الطبّ محرابٌ للإيمان

الطبّ محرابٌ للإيمان21%

الطبّ محرابٌ للإيمان مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 274

الطبّ محرابٌ للإيمان
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105411 / تحميل: 10293
الحجم الحجم الحجم
الطبّ محرابٌ للإيمان

الطبّ محرابٌ للإيمان

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

البعيدة المدى ، حيث أن بطء التنفس يؤدي إلى تراكم غاز الفحم في الجسم ، وغاز الفحم هذا له تأثير خاص على المراكز التنفسية فهو الذي ينبهها ، وليس الاكسجين ، وهذا أمر يدعو إلى التأمل ، وعندما تصل الأوامر والتنبهات إلى مركز التنفس العام ويكون الوضع فيه شيء من الخلل يعدّله على الفور فإذا زادت كمية الفحم انطلقت الأوامر تخبر أن الجسم في خطر من زيادة غاز الفحم فتتحول الأوامر إلى تلك البالونات الصغيرة جداً والمسماة بالأسناخ الرئوية حيث تمتلىء بشدة بالهواء ويزداد بالتالي ورود الاكسجين ، وهكذا فإن أي زيادة أو نقص في الغازات يعدل فوراً وإلا دخل الإنسان في غيبوبة ثم إلى الموت إذا لم يسعف. إن زيادة غاز الفحم بمقدار ٢ و ٠% يجعل حجم الهواء المتنفس مضاعفاً كما ان نقصه ٢ و ٠% يوقف التنفس.

وهكذا فإن الإنسان في تنفسه كأنه يعبر شلالات نياجراً على حبل ممتد فوقها ومعه عصا للتوازن وأي ميل إلى الجانبين يرديه إلى الخطر المبين ، وبهذه الكيفية السحرية يتنفس الإنسان يومياً (٢٣٠٠٠) مرة بمعدل ١٦ مرة في الدقيقة ولا يستطيع أن يبقى بدون هواء أكثر من دقيقتين ، وتنتفخ اسناخه التي تبلغ ٧٥٠ مليون سنخ والتي تفرش سطحاً يبلغ مساحته (٧٠) متر مربع في متوسط الحياة (٢٠٤) مليون مرة مع العلم أنها تنقي الدم بمعدل ٥ ليترات في كل دقيقة!! فتباركت اللهم واهب الحياة( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور ) . سورة تبارك.

تمتمة القلب وتسبيحه وعلاقته بالتنظيم الحروري :

وأما تنظيم ضربات القلب فهي أيضاً سر من أسرار الخلق والابداع ،

١٤١

فهو ينبض بمعدل ٧٠ ضربة في الدقيقة الواحدة أي بمعدل يصل إلى (١٠٠) ألف مرة يومياً و ٤٠ مليون مرة سنوياً ، وما يزيد عن (٢٠٠٠) مليون مرة في متوسط العمر ، ولننظر إلى هذا التسبيح العظيم الذي لا يكف ، ولا يفتر ، في ليل أو نهار ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) ولننظر أيضاً إلى الآية الرائعة في الجسم والتي هي تنظيم الحرارة ، ان هناك ما يشبه ميزان الحرارة داخل الجسم ، فإذا جاءت الأخبار الحسية من الجلد تخبر عن الوسط الخارجي ودرجة حرارته سارعت هذه المناطق الكائنة في الجذع الدماغي وما فوقه إلى جهاز الدوران تستحثه على أن يحمي الحدود الخارجية وتأمره أن يقوم بدور العامل المخلص في هذه الأزمة ويستجيب جهاز الدوران المرن المتاهب وهو يقول إن الأزمات هي التي تكشف الرجال ( وتجدون الناس معادن ) وسرعان ما تحدث تقلصات العروق الدموية ونضح القلب للدم بما يفي حاجة الجلد ، فإذا كان بارداً قل تدفق الدم الذي يحمل الحرارة ليعدل البرودة والعكس بالعكس وعندما يحصل الاتزان تبعث الجسيمات الحسية بشكرها العميق إلى المركز العام المنظم وتدعو له بالخير ودوام البقاء!! ..

النطق والبيان :

وأما تنظيم عملية التصويب والنطق فإنها أعجوبة بحد ذاتها لولا أنها تحصل في كل لحظة لكل من ينطق من أبناء البشر فينسون بالألف والعادة هذه المعجزة.

ولنتملى في هذه الآية العجيبة قليلاً أولاً : كيف يتم التفكير والإدراك والتخيل وتركيب الكلمات والجمل والأفكار وربط كل هذا بعضه إلى بعض بحيث يخرج الكلام منسجماً متوازناً يهدف إلى معنى ، إن هذا يقف الطب حتى الآن عن الإجابة عليه ، ثم كيف يستخدم

١٤٢

الإنسان الأسماء حتى يتفاهم مغ غيره على الشيء الذي يريده أيضاً معجزة من المعجزات ، ثم كيف يتنقل هذا الأمر من عالم الماديات المحسوسة إلى عالم الروح والفكر حيث يتم التعبير بالأشياء المجردة ، الحق يقال إننا درسنا عمومات الطب من أوله حتى آخره ، ومع ذلك لم نستطع حتى الآن أن نفقه هذه الاسرار ، كما ان الاطباء الذين يبحثون هذه القضايا يقفون مشدوهين امام هذه الظواهر الفذة العجيبة المحيرة( الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. ) سورة الرحمن ، إن النطق في مستواه الفكري قبل البحث عن كيفية حدوث التصويت بعد ظاهرة غير مفهومة في عرف العلم ، وحقاً إن الإنسان محير بتركيبه ثم لنتأمل على المستوى المادي ، إن الحبال الصوتية بفضل تقلصها وارتخائها بالاضافة إلى عضلات اللسان ، وغضاريف الحنجرة ، وعضلات الوجه ، وإطباق الشفتين ، ثم الأجواف المحفورة في الجمجمة هي التي تعطي الصوت رنينه الخاص لكل إنسان بحيث يكون لكل إنسان صوته المميز الخاص( فورب السماء والأرض انه لحق مثل ما انكم تنطقون ) سورة الذاريات.

وأما الأعصاب فهي تلعب الدور المهم في اعطاء الأوامر الى العضلات المناسبة بحيث تتناسق هذه العضلات مع بعضها البعض فيرتخي قسم حين حين ينقبض قسم آخر فلا يطغى عمل على عمل ولا يفسد عمل عضلات عمل عضلات أخرى ، فإذا انطلق الهواء من الرئتين فإن الحبال الصوتية هي التي تعترضه أولاً حتى يخرج الحرف الحلقي المناسب وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين ثم ينطلق الى الفم حتى يخرج من أحد زوايا اللسان أو من مقدمه أو من إطباق الشفتين ، هذا بالنسبة لمخرج الحرف الواحد ولنتأمل طويلاً كيف يجب أن ينطلق الهواء وبسرعة هائلة حتى يقذف من مكانه المناسب فيخرج الحرف المناسب ثم يتبعه صوت آخر ليتحول الى مكان آخر حتى يعبر عن حرف آخر

١٤٣

وهكذا حتى تكتمل كلمة واحدة تعني شيئاً معيناً ، وتتابع الحروف عجيب لأن الحرف الأول من الكلمة قد يكون مخرجه من الشفة بينما يكون الحرف الثاني الذي يليه مباشرة من الحلق والثالث من جانب اللسان ، فإذا اكتملت الكلمة الواحدة تتابعت كلمات اُخر وتتابعت الجمل فإذا معنى جميل يدركه الذهن ( وما أدراك الذهن؟!! ) ، ويجب أن نلاحظ أن العضلات والغضاريف والحبال الصوتية مزدوجة وهناك تناسق عجيب ما بين الشطرين فإذا حصل خلل ما في المخيخ مثلاً الذي يقوم على تناسق عضلات التصويت حدث المرض المعروف بالرتة وهو تقطع الكلمات وعدم فهم ما يقدله المريض تماماً الا بصعوبة ، ولنعلم أن هذه العمليه المتكررة يشرف عليها ثلاثة أعصاب رئيسية وألياف عصبية وفروع عصبية صغيرة لا تحصى ، بالاضافة الى سبع عشر عضلة في اللسان وما يزيد على(٢٠) عضلة في الوجه ، فأي ابداع وأي عظمة هذه ..

شرطي المرور المتواضع :

ثم لنقف عند شرطي المرور المتواضع المسمى بلسان المزمار والذي يقف عند تقاطع الطرق القادمة من الانف والفم والتي تصب في المري الموصل إلى المعدة ، وفي الرغامى الموصلة إلى الرئتين ، ان شرطي المرور هذا يقف عند تقاطع طرق ولكنها من أخطر المناطق في الجسم لأن شرب نصف كأس من الماء إذا وصل إلى الرئتين كان معناه إما ما يشبه الاختناق والموت أو السعال لمدة لا يعلمها الا الله حتى تطرد جميع جزئيات الماء الداخلة ، فكيف بالمأكولات؟ إن معناها الموت الزؤام لأنها سوف تسد الطرق الهوائية وتؤدي إلى الاختناق.

ولقد ذكرنا فيما سبق أن انقطاع الاكسجين لمدة خمس دقائق عن

١٤٤

الدماغ معناه موت الخلايا العصبية النهائي الذي لا رجعة فيه ، إن هذا الشرطي المخلص لا يرتاح لحظة واحدة من ليل أو نهار لأن عملية البلع مستمرة حتى بدون طعام وشراب وهو يشير بيده الكبيرة التي تشبه الملعقة الواسعة حيث يمرر اللقمة أو اللعاب إلى المري ثم ينزل لتستمر عملية التنفس كما هي ، ان جميع الجسم لا ينسى له هذه الخدمة ويمده بالغذاء والحاجات التي يحتاجها ويزيد ، إن هذا الشرطي المتواضع يأخذ راتبه المفرز له من الجسم عن طريق الدم والأخلاط ثم يتابع عمله بدون أن يظهر الغرور ، بل يقوم به في منتهى الإخلاص.

عملية المضغ :

وأما عملية المضغ وتنظيمها فهي أيضاً من اختصاص المنطقة التي نبحثها ومن آيات الإعجاز في البدن ، فالفم هو ذلك الطاحون الصغير الأنيق ، حيث تقوم الأسنان بضغط يصل إلى خمسين كيلوغرام على السنتمتر الواحد المربع بفضل العضلات الماضغة ، ولنا أن نعرف ان أربعة عشر عضلة تشترك في المضغ منها ستة لرفع الفك السفلي إلى أعلى وستة للخفض وواحدة في كل جانب للتحريك الجانبي وتتضافر أربعة منها للحركة الأمامية الخلفية وهذا الطاحون الصغير فيه منطقة ثابتة ومنطقة متحركة حتى يحصل التمكن من هرس وطحن المواد ؛ ولذا فان الفك السفلي هو المتحرك فقط ، وأما الأسنان فهي اختصاص قائم بذاته فمنها للتقطيع ومنها للتمزيق ومنها للجرش والطحن ...

تنظيم النوم :

ومن جملة اختصاصات هذه المنطقة التي نبحثها ـ منطقة أسفل الدماغ ـ تنظيم النوم عند الانسان ، ويعتبر النوم من آيات الاعجاز في تركيب الكائن الحي ، ومن الأمور التي تذكر بالموت :( وهو الذي يتوفاكم بالليل

١٤٥

ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) ، فقد وجد ان الآلية التي يتم بها النوم آلية معقدة لم تكشف أسرارها النهائية حتى الآن ، ومن جملة النظريات التي قيلت : إن حالة اليقظة تولد مواداً سامة مترقية تؤثر على الجهاز العصبي فتدعوه إلى النوم ، كما قيل بوجود هورمون خاص للنوم ، وذكل ان انفصال الواحدات العصبية عن بعضها في مكان التمفصل وانقطاع مرور السيالة العصبية يدخل الجهاز العصبي في حالة النوم والراحة ، ولكن هذه النظريات تهاوت الواحدة تلو الأخرى ، ومع جهود العلماء المضنية تبين لهم وجود بعض المناطق التي تسيطر على النوم واليقظة وتبين ان نمو بعض الأورام في هذه المناطق يؤدي إلى نوب الوسن والنوم ، كما ان حالة التهاب الدماغ النومي تدل على أن تخريب بعض المناطق يؤدي بالمريض إلى فقد حالة اليقظة ودخوله في حالة من تغيّم الوعي والنوم ، وفي الحقيقة يعتبر النوم مهماً جداً للكائن الحي ولولا النوم لما استطاع الكائن الحي أن يتابع مسيرة الحياة ، ولا يستطيع الرجل العادي ان يبقى بدون نوم أكثر من أيام قليلة لأن الحرمان من النوم يعتبر من الآلام لامضنية الشاقة المعذبة التي لا تطاق ، وعندما جربت بعض التجارب على الجنود لترك النوم كان ضبط الأمر في منتهى الصعوبة لأنه لا يمكن إلا أن يأخذ الانسان ولو غفوة بسيطة لا ينتبه لها ، ولقد تبين ان الجسيمات العصبية الموجودة داخل الخلية العصبية المسماة بجسميات نيسل لها علاقة بالتعب والراحة حيث وجد انها تنقص وتميل إلى الاختفاء في التعب والمجهود الفكري ، ولكنها في الراحة والنوم ترجع كما كانت ، إن هذه الظاهرة لفتت نظر العلماء ولكن ما هو السرّ الذي يكمن وراءها يا ترى؟

إن النوم يمثل حاجة البدن كالطعام والشراب والغريزة الجنسية تماماً ،

١٤٦

ولذا فلا عجب اذا كان الانسان يقضي ما يقرب من عشرين سنة من حياته في النوم لأن ثلث العمر يمضي في النوم ، وكما ان العضلات ترجع الى طبيعتها بالراحة كذلك فان راحة الجهاز العصبي هي النوم ، لأن الجهاز العصبي يعمل بمجرد الاستيقاظ ولا يعرف طريقه إلى الراحة مطلقاً فهو يتلقى الملايين من الأخبار من الأجهزة الحسية عن طريق الجلد والحواسية عن طريق الحواس ، والحس النباتي أي أخبار الأجهزة الداخلية باستمرار في كل لحظة ، وأي خلل في هذه العناصر يستدعي الدماغ القيام بعمل إضافي ، ولكنه مع هذا في حالة راحة الجسم المطلقة يعمل ويكفي انه يعمل على أرقى المستويات وهي العمليات الذهنية الراقية ، ومع هذا يجب أن نعلم أن الدماغ ـ حتى في حالة النوم المطلقة ـ يستمر في العمل فهناك حراس المناوبة الذين لا يقفون عن العمل وهم الذين يسهرون على عمل القلب وتنظيم سرعة التنفس وتعديلها بما يناسب ، وصرف الحرارة اللازمة حتى يبقى البدن في الحرارة المعهودة وهي في حدود ٣٧o درجة مئوية ، وكذلك ترسل الأوامر إلى الامعاء حتى تستغل فرصة راحة البدن فتقوم بتفتيت الطعام وامتصاصه وتمثله وتخزينه أو حرقه حسبما يريده ويحتاجه البدن ، وكذلك ترسل الأوامر إلى عضلات المستقيم والمثانة حتى ترخي وتستوعب مخلفات الاحتراق وهي البول والغائط ، ونقف هنا لنتساءل. ولكن إذا امتلأت قد تخرج من مكانها وتنفلت للخارج؟!! لا حرج أرسلوا الأخبار السريعة إلى العضلات التي تضبط المستقيم والمثانة من الخارج وهي فوهات الخروج أو ما تعرف بالمصرّات الخارجية فيشتد تقلصها ، وهكذا تحبس هذه النفايات المتخلفة من احتراقات الحسم وبقاياه. وأما العين فيجب أن ترسل الأخبار إلى الفتحة التي تتلقى النور لتنقبض إذ لا حاجة للعمل ، ولذا فان محل التصوير يجب أن يغلق!! وهكذا تنقبض الحدقة ويصغر حجمها!!( وجعلنا نومكم

١٤٧

سباتاً ، وجعلنا الليل لباساً ، وجعلنا النهار معاشاً )

ولكن هل النوم أيضاً هكذا بدون زمن محدد ، فلينم الإنسان ما يشاء؟ كلا بالطبع ، لقد وجد أن المعدل الطبيعي الجيد لراحة البدن وسطياً ما بين ٦ ـ ٨ ساعات وهذه النسبة تزداد عندما يكون الولد صغيراً ، ويعتبر الجنين في نوم مستمر وهو في رحم أمه ، وأما الرضيع فهو أيضاً ينام كل الوقت إلا إذا شعر بالجوع أو الألم ، ثم تنقص النسبة حتى تصل إلى اقل من ٦ ساعات عندما يكون الإنسان في مرحلة الشيخوخة ، وهنا نقف لنتساءل : هل تستمر هذه النسبة في الحياة الأخرى فيبقى فيها الإنسان في حالة يقظة دائمة؟ أما أهل النار فيقول الله تعالى :( لا يقضى عليهم فيموتوا ) ويقول( لا يموت فيها ولا يحي ) .

وأما أهل الجنة فيبدو أن انقلاباً في تكوينهم سيحدث على ما ورد في الحديث المروي في الصحيحين : ( ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء اضاءة ، لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يتفلون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم ـ العرق ـ المسك ، ومجامرهم الألوّه ـ العود الذي يتبخر به ـ وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ).

وكما ان قانون الاتزان يسري على كل أعضاء وأخلاط البدن كذلك فانه يسري في النوم ، ولذا فان الزيادة فيه تؤدي إلى المزيد من النعاس والنقص فيه يؤدي إلى الضجر وعدم الراحة ، وخير ما يقال في هذا المجال حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المروي في صحيح البخاري : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد ، فاذا استيقظ وذكر الله انحلّت عقدة ، فان

١٤٨

توضأ انحلت عقدة ، فان صلى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )(١) ، وان الذي يتأمل في هذا الحديث وما ورد في شأن قيام الليل يأخذه العجب كل مأخذ من دفع النشاط والحيوية في الانسان بحيث ان هذا الأمر يحتاج إلى بحث مستقل بذاته ، فمثلاً من جملة الاسرار لقد وجد ان الانسان في نوم عميق في الساعة الأولى ثم يخف هذا الأمر وخاصة بعد الساعة الثالثة من النوم وهذا يجعلنا نربطه مع الحديث المروي في الصحيحين عن صلاة النبي داوود عليه الصلاة والسلام وصيامه ( أحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوماً ، ويفطر يوماً ، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داوود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) وكذلك الآيات الواردة في سورة المزمل عن قيام الليل( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو أنقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا ، ان ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا ) وصدق القرآن الكريم حيث يكون سكون الليل الذي يعين على فهم القول أكثر ويشتد وقع الكلام على النفس أكثر ، والمهم هو أننا نقف أمام ظاهرة في منتهى الخطورة من جهة وفي منتهى الأهمية من جهة ثانية وهي تنظيم الحياة والنوم فالاسلام حض على أشياء معينة لها دور مهم وعظيم في دفع النشاط والحيوية في قلب الانسان وجعل الجملة العصبية المركزية في اتزان وصحة جيدة ، ان هذا يجعلنا نسرع إلى التطبيق أولاً ، وقبله نشعر بالعظمة الهائلة التي تظلل هذه النصوص وهي تتحدث عن أمور جاء الطب الحالي ليوضح بعض جوانبها ،( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضلة ان في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) سورة الروم

__________________

(١) صحيح البخاري.

١٤٩

ومن جملة الأشياء المحيرة في ظاهرة النوم هي الاحلام التنبؤية ، حيث ان الاحلام عدة أنواع فرؤية بعض الاشياء التي لها علاقة بحوادث اليوم أو ما يفكر فيه المرء بشكل كبير قد يفسر الى حد ما ، وذكرنا كلمة الى حد ما لان نفس هذه الاحلام التي تعلل ببساطة يتعجب المرء كيف يمكن لهذه الصور الجديدة أن تتجمع من أكداس محتويات الذاكرة ، فصورة ما قد يكون المرء لم يرها طول عمره يراها في المنام فكيف تم تشكيل هذه الصورة الجديدة؟ ثم ماذا يقول لنا الطب عن بعض الاشياء التي يراها الانسان في المنام ثم تتحقق معه بعد فترة من الزمن قصيرة او طويلة ، وروى لي الكثير من الاخوة هذه الظاهرة منها حادثة رويت لي عن أحد الاخوة عندما كان في كرب نفسي ومادي شديد ، وكان هذا الرجل يتوقع أن يستشهد في سبيل الله ، ولكن بعد نوم في تلك الليله قابل أخاً آخر كان قد سبقه في الشهادة فأراد أن يصافحه الاول فرفض الآخر ، وفهم هذا الاخ وكان ينتظر الموت ما بين لحظة وأخرى انه لن يموت في هذه الفترة ، وفعلاً فرّجت عنه هذه الازمة بعد ذلك ولم يمت ، ولعل هذه الحادثة لو رويت بتفصيلاتها فيها عبرة كبيرة ولكن رويناها بسرعة كشاهد صغير ، وعلى هذا يمكن أن نقول ان ظاهرة الاحلام التنبؤية يقف الطب أمامها حائراً ذاهلاً لا يستطيع لها تفسيراً ، وهذا المثل مروي بشكل واضح بيّن في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام عندما رأى الكواكب والشمس والقمر تسجد له ثم فسّر الامر بعد ذلك في مدى يزيد عن عشرين سنة ...

حركة الاوعية الدموية :

ونأتي الى سر آخر محير من أسرار هذه المنطقة التي نبحثها والتي لا تتجاوز في المساحة بضع سنتمترات والتي سميناها منطقة أسفل الدماغ وما تحت السرير والجذع الدماغي.

١٥٠

من جملة الاشياء التي تنظمها هذه المنطقة الصغيرة في حجمها ، الكبيرة في فعلها تنظيم حركة الاوعية الدموية ، فالانابيب التي يمر فيها الدم تبلغ من الكثافة والانتشار حداً لا يكاد يصدق في البدن حيث يبلغ طولها ما يزيد عن مائة ألف ميل وهي تتغلغل بين جميع أنسجة الجسم حتى العظم الكثيف وتروي جميع المناطق التي تصل اليها ، وهذه الانابيب هي أشد مرونة من المطاط لان فيها أليافاً عضلية مرنة على طول جدارنها بحيث إن استرخاء هذه العضلات الصغيرة يؤدي الى توسع الانابيب ، وبالتالي هبوط الضغط الدموي(١) ، كما ان تقلص هذه العضلات يؤدي الى ارتفاع التوتر بسبب ضيق سعة الانابيب التي يمر فيها الدم ، والعجيب في هذه الانابيب السحرية انها في حالة معتدلة من التقلص والارتخاء فهي في الحالة الطبيعية متقلصة ومرتخية بنفس الوقت بشكل متناسق بحيث تحفظ للوعاء الدموي قطره المناسب ، وهذه الحالة المعتدلة من التوتر تعتبر مقوية لجدران هذه لاوعية ، وهذا القانون يسري على كل عضلات الجسم ، فالعضلات الملساء التي تغلف جدران الوعية أو تشترك في تأليف الجدار تكون في حالة معتدلة من التوتر بحيث تحفظ للعضو أو الجهاز وضعه الطبيعي كما في الاوعية الدموية أو في الجدار الرحمي أو جدار المعدة أو المثانة. والتقلص يؤدي إلى ألم ، فمثلاً تعتبر حركات التقلص في المعدة حين فراغها من الطعام انذاراً بالجوع ، كما ان امتلاء المثانة والمستقيم بنفايات الجسم تدعو إلى زيادة التقلص العضلي في الجدران وبالتالي الآلام الخفيفة المنبئة التي يعتادها الجسم وهذه تخبر بدورها

__________________

(١) يقصد بالضغط الدموي ضغط الدم على جدار العروق الدموية وهذا يتعلق بطول الأنابيب ولزوجة الدم وسعة المقطع ، ولذا فان نقص اتساع الأوعية قليلاً يفضي إلى ارتفاع يبين في التوتر الدموي ويزداد التوتر الدموي في حالات الانفعال وينقص في حالات الصدمة والنوم ( مثلاً ).

١٥١

النهايات العصبية الحسية التي تنقل الاخبار وترجع بسرعة هائلة حاملة الاوامر الى المصرات الخارجية لكي تنفتح وتلقي ببقايا الاحتراق وفضلات الغذاء.

إن السيطرة على حركة الاوعية تعتبر حركة منسقة في غاية الإبداع ، فأيّ تقلب في الظروف الخارجية أو الداخلية يستدعي العمل الفوري وزيادة أو نقص سعة الوعاء بما يناسب الحالة الجديدة ، فمثلاً عندما يحصل النزيف من أي مكان من الجسم ترسل الأوامر فوراً الى الاوعية لكي تتقلص حتى يكون صبيب الدم أقل ما يمكن من الخارج بالاضافة إلى ارسال صيحات الاستغاثة والاشارات الحمراء إلى الصفيحات الدموية ومولد الليفين والفيتامين ك والكلس والعامل السابع والخامس وغيرها حتى تشكل الخثرة الدموية التي تعتبر سدادة في فوهة التمزق ، ثم ترسل الاوامر إلى الصديق الهادىء الذي يعتبر مقبرة الكريات الحمر وهو الطحال وإلى مركز الجمارك العام وهو الكبد حيث يكون تخزين الدم وافراً فيأقبية هذه المستودعات فترسل كميات الدم الاحتياطية على الفور وهي تقول لبيك لبيك!! وهكذا يتعاون الجسم كله لإنفاذ جهاز الدوران مما حل به من أزمة ، وصدق الرسول٦ حينما قال :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر ) . ويحدث عكس هذا الأمر في النوم أو في الصدمة حيث تزداد سعة الاوعية الدموية وبالتالي يهبط الضغط الدموي ، فإذا ازداد هذا الأمر فإن تروية الدماغ تضطرب ويحدث الاغماء المعروف ، وهنا نقف لنسجل نقطة من أعجب النقاط في هذا الاتزان السحري.

إن اتزان سعة الأوعية ومدى انفتاحها مهم للغاية فأي زيادة أو فقص في قطر الوعاء يؤدي إلى كوارث ، فزيادة الضغط الدموي أو

١٥٢

إذا قلنا نقص قطر الوعاء وزيادة تقلصه يؤدي إلى بطء الدوران في المنطقة كما لو شبهنا الأمر بمرور السيارات في شارع عريض كما في شارع بيروت في دمشق فإن السيارات بامكانها أن تمشي بسرعة بينما إذا كانت السيارة في شارع ضيق كسوق ساروجة مثلاً حيث ازدحام السيارات والناس وضيق الطريق ، فإن السائق لا يستطيع أن يمشي إلا بمنتهى البطء حتى لا يقع في حادث. فكيف الأمر إذا كانت السيارات تمشي في طرق الأوتوستراد العريض الذي يصل إلى المطار مثلاً ، إن هذا يحدث ما يشبهه على مستوى أوعية الجسم حيث يؤدي زيادة تقلص الأوعية إلى بطء مرور الدم ، وبالتالي حدوث الخثرات ، كما إذا تعاقبت السيارات الكثيرة مع ازدحام الناس والعربات والأطفال والإغراض المعروضة على الرصيف أمام الحوانيت!! فلا بد من حدوث بعض الحوادث كذلك يحدث أمر الخثرة حيث ترتص عناصر الدم على بعضها ولكن الرعب يكمن فيما إذا تصورنا حدوث هذا الأمر في أحد شرايين الدماغ خاصة وقد علمنا أن شرايين الدماغ انتهائية وليس فيها مفاغرات جانبية ، ان هذا الكلام معناه انسداد شريان يغذي منطقة هي من أكثر المناطق رقياً ونبلاً وأهمية وحيوية في الجسم ومعنى انقطاع التروية عن منطقة عصبية الموت الأخير والنهائي للمنطقة ، وهكذا تظهر النتائج اما بشكل فالج شقي يشمل نصف الجسم بما فيه الوجه حيث ترتخي الأطراف وينسدل الجفن ويلتوي الفك وينحرف اللسان ويضطرب الصوت وتخرج المفرزات من الفم!! أو يحدث الأمر بشكل نقص الحس أو انعدامه في الجسم ، فإذا وخز بإبرة أو دبوس لم يشعر بذلك ، وإذا أحرقت قدمه لم يشعر بذلك ، وإذا قطع جلده لم ينتبه إلى أن قطعة من جسده تقطع!! وهكذا حسب المناطق التي تصيبها هذه الانسدادات ، وما أفظعها من نتائج لا يعرفها حق المعرفة إلا من رآها حيث يتمنى المريض

١٥٣

أن يشرب شربة ماء فلا يستطيع لأنه يقذفها مرة أخرى من فمه ، ولأن شراع الحنك الذي يساعد في البلع مشلول!!( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) سورة النرو زز

وحدوث عكس هذا الأمر ، أي زيادة سعة أوعية له نتائج مماثلة ، فسعة القطر يؤدي إلى نقص دفع الدم إلى أعلى ، وهكذا فإن الدم يندفع إلى أسفل وإلى أعماق الأجهزة وإلى مستودعات التخزين وهكذا يقل ورود الدم إلى الدماغ ، والدم يحمل الاكسجين ذلك الغاز اللطيف الذي يبعث الحياة بقدرة العليم الخبير ، وهكذا يحصل فقر دم موضعي للدماغ ، وهذا ما يعلل الإغماء الذي يحصل ، والذي يجب أن يكافح رأساً برافعات الضغط من أمثال الأدوية المعروفة ( وايامين ، أرامين ، نور ادرينالين ، هايبرتنسين ) ورفع القدمين والساقين إلى أعلى حتى يتدفق الدم إلى أسفل ولتزداد تروية الدماغ وبالتالي انتعاشه.

إن هذه الاسطورة العجيبة من التوازن الخفي في أخلاط الجسم وأعضائه لتمثل البناء المحكم الذي اتقن الله صنعته ، حيث تتجلى مظاهر الربوبية العظيمة ، والألوهية المطلقة وهي تسطر هذا الوجود.

تنظيم الحرارة ودور التعرق :

ولنتأمل الآن ظاهرة أيضاً مدهشة من ظاهر الاتزان والإبداع وهي موجودة في منطقة ما تحت السرير ، أي مراكز أسفل الدماغ ، هذه الظاهرة هي كيفية تنظيم الحرارة والتعرق؟

لقد وجد أن هناك منطقتان في الداخل تعمل الأولى فعل المسرع والأخرى فعل المبطىء بحيث يحصل التوازن ، فالمنطقة الأولى تقوم بدور زيادة الخسارة الحرورية ، والثانية تقوم بدور إنقاص الخسارة

١٥٤

الحرورية ، أي إن الأولى تقاون الحر ، والثانية تقاوم البرد ، وكل هذا عن طريق عالم الجلد المدهش ، إن منابع الحرارة في الجسم تتوزع في كل المناطق التي تقوم بفعل آلي أو إفرازي أو أي نشاط ، ولكن المنبع الأساسي للحرارة في الجسم هو العضلات حيث يشكل عمل العضلات طاقة حرورية تعادل ٤٠% من حرارة البدن العامة ، وترتفع أثناء الجهود الرياضية الشديدة إلى ٨٠% وأما القلب فيعطي سبع الحرارة العامة ٧ / ١ وأقل العناصر في توليد الحرارة هو الدماغ حيث يعطي أقل من جزء من ثلاثين مما تولده العضلات ، وحتى إذا ازدادت الحرارة فإن هنالك مراكز معدلة تخفض الحرارة بسرعة في الدماغ نظراً لشدة تأثره بها ، وأما الغدد العرقية فهي مراكز التهوية الخفية في الجسم بالإضافة إلى مراكز التهوية عن طريق الزفير. يوجد تحت جلد الشخص العادي ثلاثة ملايين غدة عرقية تتوزع في أماكن أكثر من غيرها فهي تحت الابط وحول الثدي أكثر ، بينما هي في ظهر اليد أو الوجه أقل ، وهذه الغدد تشكل بمجموعها العام جهاز كلوياً جديداً ، وتتألف الغدة العرقية من انبوب ملتوي يفرز العرق بحيث تشكل لو جمعنا هذه الأنابيب طولاً يزيد على أربعة كيلومترات!! وهي تقوم بدور وزارة السياحة والاصطياف في الجسم!! ويشترك في الاستقلاب الحروري أيضاً غدة مهمة هي غدة الدرق بمفرزها المشهور التروكسين حيث وجد أن صرف ملغرام واحد من التروكسين يرفع الاستقلاب الأساسي(١) مقدار ألف كالوري ، كما تتدخل غدة الكظر في الاستقلاب ونشر الحرارة بفضل مادة الادرينالين التي تفرز من لب الكظر ، وتقوم ملكة

__________________

(١) يقصد بالاستقلاب الأساسي الحرارة التي تتكون بفعل نشاط خلايا الجسم بدون ضرف مجهود عضلي ، لأن عمل العضلات ينشر طاقة حرارية إضافية ، ولذا فإن اخيار الاستقلاب الأساسي يقاس عند الانسان في حالة الراحة الكاملة.

١٥٥

الغدد ( النخامة ) بالسيطرة على توازنات هذه الغدد ذات الافراز الداخلي.

والآن لنتأمل كيف يتم التنظيم الحروري بشكل مفصل أكثر بعد أن أخذنا نظرة إجمالية : إن حرارة الجسم تستقر حول رقم معين لا تتجاوزه هي في الانسان ٣٧درجة ، وفي الحيوانات الثديية ٣٩ درجة ، وفي الطيور ٤١ درجة ، وهذا الرقم يبقى مستقراً لا ينزل ولا يصعد إلا في الحالات المرضية خاصة الحموية ( أي المسببة عن الحمى ) هذا مع العلم ان درجة الحرارة في سيبيريا قد تصل إلى الدرجة ـ ٦٢ أي ٦٢ درجة تحت الصفر كما قد تصل إلى الدرجة(٦٠) فوق الصفر ف منطقة الصحراء الكبرى في بلاد الطوارق في شمال أفريقيا

فكيف يبقى البدن بعد كل هذا الاضطراب في الحرارة الخارجية محتفظاً بحرارته في درجة حرارة معينة لا يزيد ولا ينقص؟ ان الكارثة سوف تحل لو انخفضت درجة الحرارة إلى حج معين أو إذا ارتفعت الحرارة إلى ٤٣ ـ ٤٥ درجة ، كما ان الكريات البيض تموت تحت الدرجة ٢٥ وفوق الدرجة ٤٣ ، ومعنى هذا انتهاء الإنسان لان مناعة الانسان تتركز في الكريات اليبض ، فكيف يحصل هذا الاتزان السحري العجيب؟ لنتصور الآن ان درجة الحرارة التي تحيط بنا بلغت الدرجة (٤٠) وهي الدرجة عالية في أيام الصيف شديدة الحر ، تبعث الجسيمات الحسية المتوزعة تحت الجلد والمختصة بالحرارة ويبلغ عددها ما يزيد عن [ ٢٠٠,٠٠٠ ] مائتي ألف جهاز ـ وكل جهاز يحتاج وحده إلى شرح مطول ـ تبعث هذه الجسميات بالاخبار عبر أسلاك البرق المتشعبة في الجسم إلى كل نقطة ، وهي الالياف العصبية ، فتصل الاخبار إلى المقسم الأول في تلقي الاخبار وهو النخاع حيث تدخل من المنطقة الخلفية مع آلاف الاخبار الاخرى ، ومن خلايا القرون الخلفية للنخاع المختصة

١٥٦

بالحس يحصل فهم ما حدث ، وأما الخلايا فإنها تدهش للاخبار وتقول يجب أن نسرع في ارسال الاخبار إلى المركز العام ( وفي الحقيقة نحن الذين نسرع في كلماتنا ، لان اتزان هذا العمل وهدوؤه لا يقوم على الانفعالات بل على النواميس والسنن المحكمة التي ركب على أساسها الجهاز البشري ) ، وتنطلق الاخبار إلى مركز القيادة العامة بعد أن تمر هذا الاخبار في مناطق شتى ، وتنعرج في منعطفات عجيبة ، وتبدأ القيادة العامة في مواجهة هذه الجالة الطارئة فترسل الاوامر إلى أعصاب الجلد وتدق أجراس الخطر ، وتبدأ الاعصاب الجلدية في ارسال التنبيهات الى العروق الدموية التي تروي السطح الخارجي فيزداد مرور الدم ، وبهرع الدم كعادته وهو يقول أنا الخادم المخلص لهذا الانسان العظيم ، وبزيادة توارد الدم يزداد اشعاع الحرارة.

وتبدأ تحولات جديدة في الأوامر إلى الغدد العرقية فيزداد افرازها للعرق ـ والعرق بحد ذاته يحتوي كمية كبيرة من الماء ويمتص كمية كبيرة من الحرارة ـ وباطراح العرق تحصل التهوية الجلدية وتتوازن الحرارة في خارج الجسم وداخله ، وأما التيروكسين والادرنالين وهما مفرزاً الغدة الدرقية وغدة لب الكظر فإن إفرازهما يتناسق مع جاحة البدن في هذه الحالة ، ويبقى دور نفس الزفير فهو محمل ببخار الماء الذي يمتص أيضاً كمية كبيرة من الحرارة ، وهذا هو السر في ان الكلاب تلهث دائماً لان الغدد العرقية لا توجد عندها إلا بكمية قليلة وفي أخمص القدم فقط( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) وهكذا يعوض الكلب عن التعرق باللهاث.

تنظيم السكر :

ونأتي إلى ظاهرة بديعة من ظواهر التوازن والتنظيم لمنطقة ما تحت

١٥٧

السرير وهو الذي تكلمنا عنه فيما مضى بشكل عابر ، ألا وهو تنظيم السكر في الدم

إن نسبة السكر في الدم يجب أن تكون في حدود ثابتة لا تتعداها وهي وسطياً غرام واحد في الليتر من الدم ، أي إن مجموع ما هو موجود في الدم ٥ ـ ٦ غرامات لا أكثر ، وهذه الكمية يستنفذها البدن في مدى ربع ساعة لا أكثر فكيف السبيل إلى تغذية الجسم ومده بطاقة الاحتراق ، خاصة ويعتبر السكر الحلوى الفاخر المفضل لخلايا الجملة العصبية التي لا تأخذ سواه؟! ان مركز القيادة العامة يحتل العرش وله وزراء صدق يعاونونه في هذه المهمة الرائعة وهي استتاب التوازن والامن في ربوع المملكة وتوفير الغذاء الاولي لخلايا الجسم جميعها بدون استثناء ، فمن هم هؤلاء الوزراء الذي يعاونون هذا الملك ويتفاهمون مع الرعية ويطعمونها ، ويعيش الجسم كله في سلام بدون حرب ولا تفضيل طبقة على طبقة ، أللهم إلا في الازمات ، ان جملة الوزراء هنا هي الانسولين الذي يفرز من المعثكلة ويعتبر رئيساً للوزارة وبقية الوزراء هم الغلوكاكون الذي يفرز أيضاً من المعثكلة والتيروكسين الذي يفرز من غدة الدرق ، والادرنالين الذي يفرز من لب غدة الكظر ، وهورمون النمو الذي يفرز من الفص الامامي للغدة النخامية ، وهناك الوزير الذي يفرز من قشر غدة الكظر وهذا يحمل شارة خاصة على رتبته وهي ذرة الاكسجين في النافذة الحادية عشرة من بنائه الذري!! وهكذا نرى أن هناك خمسة وزراء الذي هو الانسولين وحده بخطة ، ولكن هل انتهت العناصر التي تتخل في موضوع اتزان السكر في الدم؟ هناك مركز الجمارك العام وهو الكبد وهو يحوي أكبر المستودعات لتخزين السكر ولكن بشكل مكثف ، وهو ما يسمى بالنشا الحيواني أو مولد السكر ،

١٥٨

وهناك المستودعات الاحتياطية في حالة الفيضانات كما في زيادة الوارد من السكر وهذه المستودعات الاحتياطية هي العضلات والانسجة بشكل عام ، وهناك كما في أي وزارة أمناء عامون وهنا الامين العام العصب الودي ، وله مساعد مثله هو نظير الودي.

والآن لننظر إلى هذا الائتلاف العجيب في العمل ، فالانسولين مهمته حرق السكر وإدخاله إلى الخلية للاستفادة منه وزيادة ادخاره ، وقد أوكل مهمة معاكسة لوزرائه الخمسة فهم يقومون بعكس هذا العمل وهو زيادة حل السكر وايجاده في الدم والامين العام الاول يساعد الوزراء فهو يقوم يتثبيط عمل الانسولين ، والامين العالم الثاني يقوم بزيادة عمل الانسولين وهكذ يحدث الشد والجذب من كل جانب بحيث يستقيم التوازن وكأنه على حد السيف

وهذا الاتزان على غاية من الاهمية ، لان زيادته معناه مرض السكري الذي يؤدي فيما إذا ازدادت نسبة السكر في الدم إلى الغيبوبة والسبات وفقد الوعي وقد يصل إلى درجة الموت ، ونقصه يحدث نتائج مماثلة وكأن هذا الميزان الذي يقوم بالقسط يزن أدق العيارات؟ كيف لا وهذه الهورمونات التي تحدث التوازن والاستقرار تؤثر باجزاء صغيرة تقدر بواحد من مليون ، والغدة النخامية تزن نصف غرام بما فيها من هورمونات وخلايا واخلاط ودم وأجزاء!!!( والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان ) سورة الرحمن

فكرة عن الاعصاب الرأسية :

ان ظاهرة انبثاق الاعصاب من عناصر الجهاز العصبي تستحق الوقوف أمامها طويلاً ، فلقد وجد أن الجذع الدماغي وهو المكان الاسفل من الدماغ تنبجس منه عيون عصبية تشكل اثني عشر زوجاً في الرأس ،

١٥٩

( فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ) وواحداً وثلاثين في باقي الجسم وهذه الاعصاب تقوم بمهمام عجيبة ومهمة للغاية ، فهي تأخذ الحس من الرأس ، وترسل إليه الأوامر الحركية ، وإذا بالعضلات تتقلص وترتخي بكيفية معينة ، وإذا تعابير الخوف ، أو المحبة ، أو الضحك ، أو التبسم ، أو الكره ، أو الحقد ، أو الدهشة والاستغراب كلها تظهر على محياك فتظهر ما يكنه الدماغ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ) سورة محمد.

فمن أصل الأربعة والعشرين عصباً يتفرد منها ستة لحركات العينين ، حيث تتحكم هذه الاعصاب الستة في عضلات العين وهي تبلغ سبعة عضلات في كل عين وهذه العضلات بواسطة الاوامر العصبية يمكن أن تدير كرة العين الى كافة الجوانب وهكذا فأنت تنظر أيها القارىء إلى أعلى وأسفل ويمين وشمال وبشكل دائري ومنحرف ، ومن العضلات السبعة عضلة تختص برفع الجفن العلوي وخفضه وكأنها الخيط الذي يسحب الستار أمام العين حتى ترى الموجودات ، والاعصاب في كل جهة تتزن مع الاعصاب في الجهة الاخرى بشكل متناسق ولذا فإن الانسان يرى بعينيه منظراً واحداً ولولا هذه الرؤية المزدوجة الواحدة لما استطاع أن يرى بشكل جيد فهو اما أن يرى الاشكال مضاعفه أو مضطربة ، ولذا فإن أي خلل في الجهاز الذي ينسق حركة العضلات ويوازنها يحدث الرأرأة المعروفة وهي اهتزاز كرة العين وعدم التمكن من تثبيت النظر تماماً ، وأي خلل بسيط في الجهاز المعصب لهذه الاشرطة العضلية الصغيرة السبعة يحدث هبوط الجفن العلوي وانسدال الستارة ، أو الحول للأيمن أو للأيسر ، وهذه الاعصاب الثلاثة لكل عين يختص كل واحد منها بعضلات معينة فواحد يختص بتحريك كرة العين

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الآيتان

( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) )

التّفسير

اليهود وعبادتهم للعجل :

في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة ، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسىعليه‌السلام إلى ميقات ربّه ، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعينا بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.

إنّ هذه القصّة مهمّة جدّا بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور ، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93) ، وفي سورة النساء الآية (153) ، والأعراف الآيات المبحوثة هنا ، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.

٢٢١

على أنّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيّة ، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عند ما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأخرى مشهدا من الوثنية ، حيث وجدوا قوما يعبدون البقر ، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسىعليه‌السلام صنما كتلك الأصنام ، ولكن موسىعليه‌السلام وبّخهم وردّهم ، ولا مهم بشدّة.

وثالث ، تمديد مدّة ميقات موسىعليه‌السلام من ثلاثين إلى أربعين ، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسىعليه‌السلام بواسطة بعض المنافقين ، كما جاء في بعض التفاسير.

والأمر الرابع ، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خطته المشئومة ، كل هذه الأمور ساعدت على أن تقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية ، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.

وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا : إنّ قوم موسىعليه‌السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ، ولكنّه كان له صوت كصوت البقر ، واختاروه معبودا لهم :( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ) .

ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحليّ) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيرا منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ، وبذلك كانوا شركاء في جريمته ، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.

وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة ، التي تقول :( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة

٢٢٢

هنا ليس كلّهم ، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟

و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ويقول آخرون : كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمع منه صوت على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعا بهيئة هندسية خاصّة.

أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئا من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائنا حيا ، وأخذ يخور خوارا طبيعيا فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.

وكلمة «جسدا» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيوانا حيا ، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1) .

وبغض النظر عن جميع هذه الأمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجل المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يشبه معجزة النّبي موسىعليه‌السلام ، ويحيي جسما ميتا ، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتما ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.

__________________

(1) راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء ، و (34) من سورة ص.

٢٢٣

أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر.

والنقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها ، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسىعليه‌السلام قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ، مضافا إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراما خاصّا ، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.

أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإقامة أحد أعيادهن ، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1) .

ثمّ يقول القرآن الكريم معاقبا وموبّخا : ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ، فكيف يعبدونه؟( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) .

يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح ، وتكون له القدرة على هداية أتباعه ، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

وأساسا كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئا ميتا صنعه وسوّاه بيده ، حتى لو استطاع ـ افتراضا ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.

إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ، لهذا يقول في ختام الآية :

__________________

(1) راجع تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية المبحوثة هنا.

٢٢٤

( اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ ) .

بيد أنّه برجوع موسىعليه‌السلام إليهم ، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم ، وندموا على فعلهم ، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ، وقالوا : إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وجملة( سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي عند ما عثروا على الحقيقة ، أو عند ما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم ، أو عند ما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة ، لأنّه عند ما يقف الإنسان على الحقائق ، ويطلع عليها ، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها ، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة ، فإنّه يندم بطبيعة الحال ، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.

وعلى كل حال ، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم ، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.

* * *

٢٢٥

الآيتان

( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) )

التّفسير

ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل :

في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسىعليه‌السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.

يقول في البدء : ولما عاد موسىعليه‌السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل ، قال لهم : ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ

٢٢٦

غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ) (1) .

إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفا ، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسىعليه‌السلام بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ( قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (2) .

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال لهم :( أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ) .

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة ، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة ، إلّا أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين ، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي ، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.

وفي هذا الوقت بالذات ، أي عند ما واجه موسىعليه‌السلام هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل ، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه ، ويثقل روحه حزن عميق ، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل ، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل ، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّا. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نغمة مخالفة شاذة ، وافقت هوى ورغبة ، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمرا ممكنا وسهلا.

فهنا لا بدّ أن يظهر موسىعليه‌السلام غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط ، كي يوقظ الأفكار المخدّرة لدى بني إسرائيل ، ويوجد انقلابا في

__________________

(1) «الأسف» كما يقول الراغب في «المفردات» بمعنى الحزن المقرون بالغضب ، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضا. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة ، ومن الطبيعي أن هذا الانزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقرونا بالغضب ، وبردة فعل غاضبة ، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظا.

(2) سورة طه ، 85.

٢٢٧

ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق ، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.

إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة ، إذ يقول : إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده ، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطا غاضبا.

وكما يستفاد من آيات قرآنية أخرى ، وبخاصّة في سورة طه ، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة ، وصاح به ، لماذا قصّرت في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(1) .

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسىعليه‌السلام النفسية ، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم ، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية ، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحا ـ فرضا ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحا ، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية ، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الانزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب ، بل كان يعد عملا واجبا وضروريا.

ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبدا إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين ، للتوفيق بين عمل موسىعليه‌السلام هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء ، لأنّه يمكن أن يقال هنا : إنّ موسىعليه‌السلام انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجا شديدا لم يسبق له مثيل ، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ

__________________

(1) سورة طه : 92 ـ 93.

٢٢٨

المشاهد ألا وهو الانحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل ، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.

وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماما.

إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا ، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل ، فقد قلب المشهد رأسا على عقب في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة ، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفا إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني ، فإذن أنا بريء ، فلا تفعل بي ما سيكون موجبا لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

إن التعبير ب : «ابن أمّ» في الآية الحاضرة أو «يا ابن أمّ» (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة ، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسىعليه‌السلام في هذه الحالة الساخنة.

وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها ، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم ، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.

لقد هدأ غضب موسىعليه‌السلام بعض الشيء ، وتوجه إلى الله( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

إنّ طلب موسىعليه‌السلام العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه ، لم يكن لذنب اقترفاه ، بل كان نوعا من الخضوع لله ، والعودة إليه ، وإظهار النفرة من أعمال

٢٢٩

الوثنيين القبيحة ، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا انحرافا ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا ، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم ، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.

مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة :

يستفاد من الآيات الحاضرة ، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون ، وأنّ شخصا خاصا في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل ، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل ، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.

ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسىعليه‌السلام ووزيره وأخيه ، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة ، ما يلي :

«لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل ، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

فلمّا نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غدا عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل».

٢٣٠

ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسىعليه‌السلام غاضبا إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة ، ثمّ تقول :

«وقال موسى لهارون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطيّة عظيمة؟!

فقال هارون : لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ».

إنّ ما ذكر هو قسم من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص ، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته ، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).

كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإصحاح الثامن من سفر الخروج أيضا).

وعلى كل حال ، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسىعليه‌السلام وعارفا بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل ، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل ، وحتى أنّه اعتذر لموسىعليه‌السلام عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال : إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساسا وقد شجعتهم عليه.

في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.

على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآن الكريم ساحة الأنبياء والرسل ، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل الفعليين ، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.

* * *

٢٣١

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) )

التّفسير

لقد فعلت ردة فعل موسىعليه‌السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عبدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم ، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضا (الآية 149) ومن أجل أن لا يتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة ، يضيف القرآن الكريم قائلا :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

وهكذا لأجل أن لا يتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) .

٢٣٢

إن التعبير بـ «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية ، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية ، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فورا ، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.

أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية ، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة ، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.

أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضا العجيبة التي كلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة ، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟

والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة ، ولكنّها ليست كل شيء.

إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة ، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات ، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة ، وكفاية يقول مرتكبها : «أستغفر الله» وينتهي كلّ شيء.

بل لا بدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة ، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.

٢٣٣

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام :( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

جواب على سؤالين :

1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسىعليه‌السلام بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل ، وارتضى بعض آخر الاحتمال الثّاني.

والذين ارتضوا الاحتمال الأوّل استدلوا بجملة( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والذين ارتضوا الاحتمال الثّاني استدلوا بجملة( سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.

ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسىعليه‌السلام في تعقيب قصّة العجل ، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع ، وليس هناك ما يمنع أن يكون «إنّ ربّك» خطاب موجه إلى موسىعليه‌السلام (1) .

2 ـ لماذا جاء الإيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإيمان تتزلزل عند

__________________

(1) فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا : «قال الله لموسى أن الذين ...».

٢٣٤

ارتكاب المعصية ، ويصيبها نوع من الوهن ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإسلامية :

«لا يشرب الخمر وهو مؤمن ، ولا يزني وهو مؤمن» أي أن الإيمان يتضاءل ضوؤه ، ويفقد أثره.

ولكن عند ما تتحقق التوبة يعود الإيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل ، وكأنّ الإيمان تجدّد مرّة أخرى.

ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا ، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا ، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة ، وإن بقيت أعباء الذنوب الأخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول : ولما سكن غضب موسىعليه‌السلام ، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ، أخذ الألواح من الأرض ، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية ، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية ، والذين يخافون الله ، ويخضعون لأوامره وتعاليمه( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .

* * *

٢٣٥

الآيتان

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) )

التّفسير

مندوبو بني إسرائيل في الميقات :

في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة ، ويقص قسما آخر من تلك الحادثة.

٢٣٦

هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسىعليه‌السلام ميقات واحد مع ربّه ، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإثبات مقصوده من القرآن الكريم ، ولكنّه كما قلنا سابقا ـ في ذيل الآية (142) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسىعليه‌السلام كان له ميقات واحد ، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.

وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمهعليه‌السلام ، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغشي على موسىعليه‌السلام وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشيا عليهم ، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.

إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادئ النظر ـ إشكالا ، وهو : كيف أشار الله تعالى أولا إلى ميقات موسىعليه‌السلام ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل ، ثمّ عاد مرّة أخرى إلى مسألة الميقات؟

هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟

ولكن مع الالتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها ، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني ، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتا ، ويعمد إلى بحث ضروري آخر ، ثمّ يعود مرّة أخرى لنفس الحادثة الأولى.

بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل ، ونقول : إنّ موسىعليه‌السلام ذهب مرّة أخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للاعتذار إلى الله والتوبة ، كما قال بعض المفسّرين ، لأنّ هذا الاحتمال بغض النظر عن جهات أخرى يبدو بعيدا في

٢٣٧

النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للاعتذار والتوبة ، فهل من الممكن أن يهلك الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للاعتذار إلى الله بالنيابة عن قومهم؟!

وعلى كل حال ، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا :( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) .

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسىعليه‌السلام أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة ، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ، ووقع موسىعليه‌السلام على الأرض مغشيا عليه ، وعند ما أفاق قال : ربّاه لو شئت لأهلكتنا جميعا ، يعني بماذا أجيب قومي لو هلك هؤلاء( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ) .

ثمّ قال : ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ، فلا تؤاخذنا بفعلهم :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؟

ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة «الرجفة» في هذه الآية ، وكلمة «الصاعقة» في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرة ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقا ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).

وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.

٢٣٨

والجواب على هذا الكلام واضح أيضا ، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضا ، وإطلاق «الفعل» على «الكلام» ليس أمرا جديدا وغير متعارف ، مثلا عند ما نقول : إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ، فإنّ من المسلّم أنّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضا.

ثمّ إنّ موسىعليه‌السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله : ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحقا لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقا لذلك)( إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ) واختبارك.

وهنا أيضا تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة» كثيرا وذهبوا مذاهب شتى ، ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة» جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان مرارا كما في الآية (28) من سورة الأنفال :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) وكذا في الآية (2) من سورة العنكبوت ، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضا. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختبارا شديدا ، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.

وفي ختام الآية يقول موسىعليه‌السلام : رباه :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .

من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسىعليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، وقصّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسىعليه‌السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة ، يقول موسى :( وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ) .

٢٣٩

و «الحسنة» تعني كل خير وجمال ، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم ، وكذا التوفيق للعمل الصالح ، والمغفرة ، والجنّة ، وكل نوع من أنواع السعادة ، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا :( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا ، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.

و «هدنا» مشتقة من مادة «هود» بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء ، وكما قال بعض اللغويين : تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضا ، وكذا من الشر إلى الخير(1) ، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.

يقول الراغب في «المفردات» نقلا عن بعض : «يهود في الأصل من قولهم : هدنا إليك ، وكان اسم مدح ، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم ، وإن لم يكن فيه معنى المدح».

ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير ، أو من الخير إلى الشر ، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال ، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.

وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ «اليهود» لا يرتبط مطلقا بهذه اللفظة ، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة «يهوذا» الذي هو اسم لأحد أبناء يعقوبعليه‌السلام ثمّ تبدلت الذال إلى الدال ، وصارت يهودا ، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(2) .

ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسىعليه‌السلام وقبل توبته ، ولكن لا بصورة

__________________

(1) تفسير المنار ، المجلد التاسع ، الصفحة 221 ، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.

(2) تفسير أبو الفتوح ، المجلد الخامس ، الصفحة 300 ، في تفسير الآية الحاضرة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274