فكيف خفيت مثل هذه التهمة، لو صحّت، مع كثرة أعدائه والساعين به. وكان قتله بها أسهل وأقوى في تبرير القتل بحجّة لا يمكن دفعها والطعن فيها.
أظنّني لن أحتاج إلى أكثر من هذا في تفنيد تهمة لا تقوم أصلاً للحجاج والنقاش. وحرام على وقت وجهد يضيعان فيها وفي أمثالها.
وأظن من الخير للقارئ الكريم، أن أنتقل به إلى الجِد في موضوع ابن المقفّع وأسباب قتله، بعد حديث لا جِدّ فيه، بل عبث وغباء.
كان عبد الله بن علي، عمّ المنصور، قد دعا إلى نفسه بالخلافة بعد وفاة أبي العباس السفّاح رافضاً خلافة المنصور، الذي بعث إليه بجيش يقوده أبو مسلم الخراساني.
ونشب بين الطرفين قتال أسفر عن هزيمة عبد الله ولجوئه إلى أخويه عيسى وسليمان في البصرة، وسليمان عامل عليها يومئذ.
وسعى الأخوان عيسى وسليمان بكل الوسائل للعفو عن أخيهما، وتم الاتفاق أخيراً على إعطائه الأمان، الذي يبدو أنّ المنصور لم يكن راغباً فيه؛ فأرسل سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب ليضغط عليهما ويدفعهما إلى الشخوص بعبد الله إليه.
وذهب عيسى وسليمان استجابة لطلب المنصور أو لضغطه، ومعهما عبد الله.
وحين خرجا كان عبد الله قد اقتيد إلى محبس في قصر المنصور بقي فيه حتى وفاته عام 147 في قصته التي يرويها المؤرّخون.
ولكن ما شأن ابن المقفّع بكل ذاك.
لقد كان ابن المقفّع كاتباً لعيسى بن علي، وهو الذي تولّى كتابة الأمان لعبد الله حين تمّ الاتفاق عليه مع المنصور.
وقد اجتهد ابن المقفّع في صياغة هذا الأمان محترساً من أيّ تأويل يمكن أن ينفذ منه المنصور للإيقاع بعبد الله.
وزيادة في الحيطة والحذر، فقد ضمن كتاب الأمان عبارات أحفظت المنصور، وبلغت به من الغيظ كل مبلغ حتى طلب من يكفيه ابن المقفّع.
وكان سفيان بن معاوية يحقد على ابن المقفّع ويكرهه أشدّ الكره لأسباب يردّدها المؤرّخون وليس هنا محل ذكرها.
وعرف ما يضمره المنصور لابن المقفّع وأنّ قتله سيسره ويقع منه أحسن موقع، إن لم يكن المنصور نفسه قد أغراه بقتله وأمنه من عواقبه.
وواتته الفرصة للثأر منه حين أرسل عيسى بن علي عبد الله بن المقفّع في بعض أُموره إلى سفيان هذا.