الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173017 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ علّم آدم أسماء حججه كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم. قال الله تبارك وتعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عزّ ذكره، فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريّته، ثمّ غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم، وقال لهم: ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

أقول: وبالرجوع إلى ما مرّ من البيان تعرف معنى هذه الروايات وأن لا منافاة بين هذه وما تقدّمها، إذ قد تقدّم أنّ قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ ) تعطي أنّه مامن شئ إلّا وله في خزائن الغيب وجود، وإنّ هذه الأشياء الّتي قبلنا إنّما وجدت بالنزول من هناك، وكلّ اسم وضع بحيال مسمّى من هذه المسميّات فهى اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إنّ الله علّم آدم ما في خزائن غيبه من الأشياء وهي غيب السموات والأرض، أو قيل: أنّه علّم آدم أسماء كلّ شئ وهي غيب السموات والأرض كان المؤدي والنتيجة واحداً وهو ظاهر.

ويناسب المقام عدّة من أخبار الطينة كما رواه في البحار عن جابر بن عبدالله قال: قلت لرسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم): أوّل شئ خلق الله ما هو ؟ فقال نور نبيّك يا جابر خلقه الله ثمّ خلق منه كلّ خير، ثمّ أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثمّ جعله أقساماً، فخلق العرش من قسم، والكرسيّ من قسم، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحبّ ما شاء الله، ثمّ جعله أقساماً، فخلق القلم من قسم، واللّوح من قسم، والجنّة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثمّ جعله أجزاءً فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء والقمر من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثمّ جعله أجزاءً، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثمّ

١٢١

نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كلّ قطرة روح نبيّ ورسول، ثمّ تنفّست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الاولياء والشهداء والصالحين.

أقول: والأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة وأنت إذا أجلت نظرة التأمّل والإمعان فيها وجدتها شواهد على ما قدّمناه، وسيجئ شطرٌ من الكلام في بعضها. وإيّاك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنّها من اختلاقات المتصوّفة وأوهامهم فللخلقة أسرارٌ، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهداً في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلّما لاح لهم معلوم واحدٌ بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسّها فما ظنّك بما ورائها، وهي عوالم النور والسعة؟

١٢٢

( سورة البقرة الآية ٣٤)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ( ٣٤)

( بيان)

قد عرفت أنّ قوله تعالى:( وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوماً، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله:( أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) حيث لم يعبّر أبي واستكبر وكفر. وعرفت أيضاً أنّ قصّه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى:( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ، وقوله:( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ، فقوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلّص بها إلى قصّة الجنّة، فإنّ هذه الآيات كما عرفت إنّما سيقت لبيان كيفيّة خلافة الإنسان وموقعه وكيفيّة نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهمّ من قصّة السجدة هيهنا إلّا إجمالها المؤدّي إلى قصّة الجنّة وهبوط آدم هذا. فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، ولعلّ هذا هو السرّ أيضاً في الالتفات من الغيبة إلى التكلّم في قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ) ، بعد قوله:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ ) . وعلى ما مرّ فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلاميّ من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميّز منهم، ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، إطلاق الخلافة حتّى على الملائكة كما يؤيّده أيضاً أمرهم ثانياً بالسجود، ويوجب ذلك خطوراً في قلوب الملائكة، حيث أنّها ما كانت تظنّ أنّ موجوداً أرضيّاً يمكن أن يسود على كلّ شئ حتّى عليهم، ويدلّ على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.

وقوله تعالى: ( اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحيّة وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في

١٢٣

قصّة يوسفعليه‌السلام ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً قال:( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) يوسف - ١٠٠، وملخّص القول في ذلك أنّك قد عرفت في سورة الفاتحة أنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبوديّة وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العباديّ يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولويّة المولى أو عبديّة العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلّما زادت الصلاحية المزبورة إزدادت العبادة تعيّناً للعباديّة، وأوضح الأفعال في الدلالة على عزّ المولويّة وذلّ العبوديّة السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، ووضع الجبهة عليها، وامّا ما ربّما ظنّه بعض: من أنّ السجدة عبادة ذاتيّة، فليس بشئ، فإنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف. وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخريّة والإستهزاء فلا يكون عبادة مع إشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، وإذا لم يكن عبادة ذاتيّة لم يكن لذاته مختصّاً بالله سبحانه، بناء على أنّ المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعيّ أو العقليّ والممنوع شرعاً أو عقلاً ليس إلّا إعطاء الربوبيّة لغيره تعالى، وأما تحيّة الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبيّة بل لمجرّد التعارف والتحيّة فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكنّ الذوق الدينيّ المتّخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى، وإن لم يقصد به إلّا التحيّة والتكرمة فقط، وأما المنع عن كلّ ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبّة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فممّا لم يقم عليه دليل عقليّ أو نقليّ أصلا، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محلّ يناسبه إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنّا نظنّ أنّ الله خلق خلقاً أكرم عليه منّا

١٢٤

فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: ألم أقل لكم إنّي أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجانّ وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الّذين قالوا ما قالوا بالعرش.

وفي التفسير أيضاً عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ما في معناه وفيه: فلمّا عرفت الملائكة أنّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنّها كانت عصابة من الملائكه وهم الّذين كانوا حول العرش، لم يكن(١) جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

اقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك إلى قوله:( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

وسيجئ أنّ العرش هو العلم، وبذلك وردت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فافهم ذلك، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى:( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ، قوم إبليس من الجانّ المخلوقين قبل الإنسان. قال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) الحجر - ٢٧، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقتة، فإنّ المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أنّ المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، والاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.

وفي قصص الأنبياء عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الأرض ؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.

وفي تحف العقول قال: إنّ السجود من الملائكة لآدم إنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لادم.

وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه: إنّ يهوديّاً سأل أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن معجزات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له

____________________

(١) و الرّواية لا تخلو من شيء بالّنظر الا عموم الأمر بالسّجدة في الآية و استثناء إبليس فقط و في موضع آخر من كلامه (فسجد الملائكة كلّهم اجمعون)

١٢٥

ملائكته، فهل فعل بمحمّد شيئاً من هذا ؟ فقال عليّ: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم ملائكتة، فإنّ سجودهم لم يكن سجود طاعة أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّوجلّ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ الله جلّ وعلا صلّى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبّد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهوديّ.

وفي تفسير القمّيّ: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصوّراً، وكان يمرّ به إبليس اللّعين فيقول: لأمر ما خلقت ؟ فقال: العالم، فقال إبليس: (لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته) إلى أن قال: ثمّ قال الله تعالى للملائكة: اُسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.

وفي البحار عن قصص الأنبياء عن الصادقعليه‌السلام قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا ربّ وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لاعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها، قال الله جل جلاله: إنّي أحبّ أن اُطاع من حيث أريد وقال: إنّ إبليس رنّ أربع رنّات: أوّلهنّ يوم لعن، ويوم اُهبط إلى الأرض، ويوم بعث محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فترة من الرُّسل، وحين اُنزلت أمّ الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين اُهبط من الجنّة، وقال في قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما: وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، وقال الشجرة الّتي نهى عنها آدم هي السنبلة.

اقول: وفي الرّوايات - وهي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.

١٢٦

( سورة البقرة الآيات ٣٥ - ٣٩)

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٣٥ ) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ  وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ  وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ( ٣٦ ) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ  إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ٣٧ ) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٣٩ )

( بيان)

قوله تعالى:( قلنا يا آدم أسكن ) ، على أنّ قصّة سجود الملائكة لآدم تكرّرت في عدّة مواضع من القرآن الكريم. لم يقع قصّة الجنّة إلّا في ثلاث مواضع:

أحدهما: هيهنا من سورة البقرة.

الثاني: في سورة الأعراف. قال الله تعالى:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّوَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآيات ١٩ - ٢٥.

١٢٧

والثالث: في سورة طه. قال الله تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ) . الآيات. وسياق الآيات وخاصّة قوله تعالى في صدر القصّة:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) يعطي أنّ آدمعليه‌السلام إنّما خلق ليحيى في الأرض ويموت فيها وإنّما أسكنهما الله الجنّة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتّى يهبطا إلى الأرض، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، وفي سورة الأعراف:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ ) حيث سبك قصّة الجنّة مع قصّة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصّة واحدة متواصلة، وبالجملة فهوعليه‌السلام كان مخلوقا ليسكن الأرض، وكان الطريق إلى الإستقرار في الأرض هذا الطريق، وهو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثمّ أمرهم بالسجدة، ثمّ إسكان الجنّة. والنهي عن قرب الشجرة المنهيّة حتّى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للإستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيويّة ظهور السوآة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى:( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ) فهو التمايل الحيوانيّ ويستلزم التغذّي والنموّ إيضاً فما كان لإبليس همّ إلّا إبداء سوآتهما، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضيّة بشريّة ثمّ أدخلهما الجنّة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيراً، ليتمّ في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا واحتياجاتها حتّى أدخلهما الله الجنّة، وأنّه إنّما أدخلهما الله الجنّة حين أدخلهما ولمّا ينفصلا ولمّا ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى:( لِيُبْدِيَ لَهُمَا

١٢٨

مَا وُورِيَ عَنْهُمَا ) ولم يقل ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأنّ مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا إستدامة وإنّما تمشّت دفعة مّا واستعقب ذلك، إسكان الجنّة فظهور السوآة كان مقضيّاً محتوماً في الحياة الأرضيّة ومع أكل الشجرة، ولذلك قال تعالى:( فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ ) ، وقال تعالى:( فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) وأيضاً هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنّة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحياة الأرضيّة مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتماً مقضيّاً، والرجوع إلى الجنّة مع ذلك محالاً، لرجعا إليها بعد حطّ الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنّة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوآة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللّعين، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصّة:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) . ثمّ ساق تعالى القصّة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنّه قوله تعالى:( إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) أو أنّه العهد بمعني الميثاق العموميّ المأخوذ من جميع الإنسان، ومن الأنبياء خاصّة بوجه آكد وأغلظ.

والاحتمال الأوّل غير صحيح لقوله تعالى:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى:( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فالعهد المذكور ليس هو النهى عن قرب الشجرة وأمّا الاحتمال الثاني (وهو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتّباع إبليس) فهو وإن لم يكن بالبعيد كلّ البعيد، لكنّ ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإنّ العهد مخصوص بآدمعليه‌السلام كما هو ظاهر الآية.

مع أنّ التحذير عن إبليس كان لهما معاً، وأيضاً ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلّيّ، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) الآيات فبحسب التطبيق

١٢٩

ينطبق قوله تعالى:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبيّة والعبوديّة أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر واتّباع إبليس، وأما الميثاق على الربوبيّة فهو له انسب، فإنّ الميثاق على الربوبيّة هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربّاً له أي مالكاً مدبّراً أي لا ينسى الإنسان أبداً ولا في حال أنّه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئاً لا نفعاً وضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، أي لا ذاتاً ولا وصفاً ولا فعلاً.

والخطيئة الّتي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربّه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا. لكنّك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على إختلاف جهاتها وتشتّت أطرافها وأنحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربّه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعه لأقسام الكدورات وأنواع الآلام وضروب المكاره : من موت وحياة، وصحّة وسقم، وسعة وإقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان. على أنّ الجميع (أعم ممّا في نفس الإنسان أو في غيره) مملوكة لربّه، لا استقلال لشئ منها وفيها، بل الكلّ ممّن ليس عنده إلّا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزّتة وجلاله، ولا يترشّح من لدنه إلّا الجميل والخير، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفاً يخافه، ولا مهيبا يهابه، ولا محذوراً يحذره، بل يرى كلّ ما يراه حسناً محبوباً إلّا ما يأمره ربّه أن يكرهه ويبغضه، وهو مع ذلك يكرهه لأمره، ويحبّ ما يحبّ ويلتذّ ويبتهج بأمره، لا شغل له إلّا بربّه، كلّ ذلك لما يرى الجميع ملكاً طلقاً لربّه لا نصيب ولا حظّ لشئ غيره في شئ منها، فما له ولمالك الأمر وما يتصرّف به في ملكه ؟ من إحياء وإماتة، ونفع وضرّ وغيرها. فهذه هي الحياة الطيّبة الّتي لا شقاء فيها ألبتّة وهي نور لا ظلمة معه، وسرور لا غمّ معه، ووجدان لا فقد معه، وغنى لا فقر معه كلّ ذلك بالله سبحانه. وفي مقابل هذه الحياة حياة الجاهل

١٣٠

بمقام ربّه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربّه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره إلّا رآه مستقلّا بنفسه ضارّاً أو نافعاً خيراً أو شرّاً فهو يتقلّب في حياته بين الخوف عمّا يخاف فوته، والحذر عمّا يحذر وقوعه، والحزن لما يفوته، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان وساير ما يحبّه ويتّكل ويعتمد عليه ويؤثره.

كلّما نضج جلده بالإعتياد بمكروه والسكون ألى مرارة بدّل جلداً غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، وحشى ذائب محترق، وصدر ضيّق حرج، كأنّما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون.

إذا عرفت هذا علمت: أنّ مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحياة الدنيا واحدٌ، وأنّ الشقاء الدنيويّ من فروع نسيان الميثاق.

وهذا هو الّذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) . وبدّل ذلك في هذه السورة من قوله:( فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أنّ الشّجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا وشقائها، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسياً لربّه، غافلاً عن مقامه، وأنّ آدمعليه‌السلام كأنّه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكّن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحياة الدنيا، ثمّ تدورك له ذلك بالتوبة.

قوله تعالى: ( وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا ) الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، وقوم رغدٌ، ونساء رغد، أي ذووا عيش رغيد.

وقوله تعالى: ( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) وكأنّ النهي إنّما كان عن أكل الثمرة وإنّما تعلّق بالقرب من الشجرة إيذاناً بشدّة النهى ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) الأعراف - ٢٢.

وقوله تعالى: ( فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) طه - ١٢١، فكانت المخالفة

١٣١

بالأكل فهو المنهىّ عنه بقوله:( وَلَا تَقْرَبَا ) .

قوله تعالى: ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ) .

إلّا أنّه تعالى بدّل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله:( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) من قوله:( فَتَشْقَىٰ ) والشقاء هو التعب ثمّ فسّر التعب وفصّله، فقال:( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) الآيات.

ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنّما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع وعطشٍ وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما إنّما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه. ومن هنا يظهر أيضاً أنّ هذا النهى أعني قوله:( وَلَا تَقْرَبَا ) ، إنّما كان نهيا تنزيهيّاً إرشاديّاً يرشد به إلى ما فيه خير المكلّف وصلاحه في مقام النصح لا نهياً مولويّاً.

فهما إنّما ظلماً أنفسهما في ترك الجنّة على أنّ جزاء المخالفة للنهى المولويّ التكليفيّ يتبدّل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدّل في موردهما، فإنّهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنّة ولو لا أنّ التكليف إرشادىّ ليس له إلّا التبعة التكوينيّة دون التشريعيّة لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقيّة فيما سيأتي إن شاء الله.(١)

قوله سبحانه: ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ) ، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا (بني آدم) على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.

لكنّ الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) يدلّ على أنّه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إيّاه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، ويدلّ ذلك على متكلّم مشعور به.

____________________

(١) ص ١٣٧

١٣٢

وكذا قوله تعالى في سورة الأعراف:( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) والقسم إنّما يكون من مقاسم مشعور به.

وكذا قوله تعالى:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ، كلّ ذلك يدلّ على أنّه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه. ولو كان حالهماعليهم‌السلام مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربّنا إنّنا لم نشعر وخلنا أنّ هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، ولا قصد لمخالفة ما وصيّتنا به من التحذير من وسوسته.

وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه، والأنبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرّضه بهم لو تعرّض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وأيوب وإسمعيل ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) هذا.

وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ) حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنّة، فقد كان دخل الجنّة وصاحبهما وغرّهما بوسوسته. ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنّة جنّة الخلد حتّى لا يدخلها الشيطان. والدليل على ذلك خروجهم جميعاً من هذه الجنه.

وأمّا قوله تعالى خطاباً لإبليس:( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ ) الأعراف - ١٣، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف.

قوله تعالى: ( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الآية، ظاهر السياق أنّه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خصّ إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال:( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) الآية، فقوله تعالى:( اهْبِطُوا ) كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذرّيّتهما، وكذلك قضى به حياتهم في الأرض وموتهم فيها وبعثهم منها.

وذريّة آدم مع آدم في الحكم كما ربّما يستشعر من ظاهر قوله:( فِيهَا تَحْيَوْنَ

١٣٣

وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآية وكما سيأتي في قوله تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الآية، من سورة الأعراف.

إنّ إسجاد الملائكة لآدمعليه‌السلام إنّما كان من جهة أنّه خليفة أرضيٌّ، فكان المسجود له آدمعليه‌السلام وحكم السجدة لجميع البشر، فكان إقامة آدمعليه‌السلام مقام المسجود له معنوناً بعنوان الأنموذج والنائب.

وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصّة الّتي قصّها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنّة، ثمّ إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثّل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيرة القدس، ومنزل الرفعة والقرب، ودار نعمة وسرور، وأنس ونور، ورفقاء طاهرين، وأخلّاء روحانيّين، وجوار ربّ العالمين.

ثمّ إنّه يختار مكأنّه كلّ تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حياة فانية، وجيفة منتنة دانية، ثمّ إنّه لو رجع بعد ذلك إلى ربّه لأعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الأرض واتّبع هواه فقد بدّل نعمة الله كفراً وأحلّ بنفسه دار البوار، جهنّم يصلاها وبئس القرار.

قوله تعالى: ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، التلقّي هو التلقّن، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقّى كان هو الطريق المسّهل لآدمعليه‌السلام توبته.

ومن ذلك يظهر أنّ التوبة توبتان: توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.

وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين: من الله تعالى، فإنّ العبد لا يستغني عن ربّه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتّى يتحقّق منه التوبة، ثمّ تمسّ الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدلُّ عليه قوله تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة - ١١٨.

وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة، وإن كانت القراءة الاُخرى (وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات) لا تنافيه أيضاً.

١٣٤

وأمّا أنّ هذه الكلمات ما هي ؟ فربّما يحتمل أنّها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الأعراف - ٢٣، إلّا أنّ وقوع هذه الكلمات أعني قوله:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا ) الآية قبل قوله:( قُلْنَا اهْبِطُوا ) في سورة الأعراف ووقوع قوله :( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ ) الآية بعد قوله:( قُلْنَا اهْبِطُوا ) ، في هذه السورة لا يساعد عليه.

لكن ههنا شئ: وهو أنّك عرفت في صدر القصّة أن الله تعالى حيث قال:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، قالت الملائكة:( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) الآية وهو تعالى لم يردّ عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به ولم يجب عنه بشئ إلّا أنّه( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) .

ولو لا أنّه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسدّ باب إعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم ولا تمّت الحجّة عليهم قطعاً. ففي جملة ما علّمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب، فلعلّ تلقّيه من ربّه كان متعلّقا بشئ من تلك الأسماء فافهم ذلك.

وإعلم أنّ آدمعليه‌السلام وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطة فقد هلك، ولو رجع إلى سعادتة الاُولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهوعليه‌السلام ظالم لنفسه على كلّ تقدير، إلّا أنّهعليه‌السلام هيّأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ماكان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلّة والمسكنة والحاجة والقصور؟ وله في كلّ ما يصيبه من التعب والعناء والكدّ روح وراحة في حظيرة القدس وجوار ربّ العالمين، فللّه تعالى صفات من عفو ومغفرة و رآفة و توبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلّا المذنبون، وله في أيّام الدهر نفحات يرتاح بها إلّا المتعرّضون.

فهذه التوبة هي الّتي استدعت تشريع الطريق الّذي يتوقّع سلوكه وتنظيف المنزل الّذي يرجى سكونه، فورائها تشريع الدين وتقويم الملّة.

١٣٥

ويدلُّ على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرّر في كلامه تقدّم التوبة على الإيمان. قال تعالى:( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ) هود - ١١٢، وقال:( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ ) طه - ٨٢، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) . وهذا أوّل ما شرّع من الدين لآدمعليه‌السلام وذرّيّته، أوجز الدين كلّه في جملتين لا يزاد عليه شئ إلى يوم القيامة.

وأنت إذا تدبّرت هذه القصّة (قصّة الجنّة) وخاصّة ما وقع في سورة طه وجدت أنّ المستفاد منها أنّ جريان القصّة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذرّيّته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والإستقرار في الأرض والحياة فيها تلك الحياة الشقيّة الّتي حذّرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا.

وأنّ التوبة ثانياً: تعقّب قضاءً وحكماً ثانياً منه تعالى بإكرام آدم وذرّيّته بالهداية إلى العبوديّة فالمقضيّ أوّلاً كان نفس الحياة الأرضيّة، ثمّ بالتوبة طيّب الله تلك الحياة بأن ركّب عليها الهداية إلى العبوديّة، فتألّفت الحياة من حياة أرضيّة، وحياة سماويّة.

وهذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) الآية وقال تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) الآية.

وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأنّ التوبة وقعت ولمّا ينفصلا من الجنّة وإن لم يكونا أيضاً فيها كإستقرار هما فيها قبل ذلك.

يشعر بذلك أيضاً قوله تعالى:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) الآية بعد ما قال لهما:( لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبّر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.

وأعلم أن ظاهر قوله تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) الآية وقوله تعالى:( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ )

١٣٦

الآية أنّ نحوه هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنّة قبل الهبوط، وأن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكوّن الإنسان في الأرض ثمّ يعاد بالموت إليها ثمّ يخرج بالبعث منها.

فالحياة الأرضيّة تغاير حياة الجنّة فحياتها حياة سماويّة غير أرضيّة.

ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنّة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنّة الآخرة جنّة الخلد الّتي لا يخرج منها من دخل فيها.

نعم يبقي الكلام في معنى السماء ولعلّنا سنوفّق لاستيفاء البحث منه. إنشاء الله تعالى.

بقى هنا شئ وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر وإن كان تحقّق المعصية والخطيئة منهعليه‌السلام كما قال تعالى:( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، وقال تعالى:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) الآية، وكما إعترف به فيما حكاه الله عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الآية.

لكنّ التدبُّر في آيات القصّة والدقّة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأنّ النهي المذكور لم يكن نهياً مولويّاً و إنّما هو نهي إرشاديّ يراد به الإرشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والإرادة المولويّة.

ويدلّ على ذلكأوّلاً: أنّه تعالى فرّع على النهى في هذه السورة وفي سورة الأعراف أنّه ظلم حيث قال:( لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ثمّ بدّله في سورة طه من قوله:( فَتَشْقَىٰ ) مفرّعاً إيّاه على ترك الجنّة. ومعنى الشقاء التعب ثمّ ذكر بعده كالتفسير له:( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) الآيات.

فأوضح أنّ المراد بالشقاء هو التعب الدنيويّ، الّذي تستتبعه هذه الحياة الأرضيّة من جوع وعطش وعراء وغير ذلك.

فالتوقّي من هذه الاُمور هو الموجب للنهي الكذائيّ لا جهة اُخرى مولويّة فالنهى إرشاديّ. ومخالفة النهى الإرشاديّ لا توجب معصية مولويّة، وتعدّيا عن طور العبوديّة وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضاً في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبيّة والعبوديّة وهو ظاهر.

١٣٧

وثانياً: أنّ التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنّها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد.

ولو كان النهى عن أكل الشجرة مولويّاً وكانت التوبة توبة عن ذنب عبوديّ ورجوعاً عن مخالفة نهى مولويّ كان اللّازم رجوعهما إلى الجنّة مع أنّهما لم يرجعا.

ومن هنا يعلم أنّ استتباع الأكل المنهىّ للخروج من الجنّة كان إستتباعاً ضروريّاً تكوينيّاً، نظير إستتباع السمّ للقتل والنار للإحراق كما في وارد التكاليف الإرشاديّة لا استتباعاً من قبيل المجازاة المولويّة في التكاليف المولويّة، كدخول النار لتارك الصلاة. وإستحقاق الذمّ واستيجاب البعد في المخالفات العموميّة الاجتماعيّة المولويّة.

وثالثاً: أنّ قوله تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، الآيات.

وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيليّة الّتي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله، يحكى عن أوّل تشريع شرّع للإنسان في هذه الدنيا الّتي هي دنيا آدم وذرّيّته، وقد وقع على ما يحكيه الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط ومن الواضح أنّ الامر بالهبوط أمرٌ تكوينيٌّ متأخّرٌ عن الكون في الجنّة واقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دينٌ مشروع ولا تكليف مولويّ فلم يتحقّق عند ذلك ذنبٌ عبوديٌّ، ولا معصيةٌ مولويّة.

ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولإبليس وهو قبل خطاب لا تقربا، خطاباً مولويّاً لأنّ المكلّف غير المكلّف.

فإن قلت: إذا كان النهى نهياً إرشاديّاً لا نهيّاً مولويّاً فما معنى عدّه تعالى فعلهما ظلماً وعصياناً وغواية؟

قلت: أمّا الظلم فقد مرّ أنّ المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، وأمّا العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر وكسرته

١٣٨

فعصى، والعصيان وهو عدم الانفعال عن الأمر أو النهى كما يتحقّق في مورد التكاليف المولويّة كذلك يتحقّق في مورد الخطابات الإرشاديّة.

وأمّا تعيّن معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صلّ، أم صُم، أو حجّ، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعيّنٌ بنحو الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة لا يضرّ بعموم المعنى بحسب اللّغة والعرف العامّ هذا.

وأمّا الغواية فهو عدم إقتدار الإنسان مثلاً على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه.

وواضحٌ أنّه يختلف بإختلاف الموارد من إرشاد ومولويّة.

فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ وقولهما:( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ؟.

قلت: التوبة كما مرّ هي الرجوع، والرجوع يختلف بحسب إختلاف موارده.

فكما يجوز للعبد المتمرّد عن أمر سيّده وإرادته أن يتوب إليه، فيردّ إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الّذي نهاه الطبيب نهياً إرشاديّاً عن أكل شئ معيّن من الفواكه والمأكولات، وانّما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرّر فأشرف على الهلاك.

يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله وعافيته، فيذكر له أنّ ذلك محتاجٌ إلى تحمّل التعب والمشقّة العناء والرياضة خلال مدّة حتّى يعود إلى سلامة المزاج الاُولي بل إلى أشرف منها وأحسن، هذا.

وأمّا المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائر ها في إختلافها بحسب إختلاف مواردها، هذا.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ عن أبيه رفعه قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن جنّة آدم أمن جنّات الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقالعليه‌السلام : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً، قالعليه‌السلام : فلمّا أسكنه الله الجنّة وأباحها له إلّا الشجرة، لأنّه خلق خلقة لا يبقى إلّا بالأمر والنهى والغذاء واللّباس

١٣٩

والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلّا بالتوفيق، فجائه إبليس فقال له: إنّكما إن أكلتما من هذه الشجرة الّتي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنّة أبداً، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنّة، وحلف لهما أنّه لهما ناصح كما قال الله عزّوجلّ حكاية عنه:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوأتهما، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنّة، وأقبلا يستتران من ورق الجنّة، وناداهما ربّهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوٌّ مبين، فقالا كما حكى الله عنهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فقال الله لهما:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) ، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، وإنّما سمّيت الصفا لأنّ صفيّ الله أنزل عليها، ونزلت حوّاء على المروة وإنّما سمّيت المروة لأنّ المرئة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحاً ساجداً يبكي على الجنّة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ؟ قال: بلى، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته ؟ قال آدم: إنّ إبليس حلف لي بالله كاذباً.

اقول: وفي كون جنّة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتّحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.

والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخيّة في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله:( فهبط آدم على الصفا) ، وكقوله:( ونزلت حوّاء على المروة) ، وكقوله: إنّ المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثاً في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عدّ المكث البرزخيّ مكثاً في الأرض كما يشير إليه قوله تعالى:( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) المؤمنون - ١١٤، وقوله تعالى:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459