الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 165931
تحميل: 8430


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165931 / تحميل: 8430
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أقول: للأفعال جهتان: جهة ثبوت ووجود، وجهة الانتساب إلى الفاعل، وهذه الجهة الثانية هي الّتي تتّصف بها الأفعال بأنّها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيّئة فإنّ النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقّق، وإنّما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لأمر الله تعالى، والزنا فاقد للموافقة المذكورة، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس، وضرب اليتيم تأديباً وضربه ظلماً، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الأمر أو الغاية الاجتماعيّة بخلاف غيرها، وقد قال تعالى:( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر - ٦٢، والفعل شئ بثبوته ووجوده، وقد قالعليه‌السلام : (كلّ ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله الحديث) ثمّ قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة - ٧، فتبيّن أنّ كلّ شئ كما أنّه مخلوق فهو في أنّه مخلوق حسن، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر أصلا، ثمّ إنّه تعالى سمّى بعض الافعال سيّئة فقال:( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ) الانعام - ١٦٠، وهي المعاصي الّتي يفعلها الإنسان بدليل المجازاة، وعلمنا بذلك أنّها من حيث أنّها معاص عدميّة غير مخلوقة وإلّا كانت حسنة، وقال تعالى:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ) الحديد - ٢٢، وقال:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) التغابن - ١١، وقال:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى - ٣٠، وقال:( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) النساء - ٧٩، وقال:( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) النساء - ٧٨، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنّما هي سيّئات نسبيّة بمعنى أنّ الإنسان المنعم بنعمة من نعم الله كالأمن والسلامة والصحّة والغنى يعد واجداً فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيّئة لأنّها مقارنة لفقد مّا وعدم مّا، فكلّ نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيّئة وإنّما هي سيّئة نسبيّة بالنسبة إلى الإنسان وهو واجد، فكلّ سيّئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله

١٠١

سبحانه البتّة وإن كانت من جهة اُخرى منسوبة إليه تعالى بالإذن فيه ونحو ذلك.

وفي قرب الأسناد عن البزنطيّ، قال: قلت: للرضاعليه‌السلام إنّ أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: (أكتب، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوّتي أدّيت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيّئاتك منّي، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، فقد نظمت لك كلّ شئ تريد الحديث) وهو أو ما يقربه مرويّ بطرق عاميّة وخاصّية اُخرى وبالجملة فالّذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الأفعال هي المعاصي من جهة أنّها معاص خاصّة، وبذلك يعلم معنى قولهعليه‌السلام في الرواية السابقة، لو كان خالقاً لها لما تبرّء منها إلى قوله وإنّما تبرّء من شركهم وقبائحهم الحديث.

وفي التوحيد: عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام (قالا: إن الله عزّوجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمرً فلا يكون) قال: فسئلاعليهما‌السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قال: نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض.

وفي التوحيد عن محمّد بن عجلان، قال قلت: لإبي عبداللهعليه‌السلام فوّض الله الإمر إلى العباد ؟ قال: (الله أكرم من أن يفوّض إليهم) قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: (الله أعدل من أن يجبر عبدً على فعل ثمّ يعذّبه عليه).

وفي التوحيد أيضاً عن مهزم، قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام أخبرني عمّا اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر والتفويض ؟ قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال: (الله أقهر لهم من ذلك) قلت: ففوّض إليهم ؟ قال الله أقدر عليهم من ذلك، قال قلت : فأيّ شئ هذا، أصلحك الله ؟ قال: فقلّب يده مرّتين أو ثلاثً ثمّ قال: (لو أجبتك فيه لكفرت).

اقول: قولهعليه‌السلام :( الله أقهر لهم من ذلك) ، معناه أنّ الجبر إنّما هو لقهر من المجير

١٠٢

يبطل به مقاومة القوّة الفعلّة، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياريّ من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.

وفي التوحيد أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: قال: (رسول الله: من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله من سلطانه)

وفي الطرائف: روي أن الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصريّ وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبيّ أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصريّ أن إحسن ما انتهى إليّ ما سمعت أميرالمؤمنين عليّ بن ابيطالبعليه‌السلام ، أنّه قال: أتظن إنّ الّذي نهاك دهاك ؟ وإنّما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك). وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام (لو كان الزور في الاصل محتوما لكان المزوّر في القصاص مظلومً). وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام (إيد لّك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ وكتب إليه الشعبيّ أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام (كلّما استغفرت الله منه فهو منك، وكلّما حمدت الله عليه فهو منه) فلمّا وصلت كتبهم إلى الحجّاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية.

وفي الطرائف أيضاً روى أنّ رجلا سأل جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام عن القضاء والقدر فقال: (ما إستطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله) يقول الله للعبد: لِمَ عصيت، لِمَ فسقت، لِمَ شربت الخمر، لِمَ زنيت ؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له لِمَ مرضت، لِمَ قصرت، لِمَ إبيضضت، لِمَ إسوددت ؟ لأنّه من فعل الله تعالى.

وفي النهج سئلعليه‌السلام عن التوحيد والعدل فقال: (التوحيد أن لا تتوّهمه، والعدل أن لا تتّهمه).

١٠٣

اقول: والإخبار فيما مرّ متكاثرة جدًّ غير أن الّذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه ولئن تدبّرت فيما تقدّم من الإخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصّة عديدة من الاستدلال.

منها: الاستدلال بنفس الإمر والنهي والعقاب و الثواب وأمثالها على تحقّق الاختيار من غير جبر ولا تفويض، كما في الخبر المنقول عن أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام فيما أجاب به الشيخ، وهو قريب المأخذ ممّا استفدناه من كلامه تعالى.

ومنها: الاستدلال بوقوع ُمور في القرآن لا تصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى:( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) وقوله:( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الآية، ويمكن أن يناقش فيه بأنّ الفعل إنّما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأمّا إذا نسب إليه تعالى فلا يسمّى فاحشة ولا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاصّ يدفعها فإنّه تعالى يقول:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الآية، فالإشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللّاحق متوجّها إليه سواءٌ سمّي فحشاء أولم يسمّ.

ومنها: الاستدلال من جهة الصفات وهو أنّ الله تسمّى بأسماء حسنى وإتّصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصحّ ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فإنّه تعالى قهّار قادر كريم رحيم، وهذه صفات لا تستقرّ معانيها إلّا عند ما يكون وجود كلّ شئ منه تعالى ونقص كلّ شئ وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات الّتي نقلناها عن التوحيد.

ومنها: الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللّوم فإنّ الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كلّه من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللّوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر.

وهيهنا روايات أخر مرويّة فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الاضلال والطبع والإغواء وغير ذلك.

ففى العيون عن الرّضاعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ) قالعليه‌السلام (إنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن

١٠٤

الكفر والضلال منعهم المعاونة و اللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم).

وفي العيون أيضاً عنهعليه‌السلام في قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم، قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلا.

وفي المجمع عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي ) الآية، هذا القول من الله ردّ على من زعم إنّ الله تبارك وتعالى يضلّ العباد ثمّ يعذّبهم على ضلالتهم إلحديث.

أقول: قد مرّ بيان معناها.

( بحث فلسفي)

لا ريب إنّ الُمور الّتي نسمّيها أنواعا في الخارج هي الّتي تفعل الإفاعيل النوعيّة، وهي موضوعاتها، فإنّا إنّما أثبتنا وجود هذه الإنواع ونوعيّتها الممتازة عن غيرها من طريق الآثار والإفاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواسّ أفاعيل متنوّعة وآثارً مختلفة من غير أن تنال الحواسّ في إحساسها امرً وراء الآثار العرضيّة، ثمّ أثبتنا من طريق القياس والبرهان علّة فعلّة لها وموضوعً يقوّمها ثمّ حكمنا بإختلاف هذه الموضوعات أعني الانواع لإختلاف الآثار والافاعيل المشهودة لنا، فالإختلاف المشهود في آثار الإنسان وساير الانواع الحيوانيّة مثلا هو الموجب للحكم بأنّ هناك انواعً مختلفة تسمّى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا، وكذا، الإختلافات بين الإعراض والإفاعيل إنّما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصّها.

وكيف كان فالإفاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أوّلى إلى قسمين:الإوّل: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنموّ والتغذّي للّنبات والحركات للإجسام، ومن هذا القبيل الصحّة والمرض وأمثال ذلك فإنّها وإن كانت معلومة لنا وقائمة بنا إلّا أنّ تعلّق العلم بها لا يؤثّر في وجودها وصدورها شيئً وإنّما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي.والثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنّه معلوم تعلّق به العلم كما في الإفعال الإراديّة للإنسان وساير ذوات الشعور

١٠٥

من الحيوان، فهذا القسم من الفعل إنّما يفعله فاعله من حيث تعلّق العلم به وتشخيصه وتمييزه، فالعلم فيه إنّما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره، وهذا التمييز والتعيين إنّما يتحقّق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقً بواسطة العلم، فإنّ الفاعل أيّ فاعل كان إنّما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنّما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميّز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.

ومن هنا ما نرى أنّ الإفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظّمة عن الإنسان المتكلّم، وكذا الإفعال الصادرة عنها مع اقتضاء مّا ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفّس عن الإنسان، وكذا الإفعال الصادرة عن الإنسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كلّ ذلك لا يحتاج إلى تروّ من الفاعل، إذ ليس هناك إلّا صورة علميّة واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لاحالة منتظرة لفعلّة، فيفعل البتّة، وإمّا الإفعال الّتي لها صور علميّة متعدّدة تكون هي من جهة بعضها مصداق كمال الإنسان حقيقة أو تخيّلا، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقيّ أو التخيليّ كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنّه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسمومً ويمكن إن يكون قذرً يتنفّر عنه الطبع، وهكذا والإنسان إنّما يتروّى فيما يتروّى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعيّن أحد العناوين وسقطت بقيّتها وصار مصداقً كمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا،والقسم الاول: نسمّيه فعلا إضطراريًّ كالتأثيرات الطبيعيّة.والقسم الثاني: نسمّيه فعلا إراديًّ كالمشي والتكلّم.

والفعل الاراديّ: الصادر عن علم وإرادة ينقسم ثانيً إلى قسمين: فإن ترجيح إحد جانبي الفعل والترك إمّا مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثّر عن آخر كالجائع الّذي يتروّى في أكل خبز موجود عنده حتّى رجّح أن يبقيه ولا يأكله لأنّه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرّف فانتخب الحفظ واختاره أو رجّح الإكل فأكله إختيارً، وإمّا أن يكون الترجيح والتعيين مستندً إلى تأثير الغير كمن يجبره جبّار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارً من غير أن يكون متعيّنا بانتخابه واختياره

١٠٦

والقسم الاوّل يسمّى فعلً اختياريًّ، والثاني فعلا إجباريًّ هذا، وإنت تجد بجودة التأمّل أنّ الفعل الاجباريّ وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنّه هو الّذي يجعل أحد الطرفين محالا وممتنعً بواسطة الإجبار فلا يبقى للفاعل إلّا طرف واحد، لكنّ الفعل الإجباريّ إيضاً كالإختياريّ لا يقع إلّا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الّذي يجبره هو المتسبّب إلى الفعل بوجه، لكنّ الفعل ما لم يترجّح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستندا بوجه إلى اجبار المجبر وتهديده لم يقع، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك، ومن هنا يظهر أن تقسيم الإفعال الإراديّة إلى اختياريّة وجبريّة ليس تقسيمً حقيقيًّ ينوّع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار، فإنّ الفعل الإراديّ إنّما يحتاج إلى تعيين وترجيح علميّ يعيّن للفاعل مجرى فعله، وهو في الفعل الإختياريّ والجبريّ على حدّ سواء، وأمّا أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب إختلافً نوعيًّ يؤدّي إلى إختلاف الآثار. ألا ترى أن المستظلّ تحت حائط إذا شاهد أنّ الحائط يريد أن ينقضّ، فخرج خائفً عدّ فعله هذا إختياريًّ ؟ وأمّا إذا هدّده جبّار بأنّه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفً عدّ فعله هذا اجباريًّ من غير فرق بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى إرادة الجبّار.

فإن قلت: كفى فرقً بين الفعلين أن الفعل الاختياريّ يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتّب عليه المدح والذمّ ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار، وهذا بخلاف الفعل الاجباريّ فإنّه لا يترتّب عليه شئ من ذلك.

قلت: الإمر على ما ذكر، غير أنّ هذه الآثار إنّما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الإخير الاجتماعيّ، فهي آثار اعتباريّة غير حقيقيّة، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثً فلسفيًّ لإنّ البحث الفلسفيّ إنّما ينال الموجودات الخارجيّة وآثارها العينيّة، وأمّا الُمور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائيّة، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان إلبتّة، وإن كانت معتبرة في بابها، مؤثّرة أثرها، فالواجب، أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شكّ أن كلّ ممكن حادث مفتقر إلى علّة،

١٠٧

والحكم ثابت من طريق البرهان، ولا شكّ إيضاً أنّ الشئ ما لم يجب لم يوجد إذ الشئ ما لم يتعيّن طرف وجوده بمعيّن كان نسبته إلى الوجود والعدم بالسويّة، ولو وجد الشئ وهو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علّة وهف، فإذا فرض وجود الشئ كان متّصفً بالضرورة مادام موجودً، وهذه الضرورة إنّما إكتسبها من ناحية العلّة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلّفة من حلقات مترتّبة متوالية كلّها واجبة الوجود، ولا موقع لإمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.

ثمّ نقول: هذه النسبة الوجوبيّة إنّما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علّتها التامّة البسيطة أو المركّبة من ُمور كثيرة كالعلل الإربع والشرائط والمعدّات. وأمّا إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلّة أو إلى شئ آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الإمكان بالضرورة، بداهة أنّه لو كانت بالضرورة كانت العلّة التامّة وجودها مستغنى عنه وهي علّة تامّة هف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة ونظام الإمكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامّة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكانيّ إلبتّة لا ذات ولا فعل ذات ونظام الإمكان منبسط على المادّة والصور الّتي في قوّة المادّة التلبّس بها والآثار الّتي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الإنسان الاختياريّة ونسبتها إلى تمام علّتها، وهي الإنسان والعلم والإرادة ووجود المادّة القابلة وتحقّق الشرائط المكانيّة والزمانيّة وإرتفاع الموانع، وبالجملة كلّ ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبً ضروريّاً، وإذا نسب إلى الإنسان فقط، ومن المعلوم أنّه جزء من أجزاء العلّة التامّة كانت النسبة بالإمكان.

ثمّ نقول: سبب الاحتياج والفقر إلى العلّة كما بيّن في محلّه كون الوجود (وهو مناط الجعل) وجودً إمكانيّا، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقلّ بنفسه، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقلّ بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة.

ومن هنا يستنتجّإوّلا: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علّته عن الاحتياج إلى العلّة الواجبة الّتي إليها تنتهي سلسلة الإمكان.

وثانيً: إنّ هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود

١٠٨

مع حفظ جميع خصوصيّاته الوجوديّة وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانيّة والمكانيّة إلى غير ذلك.

فقد تبيّن بهذا أمرانالأوّل: أنّ الإنسان كما أنّه مستند الوجود إلى الإرادة الإلهيّة على حدّ سائر الذوات الطبيعيّة وأفعالها الطبيعيّة فكذلك أفعال الإنسان مستنده الوجود إلى الإرادة الإلهيّة على حدّ سائر الذوات الطبيعيّة وأفعالها الطبيعيّة فكذلك أفعال الإنسان مستندة الوجود إلى الإرادة الإلهيّة، فما ذكره المعتزلة من كون الإفعال الإنسانيّة غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من إصله، وهذا الاستناد حيث أنّه إستناد وجوديّ فالخصوصيّات الوجوديّة الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكلّ معلول مستند إلى علّته بحده الوجوديّ الّذي له، فكما أنّ الفرد من الإنسان إنّما يستند إلى العلّة الُولى بجميع حدوده الوجوديّة من أب وأمّ وزمان ومكان وشكل وكمّ وكيف وعوامل إخر مادّيّة، فكذلك فعل الإنسان إنّما يستند إلى العلّة الُولى مأخوذا بجميع خصوصيّاته الوجوديّة، فهذا الفعل إذا إنتسب إلى العلّة الُولى والإرادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عمّا هو عليه ولا يوجب بطلان الإرادة الإنسانيّة مثلً في التأثير، فإنّ الإرادة الواجبيّة إنّما تعلّقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة وإختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقّق غير إراديّ وغير إختياريّ لزم تخلّف إرادته تعالى عن مراده وهو محال، فما ذهب إليه المجبّرة من الإشاعرة من أن تعلّق الإرادة الإلهيّة بالافعال الإراديّة يوجب بطلان تأثير الإرادة والاختيار فاسد جدًّ، فالحقّ الحقيق بالتصديق أنّ الإفعال الإنسانيّة لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الُخرى لكونهما طوليّتين لا عرضيّتين.

الثاني: أنّ الإعال كما أنّ لها إستنادا إلى عللها التامّة (وقد عرفت أنّ هذه النسبة ضروريّة وجوبيّة كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامّة بالوجوب) كذلك لها إستناد إلى بعض إجزاء عللها التامّة كالإنسان مثلا، وقد عرفت أن هذه النسبة بالامكان فكون فعل من الإفعال ضروريّ الوجود بملاحظة علّته التامّة الضروريّة لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مرّ فما

١٠٩

ذكره جمع من المادّيّين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جدًّ بل الحقّ أنّ الحوادث بالنسبة إلى عللها التامّة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادّها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الإنسان وأفعاله فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريّات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر.

١١٠

( سورة البقرة الآيات ٢٨ - ٢٩)

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ  ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٨ ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ  وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٩ )

( بيان)

رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنّه تعالى بعد ما بيّن في أوّل السورة ما بيّن أوضحة بنحو التلخيص بقوله: يا أيّها الناس أعبدوا ربّكم إلى بضع آيات، ثمّ رجع إليه ثانيً وأوضحه بنحو البسطو التفصيل بقوله: كيف تكفرون إلى إثنتي عشرة آية، ببيان حقيقة الإنسان وما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال وما تسعه دائرة وجوده وما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت وحيإة ثمّ موت ثمّ حيإة ثمّ رجوع إلى الله سبحانه وإنّ إلى ربّك المنتهي وفيه ذكر جمل ما خصّ الله تعالى به الإنسان من مواهب التكوين والتشريع، أنّه كان ميتً فأحياة ثمّ لا يزال يميته ويحييه حتّى يرجعه إليه، وقد خلق له ما في الأرض وسخّر له السموات وجعله خليفته في الأرض وأسجد له ملائكته وأسكن أباه الجنّة وفتح له باب التوبة وأكرمه بعبادته وهدايته، وهذا هو المناسب لسياق قوله:( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) الخ، فإنّ السياق سياق العتبى والامتنان.

قوله تعالى: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا ) . الآية قريبة السياق من قوله تعالى:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) المؤمن - ١١، وهذه من الآيات الّتي يستدلّ بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة، فإنّها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بدّ في تصوير الإماتة الثانية من فرض حيإة بين الموتين وهو البرزخ، وهو إستدلال تامّ اعتني به في

١١١

بعض الروايات إيضاً، وربّما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أنّ الآيتين أعني قوله:( كَيْفَ تَكْفُرُونَ ) الآية، وقوله:( قَالُوا رَبَّنَا ) الآية، متّحدتا السياق، وقد اشتملتا على موتين وحيإتين، فمدلولهما واحد، والآية الُولى ظاهرة في أنّ الموت الإوّل هو حال الإنسان قبل ولوج الروح في الحياة الدنيا، فالموت والحياة الإوليان هما الموت قبل الحيإة الدنيا والحيإة الدنيا والموت والحيإة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحيإة يوم البعث، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الُولى، فلا معنى لدلالتها على البرزخ، وهو خطأ فإنّ الآيتين مختلفتان سياقً إذا المأخوذ في الآية الُولى، موت واحد وإماتة واحدة وإحيائان، وفي الآية الثانية إماتتان وإحيائان، ومن المعلوم أن الاماتة لا يتحقّق لها مصداق من دون سابقة حيإة بخلاف الموت، فالموت الاوّل في الآية الُولى غير الإماتة الُولى في الآية الثانية، فلامح في قوله تعالى:( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) ، الإماتة الُولى هي الّتي بعد الدنيا والإحياء الإوّل بعدها للبرزخ والإماتة والإحياء الثانيتان للإخرة يوم البعث، وفي قوله تعالى:( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) إنّما يريد الموت قبل الحيإة وهو موت وليس بإماتة والحيإة هي الحياة الدنيا، وفي قوله تعالى:( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) حيث فصّل بين الاحياء والرجوع بلفظ ثمّ تأييد لما ذكرنا هذا.

قوله تعالى: ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا ) ، بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده فهو وجود متحوّل متكامل يسير في مسير وجوده المتبدّل المتغيّر تدريجً ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميّتً ثمّ حيي بإحياء الله ثمّ يتحوّل بإماتة وإحياء وهكذا وقد قال سبحانه:( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) السجدة - ٩، وقال تعالى:( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون - ١٤، وقال تعالى:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة - ١١، وقال تعالى:( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ) طه - ٥٥. والآيات كما ترى (وسنزيدها توضيحا في محالّها) تدلّ على أن الإنسان جزء من الأرض غير مفارقها ولا مباين معها، إنفصل منها ثمّ شرع في التطوّر بأطواره حتّى

١١٢

بلغ مرحلة إنشئ فيها خلقً آخر، فهو المتحوّل خلقً آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثمّ يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثمّ يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الإنسان.

ثمّ إنّ الإنسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الأرضيّة والسماويّة من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركّباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها، وكلّ موجود من الموجودات الطبيعيّة كذلك، أي إنّه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أنّ نطاق عمل الإنسان ومجال سعية أوسع، كيف ؟ وهذا الموجود الإعزل على أنّه يخالط الموجودات الُخر الطبيعيّة بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرّفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حياته، فهو من جهة تجهيزة بالادراك والفكر يختصّ بتصرّفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والإفساد والإصلاح، فما من موجود إلّا وهو في تصرّف الإنسان، فزمانً يحاكي الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانً يقاوم الطبيعة بالطبيعة، وبالجملة فهو مستفيد لكلّ غرض من كلّ شئ، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيّده في تكثير تصرّفاته وتعميق أنظاره ليحقّ الله الحقّ بكلماته، وليصدق قوله:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) الجاثية - ١٣، وقوله:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ ) البقرة - ٢٩، وكون الكلام واقعً موقع بيان النعم لتمام الإمتنان يعطي أن يكون الإستواء إلى السماء لإجل الإنسان فيكون تسويتها سبعً أيضاً لإجله، وعليك بزيادة التدبّر فيه.

فذاك الّذي ذكرناه من صراط الإنسان في مسير وجوده، وهذا الّذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرّفاته في عالم الكون هو الّذي يذكره سبحانه من العالم الإنسانيّ ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي.

غير أنّ القرآن كما يعدّ مبدأ حياته الدنيويّة آخذة في الشروع من الطبيعة الكونيّة ومرتبطة بها (أحيانً) كذلك يربطها بالربّ تعالى وتقدس، فقال تعالى:( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩، وقال تعالى:( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) البروج

١١٣

- ١٣، فالإنسان وهو مخلوق مربّى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والايجاد متطوّر بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميّتة، كما أنّه من جهة الفطر والإبداع مرتبط متعلّق بأمر الله وملكوته، قال تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقال تعالى:( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل - ٤٠، فهذا من جهة البدء وأمّا من جهة العود والرجوع فيعدّ صراط الإنسان متشعّبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقإوة، فإمّا طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الإنتهاء إلى الرفيع الإعلى ولا يزال يصعد الإنسان ويرفعه حتّى ينتهي به إلى ربه، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى اسفل السافلين حتّى ينتهي إلى ربّ العالمين، والله من ورائهم محيط، وقد مرّ بيان ذلك في ذيل قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) من سورة الفاتحة.

فهذا إجمال القول في صراط الإنسان، وإمّا تفصيل القول في حياته قبل الدنيا وفيها وبعد الدّنيا فسيأتي كلّ في محلّه، غير إنّ كلامه تعالى إنّما يتعرّض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية والضلال والسعادة والشقاء، ويطوي البحث عمّا دون ذلك إلّا بمقدار يماسّ غرض القرآن المذكور.

وقوله تعالى: ( فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) ، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة إنشاء الله تعالى.

١١٤

( سورة البقرة الآيات ٣٠ - ٣٣)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً  قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ  قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٣٠ ) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٣١ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا  إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( ٣٢ ) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ  فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ( ٣٣ )

( بيان)

اليت تنبئ عن غرض إنزال الإنسان إلى الدنيا وحقيقة جعل الخلاقة في الأرض وما هو آثارها وخواصّها، وهي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن إلّا في محلّ واحد وهو هذا المحلّ.

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ) الخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى وكذا القول من الملائكة والشيطان انشاء الله.(١)

قوله تعالى: ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ، إلى قوله: ونقدّس لك مشعر بأنّهم إنّما فهموا وقوع الإفساد وسفك الدماء من قوله سبحانه:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، حيث أنّ الموجود الأرضيّ بما أنّه مادّيّ مركّب من القوى الغضبيّة والشهويّة، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركّباتها في معرض الإنحلال، وإنتظاماتها وإصلاحاتها في مظنّة الفساد ومصبّ البطلان، لا تتمّ الحياة فيها إلّا بالحياة النوعيّة، ولا يكمل البقاء فيها إلّا بالاجتماع والتعاون، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك أنّ الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلّا بكثرة من الأفراد ونظام اجتماعيّ بينهم يفضي بالاخرة إلى الفساد والسفك و، الخلافة وهي قيام شئ مقام آخر لا تتمّ إلّا بكون الخليفة حاكيً للمستخلف في جميع شؤنه الوجوديّة وآثاره وأحكامه وتدابيره

____________________

(١) ج ٢ ص ٣٢٩

١١٥

بما هو مستخلف، والله سبحانه في وجوده مسمّى بالإسماء الحسنى متّصف بالصفات العليا، من إوصاف الجمال والجلال، منزّه في نفسه عن النقص ومقدّس في فعله عن الشرّ والفساد جلّت عظمته، والخليفة الأرضيّ بما هو كذلك لا يليق بالإستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكلّ نقص وشين الوجود الإلهيّ المقدّس المنزّه عن جميع النقائص وكلّ الإعدام، فأين التراب وربّ الإرباب، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرّف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شئ والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: إنّك أنت العليم الحكيم حيث صدّر الجملة بأنّ التعليليّة المشعرة بتسلّم مدخولها فافهم، فملّخص قولهم يعود إلى إنّ جعل الخلافة إنّما هو لإجل إن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والأرضيّة لا تدعه يفعل ذلك بل تجرّه إلى الفساد والشرّ، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الّذي مرّ من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضيّة لك ؟ فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: إنّي أعلم ما لا تعلمون وعلّم آدم الإسماء كلّها.

وهذا السياق: يشعرأوّل: بأنّ الخلافة المذكورة إنّما كانت خلافة الله تعالى، لا خلافة نوع من الموجود الأرضيّ كانوا في الأرض قبل الإنسان وانقروضوا ثمّ أراد الله تعالى أن يخلّفهم بالإنسان كما إحتمله بعض المفسّرين، وذلك لإنّ الجواب الّذي اجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الإسماء لا يناسب ذلك، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدمعليه‌السلام بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص، ويكون معنى تعليم الإسماء إيداع هذا العلم في الإنسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجً دائمً ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوّة إلى الفعل، ويؤيّد عموم الخلافة قوله تعالى( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) الاعراف - ٦٩، وقوله تعالى( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ) يونس - ١٤، وقوله تعالى( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ) النمل - ٦٢.

وثانيا: أنّه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد وسفك الدماء، ولا كذّب الملائكة في دعوإهم التسبيح والتقديس، وقرّرهم على ما ادّعوا، بل إنّما أبدا شيئا آخر

١١٦

وهو أنّ هناك أمرً لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحّمله ويتحّمله هذا الخليفة الأرضيّ فإنّه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمّل منه سرًّ ليس في وسع الملائكة، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدّماء، وقد بدّل سبحانه قوله: قال إنّى أعلم مالا تعلمون. ثانيً بقوله: ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السموات والأرض، والمراد بهذا الغيب هو الإسماء لا علم آدم بها فإنّ الملائكة ما كانت تعلم أنّ هناك أسماء لايعلمونها، لا أنّهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك ويجهلون من آدم أنّه يعلمها، وإلّا لما كان لسؤاله تعالى إيّاهم عن الاسماء وجهٌ وهو ظاهرُ بل كان حقّ المقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتّى يتبيّن لهم أنّ آدم يعلمها لا أن يسئل الملائكة عن ذلك، فإنّ هذا السياق يعطي أنّهم ادّعوا الخلافة وأذعنوا بإنتفائها عن آدم وكان اللّازم أن يعلم الخليفة بالإسماء فسئلهم عن الإسماء فجهلوها وعلمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها وإنتفاؤها عنهم، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله: إن كنتم صادقين، وهو مشعرٌ بأنّهم كانوا إدّعوا شيئً كان لازمه العلم بالإسماء.

وقوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) ، مشعرٌ بأنّ هذه الإسماء أو أنّ مسميّاتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب وأنّ العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الّذي عندنا بأسماء الأشياء، وإلّا كانت الملائكة بانباء آدم إيّاهم بها عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه، ولم يكن في ذلك اكرام لآدم ولا كرامة حيث علّمه الله سبحانه أسماء ولم يعلّمهم، ولو علمهم أيّإها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجّتهم، وأيّ حجّة تتمّ في أن يعلّم الله تعالى رجلً علم اللّغة ثمّ يباهي به ويتمّ الحجّة على ملائكة مكرّمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون بأنّ هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم؟ ويقول تعالى: أنبئوني باللّغات الّتي سوف يضعها الآدميّون بينهم للإفهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعوإكم أو مسئلتكم خلافتي، على أنّ كمال اللّغة هو المعرفة بمقاصد القلوب والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلّم، وإنّما تتلّقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمالٌ فوق كمال التكلّم، وبالجملة فما حصل لملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم لهم بالإسماء هو غير

١١٧

ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالإسماء بتعليم الله تعالى فأحد الإمرين كان ممكنً في حقّ الملائكة وفي مقدرتهم دون الآخر، وآدم إنّما استحقّ الخلافة الإلهيّة بالعلم بالإسماء دون إنبائها إذ الملائكة إنّما قالوا في مقام الجواب:( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) ، فنفوا العلم.

فقد ظهر ممّا مرّ إنّ العلم بأسماء هؤلاء المسميّات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم، دون مجرّد ما يتكفّله الوضع اللّغوي من اعطاء المفهوم فهؤلاء المسميّات المعلومة حقائق خارجيّة، ووجودات عينية وهى مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السموات والأرض، والعلم بها على ما هي عليها كان اوّلً ميسورً ممكنً لموجود أرضيّ لا مَلَك سماويّ، وثانيً: دخيلا في الخلافة الإلهيّة.

والإسماء في قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ، جمع محلّى باللّام وهو يفيد العموم على ما صرّحوا به مضافً إلى أنّه مؤكّد بقوله: كلّها، فالمراد بها كلّ اسم يقع لمسمّى ولا تقييد ولا عهد، ثمّ قوله:( عَرَضَهُمْ ) ، دالّ على كون كلّ اسم أي مسمّاه ذا حياة وعلم وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب، غيب السموات والأرض. واضافة الغيب إلى السموات والأرض وإن إمكن أن يكون في بعض الموارد اضافة من، فيفيد التبعيض لكنّ المورد وهو مقام اظهار تمام قدرته تعالى وإحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون اضافة الغيب إلى السموات والأرض اضافة اللّام، فيفيد أنّ الإسماء امور غائبة عن العالم السماويّ والأرضيّ، خارج محيط الكون، و إذا تأمّلت هذه الجهات إعني عموم الإسماء وكون مسميّاتها أولي حياة وعلم وكونها غيب السموات والأرض قضيت بإنطباقها بالضرورة على ما اشير إليه في قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوم ٍ) الحجر - ٢١، حيث أخبر سبحانه بأنّ كلّ ما يقع عليه اسم شئ فله عنده تعالى خزائن مخزونةٌ بإقيةٌ عنده غير نافده، ولا مقدّرةٌ بقدر، ولا محدودةٌ بحدّ، وأن القدر والحدّ في مرتبة الإنزال والخلق، وأنّ الكثرة الّتي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العدديّة الملازمة للتقدير والتحديد بل تعدّد المراتب والدرجات، وسيجئ بعض الكلام فيها في سورة الحجر انشاء الله تعالى.

١١٨

فتحصّل إنّ هؤلاء الّذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب، أنزل الله سبحانه كلّ اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتقّ كلّ ما في السموات والأرض من نورها وبهائها، وأنّهم على كثرتهم وتعدّدهم لا يتعدّدون تعدّد الأفراد، ولا يتفاوتون تفاوت الإشخاص، وإنّما يدور الامر هناك مدار المراتب و الدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء إنّما هو بهذا القسم من النزول.

وقوله تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) وكان هذان القسمان من الغيب النسبيّ الّذي هو بعض السموات والأرض، ولذلك قوبل به قوله:( أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الأرضىّ والسماويّ وغير الخارج عنه.

وقوله تعالى: ( كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ، تقييد الكتمان بقوله: كنتم، مشعر بأنّ هناك امرً مكتومً في خصوص آدم وجعل خلافته، ويمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية:( فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) .

فيظهر أن إبليس كان كافرً قبل ذلك الحين، وأن إبائه عن السجدة كان مرتبطُ بذلك فقد كان أضمره هذا.

ويظهر بذلك أنّ سجدة الملائكة وإباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى: قال إنّي أعلم ما لا تعلمون وبين قوله:( أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ، ويظهر السرّ أيضاً في تبديل قوله:( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ثانيً بقوله: إنّي أعلم غيب السموات والأرض.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام ، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، لو لا أنّهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء

اقول: يمكن أن يشير بها إلى دورة في الأرض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الإخبار ولا ينافي ذلك ما مرّ أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، بل لا يتمّ الخبر بدون ذلك، وإلّا كان هذا القول قياسً من الملائكة مذمومً كقياس ابليس.

١١٩

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عنهعليه‌السلام قال زرارة: دخلت علىّ أبي جعفر (عليه إلسلام) فقال: أيّ شئ عندك من احاديث الشيعة فقلت: إنّ عندي منها شيئً كثيرً فقد هممت أن اوقد لها نارً فإحرقها فقالعليه‌السلام : وارها تنس ما أنكرت منها فخطر على بالي الآدميّون فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال: وكان يقول أبوعبداللهعليه‌السلام : إذا حدّث بهذا الحديث هو كسرٌ على القدريّة، ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ آدمعليه‌السلام كان له في السماء خليل من الملائكة، فلمّا هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدً في قفرة من الأرض، فلمّا رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة، قال أبوعبداللهعليه‌السلام : يروون إنّه أسمع عامّة الخلق فقال له الملك: يا آدم ما أراك إلّا وقد عصيت ربّك وحملت على نفسك ما لا تطيق، إتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه ؟ قال: لا، قال: قال:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، قلنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فهو خلقك أن تكون في الأرض أيستقيم أن تكون في السماء ؟ قال أبوعبداللهعليه‌السلام والله عزّى بها آدم ثلثً.

أقول: ويستفاد من الرواية إنّ جنّة آدم كانت في السماء وسيجئ فيه روايات أخر أيضاً.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي العبّاس عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال: سألته عن قول الله:( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ، ما ذا علّمه ؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والإودية، ثمّ نظر إلى بساط تحته، فقال وهذا البساط ممّا علّمه.

وفي التفسير إيضاً عن الفضيل بن العبّاس عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ، ما هي ؟ قال: أسماء الإودية والنبات والشجر والجبال من الأرض.

وفي التفسير أيضاً عن داود بن سرحان العطّار، قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فدعا بالخوان فتغذّينا ثمّ دعا بالطست والدست سنانه فقلت: جعلت فداك، قوله:( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) ، الطست والدست سنانه منه، فقالعليه‌السلام : الفجاج والإودية وأهوى بيده كذا وكذا.

١٢٠