الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 165991
تحميل: 8430


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165991 / تحميل: 8430
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ علّم آدم أسماء حججه كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم. قال الله تبارك وتعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عزّ ذكره، فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريّته، ثمّ غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم، وقال لهم: ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

أقول: وبالرجوع إلى ما مرّ من البيان تعرف معنى هذه الروايات وأن لا منافاة بين هذه وما تقدّمها، إذ قد تقدّم أنّ قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ ) تعطي أنّه مامن شئ إلّا وله في خزائن الغيب وجود، وإنّ هذه الأشياء الّتي قبلنا إنّما وجدت بالنزول من هناك، وكلّ اسم وضع بحيال مسمّى من هذه المسميّات فهى اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إنّ الله علّم آدم ما في خزائن غيبه من الأشياء وهي غيب السموات والأرض، أو قيل: أنّه علّم آدم أسماء كلّ شئ وهي غيب السموات والأرض كان المؤدي والنتيجة واحداً وهو ظاهر.

ويناسب المقام عدّة من أخبار الطينة كما رواه في البحار عن جابر بن عبدالله قال: قلت لرسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم): أوّل شئ خلق الله ما هو ؟ فقال نور نبيّك يا جابر خلقه الله ثمّ خلق منه كلّ خير، ثمّ أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثمّ جعله أقساماً، فخلق العرش من قسم، والكرسيّ من قسم، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحبّ ما شاء الله، ثمّ جعله أقساماً، فخلق القلم من قسم، واللّوح من قسم، والجنّة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثمّ جعله أجزاءً فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء والقمر من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثمّ جعله أجزاءً، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثمّ

١٢١

نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كلّ قطرة روح نبيّ ورسول، ثمّ تنفّست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الاولياء والشهداء والصالحين.

أقول: والأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة وأنت إذا أجلت نظرة التأمّل والإمعان فيها وجدتها شواهد على ما قدّمناه، وسيجئ شطرٌ من الكلام في بعضها. وإيّاك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنّها من اختلاقات المتصوّفة وأوهامهم فللخلقة أسرارٌ، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهداً في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلّما لاح لهم معلوم واحدٌ بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسّها فما ظنّك بما ورائها، وهي عوالم النور والسعة؟

١٢٢

( سورة البقرة الآية ٣٤)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ( ٣٤)

( بيان)

قد عرفت أنّ قوله تعالى:( وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوماً، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله:( أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) حيث لم يعبّر أبي واستكبر وكفر. وعرفت أيضاً أنّ قصّه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى:( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ، وقوله:( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ، فقوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلّص بها إلى قصّة الجنّة، فإنّ هذه الآيات كما عرفت إنّما سيقت لبيان كيفيّة خلافة الإنسان وموقعه وكيفيّة نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهمّ من قصّة السجدة هيهنا إلّا إجمالها المؤدّي إلى قصّة الجنّة وهبوط آدم هذا. فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، ولعلّ هذا هو السرّ أيضاً في الالتفات من الغيبة إلى التكلّم في قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ) ، بعد قوله:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ ) . وعلى ما مرّ فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلاميّ من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميّز منهم، ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، إطلاق الخلافة حتّى على الملائكة كما يؤيّده أيضاً أمرهم ثانياً بالسجود، ويوجب ذلك خطوراً في قلوب الملائكة، حيث أنّها ما كانت تظنّ أنّ موجوداً أرضيّاً يمكن أن يسود على كلّ شئ حتّى عليهم، ويدلّ على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.

وقوله تعالى: ( اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحيّة وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في

١٢٣

قصّة يوسفعليه‌السلام ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً قال:( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) يوسف - ١٠٠، وملخّص القول في ذلك أنّك قد عرفت في سورة الفاتحة أنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبوديّة وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العباديّ يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولويّة المولى أو عبديّة العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلّما زادت الصلاحية المزبورة إزدادت العبادة تعيّناً للعباديّة، وأوضح الأفعال في الدلالة على عزّ المولويّة وذلّ العبوديّة السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، ووضع الجبهة عليها، وامّا ما ربّما ظنّه بعض: من أنّ السجدة عبادة ذاتيّة، فليس بشئ، فإنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف. وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخريّة والإستهزاء فلا يكون عبادة مع إشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، وإذا لم يكن عبادة ذاتيّة لم يكن لذاته مختصّاً بالله سبحانه، بناء على أنّ المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعيّ أو العقليّ والممنوع شرعاً أو عقلاً ليس إلّا إعطاء الربوبيّة لغيره تعالى، وأما تحيّة الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبيّة بل لمجرّد التعارف والتحيّة فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكنّ الذوق الدينيّ المتّخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى، وإن لم يقصد به إلّا التحيّة والتكرمة فقط، وأما المنع عن كلّ ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبّة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فممّا لم يقم عليه دليل عقليّ أو نقليّ أصلا، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محلّ يناسبه إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنّا نظنّ أنّ الله خلق خلقاً أكرم عليه منّا

١٢٤

فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: ألم أقل لكم إنّي أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجانّ وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الّذين قالوا ما قالوا بالعرش.

وفي التفسير أيضاً عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ما في معناه وفيه: فلمّا عرفت الملائكة أنّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنّها كانت عصابة من الملائكه وهم الّذين كانوا حول العرش، لم يكن(١) جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

اقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك إلى قوله:( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

وسيجئ أنّ العرش هو العلم، وبذلك وردت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فافهم ذلك، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى:( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ، قوم إبليس من الجانّ المخلوقين قبل الإنسان. قال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) الحجر - ٢٧، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقتة، فإنّ المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أنّ المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، والاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.

وفي قصص الأنبياء عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الأرض ؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.

وفي تحف العقول قال: إنّ السجود من الملائكة لآدم إنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لادم.

وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه: إنّ يهوديّاً سأل أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن معجزات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له

____________________

(١) و الرّواية لا تخلو من شيء بالّنظر الا عموم الأمر بالسّجدة في الآية و استثناء إبليس فقط و في موضع آخر من كلامه (فسجد الملائكة كلّهم اجمعون)

١٢٥

ملائكته، فهل فعل بمحمّد شيئاً من هذا ؟ فقال عليّ: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم ملائكتة، فإنّ سجودهم لم يكن سجود طاعة أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّوجلّ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ الله جلّ وعلا صلّى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبّد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهوديّ.

وفي تفسير القمّيّ: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصوّراً، وكان يمرّ به إبليس اللّعين فيقول: لأمر ما خلقت ؟ فقال: العالم، فقال إبليس: (لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته) إلى أن قال: ثمّ قال الله تعالى للملائكة: اُسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.

وفي البحار عن قصص الأنبياء عن الصادقعليه‌السلام قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا ربّ وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لاعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها، قال الله جل جلاله: إنّي أحبّ أن اُطاع من حيث أريد وقال: إنّ إبليس رنّ أربع رنّات: أوّلهنّ يوم لعن، ويوم اُهبط إلى الأرض، ويوم بعث محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فترة من الرُّسل، وحين اُنزلت أمّ الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين اُهبط من الجنّة، وقال في قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما: وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، وقال الشجرة الّتي نهى عنها آدم هي السنبلة.

اقول: وفي الرّوايات - وهي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.

١٢٦

( سورة البقرة الآيات ٣٥ - ٣٩)

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٣٥ ) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ  وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ  وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ( ٣٦ ) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ  إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ٣٧ ) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٣٩ )

( بيان)

قوله تعالى:( قلنا يا آدم أسكن ) ، على أنّ قصّة سجود الملائكة لآدم تكرّرت في عدّة مواضع من القرآن الكريم. لم يقع قصّة الجنّة إلّا في ثلاث مواضع:

أحدهما: هيهنا من سورة البقرة.

الثاني: في سورة الأعراف. قال الله تعالى:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّوَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآيات ١٩ - ٢٥.

١٢٧

والثالث: في سورة طه. قال الله تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ) . الآيات. وسياق الآيات وخاصّة قوله تعالى في صدر القصّة:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) يعطي أنّ آدمعليه‌السلام إنّما خلق ليحيى في الأرض ويموت فيها وإنّما أسكنهما الله الجنّة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتّى يهبطا إلى الأرض، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، وفي سورة الأعراف:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ ) حيث سبك قصّة الجنّة مع قصّة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصّة واحدة متواصلة، وبالجملة فهوعليه‌السلام كان مخلوقا ليسكن الأرض، وكان الطريق إلى الإستقرار في الأرض هذا الطريق، وهو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثمّ أمرهم بالسجدة، ثمّ إسكان الجنّة. والنهي عن قرب الشجرة المنهيّة حتّى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للإستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيويّة ظهور السوآة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى:( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ) فهو التمايل الحيوانيّ ويستلزم التغذّي والنموّ إيضاً فما كان لإبليس همّ إلّا إبداء سوآتهما، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضيّة بشريّة ثمّ أدخلهما الجنّة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيراً، ليتمّ في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا واحتياجاتها حتّى أدخلهما الله الجنّة، وأنّه إنّما أدخلهما الله الجنّة حين أدخلهما ولمّا ينفصلا ولمّا ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى:( لِيُبْدِيَ لَهُمَا

١٢٨

مَا وُورِيَ عَنْهُمَا ) ولم يقل ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأنّ مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا إستدامة وإنّما تمشّت دفعة مّا واستعقب ذلك، إسكان الجنّة فظهور السوآة كان مقضيّاً محتوماً في الحياة الأرضيّة ومع أكل الشجرة، ولذلك قال تعالى:( فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ ) ، وقال تعالى:( فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) وأيضاً هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنّة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحياة الأرضيّة مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتماً مقضيّاً، والرجوع إلى الجنّة مع ذلك محالاً، لرجعا إليها بعد حطّ الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنّة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوآة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللّعين، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصّة:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) . ثمّ ساق تعالى القصّة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنّه قوله تعالى:( إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) أو أنّه العهد بمعني الميثاق العموميّ المأخوذ من جميع الإنسان، ومن الأنبياء خاصّة بوجه آكد وأغلظ.

والاحتمال الأوّل غير صحيح لقوله تعالى:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى:( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فالعهد المذكور ليس هو النهى عن قرب الشجرة وأمّا الاحتمال الثاني (وهو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتّباع إبليس) فهو وإن لم يكن بالبعيد كلّ البعيد، لكنّ ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإنّ العهد مخصوص بآدمعليه‌السلام كما هو ظاهر الآية.

مع أنّ التحذير عن إبليس كان لهما معاً، وأيضاً ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلّيّ، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) الآيات فبحسب التطبيق

١٢٩

ينطبق قوله تعالى:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبيّة والعبوديّة أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر واتّباع إبليس، وأما الميثاق على الربوبيّة فهو له انسب، فإنّ الميثاق على الربوبيّة هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربّاً له أي مالكاً مدبّراً أي لا ينسى الإنسان أبداً ولا في حال أنّه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئاً لا نفعاً وضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، أي لا ذاتاً ولا وصفاً ولا فعلاً.

والخطيئة الّتي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربّه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا. لكنّك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على إختلاف جهاتها وتشتّت أطرافها وأنحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربّه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعه لأقسام الكدورات وأنواع الآلام وضروب المكاره : من موت وحياة، وصحّة وسقم، وسعة وإقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان. على أنّ الجميع (أعم ممّا في نفس الإنسان أو في غيره) مملوكة لربّه، لا استقلال لشئ منها وفيها، بل الكلّ ممّن ليس عنده إلّا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزّتة وجلاله، ولا يترشّح من لدنه إلّا الجميل والخير، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفاً يخافه، ولا مهيبا يهابه، ولا محذوراً يحذره، بل يرى كلّ ما يراه حسناً محبوباً إلّا ما يأمره ربّه أن يكرهه ويبغضه، وهو مع ذلك يكرهه لأمره، ويحبّ ما يحبّ ويلتذّ ويبتهج بأمره، لا شغل له إلّا بربّه، كلّ ذلك لما يرى الجميع ملكاً طلقاً لربّه لا نصيب ولا حظّ لشئ غيره في شئ منها، فما له ولمالك الأمر وما يتصرّف به في ملكه ؟ من إحياء وإماتة، ونفع وضرّ وغيرها. فهذه هي الحياة الطيّبة الّتي لا شقاء فيها ألبتّة وهي نور لا ظلمة معه، وسرور لا غمّ معه، ووجدان لا فقد معه، وغنى لا فقر معه كلّ ذلك بالله سبحانه. وفي مقابل هذه الحياة حياة الجاهل

١٣٠

بمقام ربّه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربّه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره إلّا رآه مستقلّا بنفسه ضارّاً أو نافعاً خيراً أو شرّاً فهو يتقلّب في حياته بين الخوف عمّا يخاف فوته، والحذر عمّا يحذر وقوعه، والحزن لما يفوته، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان وساير ما يحبّه ويتّكل ويعتمد عليه ويؤثره.

كلّما نضج جلده بالإعتياد بمكروه والسكون ألى مرارة بدّل جلداً غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، وحشى ذائب محترق، وصدر ضيّق حرج، كأنّما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون.

إذا عرفت هذا علمت: أنّ مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحياة الدنيا واحدٌ، وأنّ الشقاء الدنيويّ من فروع نسيان الميثاق.

وهذا هو الّذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) . وبدّل ذلك في هذه السورة من قوله:( فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أنّ الشّجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا وشقائها، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسياً لربّه، غافلاً عن مقامه، وأنّ آدمعليه‌السلام كأنّه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكّن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحياة الدنيا، ثمّ تدورك له ذلك بالتوبة.

قوله تعالى: ( وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا ) الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، وقوم رغدٌ، ونساء رغد، أي ذووا عيش رغيد.

وقوله تعالى: ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) وكأنّ النهي إنّما كان عن أكل الثمرة وإنّما تعلّق بالقرب من الشجرة إيذاناً بشدّة النهى ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) الأعراف - ٢٢.

وقوله تعالى: ( فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) طه - ١٢١، فكانت المخالفة

١٣١

بالأكل فهو المنهىّ عنه بقوله:( وَلَا تَقْرَبَا ) .

قوله تعالى: ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ) .

إلّا أنّه تعالى بدّل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله:( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) من قوله:( فَتَشْقَىٰ ) والشقاء هو التعب ثمّ فسّر التعب وفصّله، فقال:( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) الآيات.

ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنّما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع وعطشٍ وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما إنّما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه. ومن هنا يظهر أيضاً أنّ هذا النهى أعني قوله:( وَلَا تَقْرَبَا ) ، إنّما كان نهيا تنزيهيّاً إرشاديّاً يرشد به إلى ما فيه خير المكلّف وصلاحه في مقام النصح لا نهياً مولويّاً.

فهما إنّما ظلماً أنفسهما في ترك الجنّة على أنّ جزاء المخالفة للنهى المولويّ التكليفيّ يتبدّل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدّل في موردهما، فإنّهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنّة ولو لا أنّ التكليف إرشادىّ ليس له إلّا التبعة التكوينيّة دون التشريعيّة لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقيّة فيما سيأتي إن شاء الله.(١)

قوله سبحانه: ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) ، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا (بني آدم) على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.

لكنّ الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) يدلّ على أنّه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إيّاه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، ويدلّ ذلك على متكلّم مشعور به.

____________________

(١) ص ١٣٧

١٣٢

وكذا قوله تعالى في سورة الأعراف:( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) والقسم إنّما يكون من مقاسم مشعور به.

وكذا قوله تعالى:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ، كلّ ذلك يدلّ على أنّه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه. ولو كان حالهماعليهم‌السلام مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربّنا إنّنا لم نشعر وخلنا أنّ هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، ولا قصد لمخالفة ما وصيّتنا به من التحذير من وسوسته.

وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه، والأنبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرّضه بهم لو تعرّض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وأيوب وإسمعيل ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) هذا.

وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ) حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنّة، فقد كان دخل الجنّة وصاحبهما وغرّهما بوسوسته. ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنّة جنّة الخلد حتّى لا يدخلها الشيطان. والدليل على ذلك خروجهم جميعاً من هذه الجنه.

وأمّا قوله تعالى خطاباً لإبليس:( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ ) الأعراف - ١٣، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف.

قوله تعالى: ( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الآية، ظاهر السياق أنّه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خصّ إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال:( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) الآية، فقوله تعالى:( اهْبِطُوا ) كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذرّيّتهما، وكذلك قضى به حياتهم في الأرض وموتهم فيها وبعثهم منها.

وذريّة آدم مع آدم في الحكم كما ربّما يستشعر من ظاهر قوله:( فِيهَا تَحْيَوْنَ

١٣٣

وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآية وكما سيأتي في قوله تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الآية، من سورة الأعراف.

إنّ إسجاد الملائكة لآدمعليه‌السلام إنّما كان من جهة أنّه خليفة أرضيٌّ، فكان المسجود له آدمعليه‌السلام وحكم السجدة لجميع البشر، فكان إقامة آدمعليه‌السلام مقام المسجود له معنوناً بعنوان الأنموذج والنائب.

وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصّة الّتي قصّها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنّة، ثمّ إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثّل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيرة القدس، ومنزل الرفعة والقرب، ودار نعمة وسرور، وأنس ونور، ورفقاء طاهرين، وأخلّاء روحانيّين، وجوار ربّ العالمين.

ثمّ إنّه يختار مكأنّه كلّ تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حياة فانية، وجيفة منتنة دانية، ثمّ إنّه لو رجع بعد ذلك إلى ربّه لأعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الأرض واتّبع هواه فقد بدّل نعمة الله كفراً وأحلّ بنفسه دار البوار، جهنّم يصلاها وبئس القرار.

قوله تعالى: ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، التلقّي هو التلقّن، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقّى كان هو الطريق المسّهل لآدمعليه‌السلام توبته.

ومن ذلك يظهر أنّ التوبة توبتان: توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.

وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين: من الله تعالى، فإنّ العبد لا يستغني عن ربّه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتّى يتحقّق منه التوبة، ثمّ تمسّ الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدلُّ عليه قوله تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة - ١١٨.

وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة، وإن كانت القراءة الاُخرى (وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات) لا تنافيه أيضاً.

١٣٤

وأمّا أنّ هذه الكلمات ما هي ؟ فربّما يحتمل أنّها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الأعراف - ٢٣، إلّا أنّ وقوع هذه الكلمات أعني قوله:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا ) الآية قبل قوله:( قُلْنَا اهْبِطُوا ) في سورة الأعراف ووقوع قوله :( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ ) الآية بعد قوله:( قُلْنَا اهْبِطُوا ) ، في هذه السورة لا يساعد عليه.

لكن ههنا شئ: وهو أنّك عرفت في صدر القصّة أن الله تعالى حيث قال:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، قالت الملائكة:( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) الآية وهو تعالى لم يردّ عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به ولم يجب عنه بشئ إلّا أنّه( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) .

ولو لا أنّه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسدّ باب إعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم ولا تمّت الحجّة عليهم قطعاً. ففي جملة ما علّمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب، فلعلّ تلقّيه من ربّه كان متعلّقا بشئ من تلك الأسماء فافهم ذلك.

وإعلم أنّ آدمعليه‌السلام وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطة فقد هلك، ولو رجع إلى سعادتة الاُولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهوعليه‌السلام ظالم لنفسه على كلّ تقدير، إلّا أنّهعليه‌السلام هيّأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ماكان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلّة والمسكنة والحاجة والقصور؟ وله في كلّ ما يصيبه من التعب والعناء والكدّ روح وراحة في حظيرة القدس وجوار ربّ العالمين، فللّه تعالى صفات من عفو ومغفرة و رآفة و توبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلّا المذنبون، وله في أيّام الدهر نفحات يرتاح بها إلّا المتعرّضون.

فهذه التوبة هي الّتي استدعت تشريع الطريق الّذي يتوقّع سلوكه وتنظيف المنزل الّذي يرجى سكونه، فورائها تشريع الدين وتقويم الملّة.

١٣٥

ويدلُّ على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرّر في كلامه تقدّم التوبة على الإيمان. قال تعالى:( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ) هود - ١١٢، وقال:( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ ) طه - ٨٢، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) . وهذا أوّل ما شرّع من الدين لآدمعليه‌السلام وذرّيّته، أوجز الدين كلّه في جملتين لا يزاد عليه شئ إلى يوم القيامة.

وأنت إذا تدبّرت هذه القصّة (قصّة الجنّة) وخاصّة ما وقع في سورة طه وجدت أنّ المستفاد منها أنّ جريان القصّة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذرّيّته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والإستقرار في الأرض والحياة فيها تلك الحياة الشقيّة الّتي حذّرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا.

وأنّ التوبة ثانياً: تعقّب قضاءً وحكماً ثانياً منه تعالى بإكرام آدم وذرّيّته بالهداية إلى العبوديّة فالمقضيّ أوّلاً كان نفس الحياة الأرضيّة، ثمّ بالتوبة طيّب الله تلك الحياة بأن ركّب عليها الهداية إلى العبوديّة، فتألّفت الحياة من حياة أرضيّة، وحياة سماويّة.

وهذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) الآية وقال تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) الآية.

وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأنّ التوبة وقعت ولمّا ينفصلا من الجنّة وإن لم يكونا أيضاً فيها كإستقرار هما فيها قبل ذلك.

يشعر بذلك أيضاً قوله تعالى:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) الآية بعد ما قال لهما:( لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبّر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.

وأعلم أن ظاهر قوله تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) الآية وقوله تعالى:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ )

١٣٦

الآية أنّ نحوه هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنّة قبل الهبوط، وأن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكوّن الإنسان في الأرض ثمّ يعاد بالموت إليها ثمّ يخرج بالبعث منها.

فالحياة الأرضيّة تغاير حياة الجنّة فحياتها حياة سماويّة غير أرضيّة.

ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنّة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنّة الآخرة جنّة الخلد الّتي لا يخرج منها من دخل فيها.

نعم يبقي الكلام في معنى السماء ولعلّنا سنوفّق لاستيفاء البحث منه. إنشاء الله تعالى.

بقى هنا شئ وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر وإن كان تحقّق المعصية والخطيئة منهعليه‌السلام كما قال تعالى:( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، وقال تعالى:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) الآية، وكما إعترف به فيما حكاه الله عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الآية.

لكنّ التدبُّر في آيات القصّة والدقّة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأنّ النهي المذكور لم يكن نهياً مولويّاً و إنّما هو نهي إرشاديّ يراد به الإرشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والإرادة المولويّة.

ويدلّ على ذلكأوّلاً: أنّه تعالى فرّع على النهى في هذه السورة وفي سورة الأعراف أنّه ظلم حيث قال:( لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ثمّ بدّله في سورة طه من قوله:( فَتَشْقَىٰ ) مفرّعاً إيّاه على ترك الجنّة. ومعنى الشقاء التعب ثمّ ذكر بعده كالتفسير له:( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) الآيات.

فأوضح أنّ المراد بالشقاء هو التعب الدنيويّ، الّذي تستتبعه هذه الحياة الأرضيّة من جوع وعطش وعراء وغير ذلك.

فالتوقّي من هذه الاُمور هو الموجب للنهي الكذائيّ لا جهة اُخرى مولويّة فالنهى إرشاديّ. ومخالفة النهى الإرشاديّ لا توجب معصية مولويّة، وتعدّيا عن طور العبوديّة وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضاً في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبيّة والعبوديّة وهو ظاهر.

١٣٧

وثانياً: أنّ التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنّها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد.

ولو كان النهى عن أكل الشجرة مولويّاً وكانت التوبة توبة عن ذنب عبوديّ ورجوعاً عن مخالفة نهى مولويّ كان اللّازم رجوعهما إلى الجنّة مع أنّهما لم يرجعا.

ومن هنا يعلم أنّ استتباع الأكل المنهىّ للخروج من الجنّة كان إستتباعاً ضروريّاً تكوينيّاً، نظير إستتباع السمّ للقتل والنار للإحراق كما في وارد التكاليف الإرشاديّة لا استتباعاً من قبيل المجازاة المولويّة في التكاليف المولويّة، كدخول النار لتارك الصلاة. وإستحقاق الذمّ واستيجاب البعد في المخالفات العموميّة الاجتماعيّة المولويّة.

وثالثاً: أنّ قوله تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، الآيات.

وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيليّة الّتي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله، يحكى عن أوّل تشريع شرّع للإنسان في هذه الدنيا الّتي هي دنيا آدم وذرّيّته، وقد وقع على ما يحكيه الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط ومن الواضح أنّ الامر بالهبوط أمرٌ تكوينيٌّ متأخّرٌ عن الكون في الجنّة واقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دينٌ مشروع ولا تكليف مولويّ فلم يتحقّق عند ذلك ذنبٌ عبوديٌّ، ولا معصيةٌ مولويّة.

ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولإبليس وهو قبل خطاب لا تقربا، خطاباً مولويّاً لأنّ المكلّف غير المكلّف.

فإن قلت: إذا كان النهى نهياً إرشاديّاً لا نهيّاً مولويّاً فما معنى عدّه تعالى فعلهما ظلماً وعصياناً وغواية؟

قلت: أمّا الظلم فقد مرّ أنّ المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، وأمّا العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر وكسرته

١٣٨

فعصى، والعصيان وهو عدم الانفعال عن الأمر أو النهى كما يتحقّق في مورد التكاليف المولويّة كذلك يتحقّق في مورد الخطابات الإرشاديّة.

وأمّا تعيّن معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صلّ، أم صُم، أو حجّ، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعيّنٌ بنحو الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة لا يضرّ بعموم المعنى بحسب اللّغة والعرف العامّ هذا.

وأمّا الغواية فهو عدم إقتدار الإنسان مثلاً على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه.

وواضحٌ أنّه يختلف بإختلاف الموارد من إرشاد ومولويّة.

فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ وقولهما:( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ؟.

قلت: التوبة كما مرّ هي الرجوع، والرجوع يختلف بحسب إختلاف موارده.

فكما يجوز للعبد المتمرّد عن أمر سيّده وإرادته أن يتوب إليه، فيردّ إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الّذي نهاه الطبيب نهياً إرشاديّاً عن أكل شئ معيّن من الفواكه والمأكولات، وانّما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرّر فأشرف على الهلاك.

يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله وعافيته، فيذكر له أنّ ذلك محتاجٌ إلى تحمّل التعب والمشقّة العناء والرياضة خلال مدّة حتّى يعود إلى سلامة المزاج الاُولي بل إلى أشرف منها وأحسن، هذا.

وأمّا المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائر ها في إختلافها بحسب إختلاف مواردها، هذا.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ عن أبيه رفعه قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن جنّة آدم أمن جنّات الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقالعليه‌السلام : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً، قالعليه‌السلام : فلمّا أسكنه الله الجنّة وأباحها له إلّا الشجرة، لأنّه خلق خلقة لا يبقى إلّا بالأمر والنهى والغذاء واللّباس

١٣٩

والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلّا بالتوفيق، فجائه إبليس فقال له: إنّكما إن أكلتما من هذه الشجرة الّتي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنّة أبداً، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنّة، وحلف لهما أنّه لهما ناصح كما قال الله عزّوجلّ حكاية عنه:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوأتهما، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنّة، وأقبلا يستتران من ورق الجنّة، وناداهما ربّهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوٌّ مبين، فقالا كما حكى الله عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فقال الله لهما:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) ، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، وإنّما سمّيت الصفا لأنّ صفيّ الله أنزل عليها، ونزلت حوّاء على المروة وإنّما سمّيت المروة لأنّ المرئة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحاً ساجداً يبكي على الجنّة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ؟ قال: بلى، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته ؟ قال آدم: إنّ إبليس حلف لي بالله كاذباً.

اقول: وفي كون جنّة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتّحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.

والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخيّة في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله:( فهبط آدم على الصفا) ، وكقوله:( ونزلت حوّاء على المروة) ، وكقوله: إنّ المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثاً في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عدّ المكث البرزخيّ مكثاً في الأرض كما يشير إليه قوله تعالى:( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) المؤمنون - ١١٤، وقوله تعالى:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ

١٤٠