الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 165969
تحميل: 8430


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165969 / تحميل: 8430
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكلام فيها الخطاب ثمّ لما تبدّل الخطاب بالغيبة بعد قصّة البقرة لنكتة داعية إليها كما مرّ حتّى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضاً بالغيبة لكنّ الميثاق حيث كان بالقول وبنى على حكايته حكي بالخطاب فقيل:( لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) إلخ، وهو نهى في صورة الخبر. وإنّما فعل ذلك دلالة على شدّة الاهتمام به، كأنّ الناهي لا يشكّ في عدم تحقّق ما نهى عنه في الخارج، ولا يرتاب في أنّ المكلّف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعاً وكذا قوله:( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ ) ، كلّ ذلك أمر في صورة الخبر.

ثمّ إنّ الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله:( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ) الخ وانتظم بذلك السياق.

قوله تعالى: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) . أمر أو خبر بمعنى الأمر والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وذي القربى واليتامى والمساكين، أو التقدير: وتحسنون بالوالدين إحساناً الخ، وقد رتّب موارد الإحسان أخذاً من الأهمّ والأقرب إلى المهمّ والأبعد فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، والوالدان وهما الأصل الّذي تتّكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام وفي غير القرابة أيضاً اليتامى أحقّ بالإحسان لصغرهم وفقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين. هذا وقوله:( وَالْيَتَامَىٰ ) ، اليتيم من مات أبوه ولا يقال لمن ماتت اُمّه يتيم. وقيل اليتيم في الإنسان إنّما تكون من جهة الأب وفي غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الاُمّ وقوله تعالى:( وَالْمَسَاكِينِ ) ، جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل. وقوله تعالى:( حُسْنًا ) مصدر بمعنى الصفة جئ به للمبالغة. وفي بعض القراءآت حسناً، بفتح الحاء والسين صفة مشبّهة. والمعنى قولوا للناس قولاً حسناً، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتّى تكون آية القتال ناسخة له لأنّ مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أنّ القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.

٢٢١

قوله تعالى: ( لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ) ، خبر في معنى الإنشاء نظير ما مرّ في قوله:( لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) ، والسفك الصبّ.

قوله تعالى: ( تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم ) ، المظاهرة هي المعاونة، والظهير العون مأخوذ من الظهر لأنّ العون يلي ظهر الإنسان.

قوله تعالى: ( وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ) ، الضمير للشأن والقصّة كقوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) .

قوله تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ) ، أي ما هو الفرق بين الاخراج والفدية حيث أخذتم بحكم الفدية وتركتم حكم الاخراج وهما جميعاً في الكتاب، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟

قوله تعالى: ( وَقَفَّيْنَا ) ، التقفية الإتباع وإتيان الواحد قفأ الواحد.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ) ، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف وأستار وحجب، فهو نظير قوله تعالى:( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) حم سجدة - ٥، وهو كناية عن عدم امكان استماع ما يدعون إليه.

( بحث روائي)

في الكافي عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) الآية. قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال فيكم.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: قولوا للناس ولا تقولوا إلّا خيراً حتّى تعلموا ما هو.

وفي المعاني عن الباقرعليه‌السلام قال: قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنّ الله عزّوجلّ يبغض السبّاب اللعّان الطعّان على المؤمنين الفاحش المفحش السّائل ويحبّ الحيّي الحليم العفيف المتعفّف.

أقول: وروي مثل الحديث في الكافي بطريق آخر عن الصادقعليه‌السلام وكذا العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ومثل الحديث الثّاني في الكافي عنه. ومثل الحديث الثالث العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام

٢٢٢

وكأنّ هذه المعاني اُستفيدت من إطلاق الحسن عند القائل وإطلاقه من حيث المورد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ الله بعث محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمّة. قال الله: وقولوا للناس حسناً، نزلت في أهل الذمّة ثمّ نسختها اُخرى قوله:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) الحديث.

أقول: وهو منهعليه‌السلام أخذ بإطلاق آخر للقول وهو شموله للكلام ولمطلق التعرّض. يقال لا تقل له إلّا حسناً وخيراً أي لا تتعرّض له إلّا بالخير والحسن، ولا تمسسه إلّا بالخير والحسن. هذا إن كان النسخ في قولهعليه‌السلام هو النسخ بالمعنى الأخصّ وهو المصطلح ويمكن أن يكون المراد هو النسخ بالمعنى الأعمّ، على ما سيجئ في قوله تعالى:( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) البقرة - ١٠٦، وهو الكثير في كلامهم عليهم السلام فتكون هذه الآية وآية القتال غير متّحدتين مورداً.

٢٢٣

( سورة البقرة الآيات ٨٩ - ٩٣)

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ  فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٨٩ ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٩٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ  قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٩١ ) وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ( ٩٢ ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا  قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ  قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٩٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ ) الخ. السياق يدلّ على أنّ هذا الكتاب هو القرآن.وقوله: ( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، على وقوع تعرّض لهم من كفّار العرب، وأنّهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وهجرته وأنّ ذلك الاستفتاح قد استمرّ منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفّار من العرب أيضاً يعرفون ذلك منهم لمكان قوله:( كَانُوا ) ، وقوله:( فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا ) ، أي عرفوا أنّه هو بإنطباق ما كان عندهم من الأوصاف عليه كفروا.

قوله تعالى: ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا ) بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأنّ السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد، فقوله:( بَغْيًا ) ، مفعول مطلق نوعيّ. وقوله:( أَن يُنَزِّلَ اللهُ ) ، متعلّق به، وقوله تعالى:( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ) ، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبّس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، والمعنى أنّهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيراً للنبي (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ومستفتحاً به وبالكتاب النازل عليه، ثمّ لما نزل

٢٢٤

بهم النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ونزل عليه القرآن وعرفوا أنّه هو الّذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، وأخذهم الاستكبار، فكفروا وأنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفراً على كفر.

قوله تعالى: ( وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ) ، أي يظهرون الكفر بما ورائه، وإلّا فهم بالّذي اُنزل إليهم وهو التوراة أيضاً كافرون.

قوله تعالى: ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ ) ، الفاء للتفريع. والسؤال متفرّع على قولهم:( نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ) ، أي لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقّاً وصدقاً فلِم تقتلون أنبياء الله، ولِمَ كفرتم بموسى باتّخاذ العجل، ولِمَ قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور:( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) .

قوله تعالى: ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) ، الإشراب هو السقى، والمراد بالعجل حبّ العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنّهم قد اُشربوا نفس العجل وبه يتعلّق قوله:( فِي قُلُوبِهِمُ ) ، ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز.

قوله تعالى: ( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ ) ، بمنزلة أخذ النتيجة ممّا أورد عليهم من قتل الأنبياء والكفر بموسى، والاستكبار بإعلام المعصية، وفيه معنى الاستهزاء بهم.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ ) الآية قالعليه‌السلام : كانت اليهود تجد في كتبهم أنّ مهاجر محمّد رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ما بين عير واُحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حّداد فقالوا حّداد وأحد سواء، فتفرّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيما، وبعضهم بفدك، وبعضهم بخيبر، فاشتاق الّذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابيّ من قيس فتكاروا منه، وقال لهم أمرّ بكم ما بين عير وأحد، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنّا لهما، فلمّا توسّط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عير وهذا اُحد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الّذين بفدك وخيبر أنّا قد أصبنا

٢٢٥

الموضع فهلمّوا إلينا فكتبوا إليهم إنّا قد إستقرّت بنا الدار وأتّخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، واتّخذوا بأرض المدينة، أموالاً فلمّا كثرت أموالهم بلغ ذلك تبّع فغزاهم فتحصّنوا منه فحاصرهم ثمّ آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إنّي قد إستطبت بلادكم ولا أراني إلّا مقيماً فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنّها مهاجر نبيّ، وليس ذلك لأحدٍ حتّى يكون ذلك، فقال لهم فإنّي مخلّف فيكم من اُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلّف حيّين تراهم: الأوس والخزرج، فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا فلمّا بعث الله محمّداً آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى:( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلى آخر الآية.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل عن إبن عبّاس أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه، فلمّا بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل شرك وتخبرونا بأنّه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالّذي كنّا نذكر لكم فأنزل الله:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ ) الآية.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحّاك عن إبن عبّاس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمّد (صلى الله عليه و آله و سلّم) يستفتحون الله، يدعون على الّذين كفروا ويقولون: اللّهمّ إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الاُمّيّ إلّا نصرتنا عليهم فينصرون فلمّا جائهم ما عرفوا يريد محمّداً (صلّي الله عليه و آله و سلّم) ولم يشكوا فيه كفروا به.

أقول: وروي قريباً من هذين المعنيين بطرق اُخرى أيضاً. قال بعض المفسّرين بعد الإشارة إلى الرواية الأخيرة ونظائرها: إنّها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذّة المعنى بجعل الاستفتاح دعاءً بشخص النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وفي بعض الروايات بحقّه وهذا غير مشروع ولا حقّ لأحدٍ على الله فيدعى به إنتهى.

٢٢٦

وهذا ناشٍ من عدم التأمّل في معنى الحقّ وفي معنى القِسَم. بيانه: أنّ القسَم هو تقييد الخبر أو الإنشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنّه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلاميّة، فإن كان خبراً فببطلان صدقه وإن كان إنشاءً أمراً أو نهياً فبعدم إمتثال التكليف. فإذا قلت: لعمري إنّ زيداً قائم فقد قيّدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلّقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذباً كان عمرك فاقداً للشرافة، وكذا إذا قلت افعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيّدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لَم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف حياتك وقيمة عمرك.

ومن هنا يظهرأوّلاً: أنّ القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الأدب.

وثانياً: أنّ المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلّقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة. وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله:( وَاللهِ رَبِّنَا ) وكقوله:( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ) وقوله:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) وأقسم بنبيّه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والإنسان والشجر والتين والزيتون. وليس إلّا أنّ لها شرافة حقّة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث أنّ كلّاً منها إمّا ذو صفة من أوصافه المقدّسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس - والكلّ شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للدّاعي منّا إذا سأل الله شيئاً أن يسأله بشئ منها من حيث إنّ الله سبحانه شرّفه وأقسم به ؟ وما الّذي هوّن الأمر في خصوص رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) حتّى أخرجه من هذه الكلّيّة وإستثناء من هذه الجملة ؟.

ولعمري ليس رسول الله محمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) بأهون عند الله من تينه عراقيّة، أو زيتونة شاميّة، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر - ٧٢.

ثمّ إنّ الحقّ - ويقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنّه كذلك كالأرض والإنسان وكلّ أمر ثابت في حدّ نفسه ومنه الحقّ الماليّ وسائر الحقوق الاجتماعيّة حيث أنّها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كلّ ما يدعي حقّاً إلّا ما حقّقه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحقّ في عالم التشريع وظرف

٢٢٧

الاجتماع الدينيّ هو ما جعله الله حقّاً كالحقوق الماليّة وحقوق الإخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوماً بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربّما يظهر من بعض الاستدلالات الاعتزاليّه غير أنّه من الممكن أن يجعل على نفسه حقّاً، جعلا بحسب لسان التشريع - فيكون حقّاً لغيره عليه تعالى كما قال تعالى:( كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ) يونس - ١٠٣، وقال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات - ١٧١ و ١٧٢ و ١٧٣.

والنصر كما ترى مطلق، غير مقيّد بشئ فالإنجاء حقّ للمؤمنين على الله، والنصر حقّ للمرسل على الله تعالى وقد شرّفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلاً منه منسوباً إليه مشرّفاً به فلا من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرّف للحقّ والمقسم بكلّ أمر شريف.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيّه (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أو بحقّ نبيّه وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقّهم وقد جعل لهم على نفسه حقّاً أن ينصرهم في صراط السعادة بكلّ نصر مرتبط بها كما عرفت.

وأمّا قول القائل: ليس لأحد على الله حقّ فكلام واه.

نعم ليس على الله حقّ يثبته عليه غيره فيكون محكوماً بحكم غيره مقهوراً بقهر سواه. ولا كلام لأحد في ذلك ولا أنّ الداعي يدعوه بحقّ ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الّذي لا يخلف. هذا.

٢٢٨

( سورة البقرة الآيات ٩٤ - ٩٩)

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٩٤ ) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ  وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٩٥ ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا  يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ  وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( ٩٦ ) قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ( ٩٧ ) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( ٩٨ ) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ  وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ( ٩٩ )

( بيان)

قوله تعالى: ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ) إلخ، لما كان قولهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ، و قولهم: نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم:( آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ ) يدلّان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم وأنّ نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لأنّهم ليسوا بزعمهم بمعذّبين إلّا أيّاماً معدودة وهي أيّام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطاباً بما يظهر به كذبهم في دعواهم وأنّهم يعلمون ذلك من غير تردّد وإرتياب فقال تعالى لنبيّه:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ) أي سعادة تلك الدار فإنّ من ملك داراً فإنّما يتصرّف فيها بما يستحسنه ويحبّه ويحلّ منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله تعالى:( عِندَ اللهِ ) أي مستقرّاً عنده تعالى وبحكمه وإذنه، فهو كقوله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران - ١٩ وقوله تعالى:( خَالِصَةً ) أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنّكم لا تعذّبون فيها إلّا أيّاماً معدودة،

٢٢٩

قوله تعالى: ( مِّن دُونِ النَّاسِ ) وذلك لزعمكم بطلان كلّ دين إلّا دينكم، وقوله تعالى:( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وهذا كقوله تعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الجمعة - ٦، وهذه مؤاخذه بلازم فطريّ بيّن الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشكّ وهو أنّ الإنسان بل كلّ موجود ذي شعور إذا خيّر بين الراحة والتعب إختار الراحة من غير تردّد وتذبذب وإذا خيّر بين حياة وعيشة مكدّرة مشوبة واُخرى خالصة صافية إختار الخالصة الهنيئة قطعاً ولو فرض إبتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقيّة رديّة أو عيشة منغصّة لم يزل يتمنّى الاُخرى الطيّبة الهنيئة فلا ينفكّ عن التحسّر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله.

فلو كانوا صادقين في دعواهم أنّ السعادة الخالصة الاُخرويّة لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنّوه جناناً ولساناً أركاناً ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت أيديهم من قتل الأنبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين.

قوله تعالى: ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) كناية عن العمل فإنّ معظم العمل عند الحسّ يقع بواسطة اليد فيقدّم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي وعدّ كلّ عملاً للأيدي.

وبالجملة أعمال الإنسان وخاصّة ما يستمرّ صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والأعمال الطالحة والأفعال الخبيثه لا يكشف إلّا عن طويّة خبيثة تأبى أن تميل إلى القاء الله والحلول في دار أوليائه.

قوله تعالى: ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ) ، كالدليل المبيّن لقوله تعالى:( وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ) أي ويشهد على أنّهم لن يتمنّوا الموت، أنّهم أحرص الناس على هذه الحياة الدّنيا الّتي لا حاجب ولا مانع عن تمنّي الدار الآخرة إلّا الحرص عليها والإخلاد إليها، والتنكير في قوله تعالى: على حياة للتحقير كما قال تعالى:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) . العنكبوت - ٦٤.

٢٣٠

قوله تعالى: ( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) الظاهر أنّه عطف على الناس والمعنى ولتجدنّهم أحرص من الّذين أشركوا.

قوله تعالى: ( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ) ، الظاهر أنّ ما نافية وضمير هو إمّا للشأن والقصّة وأن يعمّر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبّعده، وإمّا راجع إلى ما يدلّ عليه قوله:( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ) ، أي وما الّذي يودّه بمزحزحه من العذاب، وقوله تعالى: أن يعمّر بيان له ومعنى الآية ولن يتمنّوا الموت وأقسم لتجدنّهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الرديّة الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيّبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الّذين أشركوا الّذين لا يرون بعثاً ولا نشوراً يودّ أحدهم لو يعمّر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعّده من العذاب لأنّ العمر وهو عمر بالاخرة محدود منتهٍ إلى أمد وأجل.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) ، أي أطول العمر وأكثره، فالألف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفراديّ عند العرب والزائد عليه يعبّر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة الف وألف ألف.

قوله تعالى: ( وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب إسم العليم.

قوله تعالى: ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) الخ. السياق يدلّ على أنّ الآية نزلت جواباً عمّا قالته اليهود وأنّهم تأبّوا واستنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، وعلّلوه بأنّهم عدوّ لجبريل النازل بالوحي إليه. والشاهد على ذلك أنّ الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معاً في الآيتين وما ورد من شأن النزول يؤيّد ذلك فأجاب عن قولهم: إنّا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل بهأوّلاً: أن جبريل إنّما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله،وثانياً: أنّ القرآن مصدّق لما في أيديهم من الكتاب الحقّ ولا معنى للإيمان بأمر والكفر بما يصدّقه.وثالثاً: أنّ القرآن هدىً للمؤمنين به،ورابعاً: أنّه بشرى وكيف يصحّ لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض

٢٣١

عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوّاً له.

وأجاب عن قولهم: إنّا عدوّ جبريل أنّ جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلّا إمتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلّا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم وإستعداؤهم بغض وإستعداء لله ومن كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ لهم، وإلى هذين الجوابين تشير الآيتان.

قوله تعالى: ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ ) ، فيه إلتفات من التكلّم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي ، لكن بدّل من الخطاب للدلالة على أنّ القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنّما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلّقيه وتبليغه لرسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) إلّا أنّ قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئاً وهو مأمور بالتبليغ.

واعلم أنّ هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات وإن كان الاساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أنّ الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام إستملال للحديث مع المخاطب وإستحقار. لشأنه فكان من الحريّ للمتكلّم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد اُخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنّه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسّة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهاراً لحقّ القضاء عليهم.

قوله تعالى: ( عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ، فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علّة الحكم كأنّه قيل: فإنّ الله عدوّ لهم لأنّهم كافرون والله عدوّ للكافرين.

قوله تعالى: ( وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ) ، فيه دلالة على علّة الكفر وأنّه الفسق فهم لكفرهم فاسقون ولا يبعد أن يكون اللام في قولة : الفاسقون للعهد الذكريّ، ويكون ذلك إشارة إلى ما مرّ في أوائل السورة من قوله تعالى:( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية.

وأمّا الكلام في جبريل وكيفيّة تنزيله القرآن على قلب رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وكذا الكلام في ميكال والملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحلّ إن شاء الله.

٢٣٢

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال إبن عبّاس كان سبب نزول الآية ما روي أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمّد كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبيّ الّذي يأتي في آخر الزمان.

فقال تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمّد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأمّا اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمّد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس له من شبه أخواله شئ ؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال أيّهما علا مائه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمّد فأخبرنا عن ربّك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إلى آخر السورة. فقال له إبن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتّبعتك. أيّ ملك يأتيك بما ينزّل الله عليك ؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدوّنا ينزّل بالقتال والشدّة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك لآمنّا بك.

أقول: قوله: تنام عيناى وقلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامّة والخاصّة أنّه كان رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) تنام عينه ولا ينام قلبه ومعناه أنّه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان وهو في النوم يعلم أنّه نائم وأنّ ما يراه رؤياً يراها ليس باليقظة، وهذا أمر ربّما يتّفق للصّالحين أحياناً عند طهارة نفوسهم وإشتغالها بذكر مقام ربّهم وذلك أنّ إشراف النفس على مقام ربّها لا يدعها غافلة عمّا لها من طور الحياة الدنيويّة ونحو تعلّقها بربّها. وهذا نحو مشاهدة يبيّن للإنسان أنّه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الّذي يراه الناس نوماً فقطّ وكذا اليقظة الّتي يراها الناس يقظة وأنّ الناس وهم معتكفون على باب الحسّ مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود وان عدوّا أنفسهم أيقاظاً. فعن عليّعليه‌السلام : الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا الحديث. وسيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث وكذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إنشاء الله.

٢٣٣

( سورة البقرة الآيات ١٠٠ - ١٠١)

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ١٠٠ ) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٠١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( نَّبَذَهُ ) ، النبذ الطرح.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ ) ، المراد به رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) لا كلّ رسول كان يأتيهم مصدّقاً لما معهم، لعدم دلالة قوله: ولمّا جائهم على الاستمرار بل إنّما يدلّ على الدفعة، والآية تشير إلى مخالفتهم للحقّ من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدّق ما معهم.

٢٣٤

( سورة البقرة الآيات ١٠٢ - ١٠٣)

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ  وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ  وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ  فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ  وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ  وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ  وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ  وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ١٠٢ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ  لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ١٠٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ ) ، الخ، قد اختلف المفسّرون في تفسير الآية إختلافاً عجيباً لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله:( اتَّبَعُوا ) ، أهم اليهود الّذين كانوا في عهد سليمان، أو الّذين في عهد رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) أو الجميع ؟ واختلفوا في قوله:( تَتْلُو ) ، هل هو بمعنى تتّبع الشياطين وتعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب ؟ واختلفوا في قوله:( الشَّيَاطِينُ ) ، فقيل هم شياطين الجنّ وقيل شياطين الإنس وقيل هما معاً. واختلفوا في قوله:( عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ، فقيل معناه في ملك سليمان، وقيل معناه في عهد ملك سليمان، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل معناه على عهد ملك سليمان، واختلفوا في قوله:( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) ، فقيل إنّهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنّهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل إنّهم سحروا فعبّر عن السحر بالكفر. واختلفوا في قوله:( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ، فقيل إنّهم ألقوا السحر

٢٣٥

إليهم فتعلّموه، وقيل إنّهم دلّوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفوناً تحت كرسيّ سليمان فاستخرجوه وتعلّموه، واختلفوا في قوله:( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) فقيل ما موصولة والعطف على قوله:( مَا تَتْلُو ) ، وقيل ما موصولة والعطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل ما نافية والواو إستينافيّة أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدّعيه اليهود. واختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الأرض وأعاليها. واختلفوا في قوله:( الْمَلَكَيْنِ ) ، فقيل كانا من ملائكة السماء، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللّام إن قرأناه، بكسر اللّام كما قرئ كذلك في الشواذّ، أو ملكين بفتح اللّام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح. إن قرأناه على ما قرأ به المشهور. وإختلفوا في قوله:( بِبَابِلَ ) ، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين، وإختلفوا في قوله:( وَمَا يُعَلِّمَانِ ) ، فقيل علّم بمعناه الظاهر، وقيل علّم بمعنى أعلم، واختلفوا في قوله:( فَلَا تَكْفُر ) ، فقيل لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل لا تكفر بتعلّمه، وقيل بهما معاً، و اختلفوا في قوله:( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) ، فقيل أي من هاروت وماروت، وقيل أي من السحر والكفر، وقيل بدلاً ممّا علّماه الملكان بالنهي إلى فعله. واختلفوا في قوله:( مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، فقيل أي يوجدون به حبّاً وبغضاً بينهما، وقيل إنّهم يغرّون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرّق بينهما إختلاف الملّة والنحلة وقيل إنّهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة، فهذه نبذة من الإختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصّة من الآية وجملة، وهناك إختلافات اُخر في الخارج من القصّة في ذيل الآية وفي نفس القصّة. وهل هي قصّة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل ؟ أو غير ذلك ؟ وإذا ضربت بعض الأرقام الّتي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، إرتقى الاحتمالات إلى كمّيّة عجيبة وهي ما يقرب من ألف ألف ومأتين وستّين ألف إحتمال ( ٤ + ٣ + ٢ )!.

وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردّد الآية بين مذاهب وإحتمالات تدهش العقول وتحيّر الألباب، والكلام بعد مُتّكٍ على أريكة حسنه متجمّل في أجمل جماله متحلّ بحليّ بلاغته وفصاحته وستمزّ بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى:( أَفَمَن

٢٣٦

كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ) هود - ١٧.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ الآية بسياقها تتعرّض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم، وأنّهم كانوا يستندون في أصله إلى قصّة معروفة أو قصّتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبيّ والملكين ببابل هاروت وماروت. فالكلام معطوف على ما عندهم من القصّة الّتي يزعمونها إلّا أنّ اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التأريخيّة محرّفة مغيّرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كلّ حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية. وكيف كان فيلوح من الآية أنّ اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعماً منهم أنّ سليمانعليه‌السلام إنّما ملك الملك وسخّر الجنّ والإنس والوحش والطير، وأتى بغرائب الاُمور وخوارقها بالسحر الّذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فردّ عليهم القرآن بأنّ سليمانعليه‌السلام لم يكن يعمل بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرّف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحيّة وحواسّها ؟ ولم يكفر سليمانعليه‌السلام وهو نبيّ معصوم، وهو قوله تعالى:( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وقوله تعالى:( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) فسليمانعليه‌السلام أعلى كعباً وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدّة من السور المكّية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام والأنبياء والنمل وسورة ص وفيها أنّه كان عبداً صالحاً ونبيّاً مرسلاً آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافيّة والأساطير الّتي وضعتها الشياطين وتلوها وقرأوها على أوليائهم من الإنس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر. وردّ عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنّه وإن أنزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لأنّه فتنة وامتحان إلهيّ كما ألهم قلوب

٢٣٧

بني آدم وجوه الشرّ والفساد فتنة وامتحاناً وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلّا أنّهما ما كانا يعلّمان من أحد إلّا ويقولان له إنّما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلّمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلّمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة، فيفرّقون به بين المرء وزوجه إبتغاءاً للشرّ والفساد ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم. فقوله تعالى: واتبعوا أي اتّبعت اليهود الّذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع وتكذب الشياطين من الجنّ على ملك سليمان والدليل على أنّ تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أنّ الشياطين هم الجنّ كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذّبين بعذابه، وبذلك كانعليه‌السلام يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى:( وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) الأنبياء - ٨٢، وقال تعالى:( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) السبأ - ١٤

قوله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) ، أي والحال أنّ سليمان لم يسحر حتّى يكفر ولكنّ الشياطين كفروا، والحال أنّهم يضلّون الناس ويعلّمونهم السحر.

قوله تعالى: ( وَمَا أُنزِلَ ) ، أي واتّبعت اليهود ما أنزل بالإخطار والإلهام على الملكين ببابل هاروت وماروت، والحال أنّهما ما يعلمان السحر من أحد حتّى يحذّراه العمل به ويقولا إنّما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلّمكم فلا تكفر باستعماله.

قوله تعالى: ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) أي من الملكين وهما هاروت وماروت، ما يفرّقون به أي سحراً يفرّقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه.

قوله تعالى: ( وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) ، دفع لما يسبق إلى الوهم أنّهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأنّ السحر نفسه من القدر لا يؤثّر إلّا بإذن الله فما هم بمعجزين، وإنّما قدّم هذه الجملة على قوله:( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ) ، لأنّ هذه الجملة أعني:( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا

٢٣٨

مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، وحدها مشتملة على ذكر التأثير فأردفت بأنّ هذا التأثير بإذن الله.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) ، علموا ذلك بعقولهم لأنّ العقل لا يرتاب في أنّ السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنسانيّ وعلموا ذلك أيضاً من قول موسى فإنّه القائل:( وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ ) طه - ٦٩.

قوله تعالى: ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ، اي إنّهم مع كونهم عالمين بكونه شرّاً لهم مفسداً لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإنّ العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالاً وجهلاً لا علماً. قال تعالى:( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ) الجاثية - ٢٣.

فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنّى المتمنّي لهم العلم والهداية.

قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) ، الخ أي اتّبعوا الإيمان والتقوى، بدّل اتّباع أساطير الشياطين، والكفر بالسحر، وفيه دليل على أنّ الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، ولو كان السحر كفراً في الاعتقاد لقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ ) ، الخ، وإقتصر على الإيمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقّوا ولم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

قوله تعالى: ( لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ، أي من المثوبات والمنافع الّتي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ والقمّيّ في قوله تعالى:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) عن الباقرعليه‌السلام في حديث: فلمّا هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثمّ طواه وكتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثمّ دفنه تحت سريره ثمّ استتاره

٢٣٩

لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبدالله ونبيّه، فقال الله جلّ ذكره: وإتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.

أقول: إسناد الوضع والكتابة والقرائة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجنّ والإنس لانتهاء الشرّ كلّه إليه وإنتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الأخبار. وظاهر الحديث أنّ كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القرائة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أنّ تتلو بمعنى تكذب لأنّ إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، وتقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرؤنه كاذبين على ملك سليمان والأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلى ولاية وهو أن يملك الشئ من حيث الترتيب ووقوع جزءٍ منه عقيب جزء آخر. وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) المائدة - ٥٥.

وفي العيون: في حديث الرّضاعليه‌السلام مع المأمون وأمّا هاروت وماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليتحرّزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علّما أحداً من ذلك شيئاً إلّا قالا له إنّما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما اُمروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرّقون بما يعملونه بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: وما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن الله.

وفي الدرّ المنثور أخرج إبن جرير عن إبن عبّاس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه أعطى الجرادة وهي إمرأته خاتمه فلمّا أراد الله أن يبتلى سليمان بالّذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فاخذه ولبسه فلمّا لبسه دانت له شياطين الجنّ والإنس فجائها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنّه بلاء اُبتلى به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيّام كتباً فيها سحر وكفر ثمّ دفنوها تحت كرسيّ سليمان ثمّ أخرجوها فقرأوها على الناس فقالوا إنّما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرء الناس من سليمان وأكفروه حتّى بعث الله محمّداً وأنزل عليه: وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا.

٢٤٠