الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172981 / تحميل: 9107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي اُنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، والصلاة على من جعله شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيراً، وعلى آله الّذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرّهم تطهيراً.

( مقدمه)

نعرِّف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار.

التفسير (وهو بيان معاني الآيات القرآنيّة والكشف عن مقاصدها ومداليلها) من أقدم الاشتغالات العلميّة الّتي تعهد من المسلمين، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمّى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى وتقدّس :( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) الآية البقرة - ١٥١.

وقد كانت الطبقة الاُولى من مفسّري المسلمين جماعة من الصحابة (والمراد بهم غير عليّ عليه السلام، فإنّ له وللأئمّة من ولده نبأ آخر سنتعرّض له) كابن عبّاس وعبدالله بن عُمَر واُبي وغيرهم اعتنوا بهذا الشأن، وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط، من الآيت بجهاتها الادبيّة وشأن النزول وقليلٍ من الاستدلال بآية على آية وكذلك قليلٌ من التفسير بالروايات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القصص ومعارف المبدء والمعاد وغيرها.

وعلى هذا الوصف جرى الحال بين المفسّرين من التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبيّ والسديّ وغيرهم في القرنين الأوّلين من الهجرة، فإنّهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسّري الصحابة شيئاً غير أنّهم زادوا من التفسير بالروايات، (وبينها روايات دسّها اليهود أو غيرهم)، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى

٢

الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الأرض والبحار وإرم شدّاد وعثرات الأنبياء و تحريف الكتاب واشياء اُخَر من هذا النوع، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث.

ثم استوجب شيوع البحث الكلاميّ بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من اُمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الاديان والمذاهب المتفرّقة من جهة.

ونقل فلسفة يونان إلى العربيّة في السلطنة الاُمويّة أواخر القرن الأوّل من الهجرة، ثمّ في عهد العبّاسيّين، وانتشار البحث العقليّ الفلسفيّ بين الباحثين من المسلمين من جهة اُخرى ثانية.

وظهور التصوّف مقارناً لانتشار البحث الفلسفيّ وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينيّة من طريق المجاهدة والرياضة النفسانيّة دون البحث اللفظيّ والعقليّ من جهة اُخرى ثالثة.

بقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبّد المحض بالظواهر الدينيّة من غير بحث إلّا عن اللفظ بجهاتها الادبيّة من جهة اُخرى رابعة.

أن اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في لمذاهب ما عمل، ولم يبقى بينهم جامع في الرأي والنظر إلّا لفظ لا إله إلّا الله ومحمّدٌ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختلفوا في معنى الأسماء والصفات والأفعال والسماوات وما فيها الأرض وما عليها والقضاء والقدر والجبر والتفويض والثواب والعقاب وفي الموت وفي البرزخ والبعث والجنّة والنار، وبالجملة في جميع ما تمسّه الحقائق والمعارف الدينيّة ولو بعض المسّ، فتفرّقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، وكلّ يَتحفّظُ على متن ما اتّخذه من المذهب والطريقة.

فأمّا المحدّثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وجدّوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شئ ولم يظهر المعنى ظهوراً لايحتاج إلى البحث أخذاً بقوله تعالى:( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) الآية آل عمران - ٧. وقد أخطاؤا في ذلك فإنّ الله سبحانه

٣

لم يُبطل حجّة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيّته إنّما تثبت به ! ولم يجعل حجيّة في أقوال الصحابة والتابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدعُ إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب إلّا إلى التدبّر في آياتة، فرفع به أيّ اختلاف يترائى منها، وجعله هدىً و نوراً و تبياناً لكلّشئ، فما بال النور يستنير بنور غيره ! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه ! وكيف يتبيّن ما هو تبيان كلّشئ بشئٍ دون نفسه !.

وأمّا المتكلّمون فقد دعاهم الأقوال المذهبيّة على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف، على حسب ما يجّوزه قول المذهب.

واختيار المذاهب الخاصّة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وإن كان معلولا لاختلاف الاُنظار العلميّة أو لشئٍ آخر كالتقاليد والعصبيّات القوميّة، وليس هيهنا محلّ الاشتغال بذلك، إلّا أنّ هذا الطريق من البحث أحرى به أن يُسمّى تطبيقاً لا تفسيراً.

ففرقٌ بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن ؟ أو يقول: ما ذا يجب ان نحمل عليه الآية ؟ فانّ القول الأوّل يوجب ان ينسى كلّ أمر نظريّ عند البحث، وأن يتّكى على ما ليس بنظريّ ، والثاني يوجب وضع النّظريّات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم أنّ هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثاً عن معناه في نفسه.

وأمّا الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلّمين من المفسّرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلّمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعمّ أعني: الرياضيّات والطبيعيّات والآلهيّات والحكمة العمليّة، وخاصّة المشّائين، وقد تأولّوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السموات والأرض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتّى أنّهم ارتكبوا التأويل في الآيات الّتي لا تلائم الفرضيّات والاُصول الموضوعة الّتى نجدها في العلم الطبيعيّ: من نظام الأفلاك الكلّية والجزئية وترتيب العناصر والأحكام الفلكيّة والعنصريّة إلى غير ذلك، مع أنّهم

٤

نصّوا على أنّ هذه الأنظار مبتنية على اُصول موضوعة لا بيّنة ولا مبيّنة.

وأما المتصوّفة، فإنّهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسيّة دون عالم الظاهر وآياته الآفاقيّة اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعريّة والإستدلال من كلّ شئ على كلّ شئ، حتّى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل وردّ الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانيّة والظلمانيّة إلى غير ذلك.

ومن الواضح أنّ القرآن لم ينزل هدى للمتصوّفة خاصّة، ولا أنّ المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوفاق والحروف، ولا أنّ معارفه مبنيّةٌ على أساس حساب الجُمل الّذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانيّة وغيرها إلى العربيّة.

نعم قد وردت روايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّه أهل البيتعليهم‌السلام كقولهم: انّ للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة ابطن أو إلى سبعين بطناً الحديث.

لكنّهمعليهم‌السلام إعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبيّن في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: أنّ التأويل الّذي يراد به المعنى المقصود الّذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام، وأنّ الّذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم.

وقد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أنّ قوماً من منتحلي الإسلام في أثر توغّلهم في العلوم الطبيعيّة وما يشابهها المبتنية على الحسّ والتجربة، والاجتماعيّة المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسّيين من فلاسفة الاُروبة سابقاً، أو إلى مذهب أصالة العمل (لا قيمة للادراكات الاترتب العمل عليها بمقدارٍ يعيّنه الحاجة الحيويّة بحكم الجبر).

فذكروا: أنّ المعارف الدينيّة لا يمكن أن تخالف الطريق الّذي تصدّقه العلوم وهو أن: (لا أصالة في الوجود إلّا للمادّة وخواصّها المحسوسة) فما كان الدين يخبر عن وجوده ممّا يكذّب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤلّ تأويلاً.

٥

وما يُخبر عن وجوده ممّا لا تتعرّض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجّه بالقوانين المادّيّة.

وما يتّكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوّة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنّما هي اُمور روحيّة، والروح ماديّة ونوع من الخواصّ الماديّة، والتشريع نبوغ خاصّ اجتماعي يُبني قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.

ذكروا: أنّ الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلّا ما وافق الكتاب، وأمّا الكتاب فلا يجوز أن يُبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الّذي أبطله العلم بالبناء على الحسّ والتجربة، بل الواجب أن يستقلّ بما يعطيه القرآن من التفسير إلّا ما بيّنه العلم.

هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتّباع طريق الحسّ والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا هيهنا في اُصولهم العلميّة والفلسفيّة الّتي اتّخذوها اصولاً وبنوا عليها ما بنوا.

وإنّما الكلام في أنّ ما اُوردوه على مسالك السلف من المفسّرين (أنّ ذلك تطبيق وليس بتفسير) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرّحوا أنّه حقّ التفسير الّذي يفسّر به القرآن بالقرآن.

ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئاً، فما بالهم يأخذون الأنظار العلميّة مسلّمة لا يجوز التعدّي عنها ؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف اصلاحاً.

وأنت بالتأمّل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: انّ الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجهُ الابحاث العلميّة أو الفلسفيّة من خارج على مداليل الآيات، فتبدّل به التفسير تطبيقاً وسمّي به التطبيق تفسيراً، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازاتٍ، وتنزيل عدّة من الآيات تأويلات.

ولازم ذلك (كما أومأنا إليه في أوائل الكلام) أن يكون القرآن الّذي يعرّف

٦

نفسه (بأنّه هدىً للعالمين ونور مبين وتبيان لكلّ شئ) مهديّاً إليه بغيره ومستنيراً بغيره ومبيّناً بغيره، فما هذا الغير ! وما شأنه ! وبماذا يهدي إليه ! وما هو المرجع والملجاُ إذا اختلف فيه ! وقد اختلف واشتدّ الخلاف.

وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم (مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربيّ) الكلمات أو الآيات، فإنّما هو كلام عربيّ مبين لا يتوّقف في فهمه عربيّ ولا غيره ممّن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربيّ.

وليس بين آيات القرآن (وهي بضع آلاف آية) آيةٌ واحدة ذات اغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحيّر الذهن في فهم معناها، وكيف ! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلوّ الكلام عن الاغلاق والتعقيد، حتّى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنّما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.

وإنّما الاختلاف كلّ الاختلاف في المصداق الّذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظيّة من مفردها ومركّبها، وفي المدلول التصوّريّ والتصديقيّ.

توضيحه: أنّ الاُنس والعادة (كما قيل) يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادّيّة أو ما يتعلّق بالمادّة فإنّ المادّة هي الّتي تتقلّب فيها اُبداننا وقوانا المتعلّقة بها ما دمنا في الحيوة الدنيويّة، فإذا سمعنا ألفاظ الحيوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والأمر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادّيّة لمفاهيمها.

وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسيّ والملك واجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى افهامنا مصاديقها الطبيعيّة.

وإذا سمعنا: أنّ الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيّدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.

وإذا سمعنا نحو قوله:( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) الآية وقوله:( لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا ) الآية

٧

وقوله:( وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ ) الآية وقوله:( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) الآية قيدّنا معنى الحضو بالمكان.

وإذا سمعنا نحو قوله:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) الآية. أو قوله:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ) الآية أو قوله:( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) الآية فهمنا: أنّ الجميع سنخ واحد من الارادة، لما أنّ الأمر على ذلك فيما عندنا، وعلى هذا القياس.

وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، ومن حقّنا ذلك، فإنّ الّذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنّما هي الحاجة الاجتماعيّة إلى التفهيم والتفّهم، والاجتماع إنّما تعلّق به الانسان ليستكمل به في الأفعال المتعلّقة بالمادة ولواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسميّاتها الّتي نريد منها غايات واغراضا عائدة إلينا.

وكان ينبغي لنا أن نتنبّه: أنّ المسميّات المادّيّة محكومة بالتغيّر والتبدّل بحسب تبدّل الحوائج في طريق التحوّل والتكامل كما أن السراج أوّل ما عمله الانسإن كان إنآء فيه فتيلة وشئٌ من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائة به في الظلمة، ثمّ لم يزل يتكامل حتّى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائيّ ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أوّلا الموضوع بإزائه لفظ السراج شئٌ ولا واحدٌ.

وكذا الميزان المعمول أوّلاً ، والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلاً. والسلاح المتّخذ سلاحاً أوّل يوم، السّلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.

فالمسميّات بلغت في التغيّر إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتاً وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلّا لأنّ المراد في التسمية إنّما هو من الشئ غايتة، لا شكله وصورته، فما دام غرض التوزين اوالأستضائة أو الدفاع باقياً كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقياً على حاله.

فكان ينبغي لنا أن نتنبّه بأنّ المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك ممّا لا مطمع فيه البتّة، ولكنّ العادة والاُنس منعانا ذلك، وهذا هو الّذي دعى المقلّدة من أصحاب الحديث من الحشويّة والمجسّمة أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جموداً على الظواهر بل هو جمود على العادة والانس في تشخيص المصاديق.

٨

لكن بين هذه الظواهر أنفسها اُمور تبيّن: أنّ الاتّكاء والاعتماد على الاُنس والعادة في فهم معاني الآيات يشوّش المقاصد منها ويختّل به أمر الفهم كقوله تعالى:( ليس كمثله شئ ) الآية. وقوله:( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) . وقوله:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

وهذا هو الّذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العاديّ والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عن الخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الّذي دعى الإنسان إلى أن يتمسّك بذيل البحث العلميّ، وأجاز ذلك للبحث أن يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصدة العالية، وذلك على أحد وجهين، أحدهما: أن نبحث بحثاً علميّاً أو فلسفيّاً أو غير ذلك عن مسألة من المسائل الّتي تتعرّض له الآية حتّى نقف على الحقّ في المسألة، ثمّ نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظريّ، غير أنّ القرآن لا يرتضيه كما عرفت، وثانيهما: أن نفسّر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق ونتعرّفها بالخواصّ الّتي تعطيها الآيات، كما قال تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) تبياناً لكّلشئ الآية. وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكّلشئ ولا يكون تبياناً لنفسه، وقال تعالى:( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) الآية. وقال تعالى:( إنّا أنزلنا اليكم نوراً مبيناً ) الآية. وكيف يكون القرآن هدىً وبيّنة وفرقاناً ونوراً مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو اشدّ الاحتياج ! وقال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) الآية. وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه ؟ وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن ؟.

والايات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في أوائل سورة آل عمران.

ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي علّمه القرآن وجعله معلّماً لكتابه كما يقول تعالى:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) الآية. ويقول:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) الآية. ويقول:( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) الآية. وعترته واهل بيته الّذين اقامهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المقام في الحديث المتّفق

٩

عليه بين الفريقين (إنى تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض). وصدّقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، حيث قال عزّ من قائل:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . وقال:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الآية قد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير. وسنورد ما تيسّر لنا ممّا نقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّه أهل بيتهعليهم‌السلام في ضمن أبحاث روائيّة في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتّبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجّة نظريّة عقليّة ولا فرضيّة علميّة.

وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : {فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع وما حلٌّ مصدّق، من جعله امامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب، فإنّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلّص ويقلّ التربص}. وقال عليّ عليه السلام: (يصف القرآن على ما في النهج) {ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض الخطبة}. هذا هو الطريق المستقيم والصراط السويّ الّذي سلكه معلّموا القرآن وهداته صلوات الله عليهم.

وسنضع ما تيسّر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجّة نظريّة فلسفيّة أو إلى فرضيّة علميّة، أو إلى مكاشفة عرفانيّة.

واحترزنا فيها عن أن نضع إلّا نكتة ادبيّة يحتاج إليها فهم الاُسلوب العربيّ أو مقدّمة بديهية أو عمليّة لا يختلف فيها الأفهام.

١٠

وقد تحصّل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره:

(١) المعارف المتعلّقة بأسماء الله سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها، وأمّا الذات فستطلّع أنّ القرآن يراه غنيّاً عن البيان.

(٢) المعارف المتعلّقة بأفعاله تعالى من الخلق والأمر والإرادة والمشيّة والهداية والإضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط، إلى غير ذلك من متفرّقات الأفعال.

(٣) المعارف المتعلّقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الانسان كالحُجُب واللوح والقلم والعرش والكرسيّ والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجنّ وغير ذلك.

(٤) المعارف المتعلّقة بالانسان قبل الدنيا.

(٥) المعارف المتعلّقة بالانسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة اصول اجتماعه ومعرفة النبوّة والرسالة والوحي والإلهام والكتاب والدين والشريعة، ومن هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم المحكيّة.

(٦) المعارف المتعلّقة بالانسان بعد الدنيا، وهو البرزخ والمعاد.

(٧) المعارف المتعلّقة بالأخلاق الإنسانيّة، ومن هذا الباب ما يتعلّق بمقامات الاُولياء في صراط العبوديّة من الإسلام والإيمان والإحسان والإخبات والاخلاص وغير ذلك.

وأمّا آيات الأحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه.

وقد أفاد هذه الطريقة من البحث ارتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، وأمّا التأويل بالمعنى الّذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، فسترى أنّه ليس من قبيل المعاني.

ثمّ وضعنا في ذيل البيانات متفرّقات من ابحاث روائيّة نورد اما تيسّر لنا ايراده من الروايات المنقولة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامّة والخاصّة، وأمّا الروايات الواردة عن مفسري الصّحابة والتابعين.

١١

فإنّها على ما فيها من الخط والتناقض لا حجّة فيها على مسلم.

وسيطلّع الباحث المتدبّر في الروايات المنقولة عنهمعليهم‌السلام ، أنّ هذه الطريقة الحديثة الّتي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير الّتي سلكها معلّموه سلام الله عليهم.

ثمّ وضعنا ابحاثاً مختلفة، فلسفيّة وعلميّة وتأريخيّة واجتماعيّة وأخلاقية، حسب ما تيسّر لنا من البحث، وقد أثرنا في كلّ بحث قصر الكلام على المقدّمات المسانخة له، من غير تعدّ عن طور البحث.

نسئل الله تعالى السداد والرشاد فانّه خيرمعين وهاد

الفقير إلى الله: محمّد حسين الطباطبائي

١٢

( سورة الحمد وهي سبع آيات)

( سورة الحمد الآيات ١ – ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( ١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( ٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( ٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( ٥)

( بيان)

قوله تعالى: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) الناس ربّما يعملون عملاً أو يبتدؤن في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزّتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركاً بذلك متشرّفاً، أو ليكون ذكرى يذكّرهم به، ومثل ذلك موجود أيضاً في باب التسمية فربّما يسمّون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئاً ممّا صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسّسة أسسّوها باسم من يحبّونه أو يعظّمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمّى الجديد، ويبقى المسمّى الأوّل نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمّى ولده باسم والده ليحيى بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى.

وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عزّ إسمه، ليكون ما، يتضمنّه من المعنى معلّماً باسمه مرتبطاً به، وليكون أدباً يؤدّب به العباد في الاعمال والافعال والأقوال، فيبتدؤا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلّماً باسمه منعوتاً بنعته تعالى مقصوداً لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكاً باطلاً مبتراً، لأنّه باسم الله الّذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه.

وذلك أنّ الله سبحانه يبيّن في مواضع من كلامه: أنّ ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، وأنّه: سيقدم إلى كلّ عمل عملوه ممّا ليس لوجهه الكريم، فيجعله هبائاً منثوراً، ويحبط ما صنعوا ويبطل ما كانوا يعملون، وأنّه لا بقاء لشئٍ إلّا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم وصنع باسمه هو الّذي يبقى ولا يفنى، وكلّ أمر من الاُمور إنّما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، وهذا هو الّذي يفيده ما رواه الفريقان عن

١٣

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قال: { كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر الحديث }. والأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أنّ متعلّق الباء في البسملة ابتدء بالمعنى الّذي ذكرناه وقد ابتدء بها الكلام بما أنّه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة، وهو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، والغرض المحصّل منه.

وقد ذكر الله سبحانه الغرض المحصّل من كلامه الّذي هو جملة القرآن إذ قال تعالى:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ ) الآية المائدة ١٥ - ١٦. إلى غير ذلك من الآيات الّتي أفاد فيها: أنّ الغاية من كتابه وكلام هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرّحمن الرحيم، فهو الله الّذي إليه مرجع العباد، وهو الرحمن يبيّن لعباده سبيل رحمته العامّة للمؤمن والكافر، ممّا فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم، وهو الرحيم يبيّن لهم سبيل رحمته الخاصّة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربّهم وقد قال تعالى:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) . الاعراف - ١٥٦. فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.

ثمّ إنّه سبحانه كرّر ذكر السورة في كلامه كثيراً كقوله تعالى:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) يونس - ٣٨. وقوله:( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) هود - ١٣. وقوله تعالى:( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ) التوبة - ٨٦. وقوله:( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) النور - ١. فبان لنا من ذلك: أنّ لكلّ طائفة من هذه الطوائف من كلامه ( الّتي فصّلها قطعاً قطعاً، وسمّى كلّ قطعة سورة ) نوعاً من وحدة التأليف والتمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة، ومن هنا نعلم: أنّ الأغراض والمقاصد المحصّلة من السور مختلفة، وأنّ كلّ واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاصّ ولغرض محصّل لا تتمّ السورة إلّا بتمامه، وعلي هذا فالبسملة في مبتدإ كلّ سورة راجعة إلى الغرض الخاصّ من تلك السورة.

فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصّل منه، والغرض الّذي يدلّ عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله باظهار العبوديّة له سبحانه بالافصاح

١٤

عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية، فهو كلام يتكلّم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدّباً في مقام إظهار العبوديّة بما أدبّه الله به.

وإظهار العبوديّة من العبد هو العمل الّذى يتلبّس به العبد، والأمر ذو البال الّذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى بإسمك أظهر لك العبوديّة.

فمتعلّق الباء في بسملة الحمد الابتداء ويراد به تتميم الإخلاص في مقام العبوديّة بالتخاطب. وربّما يقال : انّه الاستعانة ولا بأس به ولكنّ الابتداء أنسب لإشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى:( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

وأمّا الاسم، فهو اللفظ الدالّ على المسمّى مشتقٌ من السمة بمعنى العلامة أو من السمّو بمعنى الرفعة وكيف كان فالّذي يعرفه منه اللّغة والعرف هو اللفظ الدالّ ويستلزم ذلك، أن يكون غير المسمّى، وأمّا الاسم بمعنى الذات مأخوذاً بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ وهو مسمّى الاسم بالمعنى الأوّل كما انّ لفظ العالم (من اسماء الله تعالى) اسم يدلّ على مسمّاه وهو الذات ماخوذة بوصف العلم وهو بعينه إسم بالنسبة إلى الذات الّذي لا خبر عنه الّا بوصف من اوصافه ونعت من نعوته والسبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعاً للدالّ على المسمّى من الألفاظ، ثمّ وجدوا أنّ الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدلّ عليه حالها حال اللفظ المسمّى بالاسم في أنّها تدلّ على ذوات خارجيّة، فسمّوا هذه الأوصاف الدالّة على الذوات أيضاً أسماء فانتج ذلك انّ الاسم كما يكون أمراً لفظيّاً كذلك يكون أمراً عينيّاً، ثمّ وجدوا انّ الدالّ على الذّات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، وانّ الاسم بالمعنى الأوّل إنّما يدلّ على الذات بواسطته، ولذلك سمّوا الّذي بالمعنى الثاني إسماً، والّذي بالمعنى الأوّل اسم الاسم، هذا ولكن هذا كلّه أمر أدّى إليه التحليل النظريّ ولا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللّغة ما ذكرناه.

وقد شاع النزاع بين المتكلّمين في الصدر الأوّل من الاسلام في أنّ الاسم عين المسمّى أو غيره وطالت المشاجرات فيه، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتّضحت اليوم إتّضاحاً يبلغ إلى حدّ الضرورة ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل وما يقال فيها

١٥

والعناية بإبطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحقّ فيها، فالصفح عن ذلك اُولى.

وأمّا لفظ الجلالة فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل ياُله بمعني عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحيّر، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمّي إلهاً لأنّه معبود أو لأنّه ممّا تحيّرت في ذاته العقول، والظاهر أنّه علم بالغلبة، وقد كان مستعملاً دائراً في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهليّ كما يشعر به قوله تعالى:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزخرف - ٨٧، وقوله تعالى:( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ) الانعام - ١٣٦.

وممّا يدلّ على كونه علماً أنّه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيُقال: ألله الرّحمن الرّحيم ويقال: رحم الله وعلم الله، ورزق الله، ولا يقّع لفظ الجلالة صفة لشئ منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شئٌ منها.

ولمّا كان وجوده سبحانه، وهو إله كلّ شئ يهدي إلى إتّصافه بجميع الصفات الكماليّة كانت الجميع مدلولاً عليها به بالالتزام، وصحّ ما قيل إنّ لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلّا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدلّ عليه مادّة إله.

واما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرّحمة، وهي وصف انفعالي وتأثّر خاصّ يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتمّ به أمره فيبعث الانسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته، إلّا انّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والإفاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة.

والرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدلّ على الكثرة، والرحيم فعيل صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن ان يدلّ علي الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرّحمة العامّة، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيراً في القرآن، قال تعالى:( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) طه - ٥. وقال( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) مريم - ٧٥. إلى غير ذلك، ولذلك أيضاً ناسب الرحيم أن يدلّ على النعمة الدّائمة والرّحمة الثّابتة الباقية الّتي تقاض على المؤمن كما قال تعالى:

١٦

( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) الاحزاب - ٤٣. وقال تعالى:( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١١٧. إلى غير ذلك، ولذلك قيل: ان الرّحمن عامّ للمؤمن والكافر والرّحيم خاصّ بالمؤمن.

وقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، الحمد على ما قيل: هو الثناء على الجميل الاختياريّ والمدح اعمّ منه، يقال: حمدت فلاناً أو مدحته لكرمه، ويقال: مدحت اللؤلؤ علي صفائه ولايقال: حمدته على صفائه، واللّام فيه للجنس أو الإستغراق والمال هيهنا واحد.

وذلك انّ الله سبحانه يقول:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) غافر - ٦٢. فأفاد أنّ كلّ ما هو شئٌ فهو مخلوق لله سبحانه، وقال:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة - ٧ فأثبت الحسن لكلّ شئٍ مخلوق من جهة أنّه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس، فلا خلق إلّا وهو حسن جميل بإحسانه ولا حسن إلّا وهو مخلوق له منسوب إليه، وقد قال تعالى:( هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر - ٤. وقال:( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) طه - ١١١. فأنباء أنّه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل بإجبار من مجبر بل خلقه عن علم واختيار فما من شئ إلّا وهو فعل جميل اختياريّ له فهذا من جهة الفعل، وأمّا من جهة الاسم فقد قال تعالى:( اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه - ٨. وقال تعالى:( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) الاعراف - ١٨٠. فهو تعالى جميل في أسمائه وجميل في أفعاله، وكلّ جميل منه.

فقد بان انّه تعالى محمود على جميل اسمائه ومحمود على جميل أفعاله، وأنّه ما من حمدٍ يحمده حامد لأمر محمود إلّا كان لله سبحانه حقيقه لأنّ الجميل الّذي يتعلّق به الحمد منه سبحانه، فللّه سبحانه جنس الحمد وله سبحانه كلّ حمد.

ثمّ إنّ الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الّذي في قوله:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) الآية أنّ السورة من كلام العبد، وأنّه سبحانه في هذه السورة يلّقن عبده حمد نفسه وما ينبغي ان يتأدّب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبوديّة، وهو الّذي يؤيّده قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ )

١٧

وذلك إنّ الحمد توصيف، وقد نزّه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات ١٥٩ - ١٦٠. والكلام مطلق غير مقيّد ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلّا ما حكاه عن عدّة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوحعليه‌السلام :( فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) المؤمنون-٢٨. وقال تعالى حكاية عن إبراهيمعليه‌السلام :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ابراهيم - ٣٩. وقال تعالى لنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بضعة مواضع من كلامه:( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل - ٩٣. وقال تعالى حكاية عن داود وسليمانعليه‌السلام :( وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل - ١٥. وإلّا ما حكاه عن أهل الجنّة وهم المطهّرون من غلّ الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله:( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يونس - ١٠.

وأمّا غير هذه الموارد فهو تعالى وإن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى:( وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الشورى - ٥ وقوله :( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) الرعد-١٣.

وقوله :( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الاسراء - ٤٤. إلّا أنّه سبحانه شفّع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية وجعل الحمد معه، وذلك أنّ غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه الّتي منها جمال الأفعال، قال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠ فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدوداً بحدودهم مقدرّاً بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلّا من بعد أن ينزهّوه ويسبحّوه عن ما حدّوه وقدّروه بافهامهم، قال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل - ٧٤، وأمّا المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أنّ الّذي يقتضيه أدب العبوديّة أن يحمد العبد ربّه بما حمد به نفسه ولا يتعدّى عنه، كما في الحديث الّذي رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : { لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث } فقوله في أوّل هذه السورة: الحمد لله، تأديب بأدب عبوديّ، ما كان للعبد

١٨

أن يقوله لولا أنّ الله تعالى قاله نيابة وتعليماً لما ينبغي الثناء به.

وقوله تعالى: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ِمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (وقرا الأكثر ملك يوم الدين) فالرب هو المالك الّذي يدبّر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، ومعنى الملك (الّذي عندنا في ظرف الاجتماع) هو نوع خاصّ من الاختصاص وهو نوع قيام شئ بشئ يوجب صحّة التصرّفات فيه، فقولنا العين الفلانيّة ملكنا معناه: أنّ لها نوعاً من القيام والاختصاص بنا يصحّ معه تصرّفاتنا فيها ولولا ذلك لم تصحّ تلك التصرّفات وهذا في الاجتماع معنى وضعيّ اعتباريّ غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسمّيه أيضاً ملكاً، وهو نحو قيام اجزاء وجودنا وقوانا بنا فإنّ لنا بصراً وسمعاً ويداً ورجلا، ومعنى هذا الملك أنّها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلّة دوننا بل مستقلّة باستقلالنا ولنا أن نتصرّف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقيّ.

والّذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباريّ الّذى يبطل ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم أنّ الملك الحقيقيّ لا ينفكّ عن التدبير فإنّ الشئ إذا افتقر في وجوده إلى شئ فلم يستقلّ عنه في وجوده لم يستقلّ عنه في آثار وجوده، فهو تعالى ربّ لما سواه لأنّ الربّ هو المالك المدبّر وهو تعالى كذلك.

واما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يُعلَم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به، وما يطبع به يطلق على جميع الموجودات وعلى كلّ نوع مؤلّف الأفراد والاجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان وعلى كلّ صنف مجتمع الأفراد أيضاً كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الأنسب لما يؤل إليه عدّ هذه الاسماء الحسنى حتّى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على أن يكون الدين وهو الجزاء يوم القيمة مختصّا بالانسان أو الإنس والجنّ فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس والجنّ وجماعاتهم ويؤيّده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى :( وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران - ٤٢. وقوله تعالى :( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) فرقان - ١، وقوله تعالى:( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ

١٩

الْعَالَمِينَ ) الاعراف - ٨٠.

وأمّا مالك يوم الدين: فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم، وامّا المَلِك وهو مأخوذ من المُلك بضمّ الميم، فهو الّذي يملك النظام القوميّ وتدبيرهم دون العين، وبعبارة اُخرى يملك الأمر والحكم فيهم.

وقد ذكر لكلّ من القرائتين، ملك ومالك، وجوه من التأييد غير أنّ المعنيّين من السلطنة ثابتان في حقّه تعالى، والّذي تعرفه اللغة والعرف أنّ الملك بضمّ الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلانيّ، ولا يقال مالك العصر الفلانيّ إلّا بعناية بعيدة، وقد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، وقال ايضاً:( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) غافر - ١٦.

( بحث روائي)

في العيون والمعاني عن الرّضاعليه‌السلام في معنى قوله: بسم الله قالعليه‌السلام : يعني أسم نفسي بسمةٍ من سمات الله وهى العبادة، قيل له: ما السمة ؟ قال العلامة. اقول وهذا المعنى كالمتولّد من المعنى الّذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فانّ العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه الّتي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام وفي العيون وتفسير العيّاشيّ عن الرّضاعليه‌السلام : أنّها أقرب الى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.

اقول: وسيجئ معنى الرواية في الكلام على الاسم الاعظم.

وفي العيون عن امير المؤمنينعليه‌السلام : أنّها من الفاتحة وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرؤها ويعدّها آية منها، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.

اقول: وروي من طرق اهل السنّة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدار قطني عن ابي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنّها اُمّ القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.

وفي الخصال عن الصادقعليه‌السلام قال: ما لهم ؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459