الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172571 / تحميل: 9060
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي اُنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، والصلاة على من جعله شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيراً، وعلى آله الّذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرّهم تطهيراً.

( مقدمه)

نعرِّف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار.

التفسير (وهو بيان معاني الآيات القرآنيّة والكشف عن مقاصدها ومداليلها) من أقدم الاشتغالات العلميّة الّتي تعهد من المسلمين، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمّى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى وتقدّس :( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) الآية البقرة - ١٥١.

وقد كانت الطبقة الاُولى من مفسّري المسلمين جماعة من الصحابة (والمراد بهم غير عليّ عليه السلام، فإنّ له وللأئمّة من ولده نبأ آخر سنتعرّض له) كابن عبّاس وعبدالله بن عُمَر واُبي وغيرهم اعتنوا بهذا الشأن، وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط، من الآيت بجهاتها الادبيّة وشأن النزول وقليلٍ من الاستدلال بآية على آية وكذلك قليلٌ من التفسير بالروايات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القصص ومعارف المبدء والمعاد وغيرها.

وعلى هذا الوصف جرى الحال بين المفسّرين من التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبيّ والسديّ وغيرهم في القرنين الأوّلين من الهجرة، فإنّهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسّري الصحابة شيئاً غير أنّهم زادوا من التفسير بالروايات، (وبينها روايات دسّها اليهود أو غيرهم)، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى

٢

الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الأرض والبحار وإرم شدّاد وعثرات الأنبياء و تحريف الكتاب واشياء اُخَر من هذا النوع، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث.

ثم استوجب شيوع البحث الكلاميّ بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من اُمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الاديان والمذاهب المتفرّقة من جهة.

ونقل فلسفة يونان إلى العربيّة في السلطنة الاُمويّة أواخر القرن الأوّل من الهجرة، ثمّ في عهد العبّاسيّين، وانتشار البحث العقليّ الفلسفيّ بين الباحثين من المسلمين من جهة اُخرى ثانية.

وظهور التصوّف مقارناً لانتشار البحث الفلسفيّ وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينيّة من طريق المجاهدة والرياضة النفسانيّة دون البحث اللفظيّ والعقليّ من جهة اُخرى ثالثة.

بقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبّد المحض بالظواهر الدينيّة من غير بحث إلّا عن اللفظ بجهاتها الادبيّة من جهة اُخرى رابعة.

أن اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في لمذاهب ما عمل، ولم يبقى بينهم جامع في الرأي والنظر إلّا لفظ لا إله إلّا الله ومحمّدٌ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختلفوا في معنى الأسماء والصفات والأفعال والسماوات وما فيها الأرض وما عليها والقضاء والقدر والجبر والتفويض والثواب والعقاب وفي الموت وفي البرزخ والبعث والجنّة والنار، وبالجملة في جميع ما تمسّه الحقائق والمعارف الدينيّة ولو بعض المسّ، فتفرّقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، وكلّ يَتحفّظُ على متن ما اتّخذه من المذهب والطريقة.

فأمّا المحدّثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وجدّوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شئ ولم يظهر المعنى ظهوراً لايحتاج إلى البحث أخذاً بقوله تعالى:( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) الآية آل عمران - ٧. وقد أخطاؤا في ذلك فإنّ الله سبحانه

٣

لم يُبطل حجّة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيّته إنّما تثبت به ! ولم يجعل حجيّة في أقوال الصحابة والتابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدعُ إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب إلّا إلى التدبّر في آياتة، فرفع به أيّ اختلاف يترائى منها، وجعله هدىً و نوراً و تبياناً لكلّشئ، فما بال النور يستنير بنور غيره ! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه ! وكيف يتبيّن ما هو تبيان كلّشئ بشئٍ دون نفسه !.

وأمّا المتكلّمون فقد دعاهم الأقوال المذهبيّة على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف، على حسب ما يجّوزه قول المذهب.

واختيار المذاهب الخاصّة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وإن كان معلولا لاختلاف الاُنظار العلميّة أو لشئٍ آخر كالتقاليد والعصبيّات القوميّة، وليس هيهنا محلّ الاشتغال بذلك، إلّا أنّ هذا الطريق من البحث أحرى به أن يُسمّى تطبيقاً لا تفسيراً.

ففرقٌ بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن ؟ أو يقول: ما ذا يجب ان نحمل عليه الآية ؟ فانّ القول الأوّل يوجب ان ينسى كلّ أمر نظريّ عند البحث، وأن يتّكى على ما ليس بنظريّ ، والثاني يوجب وضع النّظريّات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم أنّ هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثاً عن معناه في نفسه.

وأمّا الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلّمين من المفسّرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلّمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعمّ أعني: الرياضيّات والطبيعيّات والآلهيّات والحكمة العمليّة، وخاصّة المشّائين، وقد تأولّوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السموات والأرض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتّى أنّهم ارتكبوا التأويل في الآيات الّتي لا تلائم الفرضيّات والاُصول الموضوعة الّتى نجدها في العلم الطبيعيّ: من نظام الأفلاك الكلّية والجزئية وترتيب العناصر والأحكام الفلكيّة والعنصريّة إلى غير ذلك، مع أنّهم

٤

نصّوا على أنّ هذه الأنظار مبتنية على اُصول موضوعة لا بيّنة ولا مبيّنة.

وأما المتصوّفة، فإنّهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسيّة دون عالم الظاهر وآياته الآفاقيّة اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعريّة والإستدلال من كلّ شئ على كلّ شئ، حتّى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل وردّ الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانيّة والظلمانيّة إلى غير ذلك.

ومن الواضح أنّ القرآن لم ينزل هدى للمتصوّفة خاصّة، ولا أنّ المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوفاق والحروف، ولا أنّ معارفه مبنيّةٌ على أساس حساب الجُمل الّذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانيّة وغيرها إلى العربيّة.

نعم قد وردت روايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّه أهل البيتعليهم‌السلام كقولهم: انّ للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة ابطن أو إلى سبعين بطناً الحديث.

لكنّهمعليهم‌السلام إعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبيّن في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: أنّ التأويل الّذي يراد به المعنى المقصود الّذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام، وأنّ الّذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم.

وقد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أنّ قوماً من منتحلي الإسلام في أثر توغّلهم في العلوم الطبيعيّة وما يشابهها المبتنية على الحسّ والتجربة، والاجتماعيّة المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسّيين من فلاسفة الاُروبة سابقاً، أو إلى مذهب أصالة العمل (لا قيمة للادراكات الاترتب العمل عليها بمقدارٍ يعيّنه الحاجة الحيويّة بحكم الجبر).

فذكروا: أنّ المعارف الدينيّة لا يمكن أن تخالف الطريق الّذي تصدّقه العلوم وهو أن: (لا أصالة في الوجود إلّا للمادّة وخواصّها المحسوسة) فما كان الدين يخبر عن وجوده ممّا يكذّب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤلّ تأويلاً.

٥

وما يُخبر عن وجوده ممّا لا تتعرّض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجّه بالقوانين المادّيّة.

وما يتّكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوّة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنّما هي اُمور روحيّة، والروح ماديّة ونوع من الخواصّ الماديّة، والتشريع نبوغ خاصّ اجتماعي يُبني قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.

ذكروا: أنّ الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلّا ما وافق الكتاب، وأمّا الكتاب فلا يجوز أن يُبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الّذي أبطله العلم بالبناء على الحسّ والتجربة، بل الواجب أن يستقلّ بما يعطيه القرآن من التفسير إلّا ما بيّنه العلم.

هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتّباع طريق الحسّ والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا هيهنا في اُصولهم العلميّة والفلسفيّة الّتي اتّخذوها اصولاً وبنوا عليها ما بنوا.

وإنّما الكلام في أنّ ما اُوردوه على مسالك السلف من المفسّرين (أنّ ذلك تطبيق وليس بتفسير) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرّحوا أنّه حقّ التفسير الّذي يفسّر به القرآن بالقرآن.

ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئاً، فما بالهم يأخذون الأنظار العلميّة مسلّمة لا يجوز التعدّي عنها ؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف اصلاحاً.

وأنت بالتأمّل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: انّ الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجهُ الابحاث العلميّة أو الفلسفيّة من خارج على مداليل الآيات، فتبدّل به التفسير تطبيقاً وسمّي به التطبيق تفسيراً، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازاتٍ، وتنزيل عدّة من الآيات تأويلات.

ولازم ذلك (كما أومأنا إليه في أوائل الكلام) أن يكون القرآن الّذي يعرّف

٦

نفسه (بأنّه هدىً للعالمين ونور مبين وتبيان لكلّ شئ) مهديّاً إليه بغيره ومستنيراً بغيره ومبيّناً بغيره، فما هذا الغير ! وما شأنه ! وبماذا يهدي إليه ! وما هو المرجع والملجاُ إذا اختلف فيه ! وقد اختلف واشتدّ الخلاف.

وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم (مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربيّ) الكلمات أو الآيات، فإنّما هو كلام عربيّ مبين لا يتوّقف في فهمه عربيّ ولا غيره ممّن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربيّ.

وليس بين آيات القرآن (وهي بضع آلاف آية) آيةٌ واحدة ذات اغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحيّر الذهن في فهم معناها، وكيف ! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلوّ الكلام عن الاغلاق والتعقيد، حتّى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنّما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.

وإنّما الاختلاف كلّ الاختلاف في المصداق الّذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظيّة من مفردها ومركّبها، وفي المدلول التصوّريّ والتصديقيّ.

توضيحه: أنّ الاُنس والعادة (كما قيل) يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادّيّة أو ما يتعلّق بالمادّة فإنّ المادّة هي الّتي تتقلّب فيها اُبداننا وقوانا المتعلّقة بها ما دمنا في الحيوة الدنيويّة، فإذا سمعنا ألفاظ الحيوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والأمر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادّيّة لمفاهيمها.

وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسيّ والملك واجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى افهامنا مصاديقها الطبيعيّة.

وإذا سمعنا: أنّ الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيّدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.

وإذا سمعنا نحو قوله:( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) الآية وقوله:( لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا ) الآية

٧

وقوله:( وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ ) الآية وقوله:( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) الآية قيدّنا معنى الحضو بالمكان.

وإذا سمعنا نحو قوله:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) الآية. أو قوله:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ) الآية أو قوله:( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) الآية فهمنا: أنّ الجميع سنخ واحد من الارادة، لما أنّ الأمر على ذلك فيما عندنا، وعلى هذا القياس.

وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، ومن حقّنا ذلك، فإنّ الّذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنّما هي الحاجة الاجتماعيّة إلى التفهيم والتفّهم، والاجتماع إنّما تعلّق به الانسان ليستكمل به في الأفعال المتعلّقة بالمادة ولواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسميّاتها الّتي نريد منها غايات واغراضا عائدة إلينا.

وكان ينبغي لنا أن نتنبّه: أنّ المسميّات المادّيّة محكومة بالتغيّر والتبدّل بحسب تبدّل الحوائج في طريق التحوّل والتكامل كما أن السراج أوّل ما عمله الانسإن كان إنآء فيه فتيلة وشئٌ من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائة به في الظلمة، ثمّ لم يزل يتكامل حتّى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائيّ ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أوّلا الموضوع بإزائه لفظ السراج شئٌ ولا واحدٌ.

وكذا الميزان المعمول أوّلاً ، والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلاً. والسلاح المتّخذ سلاحاً أوّل يوم، السّلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.

فالمسميّات بلغت في التغيّر إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتاً وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلّا لأنّ المراد في التسمية إنّما هو من الشئ غايتة، لا شكله وصورته، فما دام غرض التوزين اوالأستضائة أو الدفاع باقياً كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقياً على حاله.

فكان ينبغي لنا أن نتنبّه بأنّ المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك ممّا لا مطمع فيه البتّة، ولكنّ العادة والاُنس منعانا ذلك، وهذا هو الّذي دعى المقلّدة من أصحاب الحديث من الحشويّة والمجسّمة أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جموداً على الظواهر بل هو جمود على العادة والانس في تشخيص المصاديق.

٨

لكن بين هذه الظواهر أنفسها اُمور تبيّن: أنّ الاتّكاء والاعتماد على الاُنس والعادة في فهم معاني الآيات يشوّش المقاصد منها ويختّل به أمر الفهم كقوله تعالى:( ليس كمثله شئ ) الآية. وقوله:( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) . وقوله:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

وهذا هو الّذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العاديّ والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عن الخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الّذي دعى الإنسان إلى أن يتمسّك بذيل البحث العلميّ، وأجاز ذلك للبحث أن يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصدة العالية، وذلك على أحد وجهين، أحدهما: أن نبحث بحثاً علميّاً أو فلسفيّاً أو غير ذلك عن مسألة من المسائل الّتي تتعرّض له الآية حتّى نقف على الحقّ في المسألة، ثمّ نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظريّ، غير أنّ القرآن لا يرتضيه كما عرفت، وثانيهما: أن نفسّر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق ونتعرّفها بالخواصّ الّتي تعطيها الآيات، كما قال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) تبياناً لكّلشئ الآية. وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكّلشئ ولا يكون تبياناً لنفسه، وقال تعالى:( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) الآية. وقال تعالى:( إنّا أنزلنا اليكم نوراً مبيناً ) الآية. وكيف يكون القرآن هدىً وبيّنة وفرقاناً ونوراً مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو اشدّ الاحتياج ! وقال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) الآية. وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه ؟ وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن ؟.

والايات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في أوائل سورة آل عمران.

ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي علّمه القرآن وجعله معلّماً لكتابه كما يقول تعالى:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) الآية. ويقول:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) الآية. ويقول:( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) الآية. وعترته واهل بيته الّذين اقامهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المقام في الحديث المتّفق

٩

عليه بين الفريقين (إنى تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض). وصدّقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، حيث قال عزّ من قائل:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . وقال:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الآية قد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير. وسنورد ما تيسّر لنا ممّا نقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّه أهل بيتهعليهم‌السلام في ضمن أبحاث روائيّة في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتّبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجّة نظريّة عقليّة ولا فرضيّة علميّة.

وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : {فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع وما حلٌّ مصدّق، من جعله امامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب، فإنّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلّص ويقلّ التربص}. وقال عليّ عليه السلام: (يصف القرآن على ما في النهج) {ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض الخطبة}. هذا هو الطريق المستقيم والصراط السويّ الّذي سلكه معلّموا القرآن وهداته صلوات الله عليهم.

وسنضع ما تيسّر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجّة نظريّة فلسفيّة أو إلى فرضيّة علميّة، أو إلى مكاشفة عرفانيّة.

واحترزنا فيها عن أن نضع إلّا نكتة ادبيّة يحتاج إليها فهم الاُسلوب العربيّ أو مقدّمة بديهية أو عمليّة لا يختلف فيها الأفهام.

١٠

وقد تحصّل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره:

(١) المعارف المتعلّقة بأسماء الله سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها، وأمّا الذات فستطلّع أنّ القرآن يراه غنيّاً عن البيان.

(٢) المعارف المتعلّقة بأفعاله تعالى من الخلق والأمر والإرادة والمشيّة والهداية والإضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط، إلى غير ذلك من متفرّقات الأفعال.

(٣) المعارف المتعلّقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الانسان كالحُجُب واللوح والقلم والعرش والكرسيّ والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجنّ وغير ذلك.

(٤) المعارف المتعلّقة بالانسان قبل الدنيا.

(٥) المعارف المتعلّقة بالانسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة اصول اجتماعه ومعرفة النبوّة والرسالة والوحي والإلهام والكتاب والدين والشريعة، ومن هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم المحكيّة.

(٦) المعارف المتعلّقة بالانسان بعد الدنيا، وهو البرزخ والمعاد.

(٧) المعارف المتعلّقة بالأخلاق الإنسانيّة، ومن هذا الباب ما يتعلّق بمقامات الاُولياء في صراط العبوديّة من الإسلام والإيمان والإحسان والإخبات والاخلاص وغير ذلك.

وأمّا آيات الأحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه.

وقد أفاد هذه الطريقة من البحث ارتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، وأمّا التأويل بالمعنى الّذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، فسترى أنّه ليس من قبيل المعاني.

ثمّ وضعنا في ذيل البيانات متفرّقات من ابحاث روائيّة نورد اما تيسّر لنا ايراده من الروايات المنقولة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامّة والخاصّة، وأمّا الروايات الواردة عن مفسري الصّحابة والتابعين.

١١

فإنّها على ما فيها من الخط والتناقض لا حجّة فيها على مسلم.

وسيطلّع الباحث المتدبّر في الروايات المنقولة عنهمعليهم‌السلام ، أنّ هذه الطريقة الحديثة الّتي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير الّتي سلكها معلّموه سلام الله عليهم.

ثمّ وضعنا ابحاثاً مختلفة، فلسفيّة وعلميّة وتأريخيّة واجتماعيّة وأخلاقية، حسب ما تيسّر لنا من البحث، وقد أثرنا في كلّ بحث قصر الكلام على المقدّمات المسانخة له، من غير تعدّ عن طور البحث.

نسئل الله تعالى السداد والرشاد فانّه خيرمعين وهاد

الفقير إلى الله: محمّد حسين الطباطبائي

١٢

( سورة الحمد وهي سبع آيات)

( سورة الحمد الآيات ١ – ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( ١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( ٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( ٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( ٥)

( بيان)

قوله تعالى: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) الناس ربّما يعملون عملاً أو يبتدؤن في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزّتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركاً بذلك متشرّفاً، أو ليكون ذكرى يذكّرهم به، ومثل ذلك موجود أيضاً في باب التسمية فربّما يسمّون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئاً ممّا صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسّسة أسسّوها باسم من يحبّونه أو يعظّمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمّى الجديد، ويبقى المسمّى الأوّل نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمّى ولده باسم والده ليحيى بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى.

وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عزّ إسمه، ليكون ما، يتضمنّه من المعنى معلّماً باسمه مرتبطاً به، وليكون أدباً يؤدّب به العباد في الاعمال والافعال والأقوال، فيبتدؤا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلّماً باسمه منعوتاً بنعته تعالى مقصوداً لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكاً باطلاً مبتراً، لأنّه باسم الله الّذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه.

وذلك أنّ الله سبحانه يبيّن في مواضع من كلامه: أنّ ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، وأنّه: سيقدم إلى كلّ عمل عملوه ممّا ليس لوجهه الكريم، فيجعله هبائاً منثوراً، ويحبط ما صنعوا ويبطل ما كانوا يعملون، وأنّه لا بقاء لشئٍ إلّا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم وصنع باسمه هو الّذي يبقى ولا يفنى، وكلّ أمر من الاُمور إنّما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، وهذا هو الّذي يفيده ما رواه الفريقان عن

١٣

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قال: { كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر الحديث }. والأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أنّ متعلّق الباء في البسملة ابتدء بالمعنى الّذي ذكرناه وقد ابتدء بها الكلام بما أنّه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة، وهو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، والغرض المحصّل منه.

وقد ذكر الله سبحانه الغرض المحصّل من كلامه الّذي هو جملة القرآن إذ قال تعالى:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ ) الآية المائدة ١٥ - ١٦. إلى غير ذلك من الآيات الّتي أفاد فيها: أنّ الغاية من كتابه وكلام هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرّحمن الرحيم، فهو الله الّذي إليه مرجع العباد، وهو الرحمن يبيّن لعباده سبيل رحمته العامّة للمؤمن والكافر، ممّا فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم، وهو الرحيم يبيّن لهم سبيل رحمته الخاصّة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربّهم وقد قال تعالى:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) . الاعراف - ١٥٦. فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.

ثمّ إنّه سبحانه كرّر ذكر السورة في كلامه كثيراً كقوله تعالى:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) يونس - ٣٨. وقوله:( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) هود - ١٣. وقوله تعالى:( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ) التوبة - ٨٦. وقوله:( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) النور - ١. فبان لنا من ذلك: أنّ لكلّ طائفة من هذه الطوائف من كلامه ( الّتي فصّلها قطعاً قطعاً، وسمّى كلّ قطعة سورة ) نوعاً من وحدة التأليف والتمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة، ومن هنا نعلم: أنّ الأغراض والمقاصد المحصّلة من السور مختلفة، وأنّ كلّ واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاصّ ولغرض محصّل لا تتمّ السورة إلّا بتمامه، وعلي هذا فالبسملة في مبتدإ كلّ سورة راجعة إلى الغرض الخاصّ من تلك السورة.

فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصّل منه، والغرض الّذي يدلّ عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله باظهار العبوديّة له سبحانه بالافصاح

١٤

عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية، فهو كلام يتكلّم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدّباً في مقام إظهار العبوديّة بما أدبّه الله به.

وإظهار العبوديّة من العبد هو العمل الّذى يتلبّس به العبد، والأمر ذو البال الّذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى بإسمك أظهر لك العبوديّة.

فمتعلّق الباء في بسملة الحمد الابتداء ويراد به تتميم الإخلاص في مقام العبوديّة بالتخاطب. وربّما يقال : انّه الاستعانة ولا بأس به ولكنّ الابتداء أنسب لإشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى:( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

وأمّا الاسم، فهو اللفظ الدالّ على المسمّى مشتقٌ من السمة بمعنى العلامة أو من السمّو بمعنى الرفعة وكيف كان فالّذي يعرفه منه اللّغة والعرف هو اللفظ الدالّ ويستلزم ذلك، أن يكون غير المسمّى، وأمّا الاسم بمعنى الذات مأخوذاً بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ وهو مسمّى الاسم بالمعنى الأوّل كما انّ لفظ العالم (من اسماء الله تعالى) اسم يدلّ على مسمّاه وهو الذات ماخوذة بوصف العلم وهو بعينه إسم بالنسبة إلى الذات الّذي لا خبر عنه الّا بوصف من اوصافه ونعت من نعوته والسبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعاً للدالّ على المسمّى من الألفاظ، ثمّ وجدوا أنّ الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدلّ عليه حالها حال اللفظ المسمّى بالاسم في أنّها تدلّ على ذوات خارجيّة، فسمّوا هذه الأوصاف الدالّة على الذوات أيضاً أسماء فانتج ذلك انّ الاسم كما يكون أمراً لفظيّاً كذلك يكون أمراً عينيّاً، ثمّ وجدوا انّ الدالّ على الذّات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، وانّ الاسم بالمعنى الأوّل إنّما يدلّ على الذات بواسطته، ولذلك سمّوا الّذي بالمعنى الثاني إسماً، والّذي بالمعنى الأوّل اسم الاسم، هذا ولكن هذا كلّه أمر أدّى إليه التحليل النظريّ ولا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللّغة ما ذكرناه.

وقد شاع النزاع بين المتكلّمين في الصدر الأوّل من الاسلام في أنّ الاسم عين المسمّى أو غيره وطالت المشاجرات فيه، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتّضحت اليوم إتّضاحاً يبلغ إلى حدّ الضرورة ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل وما يقال فيها

١٥

والعناية بإبطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحقّ فيها، فالصفح عن ذلك اُولى.

وأمّا لفظ الجلالة فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل ياُله بمعني عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحيّر، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمّي إلهاً لأنّه معبود أو لأنّه ممّا تحيّرت في ذاته العقول، والظاهر أنّه علم بالغلبة، وقد كان مستعملاً دائراً في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهليّ كما يشعر به قوله تعالى:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزخرف - ٨٧، وقوله تعالى:( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ) الانعام - ١٣٦.

وممّا يدلّ على كونه علماً أنّه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيُقال: ألله الرّحمن الرّحيم ويقال: رحم الله وعلم الله، ورزق الله، ولا يقّع لفظ الجلالة صفة لشئ منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شئٌ منها.

ولمّا كان وجوده سبحانه، وهو إله كلّ شئ يهدي إلى إتّصافه بجميع الصفات الكماليّة كانت الجميع مدلولاً عليها به بالالتزام، وصحّ ما قيل إنّ لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلّا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدلّ عليه مادّة إله.

واما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرّحمة، وهي وصف انفعالي وتأثّر خاصّ يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتمّ به أمره فيبعث الانسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته، إلّا انّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والإفاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة.

والرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدلّ على الكثرة، والرحيم فعيل صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن ان يدلّ علي الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرّحمة العامّة، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيراً في القرآن، قال تعالى:( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) طه - ٥. وقال( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) مريم - ٧٥. إلى غير ذلك، ولذلك أيضاً ناسب الرحيم أن يدلّ على النعمة الدّائمة والرّحمة الثّابتة الباقية الّتي تقاض على المؤمن كما قال تعالى:

١٦

( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) الاحزاب - ٤٣. وقال تعالى:( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١١٧. إلى غير ذلك، ولذلك قيل: ان الرّحمن عامّ للمؤمن والكافر والرّحيم خاصّ بالمؤمن.

وقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، الحمد على ما قيل: هو الثناء على الجميل الاختياريّ والمدح اعمّ منه، يقال: حمدت فلاناً أو مدحته لكرمه، ويقال: مدحت اللؤلؤ علي صفائه ولايقال: حمدته على صفائه، واللّام فيه للجنس أو الإستغراق والمال هيهنا واحد.

وذلك انّ الله سبحانه يقول:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) غافر - ٦٢. فأفاد أنّ كلّ ما هو شئٌ فهو مخلوق لله سبحانه، وقال:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة - ٧ فأثبت الحسن لكلّ شئٍ مخلوق من جهة أنّه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس، فلا خلق إلّا وهو حسن جميل بإحسانه ولا حسن إلّا وهو مخلوق له منسوب إليه، وقد قال تعالى:( هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر - ٤. وقال:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) طه - ١١١. فأنباء أنّه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل بإجبار من مجبر بل خلقه عن علم واختيار فما من شئ إلّا وهو فعل جميل اختياريّ له فهذا من جهة الفعل، وأمّا من جهة الاسم فقد قال تعالى:( اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه - ٨. وقال تعالى:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) الاعراف - ١٨٠. فهو تعالى جميل في أسمائه وجميل في أفعاله، وكلّ جميل منه.

فقد بان انّه تعالى محمود على جميل اسمائه ومحمود على جميل أفعاله، وأنّه ما من حمدٍ يحمده حامد لأمر محمود إلّا كان لله سبحانه حقيقه لأنّ الجميل الّذي يتعلّق به الحمد منه سبحانه، فللّه سبحانه جنس الحمد وله سبحانه كلّ حمد.

ثمّ إنّ الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الّذي في قوله:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) الآية أنّ السورة من كلام العبد، وأنّه سبحانه في هذه السورة يلّقن عبده حمد نفسه وما ينبغي ان يتأدّب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبوديّة، وهو الّذي يؤيّده قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ )

١٧

وذلك إنّ الحمد توصيف، وقد نزّه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات ١٥٩ - ١٦٠. والكلام مطلق غير مقيّد ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلّا ما حكاه عن عدّة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوحعليه‌السلام :( فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) المؤمنون-٢٨. وقال تعالى حكاية عن إبراهيمعليه‌السلام :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ابراهيم - ٣٩. وقال تعالى لنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بضعة مواضع من كلامه:( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل - ٩٣. وقال تعالى حكاية عن داود وسليمانعليه‌السلام :( وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل - ١٥. وإلّا ما حكاه عن أهل الجنّة وهم المطهّرون من غلّ الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله:( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يونس - ١٠.

وأمّا غير هذه الموارد فهو تعالى وإن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى:( وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الشورى - ٥ وقوله :( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) الرعد-١٣.

وقوله :( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الاسراء - ٤٤. إلّا أنّه سبحانه شفّع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية وجعل الحمد معه، وذلك أنّ غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه الّتي منها جمال الأفعال، قال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠ فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدوداً بحدودهم مقدرّاً بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلّا من بعد أن ينزهّوه ويسبحّوه عن ما حدّوه وقدّروه بافهامهم، قال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل - ٧٤، وأمّا المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أنّ الّذي يقتضيه أدب العبوديّة أن يحمد العبد ربّه بما حمد به نفسه ولا يتعدّى عنه، كما في الحديث الّذي رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : { لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث } فقوله في أوّل هذه السورة: الحمد لله، تأديب بأدب عبوديّ، ما كان للعبد

١٨

أن يقوله لولا أنّ الله تعالى قاله نيابة وتعليماً لما ينبغي الثناء به.

وقوله تعالى: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ِمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (وقرا الأكثر ملك يوم الدين) فالرب هو المالك الّذي يدبّر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، ومعنى الملك (الّذي عندنا في ظرف الاجتماع) هو نوع خاصّ من الاختصاص وهو نوع قيام شئ بشئ يوجب صحّة التصرّفات فيه، فقولنا العين الفلانيّة ملكنا معناه: أنّ لها نوعاً من القيام والاختصاص بنا يصحّ معه تصرّفاتنا فيها ولولا ذلك لم تصحّ تلك التصرّفات وهذا في الاجتماع معنى وضعيّ اعتباريّ غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسمّيه أيضاً ملكاً، وهو نحو قيام اجزاء وجودنا وقوانا بنا فإنّ لنا بصراً وسمعاً ويداً ورجلا، ومعنى هذا الملك أنّها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلّة دوننا بل مستقلّة باستقلالنا ولنا أن نتصرّف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقيّ.

والّذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباريّ الّذى يبطل ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم أنّ الملك الحقيقيّ لا ينفكّ عن التدبير فإنّ الشئ إذا افتقر في وجوده إلى شئ فلم يستقلّ عنه في وجوده لم يستقلّ عنه في آثار وجوده، فهو تعالى ربّ لما سواه لأنّ الربّ هو المالك المدبّر وهو تعالى كذلك.

واما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يُعلَم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به، وما يطبع به يطلق على جميع الموجودات وعلى كلّ نوع مؤلّف الأفراد والاجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان وعلى كلّ صنف مجتمع الأفراد أيضاً كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الأنسب لما يؤل إليه عدّ هذه الاسماء الحسنى حتّى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على أن يكون الدين وهو الجزاء يوم القيمة مختصّا بالانسان أو الإنس والجنّ فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس والجنّ وجماعاتهم ويؤيّده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى :( وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران - ٤٢. وقوله تعالى :( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) فرقان - ١، وقوله تعالى:( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ

١٩

الْعَالَمِينَ ) الاعراف - ٨٠.

وأمّا مالك يوم الدين: فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم، وامّا المَلِك وهو مأخوذ من المُلك بضمّ الميم، فهو الّذي يملك النظام القوميّ وتدبيرهم دون العين، وبعبارة اُخرى يملك الأمر والحكم فيهم.

وقد ذكر لكلّ من القرائتين، ملك ومالك، وجوه من التأييد غير أنّ المعنيّين من السلطنة ثابتان في حقّه تعالى، والّذي تعرفه اللغة والعرف أنّ الملك بضمّ الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلانيّ، ولا يقال مالك العصر الفلانيّ إلّا بعناية بعيدة، وقد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، وقال ايضاً:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) غافر - ١٦.

( بحث روائي)

في العيون والمعاني عن الرّضاعليه‌السلام في معنى قوله: بسم الله قالعليه‌السلام : يعني أسم نفسي بسمةٍ من سمات الله وهى العبادة، قيل له: ما السمة ؟ قال العلامة. اقول وهذا المعنى كالمتولّد من المعنى الّذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فانّ العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه الّتي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام وفي العيون وتفسير العيّاشيّ عن الرّضاعليه‌السلام : أنّها أقرب الى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.

اقول: وسيجئ معنى الرواية في الكلام على الاسم الاعظم.

وفي العيون عن امير المؤمنينعليه‌السلام : أنّها من الفاتحة وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرؤها ويعدّها آية منها، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.

اقول: وروي من طرق اهل السنّة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدار قطني عن ابي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنّها اُمّ القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.

وفي الخصال عن الصادقعليه‌السلام قال: ما لهم ؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها.

٢٠

وعن الباقرعليه‌السلام : سرقوا أكرم آية في كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم، وينبغي الإتيان به عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

اقول: والروايات عن أئمّة أهل البيت في هذا المعنى كثيره، وهي جميعاً تدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة إلّا سورة البرائة، وفي روايات أهل السنّة والجماعة ما يدلّ على ذلك.

ففي صحيح مسلم عن أنس قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انزل عليّ آنفا سورة فقرا: بسم الله الرحمن الرحيم.

وعن أبي داود عن ابن عبّاس (وقد صحّحوا سندها) قال: انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يعرف فصل السورة، (وفي رواية انقضاء السورة) حتّى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرّحيم.

اقول: وروي هذا المعنى من طرق الخاصّة عن الباقرعليه‌السلام وفي الكافي والتوحيد والمعاني وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في حديث: والله إله كلّ شئ، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة.

وروي عن الصادقعليه‌السلام : الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة والرحيم اسم عامٌ بصفة خاصّة.

اقول: قد ظهر ممّا مرّ وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن، وأمّا كون الرحمن اسماً خاصّاً بصفة عامّة والرحيم اسماً عامّاً بصفة خاصّة فكأنّه يريد به أنّ الرحمن خاصّ بالدنيا ويعمّ الكافر والمؤمن والرّحيم عامّ للدنيا والآخرة ويخصّ المؤمنين، وبعبارة اُخرى: الرحمن يختصّ بالافاضة التكوينيّة الّتي يعمّ المؤمن والكافر، والرحيم يعمّ التكوين والتشريع الّذي بابه باب الهداية والسعادة، ويختصّ بالمؤمنين لأنّ الثبات والبقاء يختصّ بالنعم الّتي تفاض عليهم والعاقبة للتقوي.

وفي كشف الغمّة عن الصادقعليه‌السلام قال: فُقِد لأبيعليه‌السلام بغلة فقال لئن ردّها الله عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها - فلمّا استوى وضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد، ثمّ قال ما تركت ولا أبقيت

٢١

شيئا جعلت أنواع المحامد لله عزّوجلّ، فما من حمد إلّا وهو داخل فيها.

قلت: وفي العيون عن عليّعليه‌السلام : أنّه سئل عن تفسيرها فقال: هو أنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملاً إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.

اقول: يشيرعليه‌السلام إلى ما مرّ من أنّ الحمد، من العبد وإنّما ذكره الله بالنيابة تأديباً وتعليماً.

( بحث فلسفي)

البراهين العقليّة ناهضة على أنّ استقلال المعلول وكلّ شأن من شئونه إنّما هو بالعلّة، وأنّ كلّ ما له من كمال فهو من أظلال وجود علّته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنّه العلّة الّتي ينتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هو إظهار موجود مّا بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علّته، وإذا كان كلّ كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كلّ ثناء وحمد تعود وتنتهى إليه تعالى، فالحمد لله ربّ العالمين.

قوله تعالى: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الانسان أو من كلّ ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) مريم - ٩٣. والعبادة مأخوذة منه وربّما تفرّقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، وما ذكره الجوهريّ في الصحاح أنّ أصل العبوديّة الخضوع فهو من باب الأخذ بلازم المعنى وإلّا فالخضوع متعدّ باللام والعبادة متعديّة بنفسها.

وبالجملة فكأنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائزأن يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) غافر - ٦٠ وقال تعالى:( وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )

٢٢

الكهف - ١١٠ .فعدّ الإشراك ممكنا ولذلك نهى عنه، والنهى لا يمكن إلّا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنّه لا يجامعها.

والعبوديّة إنّما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم، وامّا ما لا يتعلّق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلّق به عبادة ولا عبوديّة، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممّن سواه ولا أنّ العبد يتبعّض في نسبته إليه تعالى فيكون شئ منه مملوكاً وشئٌ ، آخر غير مملوك، ولا تصرّفٌ من التصرّفات فيه جائز وتصرّف آخر غير جائز كما أنّ العبيد فيما بيننا شئٌ منهم مملوك وهو أفعالهم الاختيارية وشئٌ غير مملوك وهو الاوصاف الاضطراريّة، وبعض التصرّفات فيهم جائزٌ كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلاً، فهو تعالى مالك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين، الربّ مقصور في المالكيّة، والعبد مقصور في العبوديّة، وهذه هي الّتي يدلّ عليه قوله: إيّاك نعبد حيث قدّم المفعول وأطلقت العبادة.

ثمّ إنّ الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت ممّا مرّ، فلا يكون حاجباً عن مالكه ولا يحجب عنه، فإنّك إذا نظرت إلى دار زيد فإن نظرت إليها من جهة أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد، وإن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.

ولكنّك عرفت أنّ ما سواه تعالى ليس له إلّا المملوكيّة فقط وهذه حقيقتة فشئٌ منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) فصلت ٥٣ - ٥٤ وإذا كان كذلك فحقّ عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.

امّا من جانب الربّ عزّوجلّ، فان يعبد عبادة معبودٍ حاضر وهو الموجب للالتفات (المأخوذ في قوله تعالى إيّاك نعبد) عن الغيبة إلى الحضور.

٢٣

وأمّا من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادةً عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسداً من غير روح، أو يتبعّض فيشتغل بربّه وبغيره، امّا ظاهراً وباطناً كالوثنيّين(١) في عبادتهم لله ولاصنامهم معاً، أو باطناً فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والأغراض، كأن يعبدالله وهمّه في غيره، أو يعبدالله طمعاً في جنّة أو خوفاً من نار فإنّ ذلك كلّه من الشرك في العبادة الّذي ورد عنه النهي، قال تعالى:( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) الزمر - ٢، وقال تعالى:( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) الزمر - ٣.

فالعبادة إنّما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الّذي ذكرناه، وقد ظهر أنّه إنّما يتمّ إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلّق قلبه في عبادته رجائاً أو خوفاً هو الغاية في عبادته كجنّة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافياً لمقام العبوديّة الّتي لا تلائم الإنيّة والاستكبار، وكأنّ الإتيان بلفظ المتكلّم مع الغير للايماء إلى هذه النكتة فانّ فيه هضماً للنفس بالغاء تعيّنها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنيّة والاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فإنّ فيه إمحاء التعيّن وإعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.

وقد ظهر من ذلك كلّه: أنّ إظهار العبوديّة بقوله: إيّاك نعبد، لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الاخلاص الّا ما في قوله: إيّاك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والارادة مع أنه مملوك والمملوك لا يملك شيئاً، فكأنّه تدورك ذلك بقوله تعالى وإيّاك نستعين، أي إنّما ننسب العبادة إلى انفسنا وندّعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلّين بذلك مدّعين ذلك دونك، فقوله: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، لإبداء معنى واحد وهو العبادة عن اخلاص، ويمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتّحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابيّ حيث قيل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين من دون أن يقال: إيّاك نعبد أعنّا وإهدنا الصراط المستقيم

____________________

(١) التشريك في العبادة كان من دابّ عوامّ الوثنيّين من العرب و غيرهم و امّا الخواصّ منهم فما كانو يعبىون إلا الأصنام منه

٢٤

وامّا تغيير السياق في قوله: اهدنا الصراط الآية. فسيجئ الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

فقد بان بما مرّ من البيان في قوله، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين الآية، الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه في الحصر الّذي يفيده تقديم المفعول، والوجه في اطلاق قوله: نعبد اه، والوجه في اختيار لفظ المتكلّم مع الغير، والوجه في تعقيب الجملة الاولى بالثانية، والوجه في تشريك الجملتين في السياق، وقد ذكر المفسّرون نكات اُخرى في اطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.

٢٥

( سورة الحمد الآيات ٦ – ٧)

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ( ٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( ٧)

( بيان)

قوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) الخ، امّا الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط وأمّا الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثمّ بيّن أنّه الصراط الّذي يسلكه الّذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الّذي من شأنه ذلك هو الّذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة أي: أنّ العبد يسئل ربّه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.

بيان ذلك: أنّ الله سبحانه قررّ في كلامه لنوع الانسان بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق - ٦ وقال تعالى:( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) التغابن - ٣، وقال:( أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى - ٥٣، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلاله على أنّ الجميع سالكوا سبيل، وأنّهم سائرون إلى الله سبحانه.

ثمّ بيّن: أنّ السبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) يس - ٦١.

فهناك طريق مستقيم وطريق آخر ورائه، وقال تعالى( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة - ١٨٦، وقال تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) غافر - ٦٠، فبيّن تعالى: انه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثمّ قال تعالى في وصف الّذين لا يؤمنون:( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) فصلت - ٤٤ فبيّن: أنّ غاية الّذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة.

فتبيّن: أن السّبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل

٢٦

بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) الاعراف - ٤٠ ولو لا طروق من متطرّق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى:( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ) طه - ٨١. والهويّ هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر آخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى:( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) البقرة - ١٠٨، فعرّف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضلّ، وعند ذلك تقسّم الناس في طرقهم ثلثه أقسام: من طريقه إلى فوق وهم الّذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته، ومن طريقه إلى ألسفل، وهم المغضوب عليهم، ومن ضلّ الطريق وهو حيران فيه وهم الضالّون، وربّما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) .

والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث اعني: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالّين فهو من الطريق الأوّل الّذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلّا أنّ قوله تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة - ١١. يدلّ على أنّ نفس الطريق الأوّل أيضاً يقع فيه انقسام.

وبيانه: أنّ كلّ ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى:( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) البقرة - ١٠٨. وفي هذا المعنى قوله تعالى( أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ) يس - ٦٢. والقرآن يعدّ الشرك ظلماً وبالعكس، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكايةً عن الشيطان لما قضي الأمر:( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ابراهيم - ٢٢. كما يعدّ الظلم ضلالاً في قوله تعالى( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) الانعام - ٨٢ وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والامن من الضلال أو العذاب الّذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم ولبس الإيمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة مصداقاً، وهذا هو المراد من قولنا: إنّ كلّ واحد منها معرّف بالآخر أو

٢٧

هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.

إذا عرفت هذا علمت أنّ الصراط المستقيم الّذي هو صراط غير الضالّين صراطٌ لا يقع فيه شرك ولا ظلم البتّة كما لا يقع فيه ضلال البتّة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، ولا في ظاهر الجوارح والأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، وهذا هو حقّ التوحيد علماً وعملاً إذ لا ثالث لهما وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال ؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) الانعام - ٨٢، وفيه تثبيت للأمن في الطريق ووعد بالاهتداء التامّ بناءً على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

ثمّ انّه تعالى عرّف هؤلاء المنعم عليهم الّذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٩، وقد وصف هذا الإيمان والإطاعة قبل هذه الآية بقوله( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاوَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) النساء٦٥ - ٦٦. فوصفهم بالثبات التامّ قولاً وفعلاً وظاهراً وباطناً على العبوديّة لا يشذّ منهم شاذّ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعاً لاُولئك المنعم عليهم وفي صفّ دون صفّهم لمكان مع ولمكان قوله:( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ولم يقل: فاُولئك من الّذين.

ونظير هذه الآية قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) الحديد - ١٩. وهذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء والصدّيقين في الآخرة، لمكان قوله: عند ربهم، وقوله: لهم اجرهم.

فاؤلئك (وهم اصحاب الصراط المستقيم) أعلى قدراً وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الّذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم من الضلال والشرك والظلم، فالتدبّر

٢٨

في هذه الآيات يوجب القطع بأنّ هؤلاء المؤمنين و (شأنهم هذا الشأن) فيهم بقيّة بعد لو تمّت فيهم كانوا من الّذين أنعم الله عليهم، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلّه نوعٌ من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة - ١١. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً، يربو على نعمة الايمان التامّ، وهذا ايضاً نعتٌ من نعوت الصراط المستقيم.

ثمّ إنّه تعالى على أنّه كررّ في كلامه ذكر الصراط والسبيل، لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، وعدّ لنفسه سبلاً كثيرة فقال عزّ من قائل:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) العنكبوت - ٦٩. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلّا ما في هذه الآية (صراط الّذين انعمت عليهم الآية) ولكنّه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى:( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ) يوسف - ١٠٨. وقال تعالى( سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) لقمان - ١٥. وقال:( سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) النساء - ١١٥. ويعلم منها: أنّ السبيل غير الصراط المستقيم فإنّه يختلف ويتعدّد ويتكثّر باختلاف المتعبّدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦، فعدّ السبل كثيرةً والصراط واحداً وهذا الصراط المستقيم إمّا هي السبل الكثيرة وإمّا أنّها تؤدّي إليه باتّصال بعضها إلى بعض واتّحادها فيها.

وأيضاً قال تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦. فبيّن أنّ من الشرك (وهو ضلال) ما يجتمع مع الايمان وهو سبيل، ومنه يعلم أنّ السبيل يجامع الشرك، لكنّ الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: ولا الضالّين.

والتدبّر في هذه الآيات يعطى أنّ كلّ واحد من هذه السبل يجامع شيئاً من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وأنّ كلاً منها هو الصراط المستقيم لكنه

٢٩

غير الآخر ويفارقه لكنّ الصراط المستقيم يتّحد مع كلّ منها في عين أنّه يتحدّ مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها كقوله:( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) يس - ٦١. وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) الانعام - ١٦١. فسمّى العبادة صراطاً مستقيماً وسمّى الدين صراطاً مستقيماً وهما مشتركان بين السبل جميعاً، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أنّ للبدن اطواراً في حيوته هو عند كلّ طور غيره عند طور آخر، كالصّبي والطفوليّة والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكنّ الروح هي الروح وهي متّحدة بها والبدن يمكن أن تطرء عليه أطوار تنافي ما تحبّه وتقتضيه الروح لو خلّيت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله الّتي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلّا أنّ السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتّبعين للنبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربّما اتّصلت به آفةٌ من خارج أو نقصٌ لكنّهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أنّ الايمان وهو سبيل ربّما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شئ من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.

وقد بيّن الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحقّ والباطل في كلامه، فقال تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧. فبيّن: أنّ القلوب والأفهام في تلقّي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئةً منتهيةً إلى رزق سماويّ واحد، وسيجئ تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا أيضاً نعتٌ من نعوت الصراط المستقيم.

وإذا تأملّت ما تقدّم من نعوت الصراط المستقيم تحصّل لك أنّ الصراط المستقيم

٣٠

مهيمنٌ على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أنّ السبيل إلى الله إنّما يكون سبيلا له موصلاً إليه بمقدار يتضمّنه من الصراط المستقيم حقيقةً، مع كون الصراط المستقيم هادياً موصلا إليه مطلقاً ومن غير شرط وقيد، ولذلك سماه الله تعالى صراطاً مستقيماً، فانّ الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطاً إذا بلعت بلعاً، كأنّه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الّذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلّط على نفسه وما لنفسه كالقائم الّذي هو مسلّط على أمره، ويرجع المعنى إلى أنّه الّذي لا يتغيّر أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلّف حكمه في هدايته وإيصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) النساء - ١٧٤. اي لا يتخلّف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائماً، وقال تعالى:( فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) الانعام - ١٢٦. أي هذه طريقته الّتي لا يختلف ولا يتخلّف، وقال تعالى:( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) الحجر - ٤٢. أي هذه سنّتي وطريقتي دائماً من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله:( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ) الفاطر - ٤٣.

وقد تبيّن ممّا ذكرناه في معنى الصراط المستقيم اُمور.

احدها: أنّ الطرق إلى الله مختلفة كمالاً ونقصاً وغلائاً ورخصاً، في جهة قربها من منبع الحقية والصراط المستقيم كالاسلام والايمان والعبادة والاخلاص والاخبات، كما ان مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الاحقاف - ١٩.

وهذا نظير المعارف الالهيّة الّتى تتلقّاها العقول من الله فإنّها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلوّنة بألوان القابليّات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى:

٣١

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الآية

وثانيها: أنّه كما أنّ الصراط المستقيم مهيمنٌ على جميع السبل، فكذلك اصحابه الّذين مكنّهم الله تعالى فيه وتولّى أمرهم وولّاهم أمر هداية عباده حيث قال:( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٩. وقال تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة - ٥٥. والآية نازلة في أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بالاخبار المتواترة وهوعليه‌السلام اوّل فاتحٍ لهذا الباب من الاُمّة وسيجئ تمام الكلام في الآية.

وثالثها: إنّ الهداية إلى الصراط يتعيّن معناها بحسب تعيّن معناه، وتوضيح ذلك أنّ الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه أنّ تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، وغيرهم يعدّونه إلى المفعول الثاني بإلى، وقوله هو الظاهر، وما قيل: إنّ الهداية إذا تعدّت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، وإذا تعدّت بإلى فبمعنى إرائة، الطريق مستدلّا بنحو قوله تعالى:( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) القصص - ٥٦. حيث إنّ هدايته بمعنى إرائة الطريق ثابتة فالمنفىّ غيرها وهو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى:( وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) النساء - ٦٨. وقال تعالى:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الشورى - ٥٢.

فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدّى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بإرائة الطريق بإلى، وفيه أنّ النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية الّتي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلاً، وبعبارة اُخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافاً إلى أنّه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) غافر - ٣٨. فالحق انّه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار.

وبالجملة فالهداية هي الدلالة وارائة الغاية بارائة الطريق وهي نحو إيصال إلى المطلوب، وإنّما تكون من الله سبحانه، وسنته سنّة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقّق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بيّنه الله سبحانه بقوله:( فَمَن

٣٢

يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) الانعام - ١٢٥. وقوله:( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ) الزمر - ٢٣. وتعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان، فهو إيجاده تعالى وصفاً في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أنّ سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل الّتي تضاف إليه فلكّل سبيل هداية قبله تختصّ به.

وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩. إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأوّل يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثّاني فانّه إنّما يريد وجه الله فيمدّه الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاصّ به، وكذا يمدّه الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتّى يختصّه بنفسه جلت عظمته.

ورابعها: ان الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظاً في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صحّ أن يهدي الله الانسان إليه وهو مهديّ فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثمّ يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أنّ قوله تعالى: إهدنا الصراط (وهو تعالى يحكيه عمّن هداه بالعبادة) من هذا القبيل، ولا يرد عليه: أنّ سؤال الهداية ممّن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلّق به سؤال، والجواب ظاهر.

وكذا الإيراد عليه: بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الاُمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الّذين أنعم الله عليهم منهم ؟ وذلك أنّ كون شريعة أكمل من شريعة أمر، وكون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر ورائه، فإنّ المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) (مع كون شريعته اكمل وأوسع) ليس بأكمل من نوح وابراهيمعليهم‌السلام مع كون شريعتهما أقدم وأسبق، وليس ذلك إلّا انّ حكم الشرائع والعمل بها غير حكم

٣٣

الولاية الحاصلة من التمكّن فيها والتخلّق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وإن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممّن لم يتمكّن من مقام التوحيد ولم تستقرّ حياة المعرفة في روحه ولم يتمكّن نور الهداية الإلهيّة من قلبه، وإن كان عاملا بالشريعة المحمّديّة (صلّي الله عليه و آله و سلّم) الّتي هي أكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة الّتي هي دونها.

ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحقّقين من أهل التفسير جواباً عن هذه الشبهة: أنّ دين الله واحد وهو الاسلام، والمعارف الاصليّة وهو التوحيد والنبوّة والمعاد وما يتفرّع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وإنّما مزيّة هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أنّ الأحكام الفرعيّة فيها أوسع وأشمل لجميع شئون الحياة، فهي اكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أنّ أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، ثمّ إنّ الدين وإن كان ديناً واحداً والمعارف الكلّيّة في الجميع على السواء غير أنّهم سلكوا سبيل ربّهم قبل سلوكنا وتقدّموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا.

أقول: وهذا الكلام مبنى على اصول في مسلك التفسير مخالفة للاصول الّتي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنّه مبني على أنّ حقائق المعارف الاصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات، وكذا سائر الكمالات الباطنيّة المعنويّة، فأفضل الأنبياء المقرّبين مع أخسّ المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجيّ التكوينيّ على حدّ سواء، وإنّما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعيّ من غير أن يتّكي على تكوين، كما أنّ التفاضل بين الملك والرعيّة إنّما هو بحسب المقام الجعليّ الوضعيّ من غير تفاوت من حيث الوجود الانسانيّ هذا.

ولهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، وهو القول باصالة المادّة ونفى الاصالة عما ورائها والتوقّف فيه إلّا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، وقد وقع في هذه

٣٤

الورطة من وقع لأحد أمرين: إمّا القول بالاكتفاء بالحسّ اعتماداً على العلوم المادّيّة وإمّا إلغاء التدبّر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العاميّ.

وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الابحاث العلميّة الآتية إن شاء الله تعالى.

وخامسها: انّ مزيّة اصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنّما هو بالعلم لا بالعمل، فلهم من العلم بمقام ربّهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبيّن ممّا مرّ: انّ العمل التامّ موجود في بعض السبل الّتي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيّتهم إلّا العلم، واما ما هذا العلم ؟ وكيف هو ؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الرعد - ١٧.

ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة - ١١، وكذا قوله تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر - ١٠، فالّذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيّب وهو الاعتقاد والعلم، وأمّا العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيّب والإمداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجئ تمام البيان في البحث عن الآية.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاًُجراء، وقوم عبدوا الله عزّوجلّ حبّاً، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة.

وفي نهج البلاغة: إنّ قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وانّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.

وفي العلل والمجالس والخصال، عن الصادقعليه‌السلام : انّ الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبةً في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكنّي أعبده حبّاً له عزّوجلّ فتلك عبادة الكرام، لقوله عزّوجلّ:( وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) . ولقوله عزّوجلّ

٣٥

( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ) ، فمن احبّ الله عزّوجلّ احبّه، ومن احبّه الله كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.

اقول: وقد تبيّن معنى الروايات ممّا مرّ من البيان، وتوصيفهم عليهم السلام عبادة الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحبّ، لكون مرجعهما واحداً، فانّ الشكر وضع الشئ المنعم به في محلّه، والعبادة شكرها ان تكون لله الّذي يستحقها لذاته، فيعبدالله لأنّه الله، اي لأنّه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحبّ إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنّه هو، وهو معبود لأنّه جميل محبوب، وهو معبود لأنّه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.

وروي بطريق عاميّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: إيّاك نعبد الآية، يعني: لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيّبون عنك.

اقول: والرواية تشير إلى ما تقدّم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللإخلاص الّذي ينافي قصد البدل.

وفي تحف العقول عن الصادقعليه‌السلام في حديث: ومن زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم انّه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، ومن زعم انّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. الحديث.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني : أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتبّع اهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.

وفي المعاني أيضاً عن عليّعليه‌السلام : في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الّذي اطعناك به في ماضي أيّامنا، حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.

اقول: والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهديّ، فالرواية الاُولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقاً والثانية إلى اتّحادها مفهوماً.

٣٦

وفي المعاني أيضاً عن عليّعليه‌السلام : الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلوّ، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة.

وفي المعاني أيضاً عن عليّعليه‌السلام : في معنى صراط الّذين الآية: اي: قولوا: اهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم بالتّوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحّة، فإنّهم قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً، قال: وهم الّذين قال الله: ومن يطع الله والرّسول فاؤلئك مع الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن اولئك رفيقاً.

وفي العيون عن الرّضاعليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: قال الله عزّوجلّ: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جلّ جلاله بدء عبدي باسمي، وحقّ عليّ أن أتمّم له اُموره، وابارك له في احواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنّ النعم الّتي له من عندي وأنّ البلايا الّتي دفعت عنه بتطوّلي، أشهدكم أنّي اُضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم اُشهدكم لأوفّرنّ من رحمتي حظّه ولأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأنّي أنا المالك يوم الدين، لأسهّلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبّلنّ حسناته ولا تجاوزنّ عن سيّئاته، فإذا قال: إيّاك نعبد، قال الله عزّوجلّ: صدق عبدي، إيّاى يعبد اشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ من خالفه في عبادتة لي، فإذا قال: وإيّاك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي وإليّ التجأ، اشهدكم لاُعيننّه على أمره، ولاُغيثنّه في شدائده ولآخذنّ بيده يوم نوائبه، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عزّوجلّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، وقد استجبتُ لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته ممّا منه وجل.

اقول: وروى قريباً منه الصدوق في العلل عن الرّضاعليه‌السلام ، والرواية كما ترى

٣٧

تفسّر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيّد ما مرّ مراراً أنّ السورة كلام له سبحانه النيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة واظهار العبوديّة من الثناء لربّه وإظهار عبادته، فهى سورةٌ موضوعةٌ للعبادة، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها واعنى بذلك:

اوّلاً: أنّ السورة بتمامها كلام تكلّم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبيّة ونصب نفسه في مقام العبوديّة.

وثانيا: أنّها مقسّمة قسمين، فنصف منها لله ونصف منها للعبد.

وثالثا: أنّها مشتملة على جميع المعارف القرآنيّة على ايجازها واختصارها فأنّ القرآن على سعته العجيبة في معارفه الاصليّة وما يتفرّع عليها من الفروع من اخلاق وأحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيّات ووعد ووعيد وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوّة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به اولاهم وعقباهم، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظٍ وأوضح معنى.

وعليك أن تقيس ما يتجلّى لك من جمال هذه السورة الّتي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في انجيل متّى: (٦ - ٩ - ١٣) وهو ما نذكره بلفظه العربي، (أبانا الّذي في السموات، ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيّتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنّا من الشرير آمين).

تأمّل في المعاني الّتي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنّها معارف سماويّة، وما يشتمل عليه من الادب العبوديّ، إنّها تذكر أوّلاً: أنّ أباهم (وهو الله تقدّس اسمه) في السموات !! ثمّ تدعو في حقّ الاب بتقدّس اسمه واتيان ملكوته ونفوذ مشيّتة في الأرض كما هي نافذة في السماء، ولكن من الّذي يستجيب هذا الدعاء الّذي هو بشعارات الاحزاب السياسيّة أشبه ؟ ثمّ تسئل الله إعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة، و

٣٨

جعل الإغماض عن الحقّ في مقابل الإغماض، وما ذا هو حقّهم لو لم يجعل الله لهم حقّاً ؟ وتسأله ان لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، ومن المحال ذلك، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لولا الابتلاء والامتحان ؟ ثمّ اقضّ العجب ممّا ذكره بعض المستشرقين(١) من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين: أنّ الاسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإنّ جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح، وإنّما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعيّة!!

( بحث آخر روائي)

في الفقيه وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام قال: هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدا بهداه مرّ على الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنّم.

وفي المعاني أيضاً عن السجادعليه‌السلام قال: ليس بين الله وبين حجّته حجاب، ولا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سرّه.

وعن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجّراح عن الثوريّ عن السّديّ، عن اسباط ومجاهد، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال: قولوا معاشر العباد ! أرشدنا إلى حبّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهل بيتهعليه‌السلام .

اقول: وفي هذه المعاني روايات اُخر، وهذه الاخبار من قبيل الجري، وعدّ المصداق للآية، واعلم أنّ الجري و (كثيراً ما نستعمله في هذا الكتاب) اصطلاحٌ مأخوذ من قول أئمّة أهل البيتعليه‌السلام .

ففي تفسير العيّاشيّ عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن هذه الرواية،

____________________

(١) القسّيس الفاضل كوستار لبون في تاريخ تمدّن الاسلام.

٣٩

ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف إلّا وله حدّ، ولكل حدّ مطلّعٌ، ما يعنى بقوله : ظهر وبطن ؟ قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء منه شئٌ وقع الحديث.

وفي هذا المعنى روايات أخر، وهذه سليقة أئمّه أهل البيت فأنّهمعليه‌السلام يطّبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد وإن كان خارجاً عن مورد النزول، والاعتبار يساعده، فإنّ القرآن نزل هدىً للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل، وما بيّنه من المعارف النظريّة حقائق لا تختصّ بحالٍ دون حالٍ ولا زمانٍ دون زمانٍ، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عمليّ لا يتقيّد بفردٍ دون فردٍ ولا عصرٍ دون عصر لعموم التشريع.

وما ورد من شأن النزول (وهو الامر أو الحادثة الّتي تعقّب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لأن البيان عامّ والتعليل مطلق، فانّ المدح النازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النازل في حقّ آخرين معلّلا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا، والقرآن أيضاً يدلّ عليه، قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) المائدة - ١٦ - وقال:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) فصلت - ٤٢. وقال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩.

والروايات في تطبيق الآيات القرآنيّة عليهمعليه‌السلام أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الابواب المختلفة، وربّما تبلغ المئين، ونحن بعد هذا التنبيه العامّ نترك إيراد أكثرها في الابحاث الروائيّة لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلّا ما تعلّق بها غرض في البحث فليتذكّر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459