الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172994 / تحميل: 9109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أبي العبّاس المكبّر قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرّون النّاس وتقولون: شفاعة محمّد، شفاعة محمّد، فغضب أبو جعفر حتّى تربّد وجهه، ثمّ قال: ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك وفرجك ؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد، ويلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النار ؟ قال: ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) يوم القيامة، ثمّ قال أبو جعفر: إنّ لرسول الله الشفاعة في اُمّته، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثمّ قال: وإنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، وإنّ المؤمن ليشفع لخادمه ويقول: يا ربّ حقّ خدمتي كان يقيني الحرّ و البرد.

أقول: قولهعليه‌السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ظاهره أنّ هذه الشفاعة العامّة غير الّتي ذكرها بقوله:( ويلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار) ، وقد مرّ نظير هذا المعني في رواية العيّاشيّ عن عبيد بن زرارة عن الصادقعليه‌السلام . وفي هذا المعنى روايات اُخر روتها العامّة والخاصّة، ويدلّ عليه قوله تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، حيث يفيد أنّ الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، وسيأتي إن شاء الله في قوله تعالى :( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) البقرة - ١٤٣، أنّ الأنبياء شهداء وأنّ محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) شهيد عليهم، فهو (صلّي الله عليه و آله و سلّم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: في قوله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلّا لمن أذن له. قالعليه‌السلام : لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتّى يأذن الله له إلّا رسول الله فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللأئمّة من وُلده ثمّ من بعد ذلك للأنبياء.

وفي الخصال: عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم): ثلاثة يشفعون إلى الله عزّوجلّ فيشفّعون، الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء.

١٨١

أقول: الظاهر أنّ المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمّة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

وفي الخصال في حديث الأربعمأة: وقالعليه‌السلام : لنا شفاعة ولأهل مودّتنا شفاعة.

أقول: وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيّدة النساء فاطمةعليه‌السلام وشفاعة ذرّيّتها غير الأئمّة وشفاعة المؤمنين حتّى السقط منهم.ففي الحديث المعروف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا فإنّي اُباهي بكم الاُمم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطأً على باب الجنّة فيقال له: اُدخل فيقول: لا حتّى يدخل أبواي الحديث.

وفي الخصال: عن أبي عبدالله عن أبيه عن جده عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا، فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول: ربّ سلّم شيعتي و محبّيّ وأنصاري ومن تولّاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، وشفّعت في شيعتك، ويشفع كلّ رجل من شيعتي ومن تولّاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرّةٍ من بُغضنا أهل البيت.

وفي الكافي: عن حفص المؤذّن عن أبي عبداللهعليه‌السلام في رسالته إلى أصحابه قالعليه‌السلام : واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

وفي تفسير الفرات: بإسناده عن الصادقعليه‌السلام قال: قال جابر لأبي جعفرعليه‌السلام : جعلت فداك يا بن رسول الله حدّثني بحديث في جدّتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : فو الله لا يبقى في الناس إلّا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى : فما لنا من شافعين لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفرعليه‌السلام : هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون.

أقول: تمسّكهعليه‌السلام بقوله تعالى:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) يدلّ على إستشعار دلالة

١٨٢

الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسّك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد إتّضح ممّا قدّمناه في قوله تعالى:( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرّد النفي لكان حقّ الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع ولا صديق حميم، فالإتيان في حيّز النفي بصيغة الجمع يدلّ على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقّهم، مضافاً إلى أنّ قوله تعالى:( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بعد قوله:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) المسوق للتحسّر تمن واقع في حيّز التحسّر ومن المعلوم أنّ التمني في حيّز التحسّر إنّما يكون بما يتضمّن ما فقده ويشتمل على ما تحسّر عليه فيكون معنى قولهم:( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ) ، معناه يا ليتنا نردّ فنكون من المؤمنين حتّى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالّة على وقوع الشفاعة.

وفي التوحيد: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلّا لمن إرتضى ومن إرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟ فقالعليه‌السلام : ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلّا سائه ذلك وندم عليه. وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفي بالندم توبة، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سرّته حسنة وسائته سيّئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً والله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. فقيل له: يا بن رسول الله وكيف لا يكون مؤمناً من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلّا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقّاً للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً والمصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأمّا قول الله عزّوجلّ: ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه، والدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيّئآت، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.

١٨٣

أقول: قولهعليه‌السلام وكان ظالماً، فيه تعريف الظالم يوم القيامة وإشارة إلى ما عرّفه به القرآن حيث يقول:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) الأعراف - ٤٤ و ٤٥، وهو الّذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسّف على فوت أوامر الله تعالى ولا يسوئه إقتحام محارمه إمّا بجحد جميع المعارف الحقّة والتعاليم الدينيّة وإمّا بالاستهانة لأمرها وعدم الاعتناء بالجزاء والدين يوم الجزاء والدين فيكون قوله به إستهزاءً بأمره وتكذيباً له، وقولهعليه‌السلام : فتكون تائباً مستحقّاً للشفاعة، أي راجعاً إلى الله ذا دين مرضيّ مستحقّاً للشفاعة، وأمّا التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، وقولهعليه‌السلام : وقد قال النبيّ لا كبيرة مع الاستغفار، الخ تمسّكهعليه‌السلام به من جهة أن الإصرار وهو عدم الانقباض بالذنب والندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الّذي له إلى شأن آخر وهو تكذيب المعاد والظلم بآيات الله فلا يغفر لأنّ الذنب إنّما يغفر إمّا بتوبة أو بشفاعة متوقّفة على دين مرضيّ ولا توبة هناك ولا دين مرضيّاً.

ونظير هذا المعنى واقع في رواية العلل عن أبي إسحق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللّهمّ لا، قلت: فيلوط ؟ قال اللّهمّ لا، قلت فيسرق ؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال لا، قلت: فيأتي ؟ بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا، قلت: فيذنب ذنباً ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم لا يلزمه ولا يصرُّ عليه الحديث.

وفي الخصال: بأسانيد من الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزّوجلّ لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ثمّ يغفر الله له لا يطلع الله له ملكاً مقرّباً ولا نبيّاّ مرسلاً ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيّئآته كوني حسنات.

وعن صحيح مسلم مرفوعاً إلى أبى ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحّوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: اعطوه مكان كلّ سيّئة حسنة فيقول: إنّ لي ذنوباً ما أراها هيهنا، قال: ولقد رايت رسول الله ضحك حتّى بدت نواجذه.

١٨٤

وفي الأمالي: عن الصادقعليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتّى يطمع إبليس في رحمتة.

أقول: والروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات والأخبار الدالّة على وقوع شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة من طرق أئمّة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنّة والجماعة بالغة حدّ التواتر، وهي من حيث المجموع إنّما تدلّ على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إمّا بالتخليص من دخول النار وإمّا بالإخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيّقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار وقد عرفت أنّ القرآن أيضاً لا يدلّ على أزيد من ذلك.

( بحث فلسفي)

البراهين العقليّة وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتاباً وسنّة في المعاد لعدم نيلها المقدّمات المتوسّطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ إبن سينا لكنّها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقليّة والمثاليّة في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرّد العقليّ والمثاليّ الناهض عليهما البرهان.

فالإنسان في بادئ أمره يحصل له من كلّ فعل يفعله هيئة نفسانيّه وحال من احوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث أنّه إنسان، وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثمّ تصير تلك الاحوال بتكرّرها ملكة راسخة، ثمّ يتحصّل منها صورة سعيدة أو شقيّة للنفس تكون مبدءً لهيآت وصور نفسانيّة، فإن كانت سعيدة فآثارها وجوديّة ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس الّتي هي بمنزلة المادّة القابلة لها، وإن كانت شقيّة فآثارها أمور عدميّة ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشرّ، فالنفس السعيدة تلتّذ بآثارها بما هي إنسان، وتلتذّ بها بما هي إنسان سعيدٌ بالفعل، والنفس الشقيّة وإن كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنّها مبدأ لها لكنّها تتألّم بها بما أنّها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتاً والصالح عملاً والإنسان الشقىّ ذاتاً والطالح عملا. وأمّا الناقصة في سعادتها وشقاوتها

١٨٥

فالإنسان السعيد ذاتاً الشقىّ فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحقّ الثابت غير أنّ في نفسه هيئآت شقيّة ردّية من الذنوب والآثام إكتسبتها حين تعلّقها بالبدن الدنيويّ وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي اُمور قسريّة غير ملائمة لذاتة، وقد اُقيم البرهان على أنّ القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهّر منها في برزخ أو قيامة على حسب قوّة رسوخها في النفس، وكذلك الأمر فيما للنفس الشقيّة من الهيآت العارضة السعيدة فإنّها ستسلب عنها وتزول سريعاً أو بطيئاً، وأمّا النفس الّتي لم تتمّ لها فعليّة السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا حتّى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عزّوجلّ، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الاعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعيّة الاعتباريّة بالآخرة إلى روابط حقيقيّة وجوديّة هذا.

ثمّ إنّ البراهين قائمة على أنّ الكمال الوجوديّ مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدّة والضعف وهو التشكيك خاصّة في النور المجرّد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدأ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائيّ وعودها إلى ما بدأت منها وهي بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعليّة (بمعنى ما به) ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامّة الكاملة كنفوس الأنبياءعليهم‌السلام وخاصّة من هو في أرقي درجات الكمال والفعليّة وساطة في زوال الهيآت الشقيّة الرديّة القسريّة من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسراً، وهذه هي الشفاعة الخاصّة بأصحاب الذنوب.

( بحث اجتماعي)

الّذي تعطيه اُصول الإجتماع أنّ المجتمع الإنسانيّ لا يقدر على حفظ حياته وادامة وجوده إلّا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، الحكومة في أعمال الأفراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزه الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كلّ على حسب ما يلائم

١٨٦

شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيراً حثيثاً ويتولّد بتألّف أطرافه وتفاعل متفرّقاته العدل الاجتماعيّ وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادّيّة يحتاج إليها إرتقاء الاجتماع المادّيّ، وعلى كمالات معنويّة كالأخلاق الحسنة الفاضلة الّتي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك، وحيث كانت القوانين والأحكام وضعيّة غير حقيقيّة احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقرّرة اُخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدّي الأفراد المتهوّسين وتساهل آخرين، ولذلك كلّما قويت حكومة (أيّ حكومة كانت) على إجراء مقرّرات الجزاء لم يتوقّف المجتمع في سيره ولا ضلّ سائره عن طريقه ومقصده. وكلّما ضعفت إشتدّ الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلّص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشئ من الحيل والدسائس المهلكة، ولذلك نقموا على الديانة المسيحيّة ما وقع فيها أنّ المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتّكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانيّة، مؤخّراً للمدنيّة، راجعاً بالإنسان القهقرى كما قيل. وأنّ الإحصاء يدلّ علي أنّ المتديّنين أكثر كذباً وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلّا أنّهم يتّكلون بحقيّة دينهم، وادّخار الشفاعة في حقّهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنّهم خلّوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها بما بطل به في المتديّنين فحكمت بقبح التخلّف عمّا يخالف حكم الإنسانيّة والمدنيّة الفاضله.

وبذلك عوّل جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنّة.

ولعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الّذي فسّروها به، ولا الشفاعة الّتي تثبتها تؤثّر الأثر الّذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصّل الباحث في المعارف الدينيّة وتطبيق ما شرّعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنيّة الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الاُصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفيّة ذلك التطبيق، ثمّ يحصّل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلّها وموقعها بين المعارف الّتي جاء بها.

١٨٧

فيعلمأوّلاً: أنّ الّذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أنّ المؤمنين لا يخلّدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربّهم بالإيمان المرضيّ والدين الحقّ فهو وعد وعده القرآن مشروطاً ثمّ نطق بأنّ الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولاسيّما الكبائر ولا سيّما الإدمان منها والإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، وبذلك يتحصّل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربّه رغبة ورهبة، ويسير في حياته سيراً معتدلاً غير منحرف لا إلى خمود القنوط، ولا إلى كسل الوثوق.

وثانياً: أنّ الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعيّة من مادّيّاتها ومعنويّاتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفرديّة والاجتماعيّة، ثمّ إعتبر لكلّ مادّة من موادّها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحدّ وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذمّ والتقبيح، ثمّ تحفّظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكلّ على الكلّ بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ثمّ أحيى ذلك بنفخ روح الدعوة الدّينيّة المضمّنة بالإنذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيتة بتلقين معارف المبدء والمعاد على هذا الترتيب.

فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وصدّقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتّى اثبت به أيدي الولاة في السلطنة الاُمويّة ومن شايعهم في إستبدادهم ولعبهم بأحكام الدين وإبطالهم الحدود والسياسات الدينيّة حتّى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرّيّة وظهرت المدنيّة الغربيّة ولم يبق من الدين بين المسلمين إلّا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزّلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الأخلاق والآداب الشريفة وإنغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الّذي أجراهم على انتهاك كلّ حرمة وإقتراف كلّ ما يستشنعه حتّى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيّله المعترض من إستناد الفساد إلى بعض المعارف الدينيّة الّتي لا غاية لها وفيها إلّا سعادة الإنسان في آجله وعاجله والله المعين. والإحصاء الّذي ذكروها إنّما وقع على جمعيّة المتديّنين وليس عليهم قيّم ولا حافظ قويّ وعلى جمعيّة غير المنتحلين. والتعليم والتربية الاجتماعيّان قيّمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعيّ فلا يفيد فيما أراده شيئاً.

١٨٨

( سورة البقرة الآيات ٤٩ - ٦١)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ  وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ( ٤٩ ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ٥٠ ) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ( ٥١ ) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٥٢ ) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ٥٣ ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ  إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ٥٤ ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ٥٥ ) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٥٦ ) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ  كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ  وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٥٧ ) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ  وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( ٥٨ ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ٥٩ ) وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ  فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا  قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ  كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ٦٠ ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا  قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ  اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ  وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ  ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ( ٦١ )

١٨٩

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ، أي يتركونهنّ أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهنّ كالأبناء فالاستحياء طلب الحياة ويمكن أن يكون المعنى ويفعلون ما يوجب زوال حيائهنّ من المنكرات، ومعنى( يَسُومُونَكُمْ ) يولّونكم.

قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ) الفرق مقابل الجمع كالفصل والوصل. والفرق في البحر الشقّ والباء للسببيّة أو الملابسة أي فرقنا لإنجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر.

قوله تعالى: ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) وقصّ تعالى القصّة في سورة الأعراف بقوله:( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) الأعراف - ١٤٢، فعدّ المواعدة فيها أربعين ليلة إمّا للتغليب أو لأنّه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة اُخرى فالأربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

قوله تعالى: ( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ) البارئ من الأسماء الحسنى كما قال تعالى:( هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) الحشر - ٢٤، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: إثنان منها في هذه الآية ولعلّه خصّ بالذكر هيهنا من بين الأسماء الملائمة معناه للمورد لأنّه قريب المعنى من الخالق والموجد، من برء يبرء برائاً إذا فصل لأنّه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض، فكأنّه تعالى يقول: هذه التوبة وقتلكم أنفسكم وإن كان أشقّ ما يكون من الأاوامر لكنّ الله الّذي أمركم بهذا الفناء والزوال بالقتل هو الّذي برئكم فالّذي أحبّ وجودكم وهو خير لكم هو يحبّ الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم وكيف لا يحبّ خيركم وقد برئكم، فاختيار لفظ البارئ باضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، وقوله :( عِندَ بَارِئِكُمْ ) للإشعار بالاختصاص لإثارة المحبّة.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) ظاهر الآية وما تقدّمها أنّ هذه الخطابات وما وقع فيها من عدّ أنواع تعديّاتهم ومعاصيهم إنّما نسبت إلى الكلّ مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قوميّة واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض،

١٩٠

وينسب فعل بعضهم إلى آخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كلّ بنى اسرائيل عبدوا العجل، ولا كلّهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم وعلى هذا فقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) ، إنّما يعني به قتل البعض وهم الّذين عبدوا العجل كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) ، وقوله تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) تتمّة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر. وقوله تعالى:( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) يدلّ على نزول التوبة وقبولها. وقد وردت الرواية أنّ التّوبة نزلت ولمّا يقتل جميع المجرمين منهم.

ومن هنا يظهر أنّ الأمر كان أمراً إمتحانيّاً نظير ما وقع في قصّة رؤيا إبراهيمعليه‌السلام وذبح إسمعيل( يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) لصافات - ١٠٥، فقد ذكر موسىعليه‌السلام فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، وأمضى الله سبحانه قولهعليه‌السلام وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ وأنزل التوبة بقوله:( فَتَابَ عَلَيْكُمْ )

قوله تعالى: ( رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ ) ، الرجز العذاب.

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْثَوْا ) ، العيث والعثى أشدّ الفساد.

قوله تعالى: ( وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا ) ، القثّاء الخيار والفوم الثوم أو الحنطة.

قوله تعالى: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ ) ، أي رجعوا.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ ) ، تعليل لما تقدّمه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا ) ، تعليل للتعليل فعصيأنّهم ومداومتهم للإعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء كما قال تعالى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) الروم - ١٠، وفي التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى:( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ثمّ بدا منه فزاد عشراً فتمّ ميقات ربّه الأوّل والآخر أربعين ليلة.

١٩١

أقول: والرواية تؤيّد ما مرّ أن الأربعين مجموع المواعدتين.

وفي الدرّ المنثور: عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم ) الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً فأخذوا السكّاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وإبنه والله لا يبالى من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفاً فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقى.

وفي تفسير القمّيّ: قالعليه‌السلام : أنّ موسى لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم بأتّخذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل أنفسنا فقال لهم موسى: اُغدوا كلّ واحد منكم إلى بيت المقدّس ومعه سكّين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني اسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فأقتلوا بعضكم بعضاً، فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممّن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدّس فلمّا صلّى بهم موسى وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضاً حتّى نزل جبرئيل فقال: قل لهم: يا موسى إرفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو التوّاب الرحيم

أقول: والرواية كما ترى تدلّ على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولاً لموسى ومقولاً له سبحانه فيكون إمضائاً لكلمة قالها موسى وكشفاً عن كونها تامّة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإنّ الظاهر يعطي أنّ موسى جعل قتل الجميع خيراً لهم عند بارئهم، وقد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه، ما وقع من القتل هو الخير الّذي ذكره موسىعليه‌السلام كما مرّ.

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: في قوله تعالى: وظلّلنا عليكم الغمام الآية أنّ بني اسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظلّ، ولا شجر، ولا ماء. وكانت تجئ بالنهار غمامة تظلّهم من الشمس وينزل عليهم بالليل المنّ فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه وبالعشيّ يأتيهم طائر مشويّ يقع على موائدهم فإذا أكلوا وشربوا طار ومرّ وكان مع موسى حجر

١٩٢

يضعه وسط العسكر ثمّ يضربه بعصاه فتنفجر منها إثنتا عشرة عيناً كما حكى الله فيذهب إلى كلّ سبط في رحله وكانوا اثنى عشر سبطاً.

وفي الكافي: في قوله تعالى:( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ، عن أبي الحسن الماضيعليه‌السلام قال: إنّ الله أعزّ وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم ولكنّه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، ثمّ أنزل الله بذلك قرآناً على نبيّه فقال: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي قلت: هذا تنزيل، قال: نعم.

أقول: وروى ما يقرب منه أيضاً عن الباقرعليه‌السلام وقولهعليه‌السلام :( أمنع من أن يظلم) بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: وما ظلمونا. وقوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل:وقوله: ولكنّه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الأنبياء والاوصياء والأئمّة بنفسه،وقوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أنّ النفي في هذه الموارد وأمثالها إنّما يصحّ فيما يصحّ فيه الإثبات أو يتوهّم صحّته، فلا يقال للجدار: أنّه لا يبصر أو لا يظلم إلّا لنكتة وهو سبحانه أجل من أن يسلّم في كلامه توهّم الظلم عليه، أو جواز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لأنّ العظماء يتكلّمون عن خدمهم وأعوانهم.

وفي تفسير العيّاشيّ: في قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ) الآية عن الصادقعليه‌السلام أنّه قرأ هذه الآية: ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون النبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فقال: والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلاً واعتداءً ومصيبة.

أقول: وفي الكافي عنهعليه‌السلام مثله وكأنّهعليه‌السلام استفاد ذلك من قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) فإنّ القتل وخاصّة قتل الأنبياء والكفر بآيات الله لا يعلّل بالعصيان بل الأمر بالعكس على ما يوجبه الشدّة والأهّميّة لكنّ العصيان بمعنى عدم الكتمان والتحفّظ ممّا يصحّ التعليل المذكور به.

١٩٣

( سورة البقرة الآية ٦٢)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٦٢)

( بيان)

تكرار الإيمان ثانياً وهو الاتّصاف بحقيقتة كما يعطيه السياق يفيد أنّ المراد بالّذين آمنوا في صدر الآية هم المتّصفون بالإيمان ظاهراً المتسمّون بهذا الاسم فيكون محصّل المعنى أنّ الاسماء والتسمّي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجراً ولا أمناً من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنّة إلّا من كان هوداً أو نصارى، وإنّما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلّا يكون تقريراً للفائدة في التسمّي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا ممّا تكرّرت فيه آيات القرآن أنّ السعادة والكرامة تدور مدار العبوديّة، فلا إسم من هذه الاسماء ينفع لمتسمّيه شيئاً، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلّا مع لزوم العبوديّة، الأنبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكلّ وصف جميل:( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الانعام - ٨٨، وقال تعالى في أصحاب نبيّه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلوّ قدرهم:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) الفتح - ٢٩، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممّن اوتي آيات الله تعالى:( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه ) الأعراف - ١٧٦، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أنّ الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.

١٩٤

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: عن سلمان الفارسيّ قال: سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا) الآية.

أقول: وروي أيضاً نزول الآية في أصحاب سلمان بعدّة طرق اُخرى.

وفي المعاني: عن إبن فضّال قال: قلت للرضاعليه‌السلام لم سمّي النصاري نصارى قال: لأنّهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.

أقول: وفي الرواية بحث سنتعرّض له في قصص عيسىعليه‌السلام من سورة آل عمران إنشاء الله.

وفي الرواية أنّ اليهود سمّوا باليهود لأنّهم من ولد يهودا بن يعقوب.

وفي تفسير القمّيّ: قال: قالعليه‌السلام : الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب.

أقول: وهي الوثنيّة، غير أنّ عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الّذي يخصّهم عبادة أصنام الكواكب.

( بحث تاريخي)

ذكر أبوريحان البيرونيّ في الآثار الباقية ما لفظه: وأوّل المذكورين منهم يعني المتنبّئين يوذاسف وقد ظهر عند مضيّ سنة من ملك طهمورث بأرض الهند وأتي بالكتابة الفارسيّة، ودعا إلى ملّة الصابئين فأتّبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشداديّة وبعض الكيانيّة ممّن كان يستوطن بلخ يعظّمون النيّرين والكواكب وكليّات العناصر ويقدّسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا اُؤلئك الصابئين بحرّان ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرّانيّة وقد قيل: إنّها نسبة إلى هادان بن ترخ اخى ابراهيمعليه‌السلام وأنّه كان من بين رؤسائهم اوغلهم في الدين

١٩٥

واشدّهم تمسّكا به، وحكى عنه ابن سنكلا النصرانيّ في كتابه الّذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والأباطيل، أنّهم يقولون إنّ ابراهيمعليه‌السلام إنّما خرج عن جملتهم لأنّه خرج في قلفته برص وأنّ من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، ودخل إلى بيت من بيوت الاصنام فسمع صوتاً من صنم يقول له: يا ابراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، أخرج ولا تعاود المجئ الينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذاً، وخرج من جملتهم ثمّ إنّه ندم بعد ما فعله، وأراد ذبح إبنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلمّا علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

وحكى عبد المسيح بن إسحق الكنديّ عنهم في جوابه عن كتاب عبدالله بن اسماعيل الهاشميّ، أنّهم يعرفون بذبح الناس ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهراً ونحن لا نعلم منهم إلّا أنّهم اُناس يوحّدون الله، وينزّهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحدّ، ولا يرى، ولا يظلم، ولا يجور ويسمّونه بالأسماء الحسنى مجازاً، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها نطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الأنوار، ومن آثارهم القبّة الّتي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلّاهم، كان اليونانيّون والروم على دينهم، ثمّ صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثمّ تغلب عليها النصارى، فصيّروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فأتّخذوها مسجداً، وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخيّ في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنّها منسوبة إلى القمر، وبنائها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمّى سلمسين، وإسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، وقرية اُخرى تسمّى ترع عوز أي باب الزهرة ويذكرون أنّ الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وأنّ اللّات كان باسم زحل، والعزّى باسم الزهرة ولهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصريّ وأغاذيمون وواليس وفيثاغورث وباباسوار جدّ أفلاطون من جهة اُمّه وأمثالهم، ومنهم من حرّم عليه السمك خوفاً

١٩٦

أن يكون رغاوة والفرخ لأنّه أبداً محموم، والثوم لأنّه مصدّع محرق للدّم أو المنيّ الّذي منه قوام العالم، والباقلاء لأنّه يغلظ الذهن ويفسده، وأنّه في أوّل الأمر إنّما نبت في جمجمة إنسان، ولهم ثلاث صلوات مكتوبات.

أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.

والثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، وفي كلّ ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، ويتنفّلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، واُخرى في التاسعة من النهار.

والثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، ويصلّون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا وأكثر أحكامهم في المناكح والحدود مثل أحكام المسلمين، وفي التنجّس عند مسّ الموتى، وأمثال ذلك شبيهة بالتوراة، ولهم قرابين متعلّقة بالكواكب واصنامها وهياكلها، وذبائح يتولّاها كهنتهم وفاتنوهم، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرّب وجواب ما يسأل عنه، وقد يسمّى هرمس بإدريس الّذي ذكر في التوراة أخنوخ، وبعضهم زعم أنّ يوذاسف هو هرمس.

وقد قيل: إنّ هؤلاء الحرّانيّة ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمّون في الكتب بالحنفاء والوثنيّة، فإنّ الصابئة هم الّذين تخلّفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في أيّام كورش وأيّام ارطحشست إلى بيت المقدّس، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنّصر، فذهبوا مذهباً ممتزجاً من المجوسيّة واليهوديّة، كالسامرة بالشام، وقد توجد أكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهرى الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث، ومخالفين للحرّانيّة، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلّا في أشياء قليلة، حتّى أنّهم يتوجّهون في الصلاة إلى جهة القطب الشماليّ والحرّانيّة إلى الجنوبيّ، وزعم بعض أهل الكتاب أنّه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمّى صابي. وأنّ الصابئة سمّوا به، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكّان الجانب الشرقيّ من الأرض وكانوا عبدة أوثان، وبقاياهم الآن بالهند والصين و

١٩٧

التغزغز ويسمّيهم أهل خراسان شمنان، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتّصلة بالهند، ويقولون: بقدم الدهر، وتناسخ الأرواح وهوي الفلك في خلاء غير متناه، ولذلك يتحرّك على استدارة فإنّ الشئ المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا ومنهم من أقرّ بحدوث العالم، وزعم أنّ مدّته ألف ألف سنة إنتهى موضع الحاجة.

أقول: وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسيّة واليهوديّة مع أشياء من الحرّانيّة هو الأوفق بما في الآية فإنّ ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملّة.

١٩٨

( سورة البقرة الآيات ٦٣ - ٧٤)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٦٣ ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ  فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ( ٦٤ ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( ٦٥ ) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٦٦ ) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً  قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا  قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٦٧ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ  فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( ٦٨ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا  قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( ٦٩ ) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ( ٧٠ ) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا  قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ  فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( ٧١ ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا  وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ( ٧٢ ) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا  كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٧٣ ) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً  وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ  وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٧٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) ، الطور هو الجبل كما بدّله منه في قوله تعالى:( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) الأعراف - ١٧١، والنتق هوالجذب والإقتلاع، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أوّلاً والأمر بأخذ ما اُوتوا وذكر ما فيه أخيراً

١٩٩

ووضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدلّ على أنّه كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم وإكراههم على العمل بما أوتوه وإلّا لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربّما يقال: إنّ رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه:( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) البقرة - ٢٥٦، وقال تعالى:( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس - ٩٩، غير وجيه فإنّ الآية كما مرّ لا تدلّ على أزيد من الإخافة والإرهاب ولو كان مجرّد رفع الجبل فوق بني اسرائيل إكراهاً لهم على الإيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإكراه، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها، والقول بأنّ بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتّى أظلّ رأسه عليهم، فظنّوا أنّه واقع بهم فعبّر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنىّ على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات، وقد مرّ الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، ولا لبلاغة الكلام وفصاحتة أصل تتّكي عليه وتقوم به.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لعلّ كلمة ترجّ واللازم في الترجّي صحّتة في الكلام سواء كان قائماً بنفس المتكلّم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلّم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر فالرجاء في كلامه تعالى إمّا بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأمّا هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الاُمور، كما نبّه عليه الراغب في مفرداته.

قوله تعالى: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أي صاغرين.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا ) أي عبرة يعتبر بها. والنكال هو ما يفعل من الإذلال والإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) الخ، هذه قصّة بقرة بني إسرائيل، وبها سمّيت السورة سورة البقرة. والأمر في بيان القرآن لهذه القصّة عجيب فإنّ القصّة فصّل بعضها عن بعض حيث قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ) إلى آخره ثمّ قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) ثمّ إنّه اُخرج فصل منها من وسطها

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459