن المقفّع ص ٧٥ وما بعدها.

٢٦

الفصـل ا لسـادس:

المزدكيّـة

وهم أتباع مزدك الذي ظهر في أيام الملك قباذ ودعاه إلى دينه فأجابه. وحين تملك كسرى انوشروان فتك بمزدك والمزدكية، وقطع رؤوسهم وأعاد الناس إلى المجوسية.

وليس بين المزدكية والمانوية كبير اختلاف فيما يخص تركيب العالم من أصلين اثنين: النور والظلمة.

لكن الاختلاف الكبير يخص الجانب السلوكي من حياة الإنسان، ففي حين تقوم المانوية على النسك وقتل الشهوات والدعوة إلى قطع النسل تقوم المزدكية على شيوعية المال والنساء.

ومن هذا ترى أنّ ما بين الاثنين في هذا الجانب أكثر من مجرّد اختلاف، وإنّما هو العكس تماماً.

هذه هي أهم مذاهب الفرس القدماء، ثلاثة: المجوسية والمانوية والمزدكية. لا يجوز الخلط بينها والحديث عن أحدها وكأنّه يمثّلها كلها، إلاّ فيما يخص الأصلين الأزليين للعالم، الذي تشترك فيه المانوية والمزدكية، مع اختلافهما أو تعارضهما فيما عدا ذاك ممّا يخص سلوك الإنسان حسب ما قدّمنا.

ولم يفت المؤلّفين المسلمين أن يميّزوا بينهما، كما يتجلّى ذلك فيما كتبه: الطبري والمسعودي وابن النديم وابن حزم والشهرستاني.

أمّا البغدادي في الفرق بين الفرق، فيميّز أحياناً ويخلط أحياناً، فهو لا يثبت على رأي يمكن اعتماده والركون إليه، مع نبرة حادة هي سلاحه دائماً عندما يتعرّض لخصومه: مسلمين كانوا أم غير مسلمين.

فعلى أيٍّ من أتباع هذه المذاهب الثلاثة أطلق لفظ الزنادقة كجريمة يفرض على مَن يرتكبها أقسى أنواع العذاب؟

٢٧

أمّا المجوس فقد لاحظنا أنّ أحداً من المؤلّفين لم يطلق عليهم هذا اللفظ، بل إنّ الخليفة العباسي المأمون ينفيه عنهم بكل وضوح في محاورة ينقلها لنا ابن النديم.

قال أبو يوسف أيشع القطيعي النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين في عصرنا بالصابة: إنّ المأمون اجتاز في آخر أيامه بديار مضر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقّاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيّهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات كوفرة قرة جد سنان بن ثابت، فأنكر المأمون زيّهم، وقال لهم: مَن أنتم من الذمّة؟ فقالوا: نحن الحرنانية! فقال: أنصارى أنتم؟ قالوا لا! قال فيهود أنتم؟ قالوا لا! قال فمجوس أنتم؟ قالوا لا! قال لهم أفلكم كتاب أم نبي؟ فمجمجوا في القول. فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة، عبدة الأوثان، وأصحاب الرأس في أيام الرشيد والدي! وأنتم حلال دماؤكم، لا ذمّة لكم! فقالوا: نحن نؤدّي الجزية! فقال لهم إنّما تؤخذ الجزية ممّن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ في كتابه، ولهم كتاب وصالحه المسلمون عن ذلك، فأنتم ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء، فاختاروا الآن أحد أمرين: إمّا أن تنتحلوا دين الإسلام أو ديناً من الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلاّ قتلتكم عن آخركم! فإنّي قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه، فإن أنتم دخلتم في الإسلام أو في دين من هذه الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلاّ أمرت بقتلكم واستئصال شأفتكم! ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيّروا زيّهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الأقبية، وتنصّر كثير منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم قد وجدت لكم شيئاً تنجون به وتسلمون من القتل، فحملوا إليه مالاً عظيماً من بيت مالهم، أحدثوه منذ أيام الرشيد إلى هذه الغاية، وأعدوه للنوائب. وأنا أشرح لك، أيّدك الله، السبب في ذلك، فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره، فقولوا له: نحن الصابئون! فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحلوه فأنتم تنجون به. وقضى أنّ المأمون توفّى في سفرته تلك بالبذندون، وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت؛ لأنّه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر مَن كان تنصّر منهم، ورجع إلى الحرنانية، وطوّلوا شعورهم حسب ما كانوا عليه قبل مرور المأمون بهم، على أنّهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لبس الأقبية؛ لأنّه من لبس أصحاب السلطان، ومن أسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفاً من أن يقتل فأقاموا متستّرين بالإسلام، فكانوا يتزوّجون بنساء حرانيات، ويجعلون الولد الذكر مسلماً، والأنثى حرنانية، وهذه كانت سبيل كل أهل ترعوز وسلمسين القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حران، إلى منذ نحو عشرين سنة، فإنّ الشيخين المعروفين بأبي زرارة وأبي عروبة علماء شيوخ أهل حران بالفقه، والأمر بالمعروف، وسائر مشايخ أهل حران وفقهائهم، احتسبوا عليهم، ومنعوهم من أن يتزوّجوا بنساء حرانيات، أعني صابئات، وقالوا لا يحل للمسلمين نكاحهم؛ لأنّهم ليسوا من أهل الكتاب.

٢٨

وبحران أيضاً منازل كثيرة إلى هذه الغاية، بعض أهلها حرنانية ممّن كان أقام على دينه في أيام المأمون وبعضهم مسلمون، وبعضهم نصارى ممّن كان دخل في الإسلام وتنصّر في ذلك الوقت إلى هذه الغاية، مثل قوم يقال لهم بنو ابلوط، وبنو قيطران وغيرهم مشهورين بحران (١) .

ومن هذا يتبيّن أنّ الزنادقة من الناحية الدينية في نظر المأمون والمؤلّفين المسلمين هم غير المجوس.

ماذا يبقى لدينا بعد إسقاط المجوسية، غير المانوية والمزدكية من أديان الفرس القدماء؟

وبين هذين الاثنين فإنّ المانوية (المنانية) هي الأشهر والأكثر اتباعاً، والأحرى أن ينصرف الذهن إليها وإلى معتنقيها عند الحديث عن الزندقة.

فقد كان المأمون إذا أراد أن يمتحن الزنادقة يظهر صورة ماني لهم ويأمرهم أن يتفلوا عليها، ويتبرؤوا فمَن فعل منهم ذلك نجا ومَن رفض قُتل.

إذن كانت الزندقة هي المانوية أو المانوية والمزدكية. والزنادقة هم أتباع ماني ومزدك، على افتراض صحّة التهمة.

فكيف اتسع اللفظ هذه السعة، حتى أنّك لا تستطيع أن تظفر له بحد أو تعريف، وحتى تحوّل إلى شبح مخيف وإرهاب لا يكتفي برؤوس القائلين بالاثنين. وإنّما يجمع إليهم المسلم الموحّد والملحد الذي ينكر الواحد والاثنين، والشاك الحائر بينهما، والسياسي والثائر واللواط وصاحب الخمرة … ومَن يكره المانوية والمزدكية ويتعصّب ضدّهما ويحاربهما.

كيف تعرّض كل هؤلاء للاتهام بنفس التهمة: الزندقة. فنجا مَن احتال لنفسه ووجد سبيل النجاة، وقُتل مَن عُدم الحيلة لتجنّب القتل؟

____________________

(١) الفهرست لابن النديم، نشر دار المعرفة - بيروت ص٤٤٥.

٢٩

أي إرهاب هذا الذي يفقد معه الناس حياتهم على الظن والتهمة، كما كان يفعل المهدي باتفاق المؤرّخين باسم الدين ومعاونة (حراسه) في تهمة لا أحد يعرفها لكي يتجنّبها؟!

يبدو لي أنّ السياسة - كما هي في كثير من الحالات المشابهة الأُخرى - كانت وراء هذا التمييع لمفهوم الزندقة. لا لأنّ هذا المفهوم غير قابل بطبيعته للتحديد، بل لأنّها لا تريد تحديده، وتحرص على إبقائه واسعاً مبهما تستطيع أن تلجأ إليه وتستخدمه كلما أرادت التخلص من خصومها بتهمة ما أسهلها وأسهل اللجوء إليها: تعرض الدين للخطر. ولو كان الدين فعلاً هو المقصود أو لو كان القول بالاثنين فعلاً هو السبب. فلم اقتصر القتل على عدد من الناس مع أنّ القائلين بالاثنين وبأكثر من اثنين من عبدة أوثان ومشركين كانوا يملأون الأرض الإسلامية بكل أقطارها، لا العراق وبغداد وحدهما.

ومع السلطة كان النزاع بين المذاهب الإسلامية المختلفة يلعب في نفس الاتجاه دوراً أقل ما يوصف به أنّه دور المبرّر والمؤيّد للسلطة في القتل وسفك دماء (الزنادقة) تقرّباً إلى الله.

هذا أبو يوسف القاضي، يسأل عن المعتزلة فيجيب بأنّهم الزنادقة (١) وما أظن أبا يوسف وأصحابه حاربوا الزنادقة كما حاربهم المعتزلة. لكنّ أبا يوسف كان جزءاً من السلطة التي لم تكن تقتصد في البطش بخصومها وسفك دمائهم بحجّة الزندقة، وتحت ستار الدين الذي لم يسخر منه أحد كما سخرت السلطة، ولم يتجاوزه ويبتذله أحد كما تجاوزته وابتذلته السلطة. حتى لقد كانت هذه السلطة نفسها بما ارتكبت من أفعال مخالفة للدين، من بين أهم الأسباب التي شجّعت على الزندقة وساعدت على انتشارها وسهّلت الطريق أمام دعاتها.

ولم يكن هم حرّاس الدين وشغلهم إلاّ تبرير ما تفعله السلطة، والدفاع عنه، والتحريض عليه في كثير من الأحيان، عداءً وكرهاً لهذا المذهب أو ذاك من المذاهب الإسلامية المخالفة.

____________________

(١) الفرق بين الفرق ص١٠٣.

٣٠

ولكي تعرف أكثر، الدوافع السياسية لما تعرّض له مَن يسمّون زنادقة، وأنّ هذه الدوافع لا صلة لها بالدين ولا بخطر يتعرض له أو يوشك أن يتعرض له، فسأستعرض الذين قُتلوا وأرى معك هل كان قتلهم لقولهم بالاثنين - على افتراض صحّته - أو اللواط أو الزنا، أو لمجاهرتهم بما يخالف تعاليم وأحكام الإسلام، أم أنّ ذلك قد تمّ لأسباب أخرى غير ما ذكرنا.

وسأبدأ بالبرامكة: أكبر وأخطر مركز من مراكز الزندقة بكل وجوهها في رأي كثير من المؤلّفين.

٣١

الفصـل السـا بع:

البـرامكـة

والحديث عن البرامكة كأُسرة كانت في فترةٍ ما ذات سلطان ونفوذ، لا ينازعهما ولا يعلو عليهما إلاّ سلطان الخليفة , أمر معروف لا أراني بحاجة إلى ترداده هنا.

ولذا فسأقتصر في الحديث عنهم على ما يتعلّق بالأسباب التي كانت وراء نكبتهم، وهي الزندقة موضوع بحثنا. فهل كانوا زنادقة حقّاً؟ وهل كان قتلهم وسجنهم بسبب الزندقة وعلى الزندقة؟

ولا أكتمك أيّها القارئ أنّني تردّدت، بل تحرّجت، بل خفت وأنا أهم بالكتابة فيه. ذلك أنك تستطيع ودون أي تردد أو حرج أو خوف، أن تتهم البرامكة وترميهم بكل ما شئت من تهم دون أن تتعرّض لشيء ممّا يسوء، بل ربّما ستكون به العربي المسلم المدافع عن العروبة والإسلام.

أمّا أن تحاول تبرئة قوم من غير العرب، ومتهمين بالزندقة ولا يتحدث عنهم المؤرّخون منذ أكثر من اثني عشر قرناً إلاّ كذلك، فهذا ما عليك أن تحسب له ألف حساب، وتضع أمامك نتائج تراها ونتائج لا تراها، قد يكون من بينها التهم التي لحقت بهم، ولا أريد أن أبعد، فأقول المصير الذي لحقهم.

٣٢

لكن لمن سنترك كتابة التأريخ إذن؟ إذا كان الكاتب يخاف أن يكتب، والناشر يخاف أن ينشر، والقارئ يخاف أن يقرأ أو لا يقرأ إلاّ ما يسمح له بقراءته.

أيّ تأريخ هذا الذي يكتبه الخائفون وينشره الخائفون ويقرأه الخائفون؟!

إنّ التأريخ هو أمانة النفوس الحرّة والعقول المفتوحة والضمائر التي تسبق القلم وترده كلما أراد أن يحيد عن الحق أو يداهن في الحق، بـ (لا) قوية، هي التعبير عن الاحترام للحقيقة وكاتبها وناشرها وقارئها. لا مجموعة الأكاذيب التي تُقدّم على أنّها تأريخ، صنعه تعصّب وحمق وغباء، وفرضه أصحاب السلطة ورجالها ومتعهّدوها.

وهل يخيف السلطة شيء أكثر من هذا الفكر الحر، وهل يرهبها شيء أكثر من هذا الضمير الحر الذي لا يباع ولا يشترى، وهذا القلم الحر الذي يفضّل صاحبه أن يكسره بيده على أن يجعل منه أداة بيد الحاكمين، أو سلعة يمتلكها مَن يملك ومَن يدفع.

وأعود الآن إلى التأريخ وإلى موضوع البرامكة منه.

فهل كان البرامكة زنادقة؟ وهل كانت الزندقة سبب نكبتهم؟

يقول الجهشياري في الوزراء والكتاب: (ويحيى بن خالد - ابن برمك - وهو أوّل مَن زاد في الكتب (وأسأله أن نصلّي على محمد عبده ورسوله). (وأمر بإجراء القمح على أهل الحرمين وتقدّم بحمله من مصر إليهم، وأجرى على المهاجرين والأنصار وعلى وجوه أهل الأمصار وعلى أهل الدين والآداب والمروءات) (١) .

ويقول (حج يحيى وسأل الرشيد الأذن في المقام بمكّة فأذن له فانصرف إلى مكّة سنة ١٨١) (٢) .

وفي عام ١٨٥ استأذن يحيى الرشيد في العمرة والجوار فأذن له فخرج في شعبان واعتمر عمرة شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج ثم حج (٣) هذا عن يحيى، أمّا عن ابنه الفضل فيقول الجهشياري: (وقلد - يعني الرشيد - الفضل المغرب كله … ولمّا صار الفضل إلى خراسان أزال سيرة الجور وبني الحياض والمساجد والرباطات … وأمر بهدم البيت المعروف بالنوبهار - وهو بيت للبرامكة في بلخ كانوا يضاهون به بيت الله - فلم يقدر على هدمه لوثاقته وعظم المؤونة عليه فهدم منه قطعة وبنى فيها مسجداً …) (٤) .

وكان الفضل لا يشرب النبيذ ويقول: (لو علمت أنّ الماء ينقص مروءتي ما شربته أبداً) (٥).

فهل رأيت فيما فعله يحيى أو ابنه الفضل شيئاً ممّا يفعله الزنادقة أو شبيهاً به أو قريباً منه، على أي وجه أخذت الزندقة وبأي وجه فهمها المؤرّخون وأصحاب المقالات؟!

هل رأيت فيه إلاّ ما يفعله المسلم الملتزم البعيد عن الزندقة والزنادقة؟! وفيما دون ما عمله يحيى والفضل ما يبعد عنهما الزندقة والاتهام بها.

أمّا جعفر فاسمع قول الجهشياري فيه (وغلب جعفر على الرشيد غلبة شديدة حتى صار لا يقدّم عليه أحداً، وأنس به كل الأُنس، وأنزله بالخلد بالقرب من قصره) (٦) .

فهل يمكن أن يكون جعفر زنديقاً، وهو يلازم الرشيد منذ كان طفلاً حتى صار أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، فلا يكتشفه ولا تكتشفه عيون المهدي أبيه الذي تجرّد لملاحقة الزنادقة. ولا يزداد من الرشيد مع الأيام إلاّ قرباً ولا علاقته به إلاّ وثوقاً؟!

____________________

(١) الوزراء والكتّاب ص١٧٧.

(٢) تأريخ الطبري ج٨ أحداث سنة ١٨١ ص٢٦٨.

(٣) تأريخ الطبري ج٨ أحداث سنة ١٨٥ ص٢٧٣.

(٤) الوزراء والكتّاب ص١٩١.

(٥) الوزراء والكتّاب ص١٩٤ والطبري ج٨ ص٢٩٩.

(٦) الوزراء والكتّاب للجهشياري ص١٨٩.

٣٣

أكان الرشيد صديقاً للزنادقة ولا أقول زنديقاً، أم كان جعفر بريئاً من الزندقة التي يعالجها المؤرّخون وكأنّها السبب في نكبة البرامكة؟!

ولكي لا أبدأ تأريخ البرامكة من حيث انتهى، فسأعود قليلاً إلى الوراء حيث بداية هذا التأريخ، لتكون نهايته واضحة في دوافعها وأسبابها، بعيدة عن نوازع الحقد والاتهام المعتادين.

أبدأ إذن بأول مَن عُرف من رجالهم، وهو خالد بن برمك والد يحيى وجد الفضل وجعفر. والذي كان من النابهين في الدعوة العباسية قبل أن تصبح دولة، وكان من النابهين فيها بعد أن أصبحت دولة، حتى تولّى ديوان الخراج لأبي العباس السفاح أوّل خليفة عباسي، ثم تولّى الري وطبرستان وديناوند للمنصور وأقام فيها سبع سنين.

وبعد السفاح والمنصور، أنفذ المهدي خالداً إلى فارس عاملاً عليها، وكانت وفاته عام ١٦٣ في زمن المهدي.

وما أظن خالداً، حين انضمّ إلى الدعوة العباسية وحارب في صفوفها وحاز ثقة قادتها، كان زنديقاً.

وما أظن قادة الدعوة، وقد رفعوا مكانه وأعلوا منزلته، وهم يعلمون أنّه زنديق.

ولأفترض أنّهم فعلوا ذلك لحاجتهم إليه خلال فترة الدعوة، وبعد الدعوة وقيام الدولة العباسية؟ فهل كانت هذه الدولة تحتاج زنديقاً أو تقرّب زنديقاً؟ وهي التي ما قامت إلاّ باسم أهل بيت النبوّة، لإعادة مجد الإسلام الذي عبث به الأمويون، وعطّلوا أحكامه وقرّبوا مَن هو متّهم في دينه، بل كان بين خلفائهم مَن اتهم هو بالزندقة كالوليد بن يزيد، وما كانت الدعوة لتنجح، وما كانت الدولة لتقوم لولا ما أُحيطت به من هالة دينية قوية.

هل كان السفّاح وبعده المنصور وبعدهما المهدي، الذي جرّد السيف في الزنادقة، وكان يقتل على التهمة والظنة فيها، سيبقي على زنديق معروف، ثم لا يكتفي بذاك حتى يولّيه فارس عاملاً عليها؟!

٣٤

هذا من حيث العقيدة والعمل وما يتصل بهما. أمّا من حيث الأخلاق فيقول عنه الجاحظ (وحدثني تمامة - ابن أشرس كما أرى - قال: كان أصحابنا يقولون لم يكن يرى لجليس خالد دار إلاّ وخالد بناها له، ولا ضيعة إلاّ وخالد ابتاعها له …) (١) .

(وكان خالد أوّل مَن سمّى المستميحين ومن يقصد العمال لطلب البر الزوار وكانوا يسمون قبل ذلك السؤال فقال خالد أنا استقبح لهم هذا الاسم وفيهم الأحرار والأشراف …) (٢) .

وكان سخيّاً جليلاً ثريّاً نبيلاً كثير الإحسان كما يصفه الجهشياري (٣) .

وبعد خالد يأتي ابنه يحيى الذي كان الرشيد يخاطبه بالأُبّوة، والذي قلّده أمر الرعية حين ولي الخلافة عام ١٧٠ قائلاً: (وقد قلّدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك …) (٤) .

ثم يجدد ذلك بعد ثمان سنوات من خلافته فيفوّض أُموره كلها إلى يحيى بن خالد.

وكان يحيى مختصاً بالرشيد منذ حياة أبيه، وهو الذي مهّد له أمر الخلافة وتحمّل في سبيل ذلك الكثير من العناء، حتى عرّض حياته للخطر حين عزم الهادي على عزل الرشيد من ولاية العهد وجعلها في ابنه. فلم يترك يحيى وسيلة يصرف بها الهادي عمّا عزم عليه، ويقنع بها الرشيد بألاّ يتنازل عن حقّه في الخلافة إلاّ توسّل بها. وقد نجح في مسعاه فعدل الهادي عن عزمه وأعاد للرشيد حقّه في الخلافة بعده (٥) .

وحين تولّى الرشيد الخلافة بعد وفاة الهادي. كان طبيعياً أن يتقلّد يحيى ما قلّده الرشيد من أُمورها. وبقي يحيى حتى حصول النكبة مناصحاً للرشيد قائماً بما أوكل إليه خير قيام، لم تعرف عنه خيانة أو غدر.

____________________

(١) الوزراء والكتّاب ص١٥٠.

(٢) نفس المصدر والصفحة، والأغاني ط دار الكتب ج٣ ص١٧٣.

(٣) نفس المصدر والصفحة، وفي تأريخ بغداد للخطيب البغدادي ج١٢ ص٣٣٦ ترجمة الفضل بن يحيى أنّ الذي سمّاهم كذلك هو الفضل لا جدّه خالد.

(٤) الوزراء والكتّاب ص١٧٧، ومروج الذهب ج٣ ص٣٣٧، والطبري ج٨ أحداث سنة ١٧٠ ص٢٣٣.

(٥) تاريخ الطبري ج٨ أحداث سنة ١٧٠ ص٢٣٠، ومروج الذهب ج٣ ص٣٣٣، والوزراء والكتّاب ص١٧٠.

٣٥

ولقد كان يحيى حليماً جواداً عاقلاً وفيّاً، ما شئت من صفات النبل إلاّ وجدتها فيه.

يقول عنه الجهشياري: (وكان يحيى يهضم نفسه إذا استكثر شيء يكون منه من الجود) (١) .

ويقول عنه عبد الصمد بن علي (٢) (ما رأيت أكرم من يحيى نفساً، ولا أحلم منه، جعل على نفسه ألاّ يكافئ أحداً بسوءٍ فوفّى) (٣) .

ومع يحيى وإلى جانبه كان ابناه الفضل وجعفر يتوليان أعلى المناصب ويتمتعان بما لم يعرف لغيرهما من النفوذ والسلطة. تولّى الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وجعفر المغرب كله من الأنبار إلى أفريقيا.

وبقي يحيى وأبناؤه يتقلّدون أعلى الوظائف حتى جاءت نكبة عام ١٨٧.

سبعة عشر عاماً والبرامكة يحكمون. وأربعون عاما قبلها وهم يعملون مع العباسيين، فلم يعرفوا عنهم زندقة ولم يعرفها عنهم الناس - والحاسدون لهم كثير - ولم يتهموهم بها.

بل إنّ الرشيد نفسه الذي نكبهم وقتل جعفر بن يحيى لم يتهمهم، ولم يتهم مَن قتل منهم بالزندقة.

كيف استطاع البرامكة أن يكتموا أنفسهم وعقيدتهم طول تلك المدّة، فلم يكتشفها المعاصرون لهم، مع علوّ مقامهم وكثرة أعدائهم والحاسدين والطامعين في إزاحتهم والحلول محلّهم.

____________________

(١) الوزراء والكتّاب ص١٦٤.

(٢) ابن عبد الله بن عباس عم السفّاح والمنصور وأحد كبار العباسيين وممّن صحب السفّاح في رحلته من الحميمة إلى الكوفة بعد مقتل إبراهيم الإمام.

(٣) الوزراء والكتّاب ص٢٠٣.

٣٦

هل قفز البرامكة عبر الزمان فظهروا فجأة في تاريخ العباسيين؟ أم أنّ علاقتهم بهم امتدت عقوداً من السنين من خليفة إلى خليفة، وكلهم متشدّد في أمر الدين يدعم به أركان حكمه. وكانت الزندقة هي أشدّ التهم وأخطرها في ذلك العهد، حتى كان المهدي يقتل فيها على الظنة والتهمة كما ذكرنا، وحتى عيّن شخصاً عهد إليه بملاحقة المتهمين بالزندقة سمي (صاحب الزنادقة).

فكيف أفلت البرامكة من كل هؤلاء فلم يرمهم واحد بالزندقة، ولم يقل عنهم واحد بأنّهم زنادقة، وقد أتهم مَن لا يقاس بهم ومَن لم يكن له من الأعداء والحاسدين ما كان لهم.

ثم يأتي بعد ذلك من (يزندقهم) تبريراً لما جرى عليهم واعتذاراً عمّا فعلته السلطة معهم. ويطلب منك أن تقتنع بما يقول!

أمّا أنا فلا أريد أن أخسر عقلي، فأقبل ما يقال عن زندقة البرامكة وأنّها كانت وراء نكبتهم والسبب فيها.

وإذا كنت أرفض الزندقة كتهمة جرت على البرامكة ما نزل بهم، فإنّ هذا لا يعني مطلقاً عدم وجود أسباب أُخرى لنكبتهم. منها ما اتصل بالبرامكة أنفسهم، ومنها ما اتصل بالرشيد، ومنها ما اتصل بهؤلاء الكثر من الحاسدين والمتربّصين والساعين لإزالة ما كان البرامكة ينعمون به من مجد وسلطان، ومحاولة الحلول محلّهم.

لقد كان البرامكة ناساً من الناس. ليسو ملائكة ولم يكن من بين أسلافهم أبو ذر أو عمار، فتحت لهم الدنيا أبوابها كما لم تفتحها لأحد، ووجدوا بين أيديهم المال والجاه والسلطان.

وكانوا قوماً ذوي فضل ونبل وسخاء، فلم يبخلوا بمالهم أو جاههم أو سلطانهم.

وكان الشعراء، وهم الراكضون في ذلك العصر وراء المال والجوائز، يتزاحمون على أبوابهم أكثر ممّا يتزاحمون على باب الخليفة. ينظمون فيهم أروع ما يستطيع الشعراء أن يأتوا به من عالي الشعر ورفيعه، حتى أضطر البرامكة إلى تخصيص واحد يرفع إليه الشعراء قصائدهم فيهم، لتكون الجوائز حسب ما يرى من جودة الشعر.

٣٧

وإلى جانب الشعراء كان ذوو الحاجات من الناس، ومن العاملين في وظائف الدولة، يتزاحمون هم أيضاً على أبوابهم لقضاء حوائجهم.

ولم يكن البرامكة يردون من يمكنهم إجابة طلبه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

ومع الأيام كان نفوذ البرامكة يقوى ويتّسع حتى لكأنّ الدولة هي دولة البرامكة، يساعدهم على ذاك وفرة المال في أيديهم وسخاؤهم به وبذلهم له.

وكان هذا وحده كان كافياً لأن يثير حفيظة الكثيرين وحسد الكثيرين، وسعيهم للإطاحة بهم كما هي الحال في كل زمان.

وبين هؤلاء من لم يكن يرى نفسه دونهم كالفضل بن الربيع الذي حجب أبوه لأوائل الخلفاء العباسيين، والذي لم يحسن البرامكة التعامل معه ولم يقدروه قدره.

ولهذا كان الفضل، بالأضافة إلى الآخرين ممن يكره البرامكة ويحقد عليهم، يسعى بهم وينال منهم ويكشف أسرارهم وأخبارهم إلى الرشيد أو من يوصلها إليه.

ولم يكن الرشيد مغمض العينين عمّا يجري. كان يرى اتساع نفوذ البرامكة وغلبتهم على الناس.

وما أظنّه إلاّ قد فكّر فيما يمكن أن ينتهي إليه وضع كهذا، وأمامه مثال أبي مسلم وجدّه المنصور وهو غير بعيد.

وما أظنه إلا كان يعد ويهيّئ للتخلّص ممّن شركوه في سلطته وربّما تجاوزوها أحيانا فقطعوا بالأُمور دون الرجوع إليه وأخذ رأيه.

ويبدو أنّ البرامكة، خصوصاً جعفر، قد تعاملوا مع الرشيد مطمئنين معتمدين على سابق دالتهم عليه، وماضيهم في خدمته ومكانهم منه، فأمنوا وأساؤوا تقدير الظروف المحيطة بهم والدسائس التي تحاك ضدهم. ولم يفكروا في بطش السلطان الذي لا يوقفه سابق خدمة، ولا قديم ود، ولا يتسامح في ركوب أي أمر إذا رأى فيه ما يهدّد عرشه أو يعرّضه لخطر التهديد يوماً ما.

وكان على البرامكة أن يعرفوا ذلك فيكونوا أكثر حذراً، وأشد احتراساً ولا يقعوا فيما وقعوا فيه، مع تحذير يحيى الأب المجرب العاقل، ومع ما كان يبدو في سلوك الرشيد إزاءهم خلال الفترة التي سبقت نكبتهم، ممّا يثير الريبة ويدفع إلى الحذر والاحتراس.

وهكذا جاء اليوم الذي كان لا بد أن يجئ. وأخذ البرامكة فيه بداية عام ١٨٧ بتدبير حازم على غفلة منهم، وعلم أو ما يشبه العلم ممّن كان يرقب الأحداث ويحسب نتائجها.

٣٨

تلك هي أسباب نكبة البرامكة، سياسية تتصل بالحكم والحاكمين ولصراع السياسي بين أطراف، يغلب فيه اليوم طرف وغداً آخر، في دولة الفرد التي يكاد تأريخنا لا يعرف غيرها من أشكال الحكم.

إنّها سياسية بعيدة عن الزندقة وما يتصل بها، بعيدة عن الدين وما يتصل به، وإلاّ فكيف أُفسّر سكوت الرشيد سبع عشر سنة وسكوت مَن قبله عنهم كما ذكرت؟!

أكان الرشيد قد عرف زندقة البرامكة طول تلك المدة وسكت، فلم يعرض لهم ولم يمسّهم بسوء؟ أم لم يكتشفها ويكتشفهم إلاّ في اليوم الذي جرت نكبتهم فيه.

وكيف أُفسّر حج بيت الله وبناء الرباطات والمساجد وهدم النوبهار؟ أكان ذلك رياء ونفاقاً؟ لكن هذا الجواب الميسور لمَن أراده، سيصدق على كل الحالات المشابهة الأُخرى، ولن يقتصر على البرامكة وحدهم، وهم لم يكونوا مجبرين ولا مكرهين على ما فعلوا، ولم ينجهم بعد ما فعلوه من تهمة الزندقة.

ثم أي مقياس سنتخذ في الحكم على الناس، إذا نحن تركنا ظواهرهم وأعمالهم وما يدل على صدق نواياهم؟!

وكيف أُفسّر إسراع الرشيد إلى قبض ضياعهم وأموالهم في نفس اليوم الذي تمّ فيه القبض عليهم. ذلك أن أموال البرامكة كانت ولا شك من بين أهم أسباب قوّتهم. والقضاء عليهم لا بد أن يرافقه القضاء على أسباب تلك القوّة: المال.

يؤكّد ذلك الحوار الذي جرى عقب سجنهم بين الرشيد وبين يحيى والذي ينقله لنا الجهشياري في الوزراء والكتاب (١) فهذا الحوار ينصب كله على المال وطرق إنفاقه. لم يشر فيه الرشيد إلى شيء من عقيدة البرامكة ولم يذكرها ولم يلمح لها. وكان حرياً بالرشيد أن يذكرها ويتخذ منها ذريعة لتبرير ما أوقعه بهم في حواره ذاك.

وكيف أُفسّر اختلاف الحكم فيهم وهم أهل بيت واحد: أب وأبناؤه، فيتناول القتل بعضهم دون بعض. يتناول أقربهم للرشيد وأحبّهم إليه وأمكنهم منزلة في قلبه، ومَن لم يكن يصبر على فراقه ساعة من ليل أو نهار.

____________________

(١) الوزراء والكتّاب ص٢٤٣.

٣٩

ثم لماذا لم يعلن الرشيد اتهام البرامكة بالزندقة على المسلمين، ولم تجر مناظرتهم عليها في مجلس يحضره العلماء ورجال الدين، كما جرت العادة قبله وبعده، حيث كان المتّهم بالزندقة يحضر وتتم مناظرته ويستتاب فينجو مَن تثبت براءته أو توبته. ولا يقتل مَن يقتل إلاّ بعد بيّنة وإصرار ورفض التوبة عنها، ما لم يكن الاتهام بالزندقة ستاراً لدوافع سياسية لا يراد الكشف عنها.

ما الذي منع الرشيد من مواجهة جعفر ومساواته بالآخرين ممّن اتهموا بالزندقة حين يطلبون مواجهة الخليفة لإثبات أو إعلان البراءة ممّا اتهموا به؟! وكان جعفر قد سأل مَن جاء لأخذ رأسه وألحّ في السؤال، أن يواجه الرشيد ويراه أو يراجعه في أمره.

أكان الرشيد خائفاً من مواجهة متهم بالزندقة يريد أن يثبت براءته منها أمامه؟ وماذا في ذلك من ضرر لو أثبت أنّه غير زنديق؟ بل في ذلك كسب للدين وصيانة لدم مسلم لم يرتكب جرماً، أو تاب عن جرمٍ ارتكبه.

لقد أرسل الرشيد مَن يأتي برأس جعفر لا مَن يأتي بجعفر. ولم يكن جعفر محارباً ولم يُؤسر في ساحة حرب، ولم يتهم في شأن من شؤونها فتقتضي ضرورات الأمن سرعة قتله والتخلّص منه.

ولم يكن هناك هياج أو فتنة فيخاف منه أو من الانتظار به حتى اليوم التالي.

ثم كيف أفسّر أخيراً هذه القسوة أو هذا التمثيل الذي أعقب مقتل جعفر، إذ ينقل المؤرّخون أنّ الرشيد أمر بقطع جثّته ونصب كل قطعة على أحد جسري بغداد، ونصب رأسه على الجسر الثالث فيها (١) . وأنّ جثته بقيت معلّقة من بداية صفر حتى نهاية ذي الحجّة حيث أمر الرشيد بإحراقها (٢) .

وهذا ما لم يرو ولم ينقل عن كل الذين اتهموا بالزندقة وقتلوا فيها. وهو يعكس حقدا شخصيا عميقا تملك الرشيد فتصور أن ذلك مما يشفي غيظه من جعفر.

وهنا قد يرد إلى ذهني ما يشير إليه بعض المؤرّخين من زواج جعفر بالعباسة أخت الرشيد، وشرط الرشيد ألاّ يدنو منها جعفر ولا يخلو بها. وأنّ هذا الشرط لم يتحقق بفعل جعفر أو العباسة أو كليهما، فحملت العباسة سرّاً من جعفر ووضعت غلاماً بعثت به إلى مكّة مع مَن يخدمه ويرعاه هناك، وأنّ الرشيد قد علم بالأمر من بعض الجواري، وهو ما أحنقه على جعفر خصوصاً.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج٨ أحداث سنة ١٨٧ ص ٢٩٦ والوزراء والكتاب ص٢٣٤.

(٢) الطبري ج٨ أحداث سنة ١٨٧ ص٣١٧.

٤٠

وهذه القضية - وأنا لا أريد أن أناقش صحّتها الآن - وإن كانت قضية شخصية وتبقى شخصية لو تعلّقت بواحد غير الرشيد. لكنّها بالنسبة للرشيد وفي الظروف التي وقعت فيها قد تحولت إلى قضية سياسية جاءت لتضاف إلى العوامل السياسية التي رأيناها والتي ساهمت مجتمعة في نكبة البرامكة.

على أنّي أسأل بشأن هذه القضية عن الملوم فيها؟ أكان الرشيد يريد أن يزوّج أُخته ثم يمنعها أو يمنع زوجها من الاقتراب منها والخلو بها، ومنعهما ممّا لا يكون الزواج زواجاً إلاّ به؟!

أكان زواج جعفر من العباسة زواجاً مع وقف التنفيذ؟! وهو ما لم يعرفه المسلمون من قبل ومن بعد. وفيما هو دون ذلك أتهم مَن أتهم منهم بالبدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فهل سيرضون لخليفة المسلمين وأمير المؤمنين أن يكون مأواه النار؟! ولعلّ من المناسب أن أكمل الحديث عن هذه القضية بما يرويه المسعودي، وكيف أنّ العباسة التي كانت تحب جعفراً قد احتالت حتى حملت منه. ثم ينهي كلامه وكأنّه يجعل من قضية الزواج هذه، سبب نكبة البرامكة.

واستغربت مذهب المسعودي هذا، لأسباب منها ما يتعلّق بالعباسة. فالحمل لا بد أن يظهر على المرأة الحامل بعد شهرين أو ثلاثة حتى تضع ما في بطنها. وهذا قد يأخذ من الوقت أشهراً تبلغ أو تتجاوز الستة، كان على العباسة أن تنقطع وتغيب خلالها عن مجلس الرشيد. أفلم يسأل الرشيد عن سر غيابها الطويل هذا، وهو الذي لا يصبر عنها ولا يكتمل سروره إلاّ باجتماع الاثنين هي وجعفر كما يقول المسعودي؟!

ومنها قول المسعودي، بعد سرد حكاية الزواج وقتل جعفر (ثم قال - يعني الرشيد - يا ياسر، وهو الذي تولّى قتل جعفر بأمر الرشيد، ائتني بفلان وفلان فلمّا أتى بهم قال لهم: اضربوا عنق ياسر فإنّي لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر).

٤١

ورغم أنّ قتل الناس هو أسهل ما يمارسه الخلفاء المسلمون من هواية. لكنّي أرفض رأي المسعودي هنا. فإذا كان حقّاً ما يقول من أنّ الرشيد لا يقدر أن ينظر إلى قاتل جعفر. فلِمَ يطلب بعد ذاك - وقد قتل جعفر الذي لا يستطيع أن ينظر إلى قاتله - أن تقسم جثة جعفر إلى نصفين، يعلق كل نصف على جسر ويعلّق الرأس على جسر ثالث؟

إنّ فعل الرشيد بجعفر، حتى بعد قتله، يؤكّد حقداً قوياً طويلاً لا يتفق مع ما يذكره المسعودي، من قتل ياسر بعد ما جاء برأس جعفر، وكأن الرشيد قد ندم على فعله، أو كأن فعله كان نزوة من نزوات الملوك حين يأتون في ساعة غضب ما يندمون عليه بعد زواله.

وأخيراً فإنّ رواية المسعودي هذه لا تقدّم لنا تفسيراً لما حلّ بالبرامكة - غير جعفر - من سجن وتعذيب ومصادرة أموال، حتى كانت أم جعفر بعد ذاك لا تجد ما تنام عليه، وحتى كادت تموت فرحاً حين أعطاها محمد بن عبد الرحمان الهاشمي خمسمائة درهم.

إلى هنا أنتهي من حديث البرامكة وجعفر ومن حديث نكبتهم وأسبابها، وبعد ما بينها وبين الزندقة.

ومع جعفر، قتل واحد من الذين ترد أسماؤهم بين المتهمين بالزندقة، ذلك هو أنس بن أبي شيخ، كاتب جعفر بن يحيى.

وما دمنا قد عرفنا الأسباب التي كانت وراء اتهام جعفر بالزندقة وقتله، فأظن من السهل بعد ذاك أن نعرف الأسباب التي كانت وراء اتهام وقتل كاتبه أنس، الذي لم يتهم ولم يقتل إلاّ بسبب جعفر واتصاله الوثيق به. وربّما اطلاعه على ما كان بينه وبين الرشيد من أسرار، لم يكن الرشيد يريد أن يعلم أحد بها أو يبقى أحد ممّن يعلم بها.

وهكذا ختمت حياة هذا الرجل بالقتل مع تهمة الزندقة، التي سارع المؤلّفون إلى إلصاقها به، تبرئةً للقاتل واعتذاراً عنه.

٤٢

الفصل ال ثامن:

آل سهل

وهذه أُسرة أُخرى من الأُسر التي لمعت في فترة من فترات الحكم العباسي هي فترة المأمون.

كان الأب مجوسياً فأسلم ثم أسلم الابنان.

فهم لم يكونوا زنادقة في ماضيهم، ولم يكونوا زنادقة بعد أن تخلّوا عن ماضيهم.

فمن أين أتاهم الاتهام بالزندقة.

وقبل أن نسترسل في الحديث عنهم لا بد أن نعرف أوّلاً: مَن هي هذه الأُسرة التي نريد الحديث عنها.

هم آل سهل بن زاذانفروخ كما يذكر الجهشياري، أو عبد الله السرخسي كما يرد عند ابن خلكان في ترجمة الحسن بن سهل أو عبد الله وحده، كما في تأريخ بغداد للخطيب البغدادي.

وكانت بدايتهم مع البرامكة، الذين قدّموهم وأوصلوهم إلى الرشيد والمأمون، في قصة يرويها صاحب الوزراء والكتّاب.

ثم نبه الفضل والحسن ابنا سهل وعلا شأنهما، حتى إذا كانت الفتنة بين الأمين والمأمون بسبب عزل المأمون من ولاية العهد، كما هو معروف، والحروب التي دارت بين الطرفين، كان الفضل بن سهل الذي لُقّب بذي الرياستين: السيف والقلم، وأخوه الحسن، من أكبر أعوان المأمون وأشدّهم بلاء في تثبيت أمره، وأبعدهم أثراً في الانتصار الذي انتهى بإعلان المأمون خليفة بعد مقتل الأمين.

ولم ينس المأمون للفضل مواقفه فقد فوّض إليه الأُمور كلها يقضي فيها برأيه.

ثم زاد على ذلك بأن كتب كتاباً على نفسه جاء فيه (.. وقد جعلت لك بعد ذلك مرتبة من يقول في كل شيء فيسمع منه، ولا تتقدمك مرتبة أحد …)

وكان الفضل كما يقول عنه الجهشياري (سخيّاً سرياً نبيل النفس كثير الأفضال، يذهب مذاهب البرامكة في ذلك). (قد حرم النبيذ وحظر شربه وأمر بعقوبة شاربه).

ويقول عنه الخطيب: إنّه كان: (أكرم الناس عهداً وأحسنهم وفاء ووداً، وأجزلهم عطاء وبذلاً، وأبلغهم لساناً وأكتبهم يداً).

٤٣

وكل هذا أثار حسد الآخرين وحفيظتهم وسعيهم للإيقاع بالفضل. ولقد ساعد الفضل على نفسه بمواقفه من بعض كبار القادة وأصحاب النفوذ، ومَن لا يرى له من دور يفوق دوره في نصرة المأمون وتثبيت حكمه. ومن بين هؤلاء: طاهر بن الحسين، وعبد الله بن مالك الخزاعي، وهرثمة بن أعين الذي قتل بعد سجنه بأيام وقيل إنّه مات فيه.

وكان بنو هاشم من جانبهم قد غاظهم غلبة الفضل على المأمون واستبداده بالأُمور دونه ودونهم.

وكانت القضية الأهم التي أُثيرت فأثارت مخاوفهم وقلقهم، والمأمون ما يزال بعد في مرو، هي قضية ولاية العهد التي عقدها المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر هناك. وهي تعني إخراج الخلافة من آل العباس ونقلها إلى آل علي.

ولم يكن العباسيون طبعاً ومعهم أنصارهم الذين قاتلوا معهم، وكان من بين ضحاياهم عدد من آل علي، مستعدين لأن يتنازلوا عن الخلافة إلى غيرهم حتى لو قبل الخليفة وتنازل عن حقّه فيها. فبادروا إلى مبايعة إبراهيم بن المهدي عم المأمون، واجتمعوا عليه ودارت معارك طويلة بين إبراهيم وبين الحسن بن سهل والي العراق من قِبل المأمون.

ولم يكن الفضل بعيداً عن الاتهام بتدبير أمر البيعة، وهو ما زاد من كره العباسيين وحقدهم عليه.

وبالإضافة إلى ما سبق وربّما الأهم ممّا سبق، هو ما اكتشفه المأمون من أنّ الفضل كان يكتم عليه الكثير من الأُمور ولا يطلعه إلاّ على ما يريد أن يطلعه عليه. من ذلك مثلاً ما كان يجري في بغداد من تنصيب خليفة ونشوب حرب واضطراب أمن. وهو ما لم يعلمه المأمون على حقيقته إلاّ فيما بعد وعن غير طريق الفضل.

وكان لا بد لذلك أن يترك أثره في نفس المأمون، الذي لم يعد يجد في الفضل إلاّ عنصر ضعف في موقفه، من آل بيته العباسيين ومن عدد من قادة جيشه وأعوانه.

٤٤

وقد اضطرّ المأمون بعد الأنباء الخطيرة التي بلغته عن الوضع في العراق، واضطراب الأمر فيه، أن يترك مرو عائداً إلى بغداد. وفي سرخس في طريق العودة اغتيل الفضل بن سهل. اغتاله أربعة وهو في الحمام في دار المأمون كما يقول المسعودي (1) وكانوا من حشم المأمون كما يقول الطبري (2) .

وحين واجههم المأمون اتهموه بأنّه هو الذي أمرهم بقتله، كما في الطبري وابن الأثير (3) ، فأمر بهم المأمون فضُربت رقابهم.

وهكذا تتكرّر قصة البرامكة بعد خمسة عشر عاماً فقط: سورة السلطان واتساع النفوذ، وكثرة الحاسدين والطامعين والساعين، ثم الخليفة الذي قد يغفر أي شيء، ويتسامح في أي شيء إلاّ مشاركته في ملكه أو إضعافه أو تهديده.

وإذا كان هناك من فرق بين القصّتين فهو أنّ المأمون أراد التخلّص من الفضل، مع بقائه في الظاهر بعيداً عن قتله، بريئاً من تبعته غير راضٍ ولا مشارك ولا عالم به.

وليس كثيراً أن يقتل أربعة من هؤلاء الذين لا يستطيعون إلاّ تنفيذ ما يؤمرون به، وليسوا من أصحاب الجاه ولا من ذوي العصبيات، وهم شهادة البراءة للمأمون.

وذلك خلافاً للبرامكة والرشيد، إذ كان الآمر بالقتل والحبس هو الخليفة نفسه معلناً ذاك مظهراً له سعيداً به.

بقي ما يقوله المسعودي في بداية حديثه عن المأمون، من أنّ قتل الفضل كان بسبب جارية أراد المأمون شراءها فضايقه الفضل عليها.

وما أظن المسعودي مع علمه وفضله ممّن يجوز عليه ذلك، وهو لا يجوز على مَن هو دونه. فلو كان للفضل ألف جارية وأرادهن المأمون أو بدا منه ما يشير إلى أنّه أرادهن لجهزهن وحملهن كلهن إليه. فليس الفضل من الغباء بحيث يخاطر بكل ما وصل إليه وبلغه، وربّما بحياته، لحساب جارية في عصر لا بضاعة فيه أروج وأكثر شيوعاً وانتشاراً من الجواري وأسهل امتلاكاً لها.

وبعد فأين هي الزندقة في كل ما مرّ بنا؟ وفي أي وجه من وجوهها على - كثرتها - يبدو لنا الفضل زنديقاً أو قريباً من الزنادقة أو صاحباً أو جليساً أو مقرّباً إليهم، وقد حرم على نفسه حتى الشرب وعاقب عليه. هل هناك غير السياسة والصراع السياسي ومَن يحسن ومَن لا يحسن الخوض فيه.

وأقل من الفضل وأهون شأناً وأبعد عن الاتهام بالزندقة أخوه الحسن، الذي يكفي في نفيها عنه أن يكون المأمون نفسه قد تزوّج ابنته بوران، في حفلة تشبه الأسطورة أو تتجاوزها على أنّ الحديث عن الحسن هنا لا محلّ له، وهو لم يقتل ولم يسجن ولم يعذب، وقد خصصت حديثي كما قلت منذ البداية للذين قتلوا وسجنوا، أو عُذّبوا بتهمة الزندقة.

____________________

(1) مروج الذهب طبعة دار الأندلس - بيروت 1981 ج3 ص441

(2) تأريخ الطبري ج8 أحداث سنة 202 ص565.

(3) تأريخ الطبري ج8 أحداث سنة 202 ص565 وابن الأثير ج5 أحداث سنة 202 ص445.

٤٥

الفصل ال تاسـع:

عبد الله بن أبي عبيد الله

وهذا شخص قتلته السياسة ولم تقتله الزندقة، حتى لو صحّ ما اتهمه بعض المؤرّخين أنّه كان زنديقاً.

قتلته السياسة ولم يكن هو سياسياً ولا طرفاً في الصراع السياسي، الذي كان دائراً آنذاك في عاصمة الخلافة، وفي كل صقع من أصقاعها.

ولكن لسوء حظّه أنّه كان ابن واحد من أطراف ذلك الصراع.

هو عبد الله بن أبي عبيد الله الأشعري بالولاء، وزير المهدي وصاحب أمره والمقدّم عنده.

اختلف أبو عبيد الله هذا مع طرف قوي آخر هو الربيع بن يونس والد الفضل بن الربيع في قصة يرويها المؤرّخون.

وبلغ من حقد الربيع على أبي عبيد الله أنّ الربيع أقسم بـ (الله الذي لا إله إلاّ هو لأخلقن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ مكروه أبي عبيد الله، ثمّ جعل يضرب ظهراً لبطن ويضطرب يميناً وشمالاً فلا يجد مساغاً، ثم ذكر القشيري وكان أبو عبيد الله أساء به وحجبه فاستحضره وقال قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله فهل عندك في أمره حيلة؟ قال له: ليس بجاهل في صناعته وأنّه لأحذق الناس، وما هو بظنين فيما يتقلده؛ لأنّه أعف الناس حتى لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهنّ موضعاً، وليس بمتهم بانحراف عن هذه الدولة، لأنّه ليس يؤتى من ذلك، وليس يتهم في دينه؛ لأنّ عقده وثيق، ولكن هذا كله يجتمع لك في ابنه، فقام الربيع فقبّل عينه، وما زال يدسّ إلى المهدي مَن يخبره خبر عبد الله بن أبي عبيد الله.

وكان المهدي قد جدّ في طلب الزنادقة وغلظ في أمرهم، فقدم عليه بجماعة منهم في سنة ست وستين ومائة، وأحضر معهم وضاح الشروي، وعبد الله بن أبي عبيد الله، وكان أخذه في مكّة، وأدخل على المهدي، فقال: أزنديق أنت؟ قال: نعم …… فقال له المهدي اقرأ فقرأ: (تباركت وعالموك بعظم الخلق) فأشار الربيع على المهدي بمطالبة أبيه بقتله، فقال المهدي لأبي عبيد الله اضرب عنقه … فارتعد فقال له العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين: شيخ كبير، وله حرمة، ويكفيك غيره ما أردته منه …… فأمر المهدي عبد الله بن أبي العباس الطوسي…. بقتله، فلما تنحى ليقتل صاح: يا أمير المؤمنين، التوبة، فتغافل عنه المهدي، فقال عافية بن يزيد القاضي: إنّه يعرض بالتوبة، يا أمير المؤمنين، فأقبل عليه المهدي، وقال: والله ما الله أردت بذلك، انزعوا عمامته وجئوا في عنقه … وأمضى عبد الله بن أبي العباس ما أمر به من قتله فقتل …)

٤٦

وأحضر في جملة مَن أحضر من الزنادقة ابن لأبي أيوب، سليمان بن أيوب المكّي، فأقر بالزندقة وتاب، فقبل المهدي توبته وأمر بإطلاقه …) (1) .

وقد رأيت نقل النص كما ورد في الوزراء والكتاب على طوله - رغم حذف بعض ما لا فائدة من ذكره - لأنّه يكشف لنا عن أُمور لو أردت الحديث عنها والاستشهاد بها - مع غيابه - لرجعت إليه وأثبت ما يخصّها منه أو لاتهمتني بالمبالغة والتحامل على هؤلاء (المؤرّخين).

فهذا النص يكشف عن عمق الصراع بين أطراف السلطة وحاشية الخليفة. وأنّ هذا الصراع الذي ربّما غذاه الخليفة نفسه، يمضي في غير حدود، بل ليس له حدود قبل سحق الخصم والقضاء عليه والانتهاء منه. لا يهم الوسيلة المستعملة. فهو ليس صراع فرسان وإنّما صراع يعتمد المؤامرات والدسائس، واللجوء إلى ما لا يجوز قبل اللجوء إلى ما يجوز.

أرأيت كيف يتحوّل الإنسان إلى لا إنسان عندما يسمح للشر أن يغلبه ويسد المذاهب عليه إلاّ ما يظنّه يشفي غيظه ويطفئ حقده. فهو دائم التفكير ليله ونهاره في هذا الخصم الذي يريد أن يثأر منه ويقهره ويدفنه بيديه حتى لا رجعة فيه.

نظر الربيع وأطال النظر فلم يجد في خصمه منفذاً يؤتى منه، فهو كفء غير متهم في كفاءته، وهو نزيه لم تعلق به شبهة وعفيف لم يذكر بما يثلم عفّته وموالٍ لم يعرف عنه خلاف.

ما الذي سيفعل إذن ومَن أين سينفذ لأبي عبيد الله وقد حصن نفسه فلا مطعن فيه.

لكن الربيع صمّم على الانتقام ولا بد منه، وها هو قد وجد الوسيلة إليه ووجد معها إذناً صاغية من المهدي.

هناك ابن لأبي عبيد الله وهو متّهم بالزندقة، أو من يستطيع الربيع أن يخيفه أو يطمعه فيتهم ابن أبي عبيد الله.

____________________

(1) الوزراء والكتّاب ص153 فما بعدها.

٤٧

ولم يتردّد الربيع. فماذا عليه أن يقتل الابن البريء بالأب الذي أساء إليه يوماً، ما دام ذلك سيطفئ حقده. وما أكثر الأبرياء الذين قُتلوا قبله وبعده.

لكن الربيع ومعه الخليفة (المهدي) قد تجاوزا الحدود حين أرادا قتل الابن بمحضر من أبيه، ثم تجاوزا كل الحدود حين طلبا من الأب أن يتولّى بنفسه قتل ابنه، حتى ارتعد الأب، وحتى رقّ له أحد الحاضرين للاحتفال بالقتل!! فسأل (أمير المؤمنين) أن يعفيه ممّا لا يطيقه ولا يطيقه أب، ويقوم غيره بقتل الابن المتهم الذي لم ينفعه طلب التوبة وتنبيه القاضي للخليفة بأنّ المتهم أعلن توبته ولا مكان لقتله بعدها.

فأنت تحس بوضوح أنّك لست أمام متهم مطلوب تنفيذ حكم الدين فيه، وإنّما المطلوب من هذا القتل تعذيب شخص آخر به وإذلاله والانتقام منه وملاحقته بالإذلال والانتقام، بعد قتل ابنه أمامه.

وهذا ما ستراه بوضوح أكثر فيما أعقب قتل الابن. فيبدو أنّ الربيع لم يكتف بما فعله حتى الآن مع أبي عبيد الله فيضيف الجهشياري (ولمّا قتل المهدي عبد الله بن أبي عبيد الله قال الربيع لبعض خدم المهدي: لك عليّ ثلاثة آلاف دينار، إن فعلت شيئاً لا يضرّك، قال له وما هو؟ قال: إذا دخل أبو عبيد الله إلى المهدي فصار بحضرته، قبضت على سيفه، ومشيت إلى جانبه، فسينكر ذلك عليك أمير المؤمنين، فتقول: يا أمير المؤمنين، قتلت ابنه بالأمس، فكيف أمنه عليك أن يخلو بك ومعه سيفه اليوم! ففعل ذلك الخادم، فكان ذلك ممّا أوحش المهدي من أبي عبيد الله).

فهل رأيت مثل هذا الحقد لا يشفيه حتى القتل. ولا يكفيه ما حلّ بأبي عبيد الله ممّا دبّره الربيع، فهو يتابعه ويرشو خادم الخليفة بأن يثير لديه الشك من أبي عبيد الله والخوف منه على حياته إذا دخل عليه وسيفه معه ممّا أوحش المهدي من أبي عبيد الله.

ونهاية القصّة لا حاجة إلى ذكرها.

فابن أبي عبيد الله لم تقتله الزندقة؛ لأنّه كان زنديقاً، وإلاّ لقتلت ابن سليمان بن أيوب الذي جيء به معه بنفس التهمة. فلماذا أطلق هذا فلم يصبه سوء وقتل ذاك رغم إعلانه عن توبته وإعلام المهدي بها. ولقتلت أيضاً داود بن روح بن حاتم وإسماعيل بن مجالد ومحمد بن أبي أيوب المكي ومحمد بن طيفور حين جيء بهم بتهمة الزندقة فلم يقتلهم المهدي وإنّما استتابهم وخلى سبيلهم (1) .

هذه السياسة، وما تخلقه من عداء وما تثيره من صراع، هي التي قتلت عبد الله أو محمداً كما يسمّيه ابن النديم، وهي التي ستقتل أبرياء آخرين كما سنرى، بتهمة الزندقة سلاحاً يجرّده صاحب السلطان حين يغضب ويغمده حين يرضى. وما من أحد يستطيع تجنّبه؛ لأنّه ما من أحد يعرف ما هو.

____________________

(1) الطبري أحداث 166 ج8 ص163 ابن الأثير ج5 ص253.

٤٨

الفصل ال عاشـر:

عبد الله بن المقفّع

وابن المقفّع، هذا المفكّر الأديب الكبير، هل كانت دار عاتكة حقاً وراء اتهامه بالزندقة، كما تذهب إلى ذلك الرواية المشهورة وهي تتحدث عن نهايته.

ولكن ما لعاتكة هذه ولابن المقفّع، وهي قد سبقته بسنين، وعاشت في الشام وعاش في العراق، ولم ير أحدهما الآخر ولم تربطهما علاقة حب؛ فيمنع نفسه المرور على دارها ويتحاشى الوقوف عندها، تجنبّاً لما يمكن أن يتعرّض له من سعي الوشاة والأعداء، وهي أميرة بنت أمير أو خليفة، لا تؤمن المخاطرة معها.

كيف كانت إذن عاتكة هذه سبب زندقة ابن المقفّع، ولم تكن هي زنديقة ولم تره ولم يرها، ولم يذكرها بشر ولا بخير؟!

تقول الرواية إنّ ابن المقفّع بعد أن أسلم مرّ في أحد الأيام ببيت النار، وهو معبد للمجوس فتمثّل ببيتين للأحوص بن محمد الأنصاري الشاعر الأموي المعروف، يذكر فيهما دار عاتكة التي يتعزّلها ويخشى المرور بها والوقوف عندها، بعد أن هُدّد في ذلك ومُنع منه. لكن صدوده عنها لم يكن عن قلّة وفاء أو سلوّاً كما قد يتصوّر، فما يزال فؤاده كما كان، موكّلا بها مقيماً على حبّها لا يتعزّ لها ولا يصد عنها إلاّ خوفاً على نفسه أو ربّما خوفاً عليها.

والبيتان من قصيدة طويلة في مدح عمر بن عبد العزيز وهما:

يا دار عاتكة التي أتعـزّل

حذر العدى وبها الفؤاد موكّلُ

إنّي لأمنحك الصدود وإنّني

قسماً إليك مع الصدود لأميلُ

ففسر تمثل ابن المقفّع بالبيتين على أنه حنين إلى دينه القديم ورجوع عن الإسلام.

بمثل هذه البساطة تعلّل وقائع التاريخ! وبمثل هذا الغباء يكتب، ثم يراد منّا أن نقنع بما يعلّل ويكتب.

وابتداءً ألاحظ أنّ المجوسية لم تكن من بين الوجوه المعروفة للزندقة إلاّ إذا خلطنا بين ما هو مجوسي وبين ما هو مانوي او مزدكي.

وكان ابن المقفّع مانوياً لا مجوسياً ليحنّ إلى بيت النار الذي يقدّسه المجوس.

ثم إنّ ابن المقفّع لم يُكره على الإسلام وإنّما أسلم طوعاً واقتناعاً. وكان يستطيع أن يبقى على دينه القديم - ولنفترضه المجوسية - فلا يحتاج إلى اعتزال بيت عاتكة، مع إمكان المرور به كغيره من أبناء ملّته، دون خوف من عدو أو رقيب.

٤٩

ولأفترض أنّ ابن المقفّع لم يسلم إلاّ مجبراً، أكان مجبراً أيضا أن يتمثّل بالبيتين على ملأ من الناس وبصوت يسمعه هؤلاء وينقلونه؟ ألم يستطع أن يقولهما همساً أو دون الهمس يجريهما في خاطره وهو يمر ببيت النار، من غير صوت أو من غير صوت مسموع على الأقل، وليس أمامه شخص يريد أن يسمعه قوله فيه. إنّما كان يعبّر عن ماضٍ يحسّه ويتذكّره لا يقدر على إعادته أو العودة إليه. وكل ذلك في داخله لا يحتاج إلى الإعلان عنه، بل لا يريد الإعلان عنه أو إسماعه مَن لا يأتمنه، وقد كان من الفطنة والذكاء والاحتياط بحيث لا يغفل عما ينتظره لو نقل عنه تمثّله بالبيتين، مع كثرة أعدائه والحاسدين والساعين للإيقاع به، ومع كثرة الدماء التي سالت بسبب أو بدون سبب على قرب منه.

ولكن لماذا الاتهام والقتل بالزندقة هنا؟ لِمَ لم يتهم ابن المقفّع بالردةّ، وتطبّق عليه أحكام الارتداد كما تطبّق على أي مسلم ترك الإسلام إلى غيره؟! وهذا ما فعله ابن المقفّع، حين رجع الى مجوسيّته - كما يقولون - بعد أن أسلم. وهو ما يستدعي تنفيذ الحكم الخاص بالمرتدين، فذلك أحرى أن يمنح السلطة غطاءً شرعياً لا نزاع فيه. لكن السلطة، كما تثبت كل الوقائع، لا تهتم بهذا الغطاء ولا تفكر فيه، حين يقودها الحقد أو حين ترى أنّ مصلحتها يمكن أن تتعرّض لخطرٍ ما.

فهل سمعنا أنّ مجلساً انعقد لمناظرة ابن المقفّع، فأقيمت عليه البيّنة بالرجوع إلى دينه القديم والردّة عن الإسلام، خصوصاً وأنّ تمثّله بالبيتين لم يكن أمام مَن له الحكم خليفة أو قاضياً أو والياً، وإنّما نقلاً عن شخص أو أشخاص لم تورد الرواية أسم واحد منهم.

هذا إلى أنّ الرواية لا تقول أنّ ابن المقفّع قد ارتدّ عن الإسلام، أو عاد إلى دينه القديم. كل ما تقوله أنّه تمثّل ببيتي الأحوص المذكورين عند مروره ببيت النار.

أكان اتهام المسلمين وقتلهم هيّناً إلى هذا الحد، فيُتهم المسلم و يُقتل لتمثّله ببيتي شعر يحفظهما ويتناقلهما صغار المتأدّبين من رواته، ولم يكن في ذلك الوقت مَن لا يروي الشعر أو شيئاً منه؟!

رحم الله عاتكة وغفر لها، فلولاها لما تعرّض عبد الله بن المقفّع للاتهام بالزندقة وللقتل، في رواية نسجها بعض المتخلّفين، ولما أضعنا في تفنيدها ودحضها وقت القارئ ووقتنا.

٥٠

تلك واحدة من التهم الموجّهة إلى ابن المقفّع لإثبات زندقته واستحلال دمه.

وتهمة أُخرى تتداولها الألسن منذ عهدٍ بعيد، وهي هذه التي تتعلّق بمعارضته للقرآن. ولقد أثارها وناقشها وفنّدها الكثيرون.

فقد زعم بعضهم أنّ ابن المقفّع عارض القرآن، حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ... ) قال هذا ما لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، فترك المعارضة وخرق ما كان اختلقه.

وزعم بعضهم أنّ الآية التي مزّق ابن المقفّع بسببها ما كتبه في معارضة القرآن هي: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

بل زاد بعضهم فزعم أنّ ابن المقفّع سمع صبيّاً يقرأ هذه الآية فترك المعارضة!

وكلا الآيتين من سورة هود.

ولقد ساءني وأحزنني هذا القلم الذي تمسك به أصابع لا يحرّكها فكر ولا عقل؛ لأنّ صاحبها لا يملك الفكر والعقل، أو لا يحرص على الاستعانة بهما فيما يريد الكتابة فيه.

هل تصوّر هؤلاء أنّ عبد الله بن المقفّع كان يحاول معارضة القرآن أو أنّه عارضه فعلاً، ومضى في ذلك، حتى إذا وصل إلى واحدة من هاتين الآيتين، شعر بالعجز وتوقّف ومزّق ما كتب، معلناً عجزه واعترافه به.

ولا أدري ما الصعوبة في هاتين الآيتين، لمَن عارض ما سبقهما من آيات في هود، ومن سور قبل هود!!

ولقد تساءلت مراراً، وأنا أقرأ هذا الهذيان، وما أكثره، كيف استطاع هؤلاء الحمقى أن يكونوا مؤلّفين وأعلام، يُؤخذ عنهم ويُروى هذيانهم.

وتذكّرت حديثهم عن معارضة النبيين طليحة ومسيلمة للقرآن.

فقبل ابن المقفّع كانت تهمة معارضة القرآن قد لحقتهما: الأوّل بالفرسين الأدهمين وفارسيهما من بني نصر بن قعين. والثاني بكلامه عن الضفدعة ذات النقيق.

وضحكت؛ إذ كان الأمر في نظري لا يستحق أكثر من الضحك، وأنا أسمع نقيق الضفدعة، يرويه المؤرّخون، ويصدّقه القرّاء، في معارضة القرآن.

٥١

وعدت إلى ابن المقفّع - وإن كان هناك مَن يسمّيه ابن المقفّع بكسر الفاء - والتهمة الجديدة التي وجّهها إليه حرّاس الدين!! وهم طبعاً غير حرّاس الثورات في أيامنا هذه. وإن كانوا يلتقون معهم في تشديد الحراسة على الفكر.

ورأيتني أتوقّف طويلاً عند ما سمّي بـ (معارضة) القرآن. فمعارضة القرآن ليست ترجمة له ولا محاكاة لما جاء به. وإنّما الإتيان بمثله أو بما يقاربه، في المعنى وفي البيان، وفي علم ما كان والكشف عما سيكون، وهو المعجز في هذا كله.

وتساءلت: كيف كانت معارضة ابن المقفّع للقرآن، وأيّ سبيل سلك فيها؟

هل جرى حسب تسلسل سوره وآياته، فبدأ بسورة البقرة فآل عمران فالنساء... الخ؟

وهل اختار لها نفس الأسماء أم أسماء معاكسة - ليثبت معارضته - فسورة البقرة عنده، سيكون اسمها سورة الثور، وسورة النساء، سورة الرجال وهكذا؟!

وهل تحدث في كل سورة عمّا تحدث القرآن، أم خالف ما جاء به في تلك السور، أم ذهب مذهباً خاصاً لا شأن له بما ورد في القرآن؟!

ثم لماذا لم يستطع ابن المقفّع معارضة (فوران التنّور) أو (بلع الماء) في سورة هود، وقد عارض عشراً من سور القرآن قبله، وعدداً أكبر من آيات هود، قبل التنّور وبلع الماء، وليس في القرآن ما هو أبلغ من بعض أو ما هو دون بعض. ولا في هاتين الآيتين من سورة هود ما لا يمكن معارضته، لمَن عارض كل السور والآيات قبلهما؟!

وماذا بشأن ما تمّت معارضته من القرآن، وهو جزء غير يسير (عشر من طوال السور، وثلث من سورة هود)؟

ألم يحفظه أحد أو يحتفظ به أحد من هؤلاء الزنادقة من أصحاب ابن المقفّع، يؤيّدون به مذهبهم. أو من أعدائه يؤيّدون به اتهامهم ويتسلّحون به في مهاجمتهم له ومطالبتهم برأسه أو تبرير قطع رأسه، وإن كان قطع الرأس أو الرؤوس في ذلك العهد، لا يحتاج إلى تبرير.

٥٢

ولأفترض أنه لم يستطع معارضة آيتي (التنور) و (بلع الماء). فماذا عليه لو أغفلهما فلم يأت بمثلهما ولا بعكسهما؟!

أكانت معارضته ستكون ناقصة وستفقد قيمتها، لو جاء بقرآن ذي مائة واثنتي عشرة سورة، بنقصان سورتين عن سور القرآن، التي تبلغ مائة وأربع عشرة. أم كان أصحابه سيغضبون ويشكّون في قرآنه الذي نقص آيتين عن قرآن محمد؟!

ما أظن ذاك، وما أظن أصحابه من قلّة الأدب وقلّة الوفاء بحيث يجفون صاحبهم ويغضبون عليه بسبب آيتين فقط من قرآن كامل!!

ثم متى كانت معارضة ابن المقفّع للقرآن؟ إنّ الذين يتحدثون عن معارضته، يتحدثون عنها بعد إسلامه طبعاً.

فكيف لمَن أسلم حديثاً، أن يبدأ دينه الجديد بمعارضته وتحدّيه، فيثبت عليه تهمة ما كان أغناه عنها لو بقي على دينه القديم، كواحد من هؤلاء المجوس وغير المجوس الذين لم يسلموا، ولم يعرّضوا أنفسهم للقتل بتهمة الزندقة.

فهل أسلم ابن المقفّع ليحفظ حياته وينتفع بإسلامه ويرضي فكره ووجدانه، أم أسلم ابتغاء القتل واستعجالاً له؟!

وقد أضيف إلى كل ما سبق، أنّ الذين عارضوا القرآن قبل ابن المقفّع، كانوا - كما يقول المؤرّخون - يدّعون النبوّة، لكنّنا لم نجد أحداً منهم اتهم ابن المقفّع بدعوى النبوّة. فهل قصد ابن المقفّع من معارضة القرآن تحمّل مخاطره، وبينها وربّما أوله، المخاطرة بحياته، إظهار بلاغته، وهو لم يكن في حاجة لذاك، إذ لم تكن بلاغته موضوع نزاع أو شك. وكان - وهو حي - من أشهر بلغاء عصره.

بعد هذا، فإنّ قتل ابن المقفّع كان في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجري عام 142، ولم تُثر تهمة معارضته للقرآن، ولم تُعرف وتنتشر إلاّ بعد مدة طويلة على قتله.

٥٣

فكيف خفيت مثل هذه التهمة، لو صحّت، مع كثرة أعدائه والساعين به. وكان قتله بها أسهل وأقوى في تبرير القتل بحجّة لا يمكن دفعها والطعن فيها.

أظنّني لن أحتاج إلى أكثر من هذا في تفنيد تهمة لا تقوم أصلاً للحجاج والنقاش. وحرام على وقت وجهد يضيعان فيها وفي أمثالها.

وأظن من الخير للقارئ الكريم، أن أنتقل به إلى الجِد في موضوع ابن المقفّع وأسباب قتله، بعد حديث لا جِدّ فيه، بل عبث وغباء.

كان عبد الله بن علي، عمّ المنصور، قد دعا إلى نفسه بالخلافة بعد وفاة أبي العباس السفّاح رافضاً خلافة المنصور، الذي بعث إليه بجيش يقوده أبو مسلم الخراساني.

ونشب بين الطرفين قتال أسفر عن هزيمة عبد الله ولجوئه إلى أخويه عيسى وسليمان في البصرة، وسليمان عامل عليها يومئذ.

وسعى الأخوان عيسى وسليمان بكل الوسائل للعفو عن أخيهما، وتم الاتفاق أخيراً على إعطائه الأمان، الذي يبدو أنّ المنصور لم يكن راغباً فيه؛ فأرسل سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب ليضغط عليهما ويدفعهما إلى الشخوص بعبد الله إليه.

وذهب عيسى وسليمان استجابة لطلب المنصور أو لضغطه، ومعهما عبد الله.

وحين خرجا كان عبد الله قد اقتيد إلى محبس في قصر المنصور بقي فيه حتى وفاته عام 147 في قصته التي يرويها المؤرّخون.

ولكن ما شأن ابن المقفّع بكل ذاك.

لقد كان ابن المقفّع كاتباً لعيسى بن علي، وهو الذي تولّى كتابة الأمان لعبد الله حين تمّ الاتفاق عليه مع المنصور.

وقد اجتهد ابن المقفّع في صياغة هذا الأمان محترساً من أيّ تأويل يمكن أن ينفذ منه المنصور للإيقاع بعبد الله.

وزيادة في الحيطة والحذر، فقد ضمن كتاب الأمان عبارات أحفظت المنصور، وبلغت به من الغيظ كل مبلغ حتى طلب من يكفيه ابن المقفّع.

وكان سفيان بن معاوية يحقد على ابن المقفّع ويكرهه أشدّ الكره لأسباب يردّدها المؤرّخون وليس هنا محل ذكرها.

وعرف ما يضمره المنصور لابن المقفّع وأنّ قتله سيسره ويقع منه أحسن موقع، إن لم يكن المنصور نفسه قد أغراه بقتله وأمنه من عواقبه.

وواتته الفرصة للثأر منه حين أرسل عيسى بن علي عبد الله بن المقفّع في بعض أُموره إلى سفيان هذا.

٥٤

ولم ينفع بن المقفّع احتياطه وطلبه من عيسى عدم إرساله وحده وأن يكون بصحبة شخص آخر حدّده بالاسم. فحين دخل ابن المقفّع أخذه اثنان من رجال سفيان وأوثقاه، ثم بدأا بتقطيعه عضواً عضواً وإلقاء كل عضو يُقطع في تنّور مسجور حتى انتهيا منه.

وهكذا انتهت حياة هذا الأديب الكبير.

لم تقتله الزندقة - على افتراض صحّة اتهامه بها - بل قتلته السياسة. قتله كتاب الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي المطالب بالخلافة بعد السفّاح. ذلك أنّ المنصور لم يغفر لعبد الله خلعه له ودعوته الناس إلى بيعته بالخلافة والحرب التي قامت بينهما، وما كان يمكن أن تنتهي إليه لو لم ينتصر جيش المنصور فيه. ثم خوف المنصور - لو عفا عنه وتركه - أن يعاود الثورة عليه، وهي ليست مأمونة النتائج دائماً.

وهذا ما يفسّر حبس المنصور له بعد الأمان مباشرة، ثم تسليمه إلى عيسى بن موسى وطلبه منه أن يقتله عند حج المنصور سنة 147، وحين عاد من حجّه ووجد عيسى لم ينفّذ أمره بقتله؛ أعاده إلى الحبس في بيت أساسه ملح كما يقول المؤرّخون، وأجرى في أساسه الماء فسقط البيت على عبد الله وقتله.

ولم يكتف المنصور بمقتل عبد الله، بل تجاوز ذلك إلى سليمان نفسه عم المنصور وأخي عبد الله، إذ عزله عن البصرة وولّى مكانه سفيان بن معاوية عدو ابن المقفّع وأكره الناس له.

فأنت ترى حنق المنصور وشدّة غيظه من عبد الله بن علي ومحاولاته قتله حتى تمّ له ذلك، رغم كتاب الأمان الذي أعطاه له. وعبد الله عمّه من حيث النسب ومن سادات آل العباس. واللذان سعيا في أمره وتوسّطا له عمّاه عيسى وسليمان. وعبد الله بعد، هو الذي حارب مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين وغلبه حتى ألجأه إلى مصر حيث تولى صالح بن علي أخو عبد الله قتله في بوصير.

فكيف سيسكت عمّن كتب له كتاب الأمان هذا وحاول أن يحصره فيه ويضيّق عليه ويسد الطريق أمامه للتخلّص من عبد الله.

لقد رأى المنصور فيما عمله ابن المقفّع تحدّياً له ولسلطانه. وإذا كان قد قتل عمّه وأحد مؤسّسي الدولة التي أصبح هو خليفتها، أكان سيتحرّج عن قتل واحد ممّن لا ينتسب إلى بيت رفيع من بيوت العرب، ولا تحميه قبيلة معروفة من قبائل العرب، ولا يخشى بسببه تمرّداً أو انتفاضاً في جزء من أقطار الخلافة. ولا يعدو أن يكون واحداً من هؤلاء الموالي الذين لا يملكون غير القلم، اسمه عبد الله بن المقفّع.

ويمكن أن أضيف إلى ما أثار المنصور ضد ابن المقفّع ودفعه للقضاء عليه: نقد ابن المقفّع الذي ضمّنه رسالة الصحابة في سياسة الحكم، والتي تعرّض فيها بالنقد الخفي حيناً والواضح حيناً واللاذع دائماً لرأس السلطة الخليفة المنصور: (سلطان الله في أرضه) كما يقول عن نفسه.

٥٥

الفصـل ال حادي عشـر:

صالح بن عبد القدوس

يقول عنه ياقوت: (كان حكيماً أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً كان يجلس للوعظ في مسجد البصرة ويقص عليهم) (1) .

ويقول ابن عساكر: (كان حكيم الشعر زنديقاً متكلّماً … وكان يعظ الناس بالبصرة ويقص عليهم …) (2) .

ويقول الذهبي: (صاحب الفلسفة والزندقة … كان يعظ الناس بالبصرة ويقص) (3) .

ويقول ابن شاكر الكتبي: (… كان حكيم الشعر زنديقاً متكلّماً …) (4) .

ويقول ابن حجر: (صاحب الفلسفة والزندقة …) (5) .

ويقول أبو الفرج: (كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام... وصالح بن عبد القدوس) (6) .

ويقول ابن النديم: (ومن رؤسائهم - يقصد المانوية - المتكلّمين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة: صالح بن عبد القدوس) (7) .

يتفق الذين ترجموا له أو ذكروه أنّه كان حكيماً متكلّماً فيلسوفاً، لكنّهم يضيفون أنّه قتل على الزندقة.

____________________

(1) معجم الأدباء، ترجمة صالح بن عبد القدوس ج12 ص6.

(2) تاريخ دمشق لابن عساكر ج6 ص371.

(3) ميزان الاعتدال، ترجمة صالح بن عبد القدوس ج2 ص297.

(4) فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي ج2ص116.

(5) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ج3ص172.

(6) الأغاني ط دار الكتب ج3 ص146.

(7) الفهرست، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ص473.

٥٦

هو إذن حكيم متكلّم، لكنّ ذلك وحده لا يكفي فلا بد من تهمة - والزندقة جاهزة - تبرّر قتل هذا الذي تجرّأ فجلس للوعظ في مسجد البصرة ويقص على الناس ويحدّثهم. وإذا تعرّض للشعر فإنّ شعره لا يخلو هو أيضاً من موعظة وحكمة، وليس كهؤلاء الشعراء المجّان الزنادقة الذي يكاد شعرهم يقتصر على الخمر ومجالس اللهو والجواري والغلمان. تحميهم السلطة وتغض النظر عنهم وتجزل عطاياهم ما داموا هناك، بعيدين عن السياسة والحكم، بعيدين عن الناس وواقعهم المثقل بالهم والأسى، بعيدين عن كل ما يمكن أن يزعج السلطة ويثير المشاكل أمامها. لا يهم بعد أن يكونوا زنادقة أو مؤمنين عرباً أو موالي، مستهترين أو متزمتين.

لم يكن صالح من هؤلاء، أو لنقل لم يكن نشاطه كنشاط هؤلاء، محبوساً على الخمر ومجالس اللهو والجواري والغلمان، بل كان صاحب فكر وحكمة، وحين يقص على الناس في مسجد البصرة فلا بد أن يصدر في قصصه ووعظه عن فكر وحكمة، ولا بد أنّه كان يتناول في قصصه ووعظه بعض مشاكل الناس ومواقف السلطة، ولو من بعيد.

ولم تكن السلطة لتحتمل موقفاً كهذا مهما رقّ ولان، فلا شيء يقلقها ويغيظها أكثر من أنّك تعض الآخرين وتنبّههم إلى ما هم فيه، وإلى ما يمكن أن يكونوا فيه، وتدعوهم عن أي طريق - لا عن طريق الوعظ والقصص وهو أسهل الطرق وأسرعها نفاذاً إلى القلب - لمحاولة إصلاح أو تغيير.

ولا بد أن تكون أخبار صالح قد بلغت المهدي وأثارته. وربّما كثر فيه، وربّما بولغ فيما نقل إليه منه. وكان قليلها كافيا لأن ينتهي بصاحبها إلى ما انتهى إليه.

وهذا ما دعا المهدي إلى إحضاره، وهو في ذلك الوقت شيخ كبير.

وسأله المهدي عمّا اتهم به من الزندقة فنفى التهمة عنه وأعلن براءته منها.

وكان ذلك كافياً لإطلاقه، كما أطلق عدد من المتهمين بالزندقة بعد نفيهم التهمة عنهم وإعلان براءتهم منها.

لكنّ الزندقة لم تكن هي التي أثارت المهدي وغاظته، ليطلقه كما فعل مع الآخرين بل السياسة والوعظ والقصص في مسجد البصرة.

٥٧

ولهذا فحين لم يجد المهدي حجّة يقتل بها ابن عبد القدوس الذي تهيّأ للخروج من مجلسه وخطا أُولى خطواته، تذكّر المهدي أو ذكر أنّ له بيتاً من الشعر يقول فيه:

والشيخ لا يترك أخلاقه

حتى يوارى في ثرى رمسه

فتعلّق المهدي بهذا البيت وقال له كما يذكر المؤرّخون: (فأنت لا تترك أخلاقك ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك، ثم أمر به فقتل وصلب على الجسر).

وليس في هذا البيت كفر أو زندقة ولا ما هو قريب من الكفر والزندقة، وليس فيه سب ولا قذف ولا ازدراء بالدين ولا بفرض من فروضه. مع أنّ المهدي لم يقتل مَن سبّ وقذف من الشعراء ومَن ازدرى بالدين وبفروضه.

إنّ كل ما يتضمّنه البيت لا يعدو حكمة وتجربة إنسانية ومعنىً يتداوله الشعراء وغير الشعراء منذ القديم.

ولم يكن المهدي في حاجة إلى هذا البيت لتنفيذ ما عزم عليه من قتل صالح، فلو كان صالح قد ثبتت عليه الزندقة فإنّ قتله سيكون بها لا بالبيت، قاله أم لم يقله، أما وقد نفاها عنه وأعلن براءته منها، ولم تثبت عليه حتى بشهادات الزور التي كانت سوقها رائجة في ذلك الوقت. فلم يكن أمام المهدي من وسيلة يتخلّص بها من صالح، غير اللجوء إلى هذا البيت الذي ليس فيه - على كل حال - ما يحل دم امرئ مسلم كما قلت.

ولقد عجب ابن المعتز وهو يعرض لصالح بن عبد القدوس في طبقاته، كيف يكون صالح زنديق، و ليس لأحد ما لصالح هذا في الزهد في الدنيا والترغيب في الجنّة، والحث على طاعة الله، وذكر الموت والقبر كما يقول، واستشهد بأبيات صالح في هذا.

لكنّ الذي فات ابن المعتز أن لو جعل صالح كل شعره: زهداً في الدنيا، وترغيباً في الجنّة، وحثّاً على طاعة الله، لما نفعه ذلك ولما عدل في نظر المهدي بيت (الشيخ).

وهكذا يذهب صالح بن عبد القدوس ضحيّة بيت من الشعر حوّلته السياسة إلى سيف قطعت به رأسه.

٥٨

الفصـل ال ثاني عشـر:

عبد الكريم بن أبي العوجاء

لا تمدّنا المصادر التي بين أيدينا بشيء ذي بال عن عبد الكريم بن أبي العوجاء، فهي لا تحدثنا مثلاً عن نشأته وبيئته وعائلته ومصادر ثقافته ونشاطه قبل أن تُضرب عنقه، مع أنّها تقرنه دائماً بالزنادقة المعروفين في عهده حين تتحدث عنهم: كبشّار، وصالح بن عبد القدوس، ومطيع بن إياس،÷ وحماد عجرد، ووالبة بن الحباب، وسواهم.

فلا أبو الفرج ولا الخطيب البغدادي ولا ابن خلكان ولا ياقوت ولا غيرهم، من أصحاب التراجم، ذكروه فيمَن ترجموا لهم.

ولا المؤرّخون: كالطبري، والمسعودي، وابن الأثير.

ولا تجد له إلاّ اسماً مجرّداً أحياناً أو مضافاً إلى خبر لا يمكن أن يعطيك صورة عن الرجل وعن حياته العقلية.

وعليك أن تجهد في ضمّ هذه الأخبار القليلة المتفرّقة إلى بعضها لعلّك تصل من خلالها إلى بعض ما تريد، مع أنّ الرجل كان كما يبدو، متكلّماً ذا شأن ولم يُقتل لولا ما كان له من شأن (1) .

ولنعد إلى هذه الأخبار القليلة عنه، وأوّل ما يطالعنا منها: أنّه عربي صليبة من بكر بن وائل، وأنّه خال معن بن زائدة واسمه عبد الكريم بن نويرة.

فإذا تجاوزت الاسم والقبيلة فإنّك ستعبر مسافة زمنية طويلة لن تتوقّف فيها إلاّ عندما أيقن بالقتل فاعترف بأنّه وضع أربعة آلاف حديث لم يعترف بوضعها إلاّ حينذاك!!

____________________

(1) يقول أبو الفرج في ج3 ص146 من الأغاني ط دار الكتب عند ترجمته لبشّار: (كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد - قال أبو أحمد: يعني جرير بن حازم - فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده...) ومن هذا يظهر أنّ ابن أبي العوجاء كان من أصحاب الكلام المعروفين بالبصرة ومن مستوى الذين كان يختصّم معهم في مسائله.

٥٩

يقول الشريف المرتضى في القسم الأوّل من أماليه ص137: (فأمّا ابن أبي العوجاء فقد ذكرنا ما روي من اعترافه بدسّه في أحاديث النبي (ص) أحاديث مكذوبة.

ويتناول نشوان بن سعيد نفس الموضوع في الحور العين ص193 فيقول: (ومنهم - يعني الزنادقة - عبد الكريم بن نويرة الذهلي وهو الذي سير عن رسول الله (ص) أربعة آلاف حديث كذباً فقتله محمد بن سليمان بن علي بالكوفة، وصلبه فقال للمسلمين حين أحسّ بالقتل اعملوا ما شئتم فقد لبست عليكم دينكم وجعلت حلالكم حراماً وحرامكم حلالاً، ودسست عليكم في كتبكم أربعة آلاف حديث كذباً …).

ويذكر الذهبي في ميزان الاعتدال ج2 ص644 في ترجمة ابن أبي العوجاء أنّه (خال معن بن زائدة زنديق معتر؟ قال أبو أحمد بن عدي: لما أُخذ لتُضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلّل الحرام. قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة).

ولا يتجاوز ابن حجر في لسان الميزان مَن سبقه إلاّ بإضافة أخطأ فيها إذ يقول: (لما أُخذ - يعني عبد الكريم بن أبي العوجاء طبعاً - لتُضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلّل الحرام. قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة).

(وكان عبد الكريم يفسد الأحداث فتهدّده عمرو بن عبيد فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان فقتله وصلبه، وذلك في زمن المهدي …).

وإذا كان ابن حجر ينقل ما سبق إليه الآخرون من خبر عبد الكريم فإنّه يخطئ فيما يضيفه عن تهديد عمرو بن عبيد له؛ ذلك أنّ عمراً توفّى عام 144 قبل خلافة المهدي بأربع عشرة سنة، وقبل مقتل ابن أبي العوجاء بعشرين سنة أو تزيد، فمن غير المعقول أن يبقى ابن أبي العوجاء مختفياً في الكوفة كل هذه المدّة لم يدل عليه لو كانت السلطة تريده، مع أنّ الكوفة لا تبعد شيئاً عن مركز الخلافة: بغداد، بل هي أقرب إليها من البصرة التي هرب منها.

وأظن ابن حجر نقل الخبر عن أبي الفرج الذي ما نراه إلاّ قد أخطأ هو الآخر فيه (1) .

وأعود إلى حديث ابن أبي العوجاء، بعدما رأيت المترجمين له يكادون ينسخون عن بعضهم فيما يتناولون من شأنه، فما هي تهمته وفيم كان مقتله؟

____________________

(1) الأغاني، طبعة دار الكتب ج3 ص147.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111