الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173018 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الرّوم - ٥٦، على أن عدّة من الروايات المنقولة عن اهل البيت تدلّ على أنّ الجنّة كانت في السماء، وأنّهما نزلا من السماء، على أنّ المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنّة المذكورة في السماء والهبوط منها إلى الأرض مع كونهما خلقتا في الأرض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنّة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار وغير ذلك وأرجو أن يرتفع هذا الإشكال وما يشاكله من الإشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء انشاء الله العزيز.

وأمّا كيفيّة مجئ إبليس اليهما، وما إتّخذه فيه من الوسيلة فالصحاح والمعتبرة من الروايات خاليةٌ عن بيانها.

وفي بعض الأخبار ذكر الحيّة والطاووس عونين لإبليس في إغوائه إيّاهما لكنّها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها وكأنّها من الأخبار الدخيلة، والقصّة مأخوذه من التوراة وهاك لفظ التوراة في القصّة بعينه.

قال في الفصل الثّاني من السفر الأوّل وهو سفر الخليقة: وإنّ الله خلق آدم تراباً من الأرض، نفخ في أنفه الحيات، فصار آدم نفساً ناطقاً، وغرس الله جناناً في عدن شرقيّاً، وصيّر هناك آدم الّذي خلقه، وأنبت الله من الأرض كلّ شجرة، حسن منظرها وطيّب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشرّ، وجعل نهراً يخرج من عدن ليسقى الجنان، ومن ثمّ يفترق فيصير أربعة أروس، إسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد ذويلة الّذي فيه الذهب، وذهب ذلك البلد جيّدٌ، ثمّ اللّؤلؤ وحجارة البلّور، وإسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، وإسم النهر الثالث دجلة، وهو يسير في شرقيّ الموصل، واسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم وأنزله في جنان عدن ليفلحه وليحفظه وأمر الله آدم قائلاً من جميع شجر الجنان جائزٌ لك أن تأكل، ومن شجرة معرفة الخير والشرّ لا تأكل، فإنّك في يوم أكلك منها تستحقّ أن تموت، وقال الله لا خير في بقاء آدم وحده، أصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الأرض جميع وحش الصحراء وطير السماء وأتى بها إلى آدم ليريه ما يسمّيها،

١٤١

فكلّ ما سمّى آدم من نفس حيّة بإسم هو إسمه إلى الآن.

فأسمي آدم أسماء لجميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء ولم يجد آدم عونا حذاه، فأوقع سباتاً على آدم لئلّا يحسّ فنام، فاستلّ إحدى أضلاعه وسدّ مكانها اللحم، وبنى الله الضلع الّتي أخذ إمرأة، فأتى بها إلى آدم، وقال آدم هذه المرّة شاهدت عظماً من عظامي، ولحماً من لحمى، وينبغي أن تسمّى إمرأة لأنّها من أمري أخذت، ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد.

وكانا جميعاً عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك.

الفصل الثالث: والثعبان صار حكيماً من جميع حيوان الصحراء الّذي خلقه الله فقال للمرأة أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان ؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة الّتي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، ولا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، إنّ الله عالم أنّكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشرّ بزيادة، فلمّا رأت المرأة أنّ الشجرة طيّبة المأكل شهيّة المنظر، مُنى للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، وأعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنّهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مأزر، فسمعا صوت الله مارّاً في الجنان برفق في حركة النهار، فاستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباءً فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، وقال له مقرّراً: أين أنت ؟ قال: إنّي سمعت صوتك في الجنان فاتّقيت إذ أنا عريان فاستخبأت، قال: من أخبرك أنّك عريان ؟ أمن الشجرة الّتي نهيتك عن الأكل منها أكلت ؟ قال آدم المرأة الّتي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ماذا صنعت ؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وتراباً تأكل طول أيّام حياتك، وأجعل عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب، وقال للمرأة: لأكثرنّ مشقّتك وحملك، وبمشقّة تلدين الأولاد، وإلى بعلك يكون قيادك، وهو يتسلّط عليك.

١٤٢

وقال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة الّتي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بمشقّة تأكل منها طول حياتك، وشوكا ودردراً تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك إلى الأرض الّتي أخذت منها لأنّك تراب وإلى التراب ترجع، وسمّى آدم زوجته حوّاء لأنّها كانت أمّ كلّ حيّ ناطق، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن وألبسهما، ثمّ قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منّا يعرف معرفة الخير والشرّ، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلّا يمدّ يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل فيحيي إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الأرض الّتي اُخذ منها، ولمّا طرد آدم اُسكن من شرقيّ جنان عدن الملائكة، ولمع سيف متقلّب ليحفظوا طريق شجرة الحياة. إنتهى الفصل (من التوراة العربيّة المطبوعة سنة ١٨١١ مسيحيّة). وانت بتطبيق القصّة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثمّ التأمّل في الروايات الواردة من طريقي العامّة و الخاصّة تعثر بحقائق من الحال غير أنّا أضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لأنّ الكتاب غير موضوع لذلك.

وأمّا دخول إبليس الجنّة وإغوائه فيها وهي (أوّلاً) مقام القرب والنزاهة واللطهارة وقد قال تعالى:( لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ) الطور - ٢٣، وهي (ثانياً) في السماء وقد قال تعالى خطاباً لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم:( فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) الحجر - ٣٤، وقال تعالى:( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) الأعراف - ١٢.

فالجواب عن الأوّل كما ربّما يقال إنّ القرآن إنّما ما نفى من وقوع اللّغو وتأثيم في الجنّة عن جنّة الخلد الّتي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنّة البرزخ الّتي يدخلونها بعد الموت والارتحال عن دار التكليف، وأما الجنّة الّتي اُدخل فيها آدم وزوجته ومذالك قبل إستقرار الإنسان في دار التكليف وتوجّه الأمر والنهى فالقرآن لم ينطق فيه بشئ من ذلك، بل الأمر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أنّ اللّغو والتأثيم من الاُمور النسبيّة الّتي لا تتحقّق إلّا بعد حلول الإنسان الدنيا وتوجّه الأمر والنهى إليه وتلبّسه بالتكليف.

والجواب عن الثانيأولا: أنّ رجوع الضمير في قوله:( فَاخْرُجْ مِنْهَا ) ، وقوله:( فَاهْبِطْ

١٤٣

مِنْهَا ) إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقاً وعدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات، أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة.

وثانياً: أنّه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط والخروج كناية عن النهى عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام وإستقرار كالملائكة، ويلوح إليه بل يشهد به ما ربّما يظهر من الآيات من إستراق السمع وقد روي أنّ الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلمّا ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثمّ لما ولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منعوا من جميع السماوات وخطفوا بالخطفة.

وثالثاً: أنّ كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنّة فلا مورد للاستشكال، وإنّما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع إحتمال النقل بالمعنى من الراوي.

وأقصى ما يدلّ من كلامه تعالى على دخوله الجنّة قوله تعالى حكاية عن إبليس( وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) الأعراف - ٢٠ حيث أتى بلفظة هذه وهي للإشارة من قريب، لكنّها لو دلّت هيهنا على القرب المكانيّ لدلّ في قوله تعالى:( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأعراف - ١٩، على مثله فيه تعالى.

وفي العيون عن عبدالسلام الهرويّ قال: قلت للرّضاعليه‌السلام : يابن رسول الله أخبرني عن الشجرة الّتي أكل منها آدم وحوّاء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنّها الحنطة، ومنهم من يروي أنّها شجرة الحسد، فقال كلّ ذلك حقّ. قلت: فما معنى هذه الوجوه على إختلافها ؟ فقال: يا بن الصلت إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعاً، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا، وأنّ آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنّة، قال: هل خلق الله بشراً أفضل منّي ؟ فعلم الله عزّوجلّ ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم وأنظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلّا الله ومحمّد رسول الله عليّ ابن أبيطالب أميرالمؤمنين وزوجته

١٤٤

فاطمة سيّدة نساء العالمين والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، فقال آدم: يا ربّ من هؤلاء ؟ فقال عزّوجلّ يا آدم هؤلاء ذريّتك، وهم خيرٌ منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فإيّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد فاُخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنّى منزلتهم فتسلّط عليه الشيطان حتّى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنّته وأهبطهما من جواره إلى الأرض.

أقول: وقد ورد هذا لمعنى في عدّة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز.

وهذه الرواية كما ترى سلّمعليه‌السلام فيها أنّ الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وأنّهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنّيا منزلة محمّد وآله (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، ومقتضى المعنى الأوّل أنّ الشجرة كانت أخفض شأناً من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنّة ومقتضى الثاني أنّها كانت ارفع شأناً من أن ينالها آدم وزوجته كما في رواية اُخرى أنّها كانت شجرة علم محمّد وآله.

وبالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنّك بالرجوع إلى ما مرّ من أمر الميثاق تعرف أنّ المعنى واحدٌ وأنّ آدمعليه‌السلام أراد أن يجمع بين التمتّع بالجنّة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق أن لا يتوجّه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهيّة الّتي فيها تعب التعلّق بالدنيا فلم يتيسّر له الجمع بينهما فهبط إلى الأرض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الأمران وهو منزلة النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، ثمّ هداه الله بالاجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فإفهم.

وقولهعليه‌السلام :( فنظر إليهم بعين الحسد وتمنّى منزلتهم) فيه بيان أنّ المراد بالحسد تمنّى منزلتهم دون الحسد الّذي هو أحد الأخلاق الرذيلة.

وبالبيان السابق يرتفع التنافي الّذي يترآى بين ما رواه في كمال الدين عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: إنّ الله عزّوجلّ عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلمّا بلغ الوقت

١٤٥

الّذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عزّوجلّ:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ، الحديث.

وبين ما رواه العيّاشيّ في تفسيره عن أحدهما وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان، فقال: إنّه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) الحديث. والوجه فيه واضح.

وفي أمالي الصدوق عن أبي الصلت الهرويّ، قال: لما جمع المأمون لعليّ بن موسى الرّضاعليه‌السلام : أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتّى الزم حجّته كأنّه ألقم حجراً فقام إليه عليّ بن محمّد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء ؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عزّوجلّ:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) ؟ إلى أن قال: فقال مولانا الرّضاعليه‌السلام : ويحك يا عليّ إتّق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأوّل كتاب الله عزّوجلّ برأيك فإنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . أمّا قوله عزّوجلّ في آدم:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) فإنّ الله عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنّة، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتمّ مقادير أمر الله عزّوجلّ فلمّا اُهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة عصم بقوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الحديث.

أقول: قوله: وكانت المعصية في الجنّة الخ إشارة إلى ما قدّمناه أنّ التكليف الدينىّ المولويّ لم يكن مجعولاً في الجنّة بعد، وإنّما موطنه الحياة الأرضيّة المقدّرة لآدمعليه‌السلام بعد الهبوط إلى الأرض، فالمعصية إنّما كانت معصية لأمر إرشاديّ غير مولويّ فلا وجه لتعسّف التإويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.

وفي العيون عن علىّ بن محمّد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا إبن رسول الله أليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون ؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربّه فغوى ؟ قال: إنّ الله تعالى قال لآدم: اُسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة وأشار

١٤٦

لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا ممّا كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنّما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة وإنّما نها كما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إنّي لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحوّاء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً فدلّاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوّة ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحقّ به دخول النار، وإنّما كان من الصغائر الموهوبة الّتي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلمّا إجتباه الله وجعله نبيّاً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عزّوجلّ:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) وقال عزّوجلّ:( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الحديث.

أقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: والحديث عجيب من طريق علىّ بن محمّد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيتعليهم‌السلام إنتهى.

وما أعجبه منه إلّا ما شاهده من إشتماله على تنزيه الأنبياء من غير أن يمعن النظر في الأصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابهعليه‌السلام في آدم لا يوافق مذهب أئمّة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغاير والكبائر قبل النبوّة وبعدها.

على أنّ الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى:( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا ) إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة وإنّما نها كما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها إلّا أن تكونا إلخ. على أنّ قوله تعالى :( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) ، وقوله تعالى :( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ) الآية، يدلّ على أنّ إبليس إنّما كان يحرّضهما على الأكل من شخص الشجرة المنهيّة تطميعاً في الخلود والملك الّذي حجب عنه بالنهي، على أنّ الرجل أعني عليّ بن محمّد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التامّ بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السّابق، فالرواية لا تخلو عن شئ وإن كان بعض هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.

١٤٧

وروى الصدوق، عن الباقرعليه‌السلام عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، قال: إنّما كان لبث آدم وحوّاء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيّام الدنيا حتّى أهبطهما الله في يومهما.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبدالله بن سنان، قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام وأنا حاضر: كم لبث آدم وزوجته في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئة ؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثمّ برء زوجته من أسفل أضلاعه ثمّ أسجد له ملائكته وأسكنه جنّته من يومه ذلك، فو الله ما إستقرّ فيها إلّا ستّ ساعات من يومه ذلك حتّى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصُيّرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربّهما: الم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحيى آدم فخضع وقال: ربّنا ظلمنا أنفسنا وإعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا. قال الله لهما إهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنّه لا يجاورني في جنّتي عاص ولا في سماواتي.

أقول: ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفيّة خروجهما وأنّه كان أوّلاً من الجنّة إلى فنائها ومن فنائها إلى الأرض من تكرّر الأمر بالهبوط في الآية مع كونه أمراً تكوينيّاً غير قابل التخلّف، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) ، إلى أن قال:( وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) الآية، وقوله تعالى:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) ،الآية، حيث عبّر في الأوّل بالقول وبالإشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والإشارة البعيدة، غير أنّ الرواية مشتملة على خلق حوّاء من أسفل اضلاع آدم كما إشتملت عليه التوراة. والروايات عن أئمّة أهل البيت تكذّبه كما سيجئ في البحث عن خلقة آدم، وإن أمكن أن يحمل علي خلقها من فاضل طينة آدم ممّا يلي أضلاعه هذا. وأمّا ساعات مكثه في الجنّة، وأنّها ستّة أو سبعة فالأمر فيها هيّن فإنّما هو تقريب.

وفي الكافي: عن أحدهماعليه‌السلام في قوله تعالى: فتلقّى آدم من ربّه كلمات، قال: لا إله إلّا أنت، سبحانك اللّهمّ وبحمدك، عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفرلي وأنت خير الغافرين. لا إله إلّا أنت. سبحانك اللّهمّ وبحمدك، عملت سوءً وظلمت نفسي فارحمني

١٤٨

وأنت خير الغافرين. لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهمّ وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهمّ وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفرلي وتب عليّ إنّك أنت التوّاب الرحيم.

أقول: وروى هذا المعنى الصدوق والعيّاشيّ والقمّيّ وغيرهم. وعن طرق أهل السنّة والجماعة أيضاً ما يقرب من ذلك. وربّما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصّة.

وقال الكليني في الكافي: وفي رواية اُخرى في قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلمات قال: سأله بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين.

أقول: وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق والعيّاشيّ والقمّيّ وغيرهم. وروي ما يقرب من ذلك من طرق اهل السنّة والجماعة أيضاً كما رواه في الدرّ المنثور عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: لما أذنب آدم الذنب الّذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحقّ محمّد إلّا غفرت لي فأوحى الله إليه، ومن محمّد ؟ قال: تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذاً فيه مكتوب لا إله إلّا الله محمّد رسول الله. فعلمت أنّه ليس أحد عندك أعظم قدراً ممّن جعلت إسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم إنّه آخر النبيّين من ذريّتك ولولاه ما خلقتك.

أقول: وهذا المعنى وإن كان بعيداً عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن إشباع النظر والتدبّر فيها ربّما قرّب ذلك تقريباً، إذ قوله:( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ ) ، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربّه، ففيه علم سابق على التوبة، وقد كانعليه‌السلام تعلّم من ربّه الأسماء كلّها إذ قال تعالى للملائكة: إنّي جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ؟ قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلّها، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كلّ ظلم ومعصية لا محالة ودواء كلّ داء وإلّا لم يتمّ الجواب عمّا أورده الملائكة ولا قامت الحجّة عليهم لأنّه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها ويسفك الدماء شيئاً ولم يقابلهم بشئ دون أن علّم آدم الأسماء كلّها ففيه إصلاح كلّ فاسد، وقد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، وأنّها موجودات عالية مغيّبة في غيب السماوات والأرض، ووسائط

١٤٩

فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتمّ كمال لمستكمل إلّا ببركاتها. وقد ورد في بعض الأخبار أنّه رأى أشباح أهل البيت وأنوارهم حين علّم الأسماء. وورد أنّه رآها حين أخرج الله ذرّيّته من ظهره. وورد أيضاً أنّه رآها وهو في الجنّة فراجع والله الهادي. وقد أبهم الله أمر هذه الكلمات في قوله:( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ) الآية حيث نكّرها. وورد في القرآن: إطلاق الكلمة على الموجود العينيّ صريحاً في قوله:( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران - ٤٥.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الكلمات الّتي حكاها الله عنهما في سورة الأعراف بقوله:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الآية، ففيه: أنّ التوبة كما يدلّ عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض. قال تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) إلى أن قال:( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) الآيات وهذه الكلمات تكلّم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنّة كما في سورة الأعراف. قال تعالى:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) إلى أن قال:( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) إلى أن قال:( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الآيات، بل الظّاهر أنّ قولهما:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) ، تذلّل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأنّ الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأنّ له الربوبيّة وأنّهما ظالمان مشرفإنّ على خطر الخسران.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ موسى سأل ربّه أن يجمع بينه وبين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لاتأكل من الشجرة ؟ فلِمَ عصيته ؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية ؟ قال بثلثين ألف سنة. قال: فقال: هو ذاك، قال الصادقعليه‌السلام فحجّج آدم موسى.

أقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى العلّامة السيوطيّ في الدرّ المنثور بعدّة طرق عن النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم).

وفي العلل: عن الباقرعليه‌السلام : والله لقد خلق الله آدم للدنيا، وأسكنه الجنّة ليعصيه

١٥٠

فيردّه إلى ما خلقه له.

أقول: وقد مرّ رواية العيّاشيّ عن الصّادقعليه‌السلام في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.

وفي الاحتجاج: في احتجاج عليّ مع الشاميّ حين سأله: عن أكرم وادٍ على وجه الأرض، فقالعليه‌السلام : وادٍ يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.

أقول: وتقابلها روايات مستفيضة تدلّ على سقوطه في أرض مكّة وقد مرّ بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أوّلاً بسرانديب ثمّ هبوطه إلى أرض مكّة وليس بنزولين عرضيّين هذا.

وفي الدرّ المنثور عن الطبرانيّ وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذّر قال: قلت: يا رسول الله أرأيت آدم أ نبيّاً كان ؟ قال: نعم كان نبيّاً رسولاً، كلّمه الله قبلاً، قال له: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة.

أقول: وروى أهل السنّة والجماعة قريباً من هذا المعنى بعدّة طرق.

١٥١

( سورة البقرة الآيات ٤٠ - ٤٤)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( ٤٠ ) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ  وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ( ٤١ ) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤٢ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ٤٣ ) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٤٤ )

( بيان)

أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طيّ نيّف ومإة آية يذكر فيها نعمه الّتي أفاضها عليهم، وكراماته الّتي حباهم بها، وما قابلوها من الكفر والعصيان ونقض الميثاق والتمرّد والجحود، يذكّرهم بالإشارة إلى اثنتي عشرة قصّة من قصصهم، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر، وغرق فرعون وجنوده، ومواعدة الطور، واتّخاذهم العجل من بعده وأمر موسى إيّاهم بقتل أنفسهم واقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثمّ بعثهم الله تعالى، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم الّتي كلّها مشحونة بألطاف إلهيّة وعنايات ربّانيّة، ويذكّرهم أيضاً المواثيق الّتي أخذ منهم ثمّ نقضوها ونبذوها وراء ظهورهم، ويذكّرهم أيضاً معاصي ارتكبوها وجرائم اكتسبوها وآثامً كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم، وردع صريح من عقولهم، لقساوة قلوبهم، وشقاوة نفوسهم، وضلال سعيهم.

قوله تعالى: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ) ، أصل العهد الحفاظ، ومنه اشتقّت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق واليمين والوصيّة واللقاء والمنزل ونحو ذلك.

قوله تعالى: ( فَارْهَبُونِ ) ، الرهبة الخوف، وتقابل الرغبة.

قوله تعالى: ( وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) ، أي من بين أهل الكتاب، أو من بين قومكم ممّن مضى وسيأتي فإنّ كفّار مكّة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به.

١٥٢

( سورة البقرة الآيات ٤٥ - ٤٦)

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ( ٤٥ ) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( ٤٦ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ) ، الاستعانة وهي طلب العون إنّما يتمّ فيما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمّات والنوازل، و إذ لا معين في الحقيقة إلّا الله سبحانه فالعون على المهمّات مقاومة الإنسان لها بالثبات والاستقامة والاتّصال به تعالى بالانصراف إليه، والإقبال عليه بنفسه، وهذا هو الصبر والصلاة، وهما أحسن سبب على ذلك، فالصّبر يصغّر كلّ عظيمة نازلة، وبالإقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الإيمان، وتتنبّه: أنّ الإنسان متّك على ركن لا ينهدم، وسبب لا ينفصم.

قوله تعالي: ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) ، الضمير راجع إلى الصلاة، وأمّا إرجاعه إلى الاستعانة لتضمُّن قوله:( اسْتَعِينُوا ) ذلك فينافيه ظاهراً قوله:( إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) ، فإنّ الخشوع لايلائم الصبر كثير ملائمة. والفرق بين الخشوع والخضوع مع أنّ في كليهما معنى التذلّل والانكسار أنّ الخضوع مختصّ بالجوارح والخشوع بالقلب.

قوله تعالي: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ ) هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنّه مورد اليقين لا يفيد فيه الظنّ والحسبان الّذي لا يمنع النقيض. قال تعالى:( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة - ٤، ويمكن أن يكون الوجه فيه الأخذ بتحقّق الخشوع فإنّ العلوم التدريجيّة الحصول من أسباب تدريجيّة تتدرّج فيها النفس المدركة من تنبّه وشكّ ثمّ ترجُّح أحد طرفي النقيض ثمّ انعدام الإحتمالات المخالفة شيئاً فشيئاً حتّى يتمّ الإدراك الجازم وهو العلم. وهذا النوع من العلم إذا تعلّق بأمر هائل موجب لاضطراب النّفس وقلقها وخشوعها إنّما تبتدي الخشوع الّذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الإدراك العلميّ وتمامه، ففي وضع الظنّ

١٥٣

موضع العلم إشارة إلى أنّ الإنسان لا يتوقّف على زيادة مؤنة على العلم إن تنبّه بأنّ له ربّاً يمكن أن يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر:

فقلت لهم ظنّوا بألفي مذحّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد

و إنّما يخوف العدوّ باليقين لا بالشكّ ولكنّه أمرهم بالظنّ لأنّ الظنّ يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتّى يتكلّف المهدّد إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى:( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) الكهف - ١١٠، وهذا كلّه لو كان المراد باللّقاء في قوله تعالى:( ملاقوا ربّهم ) ، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الأعراف إنشاء الله فلا محذور فيه أصلاً.

( بحث روائي)

في الكافي عن الصادقعليه‌السلام قال: كان عليّ إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلاة ثمّ تلا هذه الآية: واستعينوا بالصبر والصلاة.

وفي الكافي : أيضاً عنهعليه‌السلام في الآية، قال: الصبر الصيام، وقال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إنّ الله عزّوجلّ يقول: واستعينوا بالصبر يعنى الصيام.

أقول: وروى مضمون الحديثين العيّاشيّ في تفسيره. وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري.

وفي تفسير العيّاشيّ: عن أبي الحسنعليه‌السلام : في الآية قال: الصبر الصوم، إذا نزلت بالرّجل الشدّة أو النازلة فليصم، إنّ الله يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة وأنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين.

والخاشع الذليل في صلاته المقبل عليها، يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: قد إستفادعليه‌السلام إستحباب الصوم والصلاة عند نزول الملمّات والشدائد، وكذا التوسّل بالنبيّ والوليّ عندها، وهو تأويل الصوم والصلاة برسول الله وأميرالمؤمنين.

١٥٤

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً: عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ ) الآية يقول: يوقنون أنّهم مبعوثون، والظنّ منهم يقين.

أقول: ورواه الصدوق أيضاً.

وروى إبن شهر آشوب عن الباقرعليه‌السلام : أنّ الآية نازلة في عليّ وعثمان بن مظعون وعمّار بن ياسر وأصحاب لهم.

١٥٥

( سورة البقرة الآيات ٤٧ - ٤٨)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ( ٤٧) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ( ٤٨)

( بيان)

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي ) الملك والسلطان الدنيويّ بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه، وقواه المقنّنة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحياة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانيّة والمكانيّة، فربّما بدّل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلّي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضاً فإنّ الجرم والجناية عندهم يستتبع العقاب، وربّما بدّل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلحّ المحكوم الّذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحقّ، أو يبعث المجرم شفيعاً يتوسّط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلاً وبدلاً إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذالك المجرم، أو يستنصر فومه فينصروه فيتخلّص بذالك عن تبعة العقاب ونحو ذلك. تلك سنّة جارية وعادة دائرة بينهم ، و كانت الملل القديمة من الوثنيّين و غيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيويّة يطرّد فيها قانون الأسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثّر المادّيّ الطبيعيّ، فيقدّمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتّى أنّهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة، ليكون معهم ما يتمتّعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربّما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الأبطال من يستنصر به الميّت، وتوجد اليوم

١٥٦

في المتاحف بين الآثار الأرضيّة عتائق كثيرة من هذا القبيل، ويوجد عقائد متنوّعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلاميّة على إختلاف ألسنتهم والوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربّما تلوّنت لوناً بعد لون، جيلاً بعد جيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، والأقاويل الكاذبة، فقد قال عزّ من قائل:( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ) ، الإنفطار - ١٩، وقال:( وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ) البقرة - ١٦٦، وقال:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام - ٩٤، وقال:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس - ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات الّتي بيّن فيها: أنّ الموطن خال عن الأسباب الدنيويّة، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعيّة، وهذا أصل يتفرّع عليه بطلان كلّ واحد من تلك الأقاويل والأوهام على طريق الإجمال، ثمّ فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال:( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) البقرة - ٤٨، وقال:( يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ) البقرة - ٢٥٤، وقال:( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا ) الدخان - ٤١، وقال:( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ ) المؤمن - ٣٣، وقال:( مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) الصافات - ٢٦، وقال:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس - ١٨، وقال:( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) المؤمن - ١٨، وقال:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) الشعراء - ١٠١، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة هذا.

ثمّ إنّ القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الاثبات. قال تعالى:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ) السجدة - ٤، وقال تعالى:( لَيْسَ لَهُم

١٥٧

مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) الانعام - ٥١، وقال تعالى:( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) الزمر - ٤٤، وقال تعالى:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) البقرة - ٢٥٥، وقال تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقال تعالى:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء - ٢٨، وقال:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، وقال:( لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) مريم - ٨٧، وقال تعالى:( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠، وقال تعالى:( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) السبأ - ٢٣، وقال تعالى:( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلّا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) النجم - ٢٦، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه كالآيات الثلثة الأول وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك. وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه، وقد عرفت أنّ هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، وإثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه. قال تعالى:( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ ) النمل - ٦٥، وقال تعالى:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ) الانعام - ٥٩ وقال تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) الجنّ - ٢٧، وكذلك الآيات الناطقة في التوفّي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فإنّها شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كلّ كمال عن غيره تعالى، ثمّ يثبته لنفسه، ثمّ يثبته لغيره بإذنه ومشيّته، فتفيد أنّ الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها وإستقلالها، وإنّما تملكها بتمليك الله لها أيّاها، حتّى أنّ القرآن

١٥٨

تثبت نوعاً من المشيّة في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء حتم، كقوله تعالى:( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود - ١٠٨. فقد علّق الخلود بالمشيّة وخاصّة في خلود الجنّة مع حكمه بأنّ العطاء غير مجذوذ، إشعاراً بأنّ قضائه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عزّ سلطانه كما يدلّ عليه قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) هود - ١٠٧، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده ويوجب له الفقر، ولا منع يضطرّه إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.

من هنا يظهر أنّ الآيات النافية للشفاعة، إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى باذنه فلننظر ماذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلّقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصحّ ؟ ومتى تتحقّق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى ؟ ونحو ذلك في أمور:

( ١ - ما هي الشفاعة ؟)

الشفاعة على ما تعرف من معناها إجمالاً بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و (هي من الشفع مقابل الوتر كأنّ الشفيع ينضمُّ إلى الوسيلة الناقصة الّتي مع المستشفع فيصير به زوجاً بعد ما كان فرداً فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها) من الأمور الّتي نستعلمها لإنجاح المقاصد، ونستعين بها على حوائج الحياة. وجلّ الموارد الّتي نستعملها فيها إمّا مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير، وإمّا مورد يطلب فيها دفع المضرّة والشرّ، لكن لا كلّ نفع وضرر، فإنّا لا نستشفع فيما يتضمنّه الأسباب الطبيعيّة والحوادث الكونيّة من الخير والشرّ والنفع والضرّ، كالجوع والعطش والحرّ والبرد والصحّة والمرض، بل نتسبّب فيها بالأسباب الطبيعيّة، ونتوسّل إليها بوسائلها المناسبة لها كالأكل والشرب واللّبس والاكتنان

١٥٩

والمداواة، وإنّما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضارّ الّتى تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين الأحكام الّتي وضعتها واعتبرتها وقرّرتها وأجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولويّة والعبوديّة وعند كلّ حاكم ومحكوم، وأحكام من الأمر والنهي إذا عمل بها وإمتثلها المكلّف بها استتبع ذلك تبعة الثّواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، وإذا خالفها وتمرّد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذمّ أو ضرر مادّيّ، أو معنويّ، فإذا أمر المولى أو نهي عبده، أو كلّ من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهى مثلاً فامتثله كان له بذلك أجر كريم، وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم، يتعيّن به تبعة الموافقة والمخالفة.

وعلى هذا الأصل تدور جميع الحكومات العامّة بين الملل والخاصّة بين كل إنسان ومن دونه.

فإذا أراد الإنسان أن ينال كمالاً وخيراً مادّيّاً أو معنويّاً وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعيّنه الاجتماع، ويعرف به لياقتة، أو أراد أن يدفع عن نفسه شرّاً متوجّهاً إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلّص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجّة إليه فذلك مورد الشفاعة، وعنده تؤثّر لكن لا مطلقاً فإنّ من لا لياقة له بالنسبة الي التلبّس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلاً، كالعاميّ الأمّي الّذي يريد تقلّد مقام علميّ، أو الجاحد الطاغي الّذي لا يخضع لسيّده أصلاً لا تنفع عنده الشفاعة، فإنّما الشفاعة متمّمة للسبب لا مستقلّة في التأثير.

ثمّ إنّ تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيراً جزافيّاً من غير سبب يوجب ذلك بل لا بدّ أن يوسّط أمراً يؤثّر في الحاكم، ويوجب نيل الثواب، أو التخلّص من العقاب. فالشفيع لا يطلب من المولى مثلاً أن يبطل مولويّة نفسه وعبوديّة عبده فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول،

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459