لكن لمن سنترك كتابة التأريخ إذن؟ إذا كان الكاتب يخاف أن يكتب، والناشر يخاف أن ينشر، والقارئ يخاف أن يقرأ أو لا يقرأ إلاّ ما يسمح له بقراءته.
أيّ تأريخ هذا الذي يكتبه الخائفون وينشره الخائفون ويقرأه الخائفون؟!
إنّ التأريخ هو أمانة النفوس الحرّة والعقول المفتوحة والضمائر التي تسبق القلم وترده كلما أراد أن يحيد عن الحق أو يداهن في الحق، بـ (لا) قوية، هي التعبير عن الاحترام للحقيقة وكاتبها وناشرها وقارئها. لا مجموعة الأكاذيب التي تُقدّم على أنّها تأريخ، صنعه تعصّب وحمق وغباء، وفرضه أصحاب السلطة ورجالها ومتعهّدوها.
وهل يخيف السلطة شيء أكثر من هذا الفكر الحر، وهل يرهبها شيء أكثر من هذا الضمير الحر الذي لا يباع ولا يشترى، وهذا القلم الحر الذي يفضّل صاحبه أن يكسره بيده على أن يجعل منه أداة بيد الحاكمين، أو سلعة يمتلكها مَن يملك ومَن يدفع.
وأعود الآن إلى التأريخ وإلى موضوع البرامكة منه.
فهل كان البرامكة زنادقة؟ وهل كانت الزندقة سبب نكبتهم؟
يقول الجهشياري في الوزراء والكتاب: (ويحيى بن خالد - ابن برمك - وهو أوّل مَن زاد في الكتب (وأسأله أن نصلّي على محمد عبده ورسوله). (وأمر بإجراء القمح على أهل الحرمين وتقدّم بحمله من مصر إليهم، وأجرى على المهاجرين والأنصار وعلى وجوه أهل الأمصار وعلى أهل الدين والآداب والمروءات)
.
ويقول (حج يحيى وسأل الرشيد الأذن في المقام بمكّة فأذن له فانصرف إلى مكّة سنة 181)
.
وفي عام 185 استأذن يحيى الرشيد في العمرة والجوار فأذن له فخرج في شعبان واعتمر عمرة شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج ثم حج
هذا عن يحيى، أمّا عن ابنه الفضل فيقول الجهشياري: (وقلد - يعني الرشيد - الفضل المغرب كله … ولمّا صار الفضل إلى خراسان أزال سيرة الجور وبني الحياض والمساجد والرباطات … وأمر بهدم البيت المعروف بالنوبهار - وهو بيت للبرامكة في بلخ كانوا يضاهون به بيت الله - فلم يقدر على هدمه لوثاقته وعظم المؤونة عليه فهدم منه قطعة وبنى فيها مسجداً …)
.
وكان الفضل لا يشرب النبيذ ويقول: (لو علمت أنّ الماء ينقص مروءتي ما شربته أبداً)
فهل رأيت فيما فعله يحيى أو ابنه الفضل شيئاً ممّا يفعله الزنادقة أو شبيهاً به أو قريباً منه، على أي وجه أخذت الزندقة وبأي وجه فهمها المؤرّخون وأصحاب المقالات؟!
هل رأيت فيه إلاّ ما يفعله المسلم الملتزم البعيد عن الزندقة والزنادقة؟! وفيما دون ما عمله يحيى والفضل ما يبعد عنهما الزندقة والاتهام بها.
أمّا جعفر فاسمع قول الجهشياري فيه (وغلب جعفر على الرشيد غلبة شديدة حتى صار لا يقدّم عليه أحداً، وأنس به كل الأُنس، وأنزله بالخلد بالقرب من قصره)
.
فهل يمكن أن يكون جعفر زنديقاً، وهو يلازم الرشيد منذ كان طفلاً حتى صار أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، فلا يكتشفه ولا تكتشفه عيون المهدي أبيه الذي تجرّد لملاحقة الزنادقة. ولا يزداد من الرشيد مع الأيام إلاّ قرباً ولا علاقته به إلاّ وثوقاً؟!