الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173008 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أبي العبّاس المكبّر قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرّون النّاس وتقولون: شفاعة محمّد، شفاعة محمّد، فغضب أبو جعفر حتّى تربّد وجهه، ثمّ قال: ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك وفرجك ؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد، ويلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النار ؟ قال: ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) يوم القيامة، ثمّ قال أبو جعفر: إنّ لرسول الله الشفاعة في اُمّته، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثمّ قال: وإنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، وإنّ المؤمن ليشفع لخادمه ويقول: يا ربّ حقّ خدمتي كان يقيني الحرّ و البرد.

أقول: قولهعليه‌السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ظاهره أنّ هذه الشفاعة العامّة غير الّتي ذكرها بقوله:( ويلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار) ، وقد مرّ نظير هذا المعني في رواية العيّاشيّ عن عبيد بن زرارة عن الصادقعليه‌السلام . وفي هذا المعنى روايات اُخر روتها العامّة والخاصّة، ويدلّ عليه قوله تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، حيث يفيد أنّ الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، وسيأتي إن شاء الله في قوله تعالى :( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) البقرة - ١٤٣، أنّ الأنبياء شهداء وأنّ محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) شهيد عليهم، فهو (صلّي الله عليه و آله و سلّم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: في قوله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلّا لمن أذن له. قالعليه‌السلام : لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتّى يأذن الله له إلّا رسول الله فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللأئمّة من وُلده ثمّ من بعد ذلك للأنبياء.

وفي الخصال: عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم): ثلاثة يشفعون إلى الله عزّوجلّ فيشفّعون، الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء.

١٨١

أقول: الظاهر أنّ المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمّة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

وفي الخصال في حديث الأربعمأة: وقالعليه‌السلام : لنا شفاعة ولأهل مودّتنا شفاعة.

أقول: وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيّدة النساء فاطمةعليه‌السلام وشفاعة ذرّيّتها غير الأئمّة وشفاعة المؤمنين حتّى السقط منهم.ففي الحديث المعروف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا فإنّي اُباهي بكم الاُمم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطأً على باب الجنّة فيقال له: اُدخل فيقول: لا حتّى يدخل أبواي الحديث.

وفي الخصال: عن أبي عبدالله عن أبيه عن جده عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا، فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول: ربّ سلّم شيعتي و محبّيّ وأنصاري ومن تولّاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، وشفّعت في شيعتك، ويشفع كلّ رجل من شيعتي ومن تولّاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرّةٍ من بُغضنا أهل البيت.

وفي الكافي: عن حفص المؤذّن عن أبي عبداللهعليه‌السلام في رسالته إلى أصحابه قالعليه‌السلام : واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

وفي تفسير الفرات: بإسناده عن الصادقعليه‌السلام قال: قال جابر لأبي جعفرعليه‌السلام : جعلت فداك يا بن رسول الله حدّثني بحديث في جدّتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : فو الله لا يبقى في الناس إلّا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى : فما لنا من شافعين لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفرعليه‌السلام : هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون.

أقول: تمسّكهعليه‌السلام بقوله تعالى:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) يدلّ على إستشعار دلالة

١٨٢

الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسّك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد إتّضح ممّا قدّمناه في قوله تعالى:( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرّد النفي لكان حقّ الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع ولا صديق حميم، فالإتيان في حيّز النفي بصيغة الجمع يدلّ على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقّهم، مضافاً إلى أنّ قوله تعالى:( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بعد قوله:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) المسوق للتحسّر تمن واقع في حيّز التحسّر ومن المعلوم أنّ التمني في حيّز التحسّر إنّما يكون بما يتضمّن ما فقده ويشتمل على ما تحسّر عليه فيكون معنى قولهم:( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ) ، معناه يا ليتنا نردّ فنكون من المؤمنين حتّى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالّة على وقوع الشفاعة.

وفي التوحيد: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلّا لمن إرتضى ومن إرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟ فقالعليه‌السلام : ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلّا سائه ذلك وندم عليه. وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفي بالندم توبة، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سرّته حسنة وسائته سيّئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً والله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. فقيل له: يا بن رسول الله وكيف لا يكون مؤمناً من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلّا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقّاً للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً والمصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأمّا قول الله عزّوجلّ: ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه، والدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيّئآت، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.

١٨٣

أقول: قولهعليه‌السلام وكان ظالماً، فيه تعريف الظالم يوم القيامة وإشارة إلى ما عرّفه به القرآن حيث يقول:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) الأعراف - ٤٤ و ٤٥، وهو الّذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسّف على فوت أوامر الله تعالى ولا يسوئه إقتحام محارمه إمّا بجحد جميع المعارف الحقّة والتعاليم الدينيّة وإمّا بالاستهانة لأمرها وعدم الاعتناء بالجزاء والدين يوم الجزاء والدين فيكون قوله به إستهزاءً بأمره وتكذيباً له، وقولهعليه‌السلام : فتكون تائباً مستحقّاً للشفاعة، أي راجعاً إلى الله ذا دين مرضيّ مستحقّاً للشفاعة، وأمّا التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، وقولهعليه‌السلام : وقد قال النبيّ لا كبيرة مع الاستغفار، الخ تمسّكهعليه‌السلام به من جهة أن الإصرار وهو عدم الانقباض بالذنب والندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الّذي له إلى شأن آخر وهو تكذيب المعاد والظلم بآيات الله فلا يغفر لأنّ الذنب إنّما يغفر إمّا بتوبة أو بشفاعة متوقّفة على دين مرضيّ ولا توبة هناك ولا دين مرضيّاً.

ونظير هذا المعنى واقع في رواية العلل عن أبي إسحق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللّهمّ لا، قلت: فيلوط ؟ قال اللّهمّ لا، قلت فيسرق ؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال لا، قلت: فيأتي ؟ بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا، قلت: فيذنب ذنباً ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم لا يلزمه ولا يصرُّ عليه الحديث.

وفي الخصال: بأسانيد من الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزّوجلّ لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ثمّ يغفر الله له لا يطلع الله له ملكاً مقرّباً ولا نبيّاّ مرسلاً ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيّئآته كوني حسنات.

وعن صحيح مسلم مرفوعاً إلى أبى ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحّوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: اعطوه مكان كلّ سيّئة حسنة فيقول: إنّ لي ذنوباً ما أراها هيهنا، قال: ولقد رايت رسول الله ضحك حتّى بدت نواجذه.

١٨٤

وفي الأمالي: عن الصادقعليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتّى يطمع إبليس في رحمتة.

أقول: والروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات والأخبار الدالّة على وقوع شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة من طرق أئمّة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنّة والجماعة بالغة حدّ التواتر، وهي من حيث المجموع إنّما تدلّ على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إمّا بالتخليص من دخول النار وإمّا بالإخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيّقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار وقد عرفت أنّ القرآن أيضاً لا يدلّ على أزيد من ذلك.

( بحث فلسفي)

البراهين العقليّة وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتاباً وسنّة في المعاد لعدم نيلها المقدّمات المتوسّطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ إبن سينا لكنّها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقليّة والمثاليّة في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرّد العقليّ والمثاليّ الناهض عليهما البرهان.

فالإنسان في بادئ أمره يحصل له من كلّ فعل يفعله هيئة نفسانيّه وحال من احوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث أنّه إنسان، وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثمّ تصير تلك الاحوال بتكرّرها ملكة راسخة، ثمّ يتحصّل منها صورة سعيدة أو شقيّة للنفس تكون مبدءً لهيآت وصور نفسانيّة، فإن كانت سعيدة فآثارها وجوديّة ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس الّتي هي بمنزلة المادّة القابلة لها، وإن كانت شقيّة فآثارها أمور عدميّة ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشرّ، فالنفس السعيدة تلتّذ بآثارها بما هي إنسان، وتلتذّ بها بما هي إنسان سعيدٌ بالفعل، والنفس الشقيّة وإن كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنّها مبدأ لها لكنّها تتألّم بها بما أنّها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتاً والصالح عملاً والإنسان الشقىّ ذاتاً والطالح عملا. وأمّا الناقصة في سعادتها وشقاوتها

١٨٥

فالإنسان السعيد ذاتاً الشقىّ فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحقّ الثابت غير أنّ في نفسه هيئآت شقيّة ردّية من الذنوب والآثام إكتسبتها حين تعلّقها بالبدن الدنيويّ وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي اُمور قسريّة غير ملائمة لذاتة، وقد اُقيم البرهان على أنّ القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهّر منها في برزخ أو قيامة على حسب قوّة رسوخها في النفس، وكذلك الأمر فيما للنفس الشقيّة من الهيآت العارضة السعيدة فإنّها ستسلب عنها وتزول سريعاً أو بطيئاً، وأمّا النفس الّتي لم تتمّ لها فعليّة السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا حتّى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عزّوجلّ، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الاعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعيّة الاعتباريّة بالآخرة إلى روابط حقيقيّة وجوديّة هذا.

ثمّ إنّ البراهين قائمة على أنّ الكمال الوجوديّ مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدّة والضعف وهو التشكيك خاصّة في النور المجرّد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدأ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائيّ وعودها إلى ما بدأت منها وهي بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعليّة (بمعنى ما به) ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامّة الكاملة كنفوس الأنبياءعليهم‌السلام وخاصّة من هو في أرقي درجات الكمال والفعليّة وساطة في زوال الهيآت الشقيّة الرديّة القسريّة من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسراً، وهذه هي الشفاعة الخاصّة بأصحاب الذنوب.

( بحث اجتماعي)

الّذي تعطيه اُصول الإجتماع أنّ المجتمع الإنسانيّ لا يقدر على حفظ حياته وادامة وجوده إلّا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، الحكومة في أعمال الأفراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزه الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كلّ على حسب ما يلائم

١٨٦

شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيراً حثيثاً ويتولّد بتألّف أطرافه وتفاعل متفرّقاته العدل الاجتماعيّ وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادّيّة يحتاج إليها إرتقاء الاجتماع المادّيّ، وعلى كمالات معنويّة كالأخلاق الحسنة الفاضلة الّتي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك، وحيث كانت القوانين والأحكام وضعيّة غير حقيقيّة احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقرّرة اُخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدّي الأفراد المتهوّسين وتساهل آخرين، ولذلك كلّما قويت حكومة (أيّ حكومة كانت) على إجراء مقرّرات الجزاء لم يتوقّف المجتمع في سيره ولا ضلّ سائره عن طريقه ومقصده. وكلّما ضعفت إشتدّ الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلّص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشئ من الحيل والدسائس المهلكة، ولذلك نقموا على الديانة المسيحيّة ما وقع فيها أنّ المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتّكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانيّة، مؤخّراً للمدنيّة، راجعاً بالإنسان القهقرى كما قيل. وأنّ الإحصاء يدلّ علي أنّ المتديّنين أكثر كذباً وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلّا أنّهم يتّكلون بحقيّة دينهم، وادّخار الشفاعة في حقّهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنّهم خلّوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها بما بطل به في المتديّنين فحكمت بقبح التخلّف عمّا يخالف حكم الإنسانيّة والمدنيّة الفاضله.

وبذلك عوّل جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنّة.

ولعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الّذي فسّروها به، ولا الشفاعة الّتي تثبتها تؤثّر الأثر الّذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصّل الباحث في المعارف الدينيّة وتطبيق ما شرّعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنيّة الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الاُصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفيّة ذلك التطبيق، ثمّ يحصّل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلّها وموقعها بين المعارف الّتي جاء بها.

١٨٧

فيعلمأوّلاً: أنّ الّذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أنّ المؤمنين لا يخلّدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربّهم بالإيمان المرضيّ والدين الحقّ فهو وعد وعده القرآن مشروطاً ثمّ نطق بأنّ الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولاسيّما الكبائر ولا سيّما الإدمان منها والإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، وبذلك يتحصّل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربّه رغبة ورهبة، ويسير في حياته سيراً معتدلاً غير منحرف لا إلى خمود القنوط، ولا إلى كسل الوثوق.

وثانياً: أنّ الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعيّة من مادّيّاتها ومعنويّاتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفرديّة والاجتماعيّة، ثمّ إعتبر لكلّ مادّة من موادّها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحدّ وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذمّ والتقبيح، ثمّ تحفّظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكلّ على الكلّ بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ثمّ أحيى ذلك بنفخ روح الدعوة الدّينيّة المضمّنة بالإنذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيتة بتلقين معارف المبدء والمعاد على هذا الترتيب.

فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وصدّقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتّى اثبت به أيدي الولاة في السلطنة الاُمويّة ومن شايعهم في إستبدادهم ولعبهم بأحكام الدين وإبطالهم الحدود والسياسات الدينيّة حتّى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرّيّة وظهرت المدنيّة الغربيّة ولم يبق من الدين بين المسلمين إلّا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزّلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الأخلاق والآداب الشريفة وإنغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الّذي أجراهم على انتهاك كلّ حرمة وإقتراف كلّ ما يستشنعه حتّى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيّله المعترض من إستناد الفساد إلى بعض المعارف الدينيّة الّتي لا غاية لها وفيها إلّا سعادة الإنسان في آجله وعاجله والله المعين. والإحصاء الّذي ذكروها إنّما وقع على جمعيّة المتديّنين وليس عليهم قيّم ولا حافظ قويّ وعلى جمعيّة غير المنتحلين. والتعليم والتربية الاجتماعيّان قيّمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعيّ فلا يفيد فيما أراده شيئاً.

١٨٨

( سورة البقرة الآيات ٤٩ - ٦١)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ  وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ( ٤٩ ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ٥٠ ) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ( ٥١ ) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٥٢ ) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ٥٣ ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ  إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ٥٤ ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ٥٥ ) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٥٦ ) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ  كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ  وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٥٧ ) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ  وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( ٥٨ ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ٥٩ ) وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ  فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا  قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ  كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ٦٠ ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا  قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ  اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ  وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ  ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ( ٦١ )

١٨٩

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ، أي يتركونهنّ أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهنّ كالأبناء فالاستحياء طلب الحياة ويمكن أن يكون المعنى ويفعلون ما يوجب زوال حيائهنّ من المنكرات، ومعنى( يَسُومُونَكُمْ ) يولّونكم.

قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ) الفرق مقابل الجمع كالفصل والوصل. والفرق في البحر الشقّ والباء للسببيّة أو الملابسة أي فرقنا لإنجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر.

قوله تعالى: ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) وقصّ تعالى القصّة في سورة الأعراف بقوله:( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) الأعراف - ١٤٢، فعدّ المواعدة فيها أربعين ليلة إمّا للتغليب أو لأنّه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة اُخرى فالأربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

قوله تعالى: ( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ) البارئ من الأسماء الحسنى كما قال تعالى:( هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) الحشر - ٢٤، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: إثنان منها في هذه الآية ولعلّه خصّ بالذكر هيهنا من بين الأسماء الملائمة معناه للمورد لأنّه قريب المعنى من الخالق والموجد، من برء يبرء برائاً إذا فصل لأنّه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض، فكأنّه تعالى يقول: هذه التوبة وقتلكم أنفسكم وإن كان أشقّ ما يكون من الأاوامر لكنّ الله الّذي أمركم بهذا الفناء والزوال بالقتل هو الّذي برئكم فالّذي أحبّ وجودكم وهو خير لكم هو يحبّ الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم وكيف لا يحبّ خيركم وقد برئكم، فاختيار لفظ البارئ باضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، وقوله :( عِندَ بَارِئِكُمْ ) للإشعار بالاختصاص لإثارة المحبّة.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) ظاهر الآية وما تقدّمها أنّ هذه الخطابات وما وقع فيها من عدّ أنواع تعديّاتهم ومعاصيهم إنّما نسبت إلى الكلّ مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قوميّة واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض،

١٩٠

وينسب فعل بعضهم إلى آخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كلّ بنى اسرائيل عبدوا العجل، ولا كلّهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم وعلى هذا فقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) ، إنّما يعني به قتل البعض وهم الّذين عبدوا العجل كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) ، وقوله تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) تتمّة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر. وقوله تعالى:( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) يدلّ على نزول التوبة وقبولها. وقد وردت الرواية أنّ التّوبة نزلت ولمّا يقتل جميع المجرمين منهم.

ومن هنا يظهر أنّ الأمر كان أمراً إمتحانيّاً نظير ما وقع في قصّة رؤيا إبراهيمعليه‌السلام وذبح إسمعيل( يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) لصافات - ١٠٥، فقد ذكر موسىعليه‌السلام فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، وأمضى الله سبحانه قولهعليه‌السلام وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ وأنزل التوبة بقوله:( فَتَابَ عَلَيْكُمْ )

قوله تعالى: ( رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ ) ، الرجز العذاب.

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْثَوْا ) ، العيث والعثى أشدّ الفساد.

قوله تعالى: ( وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا ) ، القثّاء الخيار والفوم الثوم أو الحنطة.

قوله تعالى: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ ) ، أي رجعوا.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ ) ، تعليل لما تقدّمه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا ) ، تعليل للتعليل فعصيأنّهم ومداومتهم للإعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء كما قال تعالى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) الروم - ١٠، وفي التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى:( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ثمّ بدا منه فزاد عشراً فتمّ ميقات ربّه الأوّل والآخر أربعين ليلة.

١٩١

أقول: والرواية تؤيّد ما مرّ أن الأربعين مجموع المواعدتين.

وفي الدرّ المنثور: عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم ) الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً فأخذوا السكّاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وإبنه والله لا يبالى من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفاً فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقى.

وفي تفسير القمّيّ: قالعليه‌السلام : أنّ موسى لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم بأتّخذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل أنفسنا فقال لهم موسى: اُغدوا كلّ واحد منكم إلى بيت المقدّس ومعه سكّين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني اسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فأقتلوا بعضكم بعضاً، فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممّن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدّس فلمّا صلّى بهم موسى وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضاً حتّى نزل جبرئيل فقال: قل لهم: يا موسى إرفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو التوّاب الرحيم

أقول: والرواية كما ترى تدلّ على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولاً لموسى ومقولاً له سبحانه فيكون إمضائاً لكلمة قالها موسى وكشفاً عن كونها تامّة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإنّ الظاهر يعطي أنّ موسى جعل قتل الجميع خيراً لهم عند بارئهم، وقد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه، ما وقع من القتل هو الخير الّذي ذكره موسىعليه‌السلام كما مرّ.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: في قوله تعالى: وظلّلنا عليكم الغمام الآية أنّ بني اسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظلّ، ولا شجر، ولا ماء. وكانت تجئ بالنهار غمامة تظلّهم من الشمس وينزل عليهم بالليل المنّ فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه وبالعشيّ يأتيهم طائر مشويّ يقع على موائدهم فإذا أكلوا وشربوا طار ومرّ وكان مع موسى حجر

١٩٢

يضعه وسط العسكر ثمّ يضربه بعصاه فتنفجر منها إثنتا عشرة عيناً كما حكى الله فيذهب إلى كلّ سبط في رحله وكانوا اثنى عشر سبطاً.

وفي الكافي: في قوله تعالى:( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ، عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال: إنّ الله أعزّ وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم ولكنّه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، ثمّ أنزل الله بذلك قرآناً على نبيّه فقال: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي قلت: هذا تنزيل، قال: نعم.

أقول: وروى ما يقرب منه أيضاً عن الباقرعليه‌السلام وقولهعليه‌السلام :( أمنع من أن يظلم) بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: وما ظلمونا. وقوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل:وقوله: ولكنّه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الأنبياء والاوصياء والأئمّة بنفسه،وقوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أنّ النفي في هذه الموارد وأمثالها إنّما يصحّ فيما يصحّ فيه الإثبات أو يتوهّم صحّته، فلا يقال للجدار: أنّه لا يبصر أو لا يظلم إلّا لنكتة وهو سبحانه أجل من أن يسلّم في كلامه توهّم الظلم عليه، أو جواز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لأنّ العظماء يتكلّمون عن خدمهم وأعوانهم.

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ) الآية عن الصادقعليه‌السلام أنّه قرأ هذه الآية: ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون النبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فقال: والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلاً واعتداءً ومصيبة.

أقول: وفي الكافي عنهعليه‌السلام مثله وكأنّهعليه‌السلام استفاد ذلك من قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) فإنّ القتل وخاصّة قتل الأنبياء والكفر بآيات الله لا يعلّل بالعصيان بل الأمر بالعكس على ما يوجبه الشدّة والأهّميّة لكنّ العصيان بمعنى عدم الكتمان والتحفّظ ممّا يصحّ التعليل المذكور به.

١٩٣

( سورة البقرة الآية ٦٢)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٦٢)

( بيان)

تكرار الإيمان ثانياً وهو الاتّصاف بحقيقتة كما يعطيه السياق يفيد أنّ المراد بالّذين آمنوا في صدر الآية هم المتّصفون بالإيمان ظاهراً المتسمّون بهذا الاسم فيكون محصّل المعنى أنّ الاسماء والتسمّي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجراً ولا أمناً من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنّة إلّا من كان هوداً أو نصارى، وإنّما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلّا يكون تقريراً للفائدة في التسمّي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا ممّا تكرّرت فيه آيات القرآن أنّ السعادة والكرامة تدور مدار العبوديّة، فلا إسم من هذه الاسماء ينفع لمتسمّيه شيئاً، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلّا مع لزوم العبوديّة، الأنبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكلّ وصف جميل:( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الانعام - ٨٨، وقال تعالى في أصحاب نبيّه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلوّ قدرهم:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) الفتح - ٢٩، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممّن اوتي آيات الله تعالى:( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه ) الأعراف - ١٧٦، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أنّ الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.

١٩٤

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: عن سلمان الفارسيّ قال: سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا) الآية.

أقول: وروي أيضاً نزول الآية في أصحاب سلمان بعدّة طرق اُخرى.

وفي المعاني: عن إبن فضّال قال: قلت للرضاعليه‌السلام لم سمّي النصاري نصارى قال: لأنّهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.

أقول: وفي الرواية بحث سنتعرّض له في قصص عيسىعليه‌السلام من سورة آل عمران إنشاء الله.

وفي الرواية أنّ اليهود سمّوا باليهود لأنّهم من ولد يهودا بن يعقوب.

وفي تفسير القمّيّ: قال: قالعليه‌السلام : الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب.

أقول: وهي الوثنيّة، غير أنّ عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الّذي يخصّهم عبادة أصنام الكواكب.

( بحث تاريخي)

ذكر أبوريحان البيرونيّ في الآثار الباقية ما لفظه: وأوّل المذكورين منهم يعني المتنبّئين يوذاسف وقد ظهر عند مضيّ سنة من ملك طهمورث بأرض الهند وأتي بالكتابة الفارسيّة، ودعا إلى ملّة الصابئين فأتّبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشداديّة وبعض الكيانيّة ممّن كان يستوطن بلخ يعظّمون النيّرين والكواكب وكليّات العناصر ويقدّسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا اُؤلئك الصابئين بحرّان ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرّانيّة وقد قيل: إنّها نسبة إلى هادان بن ترخ اخى ابراهيمعليه‌السلام وأنّه كان من بين رؤسائهم اوغلهم في الدين

١٩٥

واشدّهم تمسّكا به، وحكى عنه ابن سنكلا النصرانيّ في كتابه الّذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والأباطيل، أنّهم يقولون إنّ ابراهيمعليه‌السلام إنّما خرج عن جملتهم لأنّه خرج في قلفته برص وأنّ من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، ودخل إلى بيت من بيوت الاصنام فسمع صوتاً من صنم يقول له: يا ابراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، أخرج ولا تعاود المجئ الينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذاً، وخرج من جملتهم ثمّ إنّه ندم بعد ما فعله، وأراد ذبح إبنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلمّا علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

وحكى عبد المسيح بن إسحق الكنديّ عنهم في جوابه عن كتاب عبدالله بن اسماعيل الهاشميّ، أنّهم يعرفون بذبح الناس ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهراً ونحن لا نعلم منهم إلّا أنّهم اُناس يوحّدون الله، وينزّهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحدّ، ولا يرى، ولا يظلم، ولا يجور ويسمّونه بالأسماء الحسنى مجازاً، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها نطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الأنوار، ومن آثارهم القبّة الّتي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلّاهم، كان اليونانيّون والروم على دينهم، ثمّ صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثمّ تغلب عليها النصارى، فصيّروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فأتّخذوها مسجداً، وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخيّ في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنّها منسوبة إلى القمر، وبنائها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمّى سلمسين، وإسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، وقرية اُخرى تسمّى ترع عوز أي باب الزهرة ويذكرون أنّ الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وأنّ اللّات كان باسم زحل، والعزّى باسم الزهرة ولهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصريّ وأغاذيمون وواليس وفيثاغورث وباباسوار جدّ أفلاطون من جهة اُمّه وأمثالهم، ومنهم من حرّم عليه السمك خوفاً

١٩٦

أن يكون رغاوة والفرخ لأنّه أبداً محموم، والثوم لأنّه مصدّع محرق للدّم أو المنيّ الّذي منه قوام العالم، والباقلاء لأنّه يغلظ الذهن ويفسده، وأنّه في أوّل الأمر إنّما نبت في جمجمة إنسان، ولهم ثلاث صلوات مكتوبات.

أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.

والثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، وفي كلّ ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، ويتنفّلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، واُخرى في التاسعة من النهار.

والثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، ويصلّون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا وأكثر أحكامهم في المناكح والحدود مثل أحكام المسلمين، وفي التنجّس عند مسّ الموتى، وأمثال ذلك شبيهة بالتوراة، ولهم قرابين متعلّقة بالكواكب واصنامها وهياكلها، وذبائح يتولّاها كهنتهم وفاتنوهم، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرّب وجواب ما يسأل عنه، وقد يسمّى هرمس بإدريس الّذي ذكر في التوراة أخنوخ، وبعضهم زعم أنّ يوذاسف هو هرمس.

وقد قيل: إنّ هؤلاء الحرّانيّة ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمّون في الكتب بالحنفاء والوثنيّة، فإنّ الصابئة هم الّذين تخلّفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في أيّام كورش وأيّام ارطحشست إلى بيت المقدّس، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنّصر، فذهبوا مذهباً ممتزجاً من المجوسيّة واليهوديّة، كالسامرة بالشام، وقد توجد أكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهرى الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث، ومخالفين للحرّانيّة، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلّا في أشياء قليلة، حتّى أنّهم يتوجّهون في الصلاة إلى جهة القطب الشماليّ والحرّانيّة إلى الجنوبيّ، وزعم بعض أهل الكتاب أنّه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمّى صابي. وأنّ الصابئة سمّوا به، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكّان الجانب الشرقيّ من الأرض وكانوا عبدة أوثان، وبقاياهم الآن بالهند والصين و

١٩٧

التغزغز ويسمّيهم أهل خراسان شمنان، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتّصلة بالهند، ويقولون: بقدم الدهر، وتناسخ الأرواح وهوي الفلك في خلاء غير متناه، ولذلك يتحرّك على استدارة فإنّ الشئ المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا ومنهم من أقرّ بحدوث العالم، وزعم أنّ مدّته ألف ألف سنة إنتهى موضع الحاجة.

أقول: وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسيّة واليهوديّة مع أشياء من الحرّانيّة هو الأوفق بما في الآية فإنّ ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملّة.

١٩٨

( سورة البقرة الآيات ٦٣ - ٧٤)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٦٣ ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ  فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ( ٦٤ ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( ٦٥ ) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٦٦ ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً  قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا  قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٦٧ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ  فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( ٦٨ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( ٦٩ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ( ٧٠ ) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا  قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ  فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( ٧١ ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا  وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ( ٧٢ ) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا  كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٧٣ ) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً  وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٧٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) ، الطور هو الجبل كما بدّله منه في قوله تعالى:( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) الأعراف - ١٧١، والنتق هوالجذب والإقتلاع، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أوّلاً والأمر بأخذ ما اُوتوا وذكر ما فيه أخيراً

١٩٩

ووضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدلّ على أنّه كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم وإكراههم على العمل بما أوتوه وإلّا لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربّما يقال: إنّ رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه:( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) البقرة - ٢٥٦، وقال تعالى:( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس - ٩٩، غير وجيه فإنّ الآية كما مرّ لا تدلّ على أزيد من الإخافة والإرهاب ولو كان مجرّد رفع الجبل فوق بني اسرائيل إكراهاً لهم على الإيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإكراه، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها، والقول بأنّ بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتّى أظلّ رأسه عليهم، فظنّوا أنّه واقع بهم فعبّر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنىّ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات، وقد مرّ الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، ولا لبلاغة الكلام وفصاحتة أصل تتّكي عليه وتقوم به.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لعلّ كلمة ترجّ واللازم في الترجّي صحّتة في الكلام سواء كان قائماً بنفس المتكلّم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلّم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر فالرجاء في كلامه تعالى إمّا بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأمّا هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الاُمور، كما نبّه عليه الراغب في مفرداته.

قوله تعالى: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أي صاغرين.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا ) أي عبرة يعتبر بها. والنكال هو ما يفعل من الإذلال والإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) الخ، هذه قصّة بقرة بني إسرائيل، وبها سمّيت السورة سورة البقرة. والأمر في بيان القرآن لهذه القصّة عجيب فإنّ القصّة فصّل بعضها عن بعض حيث قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ) إلى آخره ثمّ قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) ثمّ إنّه اُخرج فصل منها من وسطها

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459