الطبّ محرابٌ للإيمان

الطبّ محرابٌ للإيمان21%

الطبّ محرابٌ للإيمان مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 274

الطبّ محرابٌ للإيمان
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105472 / تحميل: 10298
الحجم الحجم الحجم
الطبّ محرابٌ للإيمان

الطبّ محرابٌ للإيمان

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تزويجها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها وظاهر الآية مقتض لجواز نكاحها بإذن مولاها فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك لأن ظاهر الآية قد أجازه ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير دلالة وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما ما لا يملكه فغير جائز توكيل غيره في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارات فأما عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل على أنها تملك العقد وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز وتوكيلها على غيرها به وهو وليها وقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى( بِالْمَعْرُوفِ ) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن المعتاد والمتعارف كقوله تعالى( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) وقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) يقتضى ظاهره وجوب دفع المهر إليها والمهر واجب للمولى دونها لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها كذلك المهر ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر* ومعنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون المراد إعطاؤهن المهر بشرط إذن المولى فيه فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج فيكون تقديره فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى وهو كقوله تعالى( وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ) والمعنى والحافظات فروجهن وقوله تعالى( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ) ومعناه والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفى ملكها لتزويجها نفسها

١٢١

وإن المولى أملك بذلك منها وقوله تعالى( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ) فنفى ملكه نفيا عاما وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به أنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه وقال تعالى( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله( وَآتُوهُنَ ) إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن* وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها واحتج للمهر بقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) وقد بينا وجه ذلك ومعناه وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الاجرة لها لأنه بدل منافعها ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح فلا فرق بينهما* وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق وهذا* خلاف الكتاب زعم* قال أبو بكر ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا ما لا نعلم أحدا من العراقيين قاله فحصل هذا القائل على معنيين باطلين إحداهما دعواه على الكتاب وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك بل قولهم في ذلك أنه إذا تزوج أمته من عبده وجب لها

١٢٢

المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تمك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين فههنا حالان إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد فيسقط كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه كان قبضه حالان إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه وكما نقول في الوكيل في الشرى أن المشترى انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاص بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم* قوله تعالى( مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) يعنى والله أعلم فانكحوهن محصنات غير مسافحات وأمر بأن يكون العقد عليها بالنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا لأن الإحصان هاهنا بالنكاح والسفاح الزنا( وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) يعنى لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخذان قال ابن عباس كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفى منه والخدن هو الصديق للمرأة يزنى بها سرا فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين وسمى الله الإماء الفتيات بقوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) والفتاة اسم للشابة والعجوز الحرة لا تسمى فتاة والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة والفتوة حال الغرة والحداثة والله أعلم بالصواب.

باب حد الأمة والعبد

قال الله تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) قال أبو بكر قرئ فإذا أحصن بفتح الألف وقرئ بضم الألف فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن( أُحْصِنَ ) بالضم معناه تزوجن وعن عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم( أُحْصِنَ ) بالفتح قالوا معناه أسلمن وقال الحسن يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام* واختلف السلف في حد الأمة متى يجب فقال من تأول قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) بالضم على التزويج أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله ومن تأول قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) بالفتح على

١٢٣

الإسلام جبل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله* وقال بعضهم تأويل من تأوله على أسلمن بعيد لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) قال فيبعد أن يقال من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن وليس هذا كما ظن لأن قوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) إنما هو في شأن النكاح وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحد فجاز استيناف ذكر الإسلام فيكون تقديره فإذا كن مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن هذا لا يدفعه أحد ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمرو ابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه وليس يمتنع أن يكون الأمر ان جميعا من الإسلام والنكاح مرادين باللفظ لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما* وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد عليها إذا لم تحصن لم يجب لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير والضفير الحبل وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في كل مرة فليقم عليها كتاب الله تعالى فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجوب الحد عليها مع عدم الإحصان فإن قيل فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه* قيل له لما كانت الحرة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإن أحصن بالإسلام وبالتزويج فليس عليهن أكثر من نصف حد الحرة ولو لا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد فأزال الله تعالى توهم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نصف الحد في جميع الأحوال فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها ولما أوجب عليها نصف حد الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد إذ الرجم لا ينتصف وقوله تعالى( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) أراد به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض* وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت

١٢٤

وعقلت الأمة من ذلك أن العبد بمثابتها إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر وهو الرق وهو موجود في العبد* وكذلك قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا إذ كان المعنى في المحصنة العفة والحرية والإسلام فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى* وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض.

(فصل) قوله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) يدل على جواز عطف الواجب على الندب لأن النكاح ندب ليس بفرض وإيتاء المهر واجب ونحوه قوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ثم قال( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ويصح عطف الندب على الواجب أيضا كقوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فالعدل واجب والإحسان ندب وقوله تعالى( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفى هو الزنا وقال آخرون هو الضرر الشديد في دين أو دنيا من قوله تعالى( وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ) وقوله( لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) راجع إلى قوله( فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره فإذا خشي العنت ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك ثم عقب ذلك بقوله تعالى( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فأبان عن موضع الندب والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخض العنت ومتى خشي العنت فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي العنت لقوله( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وإنما ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على فراش النكاح من الأمة يكون عبدا لسيدها ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم انكحوا

١٢٥

الأكفاء وانكحوهن واختاروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه قوله انكحوا الأكفاء يدل على نكاح الأمة لأنها ليست بكفؤ للحر وقوله واختاروا لنطفكم يدل على ذلك أيضا لئلا يصير ولده عبدا مملوكا وماؤه حر فينتقل بتزويجه إلى الرق وروى في خبر آخر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال تخيروا لنطفكم فإن عرق السوء يدرك ولو بعد حين وقوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) يعنى والله أعلم يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته والبيان من الله تعالى على وجهين أحدهما بالنص والآخر بالدلالة ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل وهو نظير قوله( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) وقوله( هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ) وقوله( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وقوله( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) من الناس من يقول إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين وقال آخرون لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع وإنما معناه له يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح وقال آخرون يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبوا الحق وقوله تعالى( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) يدل على بطلان مذهب أهل الأخبار لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين الإصرار ولا يريد منهم التوبة والاستغفار* قوله تعالى( يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ) فقال قائلون المراد به كل مبطل لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة وقال مجاهد أراد به الزنا وقال السدى اليهود والنصارى* وقوله( أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ) يعنى به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين إما لعداوتهم أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء وقد دلت الآية على أن القصد في اتباع الشهوة مذموم إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته إذ كان قصده اتباع الحق ولكن من كان هذا سبيله لا يطلق عليه أنه متبع لشهوته لأن قصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها* قوله تعالى

١٢٦

( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل وهو نظير قوله تعالى( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) وقوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقوله تعالى( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وقوله تعالى( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في الآيات ونظيره قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جئتكم بالحنيفة السمحة وذلك لأنه وإن حرم علينا ما ذكرنا تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال وعلى هذا المعنى ما روى عن عبد الله بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يعنى أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما * وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوغوا فيه الاجتهاد وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون لأخباره بأنه يريد التخفيف عنا وتكليف ما لا يطاق غاية التثقيل والله أعلم بمعاني كتابه.

باب التجارات وخيار البيع

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) قال أبو بكر قد انتظم هذا العموم النهى عن أكل مال الغير ومال نفسه كقوله تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قد اقتضى النهى عن قتل غيره وقتل نفسه فكذلك قوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) نهى لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصى الله وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان أحدهما ما قال السدى وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وقال ابن عباس والحسن أن يأكله بغير عوض فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ـ إلى قوله تعالى ـوَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) الآية قال أبو

١٢٧

بكر يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه فهذا لعمري قد تناولته الآية وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وروى الربيع عن الحسن قال ما نسخها شيء من القرآن ونظير ما اقتضته الآية من النهى عن أكل مال الغير قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ) وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وعلى أن النهى عن أكل مال الغير معقود بصفة وهو أن يأكله بالباطل وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل وكذلك أجرة النائحة والمغنية وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهى عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه وكذلك قال أصحابنا أنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه(1) بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به لأنه ربح حصل له من وجه محظور وقوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة فإن قيل هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه قيل له كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية لأن الحظر في أكل المال مقيد الشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية وأما قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات

__________________

(1) قوله بعينة وذلك كما لو باع رجل سلعة من آخر ثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها بأقل من الثمن الذي باعها به لمصححه.

١٢٨

المقصود بها طلب الأرباح قال الله تعالى( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح وقال تعالى( يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز وقال الله تعالى( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة فتدخل في قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) عقود البياعات والإجارات والهبات المشروطة فيها الأعواض لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير* ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك فلم يسم تجارة لهذا المعنى وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يسمى شيء من ذلك تجارة ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا قال أبو حنيفة ومحمد إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة وقالوا إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة إذ كانت الإجارة من التجارة وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات* واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو وقال أصحابنا إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول ولا يصح عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ولا يقع بلفظ الاستقبال لأن قوله بعني إنما هو سوم وأمر بالبيع وليس بإيقاع للعقد والأمر بالبيع ليس ببيع وكذلك قوله اشترى منك ليس بشرى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه لأن الألف للاستقبال وكذلك قول البائع اشتر منى وقوله أبيك ليس ذلك بلفظ العقد وإنما هو أخبار بأنه سيعقد

«9 ـ أحكام لث»

١٢٩

أو أمر به وقالوا في النكاح القياس أن يكون مثله إلا أنهم استحسنوا فقالوا إذا قال زوجني بنتك فقال قد زوجتك أنه يكون نكاحا ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقبلها فقال له رجل زوجنيها فراجعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يعطيها إلى أن قال له زوجتكها عقدا بما معك من القرآن فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله زوجنيها مع قوله زوجتكها عقدا واقعا ولأخبار أخر قد رويت في ذلك ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله زوجني وبين قوله قد زوجتك فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله قد زوجتك وقوله زوجيني نفسك سواء* ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السوم بديا كان ذلك سوما ولم يكن عقدا فحملوه على القياس وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد أنه يقع به العقد وهو أن يساومه على شيء ثم يزن له الدراهم ويأخذ للمبيع فجعلوا ذلك عقدا لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طالبه منه وذلك لأن جريان العادة بالشيء كالنطق به إذ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أجروا ذلك مجرى العقد وكما يهدى الإنسان لغيره فيقبضه فيكون للهبة ونحر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدنات ثم قال من شاء فليقتطع فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وقال مالك بن أنس إذا قال بعني هذا بكذا فقال قد بعتك فقد تم البيع وقال الشافعى لا يصح النكاح حتى يقول قد زوجتكها ويقول الآخر قد قبلت تزويجها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت* فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشترى الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراض غير جائز أن يكون هذا بيعا لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول وذلك معدوم فيما وصفت وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لوقوعها بغير لفظ البيع قيل له ليس هذا كما ظننت وليس ما أجازه أصحابنا مما

١٣٠

نهى عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع وأما ما جازه أصحابنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع ثم يزن له المشترى الثمن ويسلم البائع إليه المبيع وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رضى منهما بما وقف عليه العقد من السوم ولمس الثوب ووضع الحصاة ونبذه ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه فصار العقد معلقا على خطر فلا يجوز وصار ذلك أصلا في امتناع وقوع البياعات على الأخطار وذلك أن يقول بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد ونحو ذلك وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) عموم في إطلاق سائر التجارات وإباحتها وهو كقوله تعالى( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في اقتضاء عمومه لإباحة سائر البيوع إلا ما خصه التحريم لأن اسم التجارة أعم من اسم البيع لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات فيضمن قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) معنيين أحدهما نهى معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه وهو قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ والمعنى الثاني إطلاق سائر التجارات وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة فلو خلينا وظاهره لأجزنا سائر ما يسمى تجارة إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضى سائر وجوه الانتفاع وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها ونهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وقد قرئ قوله( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) بالنصب والرفع فمن قرأها بالنصب كان تقديره إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض فتكون التجارة

١٣١

الواقعة عن تراض مستثناة من النهى عن أكل المال إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل ومن قرأها بالرفع كان تقديره إلا أن تقع تجارة كقول الشاعر :

فدى لبنى شيبان رحلي وناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

يعنى إذا حدث يوم كذلك وإذا كان معناه على هذا كان النهى عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شيء وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح* وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ونحوه قوله تعالى( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله تعالى( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله فدل ذلك على أنه مندوب إليه والله تعالى أعلم وبالله التوفيق.

باب خيار المتبايعين

اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا وروى نحوه عن عمر بن الخطاب وقال الثوري والليث وعبيد الله بن الحسن والشافعى إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا وقال الأوزاعى هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار* ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وقال الليث التفرق أن يقوم أحدهما وكل من أوجب الخيار يقول إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع وروى خيار المجلس عن ابن عمر* قال أبو بكر قوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) يقتضى جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق إذ كانت التجارة هي الإيجاب والقبول في عقد البيع وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع ذلك بإيجاب الخيار خارج عن

١٣٢

ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به وفي إثبات الخيار نفى للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل عليه أيضا قوله تعالى( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) إلى قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق لأنه قال تعالى( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) فأمر بالكتاب عند عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ) فلو لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الإفتراق لما قال( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ ) ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ ) دليل على نفى الخيار وإيجاب البتات ثم قال تعالى( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه ثم قال تعالى( وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ) ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم للشهادة إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال ثم قال( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) وإذا هي للوقت فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلا من الاحتياط بالإشهاد في الحضر وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن إن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما إذ كان إثبات الخيار نافيا لمعانى الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الإقرار بالدين فإن قيل الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين إما أن يكون الشهود حاضرين العقد

١٣٣

ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئذ شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح قيل له أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيهما إبطال ما تضمنته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ـ إلى قوله تعالى ـوَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ) فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما وزعمت أنت أنه يشهد بعد الإفتراق وجائز أن تهلك السلعة قبل الإفتراق فيبطل الدين أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهد أو جائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد وقال الله تعالى( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ولم يقل إذا تبايعتم وتفرقتم وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد وعسى أن يموت المشترى قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما فإن قيل فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفى صحة الشهادة والرهن قيل له الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار فليس فيما أجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع

١٣٤

عدم الرضى بالبيع ليرتئ في إبرام البيع أو فسخه فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط الخيار فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرضى به ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه اختر فاختاره ورضى به أن ذلك مبطل لخيارهما وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة فلا يحتاجان إلى رضى ثان لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان وثالث وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه* فإن قيل فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس* قيل له ليس خيار العيب من خيار المجلس في شيء وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به فليس لهذا الخيار تأثير في نفى الملك بل الملك واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به وخيار المجلس على قول القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ولا فرق بين الرضى به بديا بإيجابه له العقد وبينه إذا قال قد رضيت فاختر ورضى به صاحبه فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير ناف للملك وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب له بالعقد ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الافتراق وبطلان الخيار به وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفى دلالته على الرضى فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بديا بالعقد لا بالفرقة وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير

١٣٥

من العقود من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدين بالدين قبل تعيين أحدهما فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم تجد في الأصول فرقة مؤثرة في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب وأيضا قد ثبت بالسنة واتفاق الأمة من شرط صحة عقد افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه ويدل على نفى خيار المجلس قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فأحل له المال بطيبة من نفسه وقد وجد ذلك بعقد البيع فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) ويدل عليه نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشرط فيه الافتراق فوجب ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعة في المجلس الذي تعاقدا فيه وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه وذلك ينفى خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشترى فيه* ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا وله ثمرة فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ومحال أن يملكها المشترى قبل مالك الأصل المعقود عليه فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد* ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبى هريرة لن يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى وأنه متى صح له الملك عتق عليه فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر فلو عقلنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه

١٣٦

لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد واحتج القائلون بخيار المجلس بما روى عن ابن عمرو أبى برزة وحكيم بن حزام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وروى عن نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه ما لم يفترقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وابن عمر هو راوي الحديث وقد عقل من مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقة الأبدان* قال أبو بكر فأما ما روى من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه وقد روى عن ابن عمر ما يدل على موافقته وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة ابن عبد الله بن عمر عن أبيه قال ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل من ملك المشترى بالصفقة ويخرج من ملك البائع وذلك ينفى الخيار قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وفي بعض الألفاظ البائعان بالخيار ما لم يفترقا فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم فإذا أبر ما البيع وتراضيا فقد وقع البيع فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كان متقايلين ومتضاربين وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به فإن قيل هذا التأويل يؤدى إلى إسقاط فائدة الخبر لأنه غير مشكل على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه* قيل له بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه قد كان جائزا أن يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري قد بعتك أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشترى كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة فأبان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع

١٣٧

فإن قيل كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما* قيل له ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمى القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح قال تعالى( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ ) وأراد به حقيقة البلوغ فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقابلين وكانا متضاربين* ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع العقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقابلان في حال فعل الإقالة وغير جائز أن يكونا متقابلين متفاسخين ومتبايعين في حال واحدة فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السوم وإيقاع العقد حقيقة وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع وهو أن يقول قد بعتك فأطلق اسم البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيار في القبول قبل الإفتراق ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله المتبايعان وإنما البائع أحدهما وهو صاحب السلعة فكأنه قال إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق لأنه معلوم أن المشترى ليس ببائع فثبت أن المراد إذا باع البائع قبل قبول المشترى* وقد اختلف الفقهاء في تأويل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا فروى عن محمد بن الحسن أن معناه إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشترى قبلت قال وهو قول أبى حنيفة وعن أبى يوسف هما المتساومان فإذا قال بعتك بعشرة فللمشترى خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشترى ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما

١٣٨

إجازته فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ قال الله تعالى( وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ويقال تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله * وقوله المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه قال ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به والاستقالة هو مسألته الإقالة وهذا يدل من وجهين على نفى الخيار بعد وقوع العقد أحدهما أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه والثاني أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه فهذا يدل على نفى الخيار وصحة البيع وقوله ولا يحل له أن يفارقه يدل على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ماداما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها* ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن أحمد الأزدى قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم ينف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تبايعهما مع صحة العقد وقوعه فيما بينهما لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينفى ما قد أثبت فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري إلى شرائه منه بأن قال له بعني فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول إذا لم يكن قوله بعني قبولا

١٣٩

للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به فإذا قال قد قبلت وقع البيع فهذا هو الافتراق الذي أراده النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس قيل له هذا غلط من قبل أن ثبوت الخيار لا يوجب نفى اسم البيع عنه ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه موجبا لنفى اسم البيع عنه لأنه قال كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار فجعل بيع الخيار بيعا فلو أراد بقوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعا فدل ذلك على أن قوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إنما أراد به المتساومين في البيع وأفاد ذلك أن قوله اشتر منى أو قول المشترى بعني ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع قد بعت ويقول المشترى قد اشتريت فيكون قد افترقا وتم البيع ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعا وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول وأكثر أحوال ما روى من قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط وقوله عز وجل( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال عطاء والسدى لا يقتل بعضكم بعضا قال أبو بكر هو نظير قوله تعالى( وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ) ومعناه يقتلوا بعضكم وتقول العرب قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم وقيل إنما حسن ذلك لأنهم أهل دين واحد فهم كالنفس الواحدة فلذلك قال( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وأراد قتل بعضكم بعضا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المؤمنين كالنفس الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا فكان تقديره ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ولكن هل الفص الصدغي هو المسؤول تشريحياً عن الذاكرة؟ بالطبع لا إذن فأين توجد الذاكرة؟ في الدماغ ، أو في غير الدماغ إذا صح طرح السؤال؟ الذي يبدو هو أن نفس الخلايا العصبية بجموعها العام تشترك في تكوين الذاكرة بواسطة الجزئيات البروتينية الموجودة داخل الخلايا العصبية ، فوجود [٣٠] ألف مورثة في الخلية الواحدة وإمكانية تشكل قرابة [٣٠] ألف حمض أميني مختلف يجعلنا نفكر في هذه التعقيدات الذرية هل هي التي تشترك في موضوع الذاكرة خاصة وهذه التعقيدات تبلغ ألف مليار مليار جزىء في الدماغ ، هل تحمل هذه الجزئيات آثار الذاكرة كما يحدث في الصفيحة المعدنية التي تحمل آثار طرق الحداد بالمطرقة عليها؟ أم هل تتوزع الصورة في هذه الجزئيات الذرية ثم يعاد تشكيلها مرة أخرى؟ لا أحد حتى الآن يعرف أين يوجد السر في موضوع الذاكرة؟!!

ـ ٤ ـ

قدر بعض العلماء أن المرئيات أو المسموعات تنطبع في الدماغ كما تنطبع الصورة على جزئيات الفضة في لوحة الفوتوغراف الحساسة ، ومن خلال هذا التفرق للصورة والبعثرة للذكرى بحيث تزدحم الذكريات في حزئيات خلايا الدماغ كالفسيفساء ، وبقدرة قادر ، تجتمع هذه الجزئيات المتفرقة لتعيد تشكيل المنظر الذي رآه الانسان ، ولكن من خلال هذه الكومات والأكداس الهائلة من الذاكرة يبدأ العقل في امكانية إيجاد صورة جديدة فهو يتخيل الجن على صورة معينة ، أو يتخيل جنة عدن على صورة معينة ، وهكذا تبرز خاصية جديدة من خصائص الجهاز العقلي الجبار وهي خاصية التخيل ، ويتعقد الأمر أكثر عندما تستطيع اثارة التخيل عند من يسمع اليك بتحريك كومات الذاكرة عنده فإذا به يجمع الجزئيات ويكومها ويتخيل ما تتخيل أنت ، ثم يتعقد الأمر

١٨١

إلى درجة تجعل الرأس يدور عندما يفكر على هذا النحو وهو اسختلاص العلاقات من بين الاشياء التي ترد إلى الذهن ، فما الذي يجمع مثلا بين العجلة وقطعة النقود والقمر والشجرة؟ الاستدارة ، ولكن ماذا تقول عندما استطاع العلماء أن يكتشفوا سنن الكون ، فأرخميدس اكتشف قانون دفع السوائل ( دافعة أرخميدس ) ، وأينشتاين اكتشف النظرية النسبية ، ونيوتن اكتشف قانون الجاذبية ، وابن الهيثم اكتشف أسراراً في عالم البصريات ، وهكذا وعلى قدر مزج هذه الذكريات والخروج بنتائج جديدة تسمو شخصية الانسان ، إن ٢٧ حرفاً يستخرج منها آلاف الآلاف من الكلمات ، فما هي الأفكار والآراء التي يمكن استخراجها من مليارات المليارات من معلومات الذاكرة؟ حقاً انه شيء مدهش ، فما أتعس الانسان الذي يبلد ذهنه ويعطي لعقله إجازة مفتوحة ، أو يطلق لشهواته العنان( فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً ) سورة مريم

[ إن شخصية الإنسان هي مجموع لحظات الجهد الواعي ، وكما قال جون فايفر ( إننا نمثل في أية لحظة حاصل جميع ذكرياتنا وجميع الانطباعات التي تركت آثارها على أجهزتنا العصبية ) ].

ـ ٥ ـ

من ينظر إلى مكتبة عامة تضم آلاف الآلاف من الكتب على رفوف أنيقة ، وبين الحين والآخر تسحب بعض الكتب من بعض الرفوف لاستخراج كلمة أو جملة ثم يرجع الكتاب إلى مكانه ، وبين الحين والآخر ترد كتب جديدة ونشرات حديثة تضم إلى مجموعة الكتب الموجودة في هذه المكتبة ، من ينظر إلى هذه المكتبة ، يجد خليطاً عجيباً من شتى

١٨٢

المعلومات والارقام والإحصائيات والأسماء والأشياء ، وإذا تمكنت ـ أيها القارىء ـ من التنقل بين ممرات هذه المكتبة الضخمة الأنيقة من غرفة إلى أخرى ومن رف لآخر : فإنك سوف تصل في نهاية المطاف إلى قاعات كبيرة جداً وقد تراكمت فيها أكداس مخيفة من الكتب فوق بعضها البعض وقد علاها الغبار ، ولا تمتد لها يد الاستعمال والمطالعة.

إن ذاكرة الانسان هي أشبه ما تكون بهذه المكتبة ، فهناك بعض المعلومات التي تستعمل باستمرار ، وهناك المعلومات التي تضاف باستمرار ، وهناك أكداس هائلة من المعلومات قد لفها النسيان [ آفة العلم النسيان ـ حديث ـ ] وقد يتساءل الانسان : هل كل ما فعله الانسان أو سمعه او رآه محفوظ في هذه السجلات أو هو في عالم الفناء؟ هذا ايضاً سؤال بحث فيه العلماء وقد انتهوا إلى نتائج مذهلة في هذا الصدد ، فلا شيء يضيع( وكل شيء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) سورة الرعد ، ونروي في هذا الصدد هذه الحادثة : جرّبت طريقة التنويم المغناطيسي على بنّاء ماهر يشتغل في بناء الابنية ذات الهدسة الفنية الرفيعة ، ثم طرح عليه سؤال عن طوبة موجودة في جدار ما ، من بناء ما ، كان قد بناها في زمن ما ، فكان جوابه أن هذه الطوبة كانت قد جرقت في الأتون أكثر من اللازم ، وأنها تحوي في الزاوية السفلى منها حصاة أرجوانية وأنها تحوي في الزاوية اليمنى العليا نتوءّ يشابه الانخفاض الموجودة في الجدار ، هذا مع العلم بأنه كان قد بنى [٢٠٠٠] ألفي طوبة في ذلك اليوم ، ومنذ عشر سنوات ، وعندما يصل الإنسان إلى هذا الحد من التفكير تعتريه قشعريرة ، ويشعر بالبرودة تتمشى في مفاصله ، ويشعر أن كل شيء يقوم به أو يراه أو يسمعه هو موجودة في سجل لا يضيع( وإنّ عليكم لحافظين. كراما ً

١٨٣

كاتبين. يعلمون ما تفعلون ) [إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ ] ، [وقالوا يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ] ...

ـ ٦ ـ

تنمو الذاكرة مع نمو الانسان فهى تبقى لمدة لحظات عندما يكون الطفل ما بين الشهر الثالث والسنة الأولى من العمر ، وعندما يصل الطفل إلى نهاية السنة الاولى تبدأ الذاكرة في الاستقرار وتستمر لمدة اسبوعين ، وفي نهاية السنة الثانية تمتد لمدة بضعة أشهر ، وفي نهاية السنة الرابعة تمتد ما امتدت الحياة ، والذاكرة عنيدة على الزوال فهي لا تنتهي إلا بالموت وتكون تجربة الموت هي آخر التجارب التي يمر فيها الانسان [وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ].

ونقف قليلاً لنطرح السؤال التالي وهو : ما هي علاقة الذاكرة بالذكاء وهي يتفاوت الناس في ذاكرتهم؟ أما الذاكرة فهي القدرة على استيعاب المعلومات واسترجاعها. وأما الذكاء فهو القدرة الذهنية على الفهم والتحليل والربط والاستنباط والتخيل والابداع ، والحق يقال إن الذكاء شيء محير كما اننا عندما نطلق على فلان انه قوي الشخصية وآخر ضعيف الشخصية ، ان حكمنا هذا سريع ولكن تحليله يحتاج لمجلدات!!!

وأما تفاوت الناس في ذاكرتهم فهذا وارد ولكن أصدق ما يقال في هذا الباب إن جميع الناس على الاطلاق يمتلكون مقدرة متقاربة من الذكاء والذاكرة ، وقلة نادرة جداً من الناس هي التي تكون مزودة بملكات عقلية راقية ، وأقول حتى النقطة الاخيرة مشكوك فيها إلى

١٨٤

حد لان الرقي الذهني إنما يأتي من الجهد المبذول ، واستعمال هذا الجهاز الجبار الذي لا يعرف الكلل أو الملل ، إن الدماغ لا يعرف التعب جتى لو عمل ما يزيد على عشر ساعات متواصلة ، وإنما الذي يتعب هو البدن بالقعود بكيفية معينة!! ولذا فان العباقرة والفلاسفة وعظماء المفكرين إنما تكونت مواهبهم من استغلال هذه القدرات الدفينة ، وهذه الطاقات الكامنة.

ذكرنا فيما مضى ان كل خلية عصبية تتصل بما يقرب من خمسين خلية عصبية أخرى وأحياناً يصل هذا الأمر إلى ألف (١٠٠٠) خلية عصبية ومن هنا ندرك قيمة الممرات حيث تتشكل شبكة كثيفة مخيفة من الاتصالات وقد تصاب بالدوار فيما إذا بدأت تتصور عدد المرات التي يمكن أن تتشكل بعد هذه الاتصالات الكثيرة ، ان تعلم الكلمات والافكار والمهارات إنما يعني تشكل ممرات جديدة ، وسرعة إعادة ما تعلم إنما يعني أن الطريق معبد لمرور النبضات الكهربية عبر هذه الممرات العديدة ، والدهاليز المخيفة ، والتعرجات العجيبة. ولذا فإننا نقرر حقيقة أساسية عرضها القرآن أيضاً بشكل منير وهي إن في مقدور الانسان أن يصل إلى درجة هائلة من الرقي ، ولكن هذا إنما يتم ببذل الجهد ـ وإيجاد ممرات عصبية جديدة ، ومن مزيج ذكريات الانسان تحصل تفاعلات معقدة جداً ومن العقل الواعي المتدبر تستنبط علاقات جديدة ، وافكار باهرة ـ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمن المحسنين ) سورة العنكبوت.

ـ ٧ ـ

إن ما مر معنا عن أبحاث الذاكرة ليس إلا معلومات سطحية لم توصلنا إلى أعماق القضية ، وينطبق هذا الشيء على فهم كيف يعمل

١٨٥

العقل؟ وكيف يتم التفكير؟ وما هي الإرادة؟ وأين يكمن الوعي واللاوعي أو ما يسمى بالشعور واللاشعور؟ وكيف يحصل فهم المسموعات والمبصرات؟ وقلبها من صور إلى معاني؟ وكيف تستنبط الأفكار المجردة من خلال المحسوسات؟ وما هو الذكاء؟ وكيف يتم التخيل والابتكار؟ وكيف يحصل الاحساس الجمالي؟ وكيف يتم الاحساس الخلقي؟ وكيف تنمو الجرأة الأدبية؟ وكيف تتم الأحلام؟ وكيف تتحقق الأحلام التنبؤية للمستقبل؟ وما هي علاقة الأعضاء بالنفس ، وكيف يؤثر كل واحد على الآخر؟ إلى فيض لا ينتهي من الأسئلة التي لا تجد جواباً ، ولذا فإننا سوف نختم أبحاثنا عن الذاكرة بالمعلومات السطحية التي يلمسها الوعي مباشرة [يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ] سورة الروم.

ومن جملة هذه اللمسات السطحية السؤال التالي : هل بالإمكان تقوية الذاكرة وتنميتها؟

إن الشيء الذي يقرره الطب ، والذي تأكد منه علماء النفس هو أن هذا الشيء هو في مقدور الانسان ، ولكن ما هي الشروط التي تتدخل حتى تنمو الذاكرة؟

بين يدي الآن وبشكل مختصر (١٢) اثنا عشر عاملاً تتدخل في تنمية الذاكرة وتقويتها. ومن هذا الرقم نعرف مدى تعقيد الجملة العصبية ، ودقة تركيب الانسان ، فما هي هذه العوامل؟

١ ـ التقوى : أو ما نسميها بالنظافة النفسية الداخلية ، ولعل سائلاً يقول وما هو أثر التقوى في الحفظ أو الذاكرة؟ والجواب أن التقوى تحدث حالة نفسية عجيبة هي مزيج من الهدوء ، والاهتمام ، والخشوع ، والتقدير ، والتأمل ، والتدبر ، ووزن الأمور ، وهذا المزيج ينتج حافظة هائلة وعندما نتذكر بعض الحوادث عن العلماء المسلمين الأقدمين فإننا

١٨٦

نعرف كيف يتدخل هذا العامل في الحافظة أو الذاكرة. ونقتطف من هذه الحوادث الحادثتين التاليتين :

أ ـ حادثة الإمام البخاري صاحب كتاب الصحيح المشهور عندما قدم بغداد : أراد بعض طلاب الحديث اختبار ذاكرته فأعدوا له (١٠) عشرة طلاب ، وكل منهم قد حفظ (١٠) عشرة أحاديث بشكل مغلوط ، وصورة الغلط هو خلطم متون الأحاديث بأسانيدها(١) ، ولما حضر الإمام البخاري وروى له الطالب الأول الأحاديث العشرة الأولى المغلوطة ، وكلما روى له حديثاً يقول الإمام البخاري لم أسمع بهذا ، فأما العلماء فقالوا للنظر في أمر هذا الرجل ، وأما الجاهلون فقالوا إن الرجل لا يعرف شيئاً!! وهكذا سرد عشرة طلاب مائة حديث مغلوط ولما انتهوا قال الإمام البخاري للطالب الأول ذكرت الحديث الفلاني وروى له الحديث بمتنه ، وذكرت أنه عن فلان وروى له السند الذي رواه الطالب ، والحديث ليس كذلك بل هو عن فلان عن فلان وصحح له الحديث ، وهكذا حتى صحح الأحاديث العشرة بحيث نقل المتون إلى أسانيدها التي تلائمها ، واستمر في تصحيحه لكل طالب حتى انتهى من المائة حديث والعجيب في هذه القصة هو أولاً حفظه المائة حديث المغلوط لمجرد سماعه لها للمرة الاولى ، ثم تصحيحه الفذ من ذاكرته الجبارة ، ويكفي أن نعلم عن هذا الإمام أنه اختار أحاديثه الصحيحة وهي في حدود (٥٠٠٠) خمسة آلاف حديث من (١٠٠) ألف حديث ، ولم يكن يكتب الحديث في صحيحه إلا بعد صلاة استخارة وكان يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من

__________________

(١) معنى متن الحديث كلان الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وأما سلسلة الرجال الذين ينقلون الحديث فهو السند مثلاً [ انما الناس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ] هذا متن الحديث وعندما يقول الراوي حدثنا فلان عن فلان فهذا السند [ وعلى أساس من السند تقسم الأحاديث إلى أقسام عدة ].

١٨٧

عشرين مرة ليسجل في كراسه كلمة أو جملة او اسم عالم أو بعض ألفاظ حديث أو أشياء أخرى

ب ـ حادثة شمي الأئمة السرخسي من فقهاء الحنفية : سأل تلاميذه مرة كم كان يحفظ الإمام الشافعي؟ فأجابوه بأنه كان يحفظ (٣٠٠) كراس عن ظهر قلب فأجابهم : إن الإمام الشافعي يحفظ زكاة ما أحفظ أنا اي (١٢٠٠٠) كراس وكتابه المبسوط في الفقه الحنفي يتألف من ٣٠ جزء ويقع في آلاف الصفحات وقد أملاه على تلاميذه وهو مسجون في بئر لأنه رفض أن يعطي فتوى باطلة للحاكم في ذلك الزمان!!

وليس معنى الحوادث التي ذكرناها انها تعتمد فقط على عامل التقوى ، بل تتدخل فيها عوامل أخرى بالطبع ، ولكننا أردنا أن نشير إلى دور هذا العامل الذي كان يحتل مركزاص مهماً في نفسية علمائنا الاقدمين ، وصدق الشاعر حين قال :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فـأرشـدنـي إلى تـرك المعاصي

وأنـبـأني بـأن الـعـلم نـور

ونور الله لا يهدي لعاصي ( مذنب )

وتنسب هذه الابيات إلى الإمام الشافعي.

٢ ـ ومن جملة العوامل التي تتدخل في تنمية الذاكرة التكرار ، فترداد قطعة من الشعر أو من النثر (٢٠) مرة يثبتها في الذهن أكثر ما لو كررت (١٠) مرات ، هذا إذا تدخل عنصر الترداد فقط

٣ ـ الاهتمام : كلما اهتم الانسان بالشيء ، وتعلق مصيره به حفظه أكثر والعكس بالعكس.

٤ ـ الارتباط بالاحداث : إن ارتباط حادثة بخوف أو فرح أو حزن أو معركة ترسخ الذكريات أكثر. وهذه طريقة القرآن الكريم لانه كان

١٨٨

يتنزل مع الاحداث ( سورة الانفال : غزوة بدر ، قسم من سورة آل عمران : غزوة أًُحد ، سورة الحشر : غزوة بني النضير ، قسم من سورة النور : حادثة الافك وهكذا ).

٥ ـ فهم الكلام : كلما ازداد فهم القطعة كانت أسهل في الحفظ وكلما تعقدت تعسّر حفظها.

٦ ـ الجرس الموسيقي : إن صيغة الكلام الجميلة تساعد في الحفظ ، ولذا كان العلماء ينظمون العلوم بقصائد شعرية ، وقبل هذا الجرس القرآني فهو جرس موسيقي يعين على الحفظ.

٧ ـ مصدر الكلام : إن سماع الكلام من قائد غير سماع الكلام من رجل عادي ، ومعرفة ان الكلام وحي من الله يعطي سلطاناً على القلوب غير كلام البشر.

٨ ـ الحب والكره ، والخوف والرجاء : يتدخل العامل النفسي فحب البحث العلمي جعل الكثيرين يحفظون المعلومات الكثيرة ، والخوف من الرسوب جعل الطلاب يحفظون برنامج دراستهم!!

٩ ـ السلامة الجسمية : الجوع يحرم الإنسان من تركيز فكره ، وبالتالي جودة الحفظ ، والاضطراب العام يحرم الانسان من الانكباب على الحفظ ، وكذا المرض ، والضعف ، والوهن.

١٠ ـ سلامة الدماغ : ان الذاكرة تعتمد بشكل رئيسي على سلامة الخلايا العصبية ، وكلما تأثرت خلايا الجملة العصبية بشيء ما ، سبب هذا اختلال الذاكرة ، كالعته والجنون ، والتهاب الدماغ ، والضعف العقلي ، وتنكس الخلايا العصبية.

١١ ـ السن : في الطفولة تنطبع أحداث كثيرة ، وتترقى الذاكرة

١٨٩

حق تصبح أشد ما يكون في السن ما بين ٢٠ ـ ٣٠ وتبقى كما هي حتى سن متأخرة ما لم يحدث الخرف العقلي

١٢ ـ الوقت : الصباح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب : أوقات اعتدال للحفظ والمذاكرة ، والربيع فصل طيب للمذاكرة ، وهدوء الليل وقت جميل للتأمل وهكذا( فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ) سورة طه.

وهكذا نكون قد انتهينا من أبحاث الجملة العصبية المركزية بعد أن ألقينا قليلاً من الضوء على بعض أسرارها المحيرة ، والله المستعان في بحث الامور القادمة.

١٩٠

حول بعض الحواس

يقول الخلاق العليم [ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون. وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ] سورة فصلت.

نصت الآيات السابقة على ثلاث حواس عظيمة ستقوم بدور الشاهد في المحكمة وذلك حين يعرض الإنسان للحساب بين يدي رب العالمين ، ونظراً لعظمة تركيب هذه الحواس ذكرها الله تعالى فلنحاول أن نتبين أسرار هذه الحواس :

ـ حاسة السمع ـ

تعتبر حاسة السمع معقدة جداً ، والمعلومات الموجودة بين أيدينا الآن تتناول شروحاً خفيفة في كيفية انتقال الصوت لا أكثر ، وأما كيف يحصل فهم الكلمات التي تسمع؟ وكيف يحصل تمييز الأصوات العديدة جداً عن

١٩١

بعضها البعض؟ وأين تقع خزائن الذاكرة الذاكرة للمسموعات؟ إلى جانب أسئلة كثيرة لا تجد جواباً عليها. ولا أزال أذكر أحد اساتذة الطب وهو يشرح لنا كيف يتم انتقال الصوت وحصول السمع ، قال : إننا نعرف كيف يتم هذا الأمر ، أما كيف تدركه الخلايا العصبية وتفهمة فلا نتدخل نحن في هذا البحث ، وهكذا يخونهم ذهنهم العلمي عندما يريدون بحث الأمور المعقدة التي يجب أن تطرق ولا يتهرب منها!!.

الاذن الخارجية والوسطى

ـ ١ ـ

يقسم الأطباء الأذن إلى ثلاثة أقسام من باب التبسيط ، وهي : الاذن الخارجية ، والوسطى ، والداخلية أو الباطنة وهي أخطر الأقسام الثلاثة ، وأشدها حيوية وأهمية ، فأما الأذن الخارجية فهي صيوان الأذن الخارجي مع الممر الذي يوصل إلى غشاء الطبل. وأما الأذن الوسطى ففيها ثلاث عظيمات تشبه أدوات الحداد ( المطرقة والسندان ) وركابة السرج ( الركابة ) وعضلتان ( المطرقة والركابة ) ، ويوجد نفق يوصل ما بين الأذن الوسطى والبلعوم في الفم هو نفير ( اوستاش ) ، والأذن الباطنة فيها ما يشبه الحلزون ( القوقعة ) ، وثلاثة إطارات غير كاملة ( الأقنية نصف الدائرية أو الأقنية الهلالية ) وهذه الأقسام متصلة ببعضها ومتداخلة بحيث يتوه الذي يبحث فيها ولذلك سميت بالتيه!! وفي داخل هذه الأقنية العظمية ، أقنية عشائية تشبه الكيس ( الكييس ) ، أو القربة التي تمتلىء بالماء ( القريبة ) ، وداخل الحلزون الذي يدور دورتين ونصف يوجد عضو كورتي ، وهذا النفق الدوار أشبه ما يكون بتلك الدهاليز التي يدور فيها المرء ويشعر أنه في متاهة فهي تقسم إلى ثلاثة أنفاق تمشي سوية في الحقيقة.

١٩٢

ـ ٢ ـ

تعتبر الأذن الباطنة المستقبل للأصوات ، والأذن الوسطى والخارجية الجهاز الناقل للاصوات ، وأما كيف يتم الإيصال والاستقبال ، فقد كشف الطب اللثام عن أسراره يعتبر انتقال الصوت نتيجة اهتزاز جزيئات المادة ، ولذا فإن الصوت لا ينتقل ما لم يكن هناك وسط مادي ( هواء ، سائل ، غازات ، أجسام صلبة ) ، الصوت له سرعة معينة ثابتة هي [٣٤٠] متر في الثانية الواحدة ، ولذا فإن تفريغ وعاء مغلق من الهواء يضعف من انتقال الصوت ، وإعادة ملئه بالهواء يعيد قوة الصوت وسماعه مرة أخرى ، ويختلف حسب اختلاف كثافة المادة فهو في الماء أسرع من الهواء ، حيث تبلغ سرعته [ ١٤٣٥ متر في الثانية ] في الدرجة ٨ أي أكبر من سرعة انتقال الصوت في الهواء بأربع مرات ، وهذا الرقم يتضخم أكثر في الانتقال في الأوساط الصلبة ، فوضع الاذن على سكة القطار يجعلنا نسمع صوت قدومه من بعد عدة كيلومترات(١) .

ونظراً لأن نقل الصوت يعتمد على الأذن الخارجية ، والأذن الوسطى ، ولذلك فإن تصميم هذا الجهاز يجب أن يتناسق بمنتهى الدقة مع خاصية النقل ، ولذلك فإننا نرى الاذن الخارجية تتألف من مادة غضروفية وهي من ناحية المتانة وسط ما بين اللحم والعظم ، وفيها تعاريج والتواءات لجمع الصوت ، فهي كالصيوان المستقبل ، ومن الصيوان ينتقل الصوت عبر ممر يبلغ طوله ٥ و ٢ سم ، ومقوس إلى الاسفل ، حيث ينتهي بغشاء مرن جداً

__________________

(١) نظراً لأن انتقال الصوت يتم عن طريق اهتزاز جزئيات المادة ، ولذلك فهو يكون أكثر سرعة كلما تكاثفت جزئيات المادة ، وهكذا فهو أسرع في الماء من الهواء وأسرع في المعادن من الماء والهواء ، كما أن ارتفاع درجة الحرارة يزيد من زيادة سرعته ، فلقد وجد أن الصوت تزداد سرعته بمعدل ٦٠ سم | ثانية مع ارتفاع درجة واحدة مئوية.

١٩٣

هو غشاء الطبل هذا المجرى ينقل الصوت بأمانة كما يحتوي على الشعر في القسم الأمامي لاصطياد ذرات الغبار ، وغدد صملاخية تفرز مادة الصملاخ لتقوم بنفس الدرر.

إن انحناء المجرى مهم في موضوع الحماية إذا دخل فيه شيء لأن الطريق المستقيم سهل ، أما المتعرج فانه يجعل الإصابة لا تأتي مباشرة على غشاء الطبل ، وبالتالي الأذن الوسطى وعيمات السمع. كما أن نفس تكوين الأذن من الخارج مصممة بشكل يحمي فوهة المجرى ، فهناك قطعة لحمية صغيرة تظلل فوهة المجرى وهي ما تسمى بالحنطة ومقابلها على صيوان الاذن توجد قطعة أخرى لحماية تسمى بمقابل الحنطة ، وهكذا تتوفر حماية المدخل بالتعرج والشعر والغدد الصملاخية والقطع اللحمية في فوهة المجرى

إن اهتزاز غشاء الطبل يعني هز عظيمات السمع الثلاث لأن كل عظم متعلق بالآخر ومتمفصل معه بشكل فني ، والعظم الأول الذي يتصل بغشاء الطبل هو عظم المطرقة ، والعظم الذي يتصل بالأذن الباطنة هو عظم الركابة ، وبينهما عظم السندان ، ومجموع العظيمات الثلاث تبلغ في وزنها (٥٥) ملغرام فقط ، ولذا فهي خفيفة وتتجاوب مع الاهتزاز ، وأما التمفصل بين العظيمات فهو في منتهى الروعة لأن أدنى صوت ، أو حفيف أو قرقعة ، أو همس ، أو كلمة معناه اهتزاز غشاء الطبل واهتزاز العظيمات التي تنقل الاهتزاز بدورها إلى الأذن الباطنة.

والعجيب أن أوساط الأذن تناسب نقل الصوت تماماً وهي الهواء في المجرى ، والأجسام الصلبة في الأذن الوسطى المتمثلة بعظيمات السمع ، والأجسام الصلبة والسوائل في داخل الأذن الباطنة المتمثلة في الرمال السمعية ، والبلغم الداخلي والخارجي ، تقوم عظيمات السمع بتسريع مرور

١٩٤

الصوت إلى الأذن الباطنه ، كما أنها تضخم الصوت أيضاً ، فسطح غشاء الطبل يبلغ (٢٠) ضعفاً لسطح قاعدة عظم الركابة ، ولقد وجد أن الصوت يزداد عشرة أضعاف حينما يصل إلى قاعدة الركابة ، واهتزاز عظم الركابة يمثل أعجب مفصل يمكن تصوره فهو يمكن أن يهتز بشكل مختلف من حين لآخر ، خاصة إذا قارنا هذا المفصل بمفصل الركبة مثلاً الذي يتحرك باتجاه واحد ، لا أكثر مع شيء من التدوير ، ولكن المفصل هنا يتحرك وفقاً للصوت أو الاهتزاز الذي يصل إليه من غشاء الطبل ، وقاعدة عظم الركابة تستند إلى نافذة بيضية الشكل ، مستورة بغشاء ، وعندما تهتز قاعدة عظم الركابة فانها تهز معها هذا الغشاء ، وهذا بدوره يخض اللنف الداخلي المحيطي بشكل يتواق مع طبيعة لحن الصوت وشدته ، ولكن ماذا يحدث فيما إذا كانت الأصوات القادمة شديدة؟ لقد وجد أن هذا العظم الصغير يحور اتجاه تمفصله بحيث يبقى محافظاً على نقل الصوت إلى الأذن الباطنة على شكل يقيها من الأذى إلى حد ما ، وأما العضلتان ، أي عضلة المطرقة وعضلة الركابة ، فإن الأولى تسعي لإدخال عظم الركابة اكثر إلى داخل النافذة البيضية ، وعضلة الركابة تفعل بالعكس ، وهكذا يحدث الاتزان بتقلص العضلتين معاً. وحسب الحالة والصوت يشتد تقلص إحداهما على الأخرى ، وإذا اشتد الصوت أكثر فإن كلاً من العضلتين يخفف من حدة التأثير على الأذن الباطنة بقي علينا أن نعرف في الأذن الوسطى عمل نفير أوستاش ، فهذا النفق الذي يمتد ما بين البلعوم في عمق الفم وما بين الأذن الوسطى ، يقوم بتعديل الضغط بين داخل الأذن الوسطى وخارجها ، خاصة وغشاء الطبل يسد الفوهة سداً محكماً ، ولعلنا نشعر بدور هذا النفير في الرشح والتعرض للبرد ، وأحياناً أثناء ركوب السيارة والسير لمدة طويلة ، فاننا نشعر أن السمع تناقص عندنا ، وبشيء من الألم الخفيف

١٩٥

ولكن ما أن تحدث عملية البلع أو التثاؤب حتى نشعر كأن الأذن قد فتحت وبدأنا نسمع بشكل طبيعي ، إن السبب في هذا يرجع إلى أن عملية البلع تقلص عضلة خاصة تفتح بواسطتها فوهة النفير ويدخل الهواء ويتعادل الضغط ويرجع كل شيء إلى مجراه ، وإذا لم يتم هذا الأمر فقد يؤدي أحياناً إلى تمزق غشاء الطبل ، والنفير ايضاً يصرف المخاط والسوائل التي قد تتجمع في الأذن الوسطى إلى البلعوم ، كما يمثل فتحة جيدة لإتقان السمع كما في الآلة الموسيقية ، فالصوت يجود بواسطة الثقوب الموجودة فيها ، ولعل هذا أيضاً هو السر في أن الذين يرمون بالمدافع يبقون أفواههم مفتوحة أثناء انطلاق القذيفة ، وحصول الصوت المرتفع ، حيث يتأمن اتزان الضغط إلى حد ما بين خارج الأذن الوسطى وداخلها!! فيا أيها القارىء تأمل وانظر ، ألا يسوقك هذا إلى المزيد من معرفة الله ، والمزيد من الالتجاء اليه( ففروا إلى الله إنني لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إنني لكم منه نذير مبين ) سورة الذاريات.

ـ ٣ ـ

إن الصوت يمثل حركة اهتزازية كما مر في الأوساط المادية ، وهذا الاهتزاز يتراوح بدرجات مختلفة ، والأذن الطبيعية تسمع الصوت فيما إذا كان مقدار اهتزاز الصوت يتراوح ما بين ( ١٦ ـ ٢٠٠٠٠ ) هزة في الثانية ، وإذا زاد الصوت عن هذا المقدار لم تعد تسمع شيئاً ، ولكن يحدث شعور مزعج غامض قد يصل إلى درجة إيذاء الأذن ، حتى إن هذه الطريقة تستعمل في مثل السمك حيث يرفع التواتر إلى درجة كبيرة كذلك فإن الأذن تسمع هذه الاهتزازات ولكن على شرط أن تكون شدتها معتدلة ، ولقد قدرت هذه للاذن الطبيعية في حدود (١٢٠) ديسبل

١٩٦

ـ واحدة من وحدات الشدة السمعية الصوتية ـ وتبلغ حساسية الأذن لسماع الأصوات درجة كبيرة بحيث أنها تفرق ما بين صوتين فيما إذا زاد أو نقص عدد التواترات ثلاثة فقط ، وهكذا يمكن للأذن فيما إذا بقيت الشدة ثابتة أن تميز ما بين (١٥٠٠) لحن مختلف ، وأن تعرف وتميز فيما إذا بقي اللحن أو عدد الاهتزازات ثابتاً ما بين (٣٢٥) صوتاً مختلفاً في الشدة ، أو أن تميز ما بين (٣٤) الف لحن مختلف في الشدة والتواتر أو الاهتزاز ، وهو رقم مدهش فعلاً ، وهكذا يميز الانسان ما بين صوت الرجل والمرأة ، والطفل ، حيث يكون صوت الرجل غليظاً ، وأما صوت المرأة والطفل فهو حاد ، كما يميز ما بين صوت امرأة وامرأة ، وصوت طفل وطفل ، فيما إذا تغير لحن الصوت قليلاً ، بل حتى ليقال إن كل إنسان في هذا الوجود له صوته الخاص به ، وإن المتأمل ليأخذه العجب في قدرة الأذن على التقاط كافة الأصوات والتمييز ما بين صوت الإنسان وتغريد البلابل ، وحفيف الاشجار ، وخرير المياه ، وزقزقة العصافير ، وخوار البقر ، وثغاء الغنام ، ونهيق الحمير!! ، وصلصلة السلاح ، وفرقعه المدافع ، وفرقعة الباب ، وصرير الاقلام.

وبواسطة السمع بصغي الطبيب إلى أصوات القلب ، والتنفس ويعرف المرض الذي ينتاب القلب ، فهذا الصوت هو امتداد دقة القلب ، أو تضاعف دقاب القلب ، أو أصوات كالنفخ وهي علامة تدل غالباً على المرض ، والصدر في الخراخر فهي إما كصوت فقاعاب الارجيلة ، أو حتى غطيط النماء ( الخراخر الفطاطة ) ، أو مثل الصفير أو مثل الصوت القادم من كهف أو الداخل في جرة ، أو صوتاً كالوزيز وهكذا

وبواسطة السمع يتفاهم البشر على بعضهم ماذا يريدون وهكذا يفهم الولد ماذا يقول أبواه تدريجياً ويتعلم النطق ولولا النطق لكان حال الانسان كالبهيمة

١٩٧

العجماء ، بل حتى البهيمة لها لغتها الخاصة في التفاهم(١) : وهكذا يتعلم الإنسان النطق ويرتقي في سلم المعرفة ويتفاهم البشر ، وتتفرع اللغات وتتباين اللهجات وتتنوع الشعوب.

الاذن الباطنة :

ـ ٤ ـ

قبل أن ندخل إلى الاذن الباطنة ، هناك بعض الأفكار الرئيسية في البحث : فالاذن الباطنة لها اختصاصان : الأول للسمع ، والثاني للتوازن ، وهي مكونة من دهاليز وممرات معقدة ، ولذا سميت بالتية.

يتكوّن جدار الاذن الباطنة الذي يشرف على الاذن الوسطى من نافذتين علوية هي النافذة البيضية وسفلية هي النافذة المدورة ، ونتساءل ماذا تفعل كل من النافذتين؟ إن هاتين النافذتين تتصلان بعالم داخلي خاص ، ولنحاول الآن أن نعبر النافذة البيضية مع هزات الصوت إلى الداخل لنتعرف إلى العناصر الخفية التي تختبيء داخل هذه الصخرة(٢) . قاعة واسعة يسبح فيها سائل هو البلغم المحيطي ، لنتجه إلى اليمين فماذا سنرى ، إننا كالغواصين الذين يبحثون في آثار سفينة غرقي في قاع البحر وقد دخلوا إلى غرفها الداخلية ، أو كأننا في قاع البحر ندخل بعض الكهوف الصخرية السحرية ، إن الشيء الذي يواجهنا في اليمين هو

__________________

(١)( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) سورة الأنعام.( وورث سليمان داوود وقال يا ايها الناس علمنا منطق الطير وأويتنا من كل شيء ) سورة النمل.( وقالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) سورة النمل.

(٢) إن عناصر السمع ترقد في العظم الصدغي ، وهذا العظم بدوره يقسم إلى أقسام منه قسم يدعى الصخرة وهو ذو تركيب معقد ، وداخل هذا القسم تحتقر عناصر الاذن الباطنة وهي الدهليز والحلزون والاقنية نصف الدائرية والقريبة والكييس.

١٩٨

الحلزون وهو نفق يدور دورتين ونصف ، لنحاول دخول النفق فماذا سنرى؟ إن هذا النفق ليس مدوراً كما كنا نتوقع ولكنه مقسوم بصفيحة من وسطه ، وهكذا فإن فيه طابقاً علوياً وطابقاً سفليا ، لنحاول دخول الطابق العلوي بعد أن عبرنا منطقة الدهليز ، إن النفق مظلم ونحن نتحسس الجدران حتى لا نصطدم بشيء لا نعرفه ، وبينما نحن نتحسس هذا الطابق الدوار ، إذا بنا نصطدم في الايمن بحاجز يرتفع بشكل مائل إلى الاعلى حتى يصل إلى جدار هذا النفق ، ما هذا الجدار؟ انه غشاء ( رايسنر ) وما باله؟ لا تتعجل ان هذا الغشاء يقسم أيضاً الطابق العلوي الى قسمين : قسم مثلث في الايمن حيث توجد قناة خاصة تحتوي على عضو مهم هو عضو كورتي ، والقسم الباقي من الطابق العلوي ويسمى بالزاحف الدهليزي لانه يزحف من الدهليز الى قمة الحلزون ، وأما الطابق السفلي فيسمى بالزاحف الطبلي ، لانه يزحف إلى النافذه المدوره التي تتصل بالاذن الوسطى وبالتالي غشاء الطبل. إن الزاحف الدهليزي العلوي والزاحف الطبلي السفلي يجتويان اللنف الخارجي ويتصلان ببعضهما في القمة ، وهكذا فاننا ندور في الحلزون بعد أن دخلنا الزاحف الدهليزي العلوي لنصل إلى قمة الحلزون. ولندخل الطابق السفلي وهكذا نمر في أسفل المكان الذي كنا نمر فيه قبل قليل ، واننا لننظر الى سقف الطابق السفلي ونسمع قرع الأصوات في الطابق الذي يعلونا ، إن كلا من الطابقين يشكل نصف دائرة حيث يكون سقف الطابق السفلي هو أرض الطابق العلوي ، وهكذا يتصل كل من الطابقين ببعضهما ولكن إلى اين سنصل في هذه الجولة الدوارة ، إننا نكاد نشعر بالدوار ونحن نفتل في هذا النفق السحري واذا بنا نصل مرة أخرى الى الجدار الذي بدأنا في الدخول منه وهو الجدار المشرف على الاذن الوسطى ، ولكننا في هذه المرة نصل إلى النافذة المدورة ، وهكذا فاننا بدأننا الرحلة من النافذة البيضية ووصلنا في ختامها الى النافذة المدورة. لنعود من جديد إلى

١٩٩

الدهليز الذي دخلنا منه حتى نصل في طريقنا إلى قمة الحلزون وهاك ندخل الطابق العلوي مرة أخرى ، ان المنطقة المثلثية اليمنى تحتوي عضواً حساساً جداً ، هو عضو كورتي ، لنحاول أن نقترب من غشاء رايسنر ولنضغطه قليلاً ، انه لين جداً ، ولكن ماذا حدث يا ترى بعد أ ، ضغطنا هذا الغشاء بمثل هذا الهدوء ، إنه يحتوي بلغماً ( سائل لنفاوي ) داخلياً ، وهو إذا تحرك فإنه يؤثر على رمال موضوعة على بساط خاص ومن هذا البساط تبرز أهداب صغيره وكأنها الحشائش الجميلة ، أيها القارىء لا تتصور أنني اكتب لك موضوعاً إنشائياً ، أو أنني أصف ما يدور في الخيال ، لان هذا الشيء الذي أقدمه هو أيضاً أقل مما هو عليه جهاز السمع المعقد السحري ، ولكأننا في قاع نهر جميل أو قاع بحيرة جميلة حيث تنبت الاعشاب بين الرمال الصغيره ، إن هذه الرمال هي الرمال السمعية وعند اضطراب السائل الداخلي تتحرك الرمال والاهداب المتصلة من تحت البساط بخلايا خاصة بالسمع وهي متوضعة بكيفية خاصة بحيث تشكل من اجتماعها نفقا صغيراً يسمى بنفق كورتي! لنحبس أنفاسنا قليلاً فنحن الآن في عالم عجيب : أنفاق ضمن أنفاق ، وسراديب داخل سراديب ، ودهاليز في دهاليز!! إن هذا العضو المسمى بعضو كورتي(١) يضم ما يقرب ( ٠٠٠ ,١٠٠ ) خلية سمعية ، حيث تتصل بالخلايا ومن بين العظم الكثيف الياف عصبية في منتهى الرقة وتجتمع لتشكل العصب السمعي الذي يصل إلى عقدة سكارباً ثم الحدبة الحلقية ثم الفص الصدغي من فصوص الدماغ لان اختصاص هذا الفص هو السمع ، ولنرتاح قليلاً من هذا التيه!! حتى نتابع رحلة الاستطلاع

__________________

(١) تمر معنا اسماء علمية كثيرة ترمز لاسماء العلماء الذين اكتشفوا هذا العضو أو الغشاء أو الجهاز تخليداً لتعبه وجهده الذي بذله حتى اكتشف هذا الشيء ، ومنهم العالم كورتي.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274